الفصل الرابع

١

يبدأ الإضراب بعد الحصة الأولى مباشرة. نردِّد خلف طالب بطربوش من السنة الخامسة: «عاشت مصر حرة مستقلة.» نطالب باستئناف القتال مع الصهاينة وجلاء الإنجليز ووحدة مصر والسودان. نغادر المدرسة. يقترح البعض الذهاب إلى الجامعة للانضمام إلى طلبتها. يقترح آخرون الاتجاه إلى مدرستَيْ «فؤاد الأول» و«الحسينية». أتذكر تعليمات أبي. أنسحب من المظاهرة وأتسلل عبر الشوارع الجانبية المؤدية إلى منزلنا.

يفتح لي في جلبابه الكستور. الطاقية البيضاء فوق رأسه. مقطب. بقايا الإفطار على مائدة الصالة. أروي له ما حدث. يقول: حط الشنطة واقعد ذاكر. غرفتنا مكتومة والفراش غير مرتَّب. أسأله: هي «فاطمة» مجتش ولَّا إيه؟ يرد باقتضاب: لا. أضع الشنطة على المكتب. أستخرج كتاب التاريخ. أفتحه على الدولة الإسلامية في عهد «عثمان». أقرأ قصة الخلاف بينه وبين «علي بن أبي طالب» والنهاية المأساوية للاثنين.

يدق جرس الباب. أجري لأفتح. «فاطمة» تحمل صرة ملابس. في قدميها شبشب من البلاستيك الشفاف. دموعها تسيل على خديها. تقول إن «عباس» ضربها وطردها. وإنها ستسافر إلى البلد. يقول لها أبي: اهدي واقعدي. تقول إنها لا يمكن أن تبيت ليلة أخرى مع «عباس». يقول إن البيت بيتها وإنها يمكن أن تبيت عندنا إلى أن يخرج الحاج «عبد العليم» من الحبس. – يلَّا بلاش عياط. قومي شوفي شغلك.

تنظف المائدة والغرفة والمطبخ. يطلب منها أن تعد لنفسها حمامًا. تنقل الموقد إلى غرفة الصالون. تشعله وتضع فوقه صفيحة المياه. تملأ حوض الزنك إلى منتصفه بالماء. تضعه وسط الغرفة. ندخل معها. يطلب منها أن تغسل شعرها جيدًا. يسألها: عندك فلَّاية؟

– أيوه. ليه؟

– علشان القمل.

تقول إن شعرها نظيف.

– معاك ليفة؟ ولَّا أجيبلك ليفتنا؟

تقول: لأ معايا.

– عندك هدوم نضيفة؟

– عندي.

يطلب منها أن تضع ملابسها المتسخة جانبًا لتغليها بعد ذلك. نغادر الغرفة. تغلق الباب خلفنا.

ندخل غرفتنا. أجلس إلى مكتبي وأواصل الاستذكار. يشعل أبي سيجارته. يغادر الغرفة. أتبعه.

– بابا. ليه بيقولوا على سيدنا «علي» كرَّم الله وجهه؟

– لأن عمره ما بص على عورة حد. ولا حتى على نفسه.

أسأل: هو ده حرام؟

– أيوه. تفرج «سلمی» ساقيها. منطقة مظلمة بينهما. تنتقل «ماما تحية» إلى الإبط الثاني. تدير رأسها لتتأمله. تتحسسه بأصابعها. تنهض واقفة. تقول لي وهي تمسکني برقة من أذني: على أوضتك، تقعد فيها متخرجش منها. أمسك بيدها في رجاء: لا والنبي يا ماما بلاش لوحدي. تتأمَّلني باسمة: طيب تقعد في الصالة بشرط ما تبصش عليَّ.

أدخل غرفتنا ثم أخرج. يتمشى في الصالة جيئة وذهابًا ويداه معقودتان خلف ظهره. يقول لي إنها عبيطة ويمكن أن تحرق نفسها. أو ربما تخدعنا ولا تستحم، بص كده شوف بتعمل إيه. أتطلع من ثقب المفتاح. تصطدم نظارتي بالباب. أضغطها على أنفي. أتطلع من جديد. أراها جالسة في الحوض ولا يظهر منها غير كتفيها العاريين. البخار يتصاعد من صفيحة المياه. تمسك أمي بالكوز المعدني. تملؤه إلى منتصفه بالماء الساخن. تنسى أن تخففه بالمياه الباردة.

أقول له إنها عارية في الحوض. يقول: وریني. ينحني وينظر من ثقب الباب. يعتدل ويواصل المشي حول مائدة الصالة. يمسد شاربه بسبابته. ألاحظ أن عينيه تلمعان. يطلب مني أن أعرض عليها المساعدة في دعك ظهرها. أفعل متضررًا. ترفض. تخرج بعد قليل في جلباب ملون وهي تمشط شعرها. تتناثر منه المياه. يسألها إذا كانت غلت ملابسها. تقول أيوه.

تغيِّر مياه الحوض. تحضر طشت الغسيل من المطبخ. تضعه بجوار الصفيحة. يتمشى أبي في الصالة وهو يرقبها. أحضر كتاب التاريخ وأجلس إلى المائدة في مواجهة غرفة الضيوف. تجلس فوق مقعد المطبخ الخشبي الواطئ. تجمع جلبابها بين فخذيها فتتعرى ركبتاها وجزء من فخذيها. منحنية فوق ساقها اليمنى المثنية. تضع قطعة حلاوة أعلى القدم. ترفعها وتلينها. تضعها على منتصف الساق. تكرر العملية مقتربة من فخذها.

تنقل الملابس من الصفيحة إلى الطشت وتدعكها. تضعها في مياه الحوض. تدعكها ثم تعصرها. تنشرها فوق حبل المَنْور. تتخلص من مياه الحوض والصفيحة. تجفف الأرض. تعيد الموقد إلى المطبخ. يطلب منها أن تنقع مفرش المائدة المشمَّع في الطشت. يتبدى سطح المائدة الخشبي ملوثًا ببقع من الزيت.

يطلب منها إشعال الموقد ليعد طعام الغداء. ينهمك في تحمير قطعة من اللحم. يضيف إليها حبات من الفحم. يعد السلاطة الخضراء. ينادي عليَّ لأحضر له علبة الملح من فوق البوفيه. أهرع إليها. أمد يدي لأتناولها. تسبقني «فاطمة» وتزيح يدي. تصيح: حاضر يا سيدي. تحمل إليه الملح. أتبعها ساخطًا.

ينتهي من تحمير اللحم. يسخِّن الخبز فوق النار. تضع طبقين فوق المائدة. يقول إن المائدة قذرة لا تفتح الشهية. تهرع لتنظيفها بليفة المطبخ. يطلب منها أن تؤجل ذلك إلى بعد الأكل. يحمل حلة اللحم إلى غرفتنا. يضعها على المائدة المستديرة. تضم إليها الطبقين والخبز. تحتفظ بطبقها في يدها. يجلس فوق حافة السرير. أجرُّ كرسي المكتب وأجلس أمامه. يغرف لنا. تقدم إليه طبقها. يغرف لها. تهمُّ بالجلوس على الأرض فيقول لها: اقعدي ع السرير. إنتِ زي بنتي. تجلس إلى جواره. أفقد كل رغبة في الأكل.

يدق جرس الباب. تهمُّ بالقيام لفتحه فيشير لها أن تبقى. يشير إليَّ أن أرى مَن الطارق. أفتح الباب لأجد «عباس» أمامي.

– «فاطمة» هنا؟ لا أعرف بماذا أجيب.

– طب اندهلي البيه.

أتركه وأسرع لأبي. ينهض واقفًا ويغادر الغرفة. يغلق الباب خلفه. أفكر في أن أتبعه لكني لا أريد أن أترك «فاطمة» وحدها. أقف خلف الباب. تقف إلى جواري. ننصت. صوت أبي: اقعد يا «عباس». يحدثه بلهجة حازمة. لا نتبين شيئًا من الحديث الدائر. صوت «عباس» يوحي بالمسكنة. ينادي أبي على «فاطمة». تخرج إلى الصالة وأنا خلفها. يقول لها: خلاص يا بنتي. روحي مع جوزك. مش حيمد إيده عليكي تاني. وابقي خدي هدومك بعدين لما تنشف. يتجه «عباس» إلى باب الشقة وهي في أعقابه.

٢

يتناول طربوشه بيده اليسرى. يرفعه إلى مستوى صدره. يثني ذراعه الأيمن. يقرب اليد اليمنى من الطربوش. يمسح جوانبه بكمه. يضعه فوق رأسه. يغلق باب الغرفة بالمفتاح. يطلب من «فاطمة» أن تطهو «السبانخ» كما علَّمها. وتضيف إليها قليلًا من الحمص الجاف. نخرج إلى الشارع. بقالة شيخ الحارة مغلقة. أميل ناحية دكان الخردواتي. يجذبني في حدة من ذراعي. نعبر إلى الرصيف الآخر. نمر من أمام دكان الحاج «مشعل». جالس في المدخل. ضخم الجسم. يرتدي قميصًا بكم طويل وبنطلونًا. شعر رأسه مدهون بالفازلين. يبتسم ابتسامة غير مريحة عندما يرانا. يتجاهله أبي.

ندلف إلى حارة مجاورة. نصبح في شارع موازٍ. – «خليل». ألتفت ضيقًا بمن ينادي أبي دون لقب البيه. «علي صفا» يقترب مهرولًا. يمشي وقدماه منفرجتان لأقصى اليمين واليسار. يرتدي سترة زرقاء وبنطلونًا رماديًّا. يتوقف أبي حتى يلحق بنا. يتصافحان. أقف بينهما. ينحيني أبي إلى يمينه ونواصل السير بحيث يكون «علي صفا» إلى يساره. يسأله أبي: إنت رحت فين؟ اتجوزت؟ يقول «علي صفا»: هو أنا مجنون؟

يمد يده ليداعب خدي متسائلًا: مفيش مدرسة النهارده؟ يبعدني أبي بحزم عن يده قائلًا في اقتضاب: كل يوم الوقت إضراب. يقول إنه ذاهب إلى كُبَّانية النور. يمضي مبتعدًا. أسأل أبي لماذا شدني؟ يقول: أصله بيبوَّظ العيال الصغيرين. أفكر في هذا اللغز.

ندلف إلى حارة صغيرة. رائحة عفونة ورطوبة. نلج منزلًا بلا بوَّاب. نرتقي الدرج إلى الطابق الثاني. يدق باب شقة. يأتي صوت أنثوي بعد لحظة: مين؟ يقول أبي: أنا یا «عزيزة». يتكرر الصوت: مين؟ – أنا «خليل» یا «عزيزة» افتحي. – دقيقة يا بيه. ينفرج الباب عن زوجة الحاج «عبد العليم». أطول من أبي وذات وجه أبيض جميل تتناثر عليه عدة حسنات سوداء صغيرة. شعر رأسها ملفوف بطرحة تبدأ من منتصف رأسها حتى عنقها. تبدو منها ضفيرة شعر. تحمل طفلًا فوق ذراعها.

– اتفضل يا بيه — تمط كلمة «بيه» كعادة الفلاحين — إنت مش غريب.

ندخل أنا وأبي. صالة واسعة خالية تمامًا من الأثاث. في مواجهتنا غرفة تقف في مدخلها «صفية» زوجة شقيق الحاج. يبدو خلفها سرير مرتفع عن الأرض بأعمدة نحاسية عالية. يُخاطبها أبي قائلًا: العواف. تقول ببرود: العواف عليك. يتجاهلها ويتبع «عزيزة» إلى الغرفة الثانية. نقف عند الباب. بها سرير مماثل يرقد عليه طفل. يقول أبي: أنا جاي بس أطمن عليك. تحبي تبعتيله أكل ولَّا حاجة؟ – ربنا يخليك يا بيه. «سليم» أخد له أكل وفلوس. يستدير أبي وأنا معه في اتجاه الباب الخارجي: إن شاء الله يخرج النهارده. ع العموم لو عُزتِ أي حاجة قولي. – ربنا ما يحرمنا منك يا بيه.

نغادر الشقة. نخرج إلى الشارع الرئيسي. نتجه إلى محطة الترام القريبة. نركب. نستبدل الترام في العتبة. يتجه الترام الجديد إلى شارع «عبد العزيز» المجاور لمبنى المطافئ. يستدير الترام أمام مبنى «عمر أفندي». نُغادره بعد محطتَين. نعبر القضبان إلى الرصيف المقابل. نتوقف أمام مبنى ضخم تجمَّع الناس أمامه. يضع أبي يده على صدره فوق قلبه مباشرة. أسأله: مالك؟ يقول النشالين هنا كتير. نصعد درجات قليلة بين أعمدة حجرية. نلج باحة واسعة امتلأت بالناس. بائع متربع أسفل عمود رخام. أمامه صينية بها أقراص طعمية وأرغفة عيش وطبق سلاطة. يحيط به الآكلون.

أسفل عمود مجاور رجل متربع وحوله عدة نساء مقرفصات. يرتدي جلابية بفتحة صدر مزدانة بشريط أسود. فوق رأسه طربوش قديم. أمامه حقيبة مدرسية من «الفيبر» يسند ورقة فوقها. قلم الحبر في يده. نصعد السلم إلى الطابق الثاني. نشق طريقنا وسط الزحام إلى ممرٍّ انتشرت القاعات المغلقة على جانبيه. يقترب أبي من باب كل قاعة ويقرأ الورقة المعلقة فوقه بدبوس. نكرر عملية البحث بلا فائدة. نعود إلى السلم. نفاجأ بامرأة تخلع ملاءتها وتردفها بجلباب أسود. تكشف عن قميص رجالي وبنطلون أصفر من مخلفات الجيش. تنتزع دكة من الجالسين فوقها وتهاجم بها الواقفين حولها. يحاول رجل في جلباب وطاقية أن يحتويها لكنها تضرب رأسه برأسها. نهرع على السلم إلى أسفل. نقف قرب المدخل.

يصل الدكتور «مندور» في بنطلون أسود وسترة رصاصية. يقول: خير إن شاء الله. يأتي له أحد السعاة بمعطف المحاماة الأسود. يقول أبي: إحنا قرينا مقالك في «الوفد المصري». إنت إيه بينك وبين «أخبار اليوم»؟ يضحك: مفيش. أنا سميتها بالصحيفة الصفراء لأنها نشرة بريطانية طلعت مخصوص لمناصرة الملك ضد «الوفد». تقول عليه الملك الصالح والعامل الأول والتقي الأول.

أتسلل خلف الكاتب. تمليه امرأة مقرفصة أمامه وهو يكتب. يبدو أن القلم لا يشفط الحبر لأنه يغمسه في محبرة بجواره كلما كتب عدة كلمات. ينهرها بين الحين والآخر. ينتهي من الكتابة ويشير إليها أن تنتقل إلى زميل له. يجلو هذا قطعة نحاس صغيرة في حجم الخاتم. تميل عليه المرأة وتقدم له الورقة. يصيح بها: اسمك؟

تجيب: «عايدة».

يقول: اسمك الكامل يا ولية.

– يعني إيه؟

– يعني اسمك واسم أبوك وجدك.

تخرج ورقة ملفوفة من صدرها وتعطيها له. يفكها متعجلًا. يقرأ. يحفر اسمها في قطعة النحاس. يناولها الكاتب. يضغطها هذا في علبة صغيرة. يتأمل الختم. يسألها: إنتِ «عايدة جرجس اسطفانوس». تقول بلهجة الصعايدة: إيوه. يضغط الختم فوق الورقة. يقدمها إليها. تعطيه نقودًا. يقول لها: ودِّيها للباشكاتب. يشير إلى رجلٍ يقف على مقربة. طربوشه طويل على غير العادة ونظارة قراءة مغبشة. يأخذ منها الورقة. يصحبها إلى بائع الطعمية. تشتري له رغيفًا وبضع حبات.

أسمع صوت أبي ينادي اسمي فأهرع إليه. يؤنِّبني لأني تركته. نتجه إلى الجانب الآخر من المبنى. هناك حشد من النساء البلديات الجالسات على الأرض مع أطفالهن. ندخل قاعة مزدحمة. تجلس في الصف الأول بجوار جدتي. ترتدي معطفًا من الحرير الأسود وحول رأسها بيشة رمادية اللون. أطول وأعرض عن آخر مرةٍ رأيتها فيها. تتطلَّع جدتي خلفها في اهتمام. ترتسم على شفتَيها ابتسامة غريبة. تنظر إليَّ في جمود. وجهها الأسمر الشاحب محاط بطرحة بيضاء باهتة اللون. تلمحني أمي. لا يبدو عليها أنها عرفتني. تخاطبني فجأة بغير اكتراث كأنني لم أفترق عنها أبدًا: إزيك؟ لا تطلب مني الجلوس إلى جوارها. تنصرف إلى تأمل منصة القاضي. مُنصت إلى شيخ بقفطان وعمة ونظارة قراءة. أتطلع خلفي بحثًا عن أبي. يشير إليَّ من مدخل القاعة. أذهب إليه.

نحشر أنفسنا بين الجالسين فوق دكة في نهايتها. نلمح «سليم» في الصف الأول. منصة القاضي في صدر القاعة. أمامها تجمَّع المحامون وبينهم الدكتور «مندور» في معطف المحاماة الأسود. يدور بينهم حديث لا يصل إلى مسامعنا. الحاج «عبد العليم» يقف خلف قضبان حديدية. يقول القاضي شيئًا فينسحب المحامون. ينادي الحاجب على متهمين آخرين. تنتهي الجلسة فجأة. يختفي القاضي ومعاونه من باب خلف المنصة. يقف الجالسون ويتقدمون من قفص الاتهام. ينادي المتهمون على معارفهم وأقربائهم. يلوح لنا الحاج «عبد العليم». يبدو مرِحًا وغير قلق.

نغادر المحكمة. نتجه يمينًا. بعد خطوات تظهر مباني قصر «عابدين». ألمح جانبًا من الساحة الفسيحة أمامه. نقف في صفوف من الصباح الباكر حتى بعد الظهر. يقودنا ضابط المدرسة. نرتدي الفانلة الزرقاء التي وزعوها علينا. تشبه ملابس أطفال الملاجئ. ننتظر إطلالة الملك لنهنئه بعيد الجلوس.

ننحرف يسارًا في شارع مظلل بالأشجار. نتوقف أمام عمارة أنيقة. يقف لنا بواب نوبي. نستقل مصعدًا نظيفًا. يصعد ببطء دون صوت. أجلس فوق مقعد مثبت إلى جداره. نتوقف في الطابق الرابع. نطرق باب شقة طنط «زينب». تفتح لنا خادمتها السوداء «زهرة». ترحب بنا وتضمني إلى صدرها. تقبِّل خدي. أعرف قصتها من أبي. كانت ملك أهل طنط «زينب» ثم ألغى الخديوي «إسماعيل» الرق. ولأنها لا تعرف أهلها أو من أين جاءت بقيَتْ في خدمة طنط «زينب».

نجلس في أنتريه وثير بجوار الباب. صور عائلية على الجدران. تظهر طنط «زينب» بعد قليل. تقترب في بطء. سمراء قصيرة. تلهث بصورةٍ مستمرةٍ لأنها مريضةٌ بالقلب. – إزيك يا أخويا؟ أعرف أنها ابنة خال أبي. وأنها كانت مخطوبةً له وهو شابٌّ قبل أن يتزوج من «أم نبيلة». ولم تتزوج حتى الآن. وتعيش مع أخيها «شمس» الذي لم يتزوج أيضًا رغم أنه متقدم في العمر. تنظر إليَّ باسمة في حنان. تجلس «زهرة» عند قدمَيها. يسأل أبي عن صحتها. تقول: اللي يجيبه ربنا خير. أخبار «روحية» إيه؟ يقول: مفيش. الباب الحديدي مغلق. أمامه نساء وأطفال من الجيران. يتطلَّعون من شقٍّ كبيرٍ في زجاجِه المموه. أرى من خلاله أمي واقفةً أمام باب الشقة. بجانبها جدتي وبنات صاحب المنزل. أبي بملابسه الكاملة. رأسه عارٍ. تصيح: عايز يسمِّني. حاطط لي السم هنا. تشير إلى كوب من الزجاج فوق حافة الدرابزين. يقول أبي في صوت هادئ متعب: معلهش. اشربي وانتي تروقي.

تقول وهي تنهج: اتغديت يا خُويا؟ إحنا أكلنا و«شمس» دخل يقيِّل. تنهض بصعوبة. نتبعها إلى الداخل. غرفة منكوشة ليس بها أثاث غير مائدة مستديرة. نجلس حولها. تقدم لنا «زهرة» مكرونة اسباجتي مسلوقة وسلاطة خضراء. تغرف لي. ترش فوق طبقي الجبن الرومي المبشور. آكل بالشوكة في صعوبة. أذوق المكرونة بالجبن لأول مرة. لا أكمل طبقي. تطلب منها طنط «زينب» أن تفتح علبة «كومبوت». تحضر علبة ملونة وتغرف لي منها قطعًا من التفاح والكمثرى. تضيف ملعقة من السائل السكري.

أذهب إلى الحمام مع أبي. جهاز معلق في الحائط. على سطحه نقش لشعلة نار فوق عبارة «شل بوتاجاز». يقول أبي إنه لتسخين المياه. ننتقل إلى الأنتريه. تحضر «زهرة» فنجانًا من القهوة لأبي. يسأل طنط «زينب» عن ثمن سخان المياه. تقول: ١٦ جنيه. يتبادلان الأسئلة عن أحوال الأقارب.

– بتشوف «نبيلة» يا خُويا؟

– أيوه.

– وإزيها؟

– والله .. يتوقف وينظر إليَّ. يطلب من «زهرة» أن تصحبني إلى البلكونة. أرافقها على مضض. أختلس نظرة خلفي. أبي يتكلم بصوت خافت. تبدو عليه الجدية البالغة. ندخل البلكونة الدائرية الصغيرة. من زاويتها اليسرى يمكن رؤية الميدان الفسيح الخالي أمام القصر. يحملني بين ساعدَيه ويضعني على السور الحديدي. يده القوية فوق ركبتي. أتطلع إلى الحشود المتجمعة في الميدان.

٣

أرسم خريطة لتضاريس القارة الأفريقية. أعيِّن المرتفعات والمنخفضات. أخطط الأسهم الدالة على الرياح. يرتفع فجأةً صياح من الحارة. أهرع إلى البلكونة. الحارة مظلمة. يأتي الصياح من شقة «سهام» و«سلمى». ألوي رأسي لأرى مدخل الحارة. أنتظر عودة أبي من زيارة الحاج «عبد العليم» بمناسبة خروجه من الحبس. أستدير وأدخل. أقترب من باب الغرفة. أنصت. مصباح الصالة مضاء. أسمع صوت «فاطمة» أمام حوض المياه. تغسل زجاجة مصباح الزيت. تعلقه في مسمار فوق الحوض. تختفي في المطبخ. أخرج إلى الصالة. أقترب في تردد من مدخل طرقة المياه. أسمعها تشعل موقد الكيروسين.

أعود إلى الغرفة. ينطفئ النور فجأة. أنادي عليها. ترد عليَّ. يقترب صوتها. تقول إن علبة الكبريت فرغت. تطلب مني البحث عن واحدة.

– فين؟

– عندك. شوف جيب روب أبوك.

أتحسَّس طريقي في الظلام إلى شماعة الملابس. أمد يدي في جيب الروب. أصيح: مفيش. تصيح: هات ورقة جرنال. أحاول أن أتذكَّر أين موضع الجرنال. أقطع ورقةً من نهاية كراسة الجغرافيا. أزعق: الورقة أهِه.

– هاتها.

– لا، تعالي خُديها.

– مش شايفة من الضلمة.

أشم رائحة خوف في صوتها: أنا كمان مش شايف.

أقترب من باب الغرفة. أخطو إلى الصالة في رهبة: أنا أهو. أصطدم بها. تنزع الورقة من يدي في عنف. «أم إبراهيم» مقتعدة الأرض وسط الصالة أمام موقد الكيروسين. شعر رأسها مكشوف. أكرت وأحمر بلون الحنة. لون عينَيها أقرب من الرمادي. تبدو عليها أمارات الخوف. أمي جالسة أمامها على مقعد. تأمرها بسلق الخيار. تُبدي «أم إبراهيم» تعجُّبها: أسلقه؟ هو الخيار يتسلق یا ستي؟ تصرخ أمي فيها: ملكيش دعوة. اعملي زي ما باقولك. – حاضر يا ستي حاضر. بس مَتْزعقيش. ترمي الخيار في الحلة الموضوعة على النار. أحمل فنجان القهوة في يدي. تنهض أمي. تُخرج المفتاح من جيب ردائها. تفتح الغرفة. أدخل حاملًا القهوة في حرص. يتناولها أبي. أحكي له ما حدث مع «أم إبراهيم». يضحك: تستاهل. طلَّعت عيني.

أتبعها إلى الطرقة. أشيح بوجهي عن فوهة الكنيف. تتقدَّمني إلى المطبخ وتعود بالموقد. ينبعث منه قليلٌ من الضوء. تضعه على الأرض تحت الحوض. تخلع مصباح الزيت من مسماره. تنزع الزجاجة. تُشعل الورقة من الموقد. تُشعل فتيلة المصباح. تقدم إليَّ المصباح قائلة: تعالی معايا المطبخ. أقول: نقعد في الصالة أحسن. تقول: عندي غسيل. أحمل المصباح وأتبعها إلى المطبخ مكرهًا. تضع الموقد على الأرض بجوار طشت مليء بالملابس المتسخة. تتناول مني المصباح وتعلقه في مسمار على الجدار. تضع صفيحة المياه فوق الموقد. تجلس فوق المقعد الخشبي الواطئ أمام الطشت. تمد يدها. تقلب جردل المسح على فوَّهته. تزيحه بقدمِها ليُصبح بين الطشت والباب. تُشير إليَّ أن أجلس فوق قاعدته. يُصبح الباب خلفي. وهي أمامي.

– تفتكري بابا حيتأخَّر؟

ترد عابسة: زمانُه جاي.

يتصاعَد البخار من صفيحة المياه. ترمي فيها بالملابس. تقلِّبها بطرف كبشة معدنية. تستخرج قطعة. تلقي بها في الطشت. تدعكها بالصابون وهي توحوح من سخونتها.

تهبُّ لفحة هواء من النافذة. تهتز ذبالة المصباح. تتراقص الظلال فوق الجدران. أتابعها في قلق. تقع عيناي علی صرصور كبير. ثابت على الحائط. رأسه في اتجاهي. تهتز شواربه. أتطلع إلى الطشت. ما زال به کوم من الملابس. أشعر بالنعاس. رائحة الكنيف تصلني قوية نفاذة. تعصر الملابس وهي تتأمل الفجوة المظلمة خلفي في رهبة. أقاوم الرغبة في الالتفات مثلها. يظهر الغول قادمًا من بعيد. كتلة ضخمة من الشعر يطوحها الهواء. يشم الغول رائحة الشاطر حسن فيقول: ريحة إنس لا منا ولا من الجنس.

أغمض عيني. تلكزني لأظل مستيقظًا. تحدق فيَّ بعينين باردتين: خليك صاحي لغاية ما اخلَّص غسيل. تتطلع خلفي في خوف. – ولَّا أحطك في أوضة الضيوف واسيبك للعفاريت؟

أنصت لعلِّي أسمع وَقْع أقدام أبي. يسقط رأسي فجأة على صدري. تقرصني في فخذي بأصابعها المبتلة لأظل يقظًا. القرصة موجعة. تتجمع الدموع في عيني. أدعك مكان القرصة. تهددني بأن تقطع أذني بالسكين لو شكوت لأبي.

٤

يردد الأولاد في الحارة دعاء صلاة العيد الكبير: الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا. يتناول أبي المقص ويجلسني بين ساقيه. يقص لي شعري. المرآة ذات الإطار المعدني المكسور في يدي. أقول له إن الناحية اليمنى أعلى من اليسرى. يلقي بالمقص فوق المكتب ويدفعني بعيدًا عنه.

– لأ. كويسة. المزيِّن يبسط الشريط الجلدي المعلق بجوار باب الدكان. يمرر عليه حافة الموس في قوة. ينتهي من حلاقة ذقن زبون. يأتي دوري. يبصق في المبصقة الصاج. أجلس في مقعد الحلاقة ويثبِّت فوطةً حول عنقي.

أرتدي بزتي. أبحث عن كراسة الأغاني فوق المكتب. تصطدم يدي بزجاجة الحبر فتنسكب محتوياتها فوق صدر سترتي وبنطلوني.

ينفجر أبي ساخطًا: إيدك سايبة. عمرك ما انت نافع. إقلع.

أخلع السترة والبنطلون. ينتزعهما مني في غضب. يتفحص بقع الحبر. أتبعه إلى المطبخ. يرش الملح فوقها. يعود إلى الصالة. يتناول ليمونة من صينية القلل. يقطعها بالسكين. يعصر أحد فصَّيها فوق الملح. نعود إلى الغرفة. يتأمل البقع في الضوء. يضع السترة والبنطلون فوق ظهر الكرسي.

يقول: مش حتنضف الوقت. البس البيجامة الخفيفة. أسأله مستنكرًا: وأخرج بيها؟ – نعمل ايه؟ أكويهالك وتبقى عال. هات المكوة. أنحني وأجر المكواة الحديدية الثقيلة من أسفل السرير. يحملها إلى المطبخ لتسخينها. يعود بها مع فوطة مبللة. يبسط سترة البيجامة فوق السرير. يغطيها بالفوطة. يمر بالمكواة فوقها. ينتقل إلى الكُمَّين ثم الظهر. يناولها لي ويكوي البنطلون. أرتديهما متأففًا.

يصلي الظهر ثم يرتدي البزة البنية. نغادر المنزل. نخرج إلى الشارع. لافتة كبيرة بعرضه تهنئ «مشعل» بالعودة من الحج. «حج مبرور وذنب مغفور». نستقل الترام. «العباسية» ثم «مصر الجديدة». نمضي من أمام فيلَّا فخمة تجمَّع أمامها جمهورٌ من السيدات البلديات. يقول أبي إنهم فقراء ينتظرون الزكاة من اللحم. وإنهم ربما سيذوقونه لأول مرة.

تستقبلنا «نبيلة» قائلة: اتأخرتوا قوي کده ليه؟ الغدا جاهز من بدري. تلتفت إليَّ: مين اللي حلقلك كده؟ يقول أبي: أنا. تقول: مش كنت توديه للمزين. تتحسس شعر رأسي. – شعرك أكرت زي شعر أمك. تتأمَّل ملابسي. تهمُّ بالكلام ثم تلزم الصمت. تفتح أمي شُرَّاعة الباب الخارجي الزجاجية. تقول ﻟ «نبيلة»: عايزة إيه؟ – أشوف بابا. تقول لها أمي: مش أبوکي ولا يعرفك. تغلق الشرَّاعة في عنف. أسرع إلى الغرفة. أدفع الباب فينفتح. نست أمي إغلاقه بالمفتاح. أدخل وأخبر أبي. يتوارى بعيدًا عن النافذة. تمر «نبيلة» تحتها. ترفع عينيها إلى أعلى. على شفتيها ابتسامة غريبة.

يتقدَّم «شوقي» و«شيرين» من أبي ليحتضنهما. ملابسهما جديدة. تتأمَّل «شيرين» ملابسي ثم تقول: يا خبر إنت لابس بيجامة؟ يوجِّه إليها عمو «فهمي» نظرةً صارمةً فتصمت.

نغسل أيدينا ونجلس حول المائدة. تغرف لنا «نبيلة» من سلطانية حساء اللحم. صينية رقاق ولحم خروف محمر وبامية. يحتسي أبي الشوربة بصوتٍ مسموع. تراقبني أختي وتضبطني وأنا أُحدِث صوتًا بشفتي فتنهرني.

نصطفُّ بعد الأكل فوق كنبة الصالة. يستأذن «شوقي» من أبيه للعب مع الأولاد في الشارع. يقول لي عمو «فهمي»: متروح معاه. أخفض رأسي وأتأمل بیجامتي: مش عاوز.

تظهر طنط «سميرة» شقيقة عمو «فهمي» عند الباب. في صحبتها زوجها وابنتها «نادين». ينزل أبي ساقه المطوية ويرحب بهم. يتأمل «سميرة» بتمعن. طويلة وعريضة مثل أخيها. وجهها أبيض مستدير وجميل. عيناها واسعتان مُکحلتان. فمها صغير ملون بالروج. يتضوع المكان بعطر منبعث من ملابسها. سترة سوداء اللون. بلوزة بياقاتٍ طويلةٍ تعلو ياقة السترة. جونلة برتقالية مليئة بالكسرات. حذاء أبيض وأسود بكعب عالٍ. تقرب «خضرة» مقاعد المائدة ليجلس الجميع.

زوجها موظف في وزارة المالية. يرتدي طربوشًا. بزته بلون بيج. يفك زرار السترة فيكشف عن کرش مدلًّی فوق حافة البنطلون.

«نادين» أكبر مني بسبع سنوات. لها شفتان ممتلئتان وعينان ضيقتان وصدر صغير. ترتدي بلوزة حريرية بياقة صغيرة وأكمام واسعة تنتهي بأساور ضيقة. صدر البلوزة به کشکشة عرضية وأزرار صدفية مستديرة.

تُبدي أختي إعجابها بالبلوزة: الشميزيت ده يجنن. تهبط بنظراتها فوق جونلةٍ زرقاء يعلو طرفها القدم بشبر. ثم حذاء بكعبٍ عالٍ تخين. – إيه ده. إيه ده. تضحك «سميرة»: الموضة يا ستي. – جبتيهم منين؟ – من «شيكوريل». قبل ما يحطوا له الديناميت بتلات أيام. تلاقيه في «شملا» و«أوريكو». – الواحدة تخاف تروح المحلات دي الوقت. – جربي شركة بيع المصنوعات.

يقول زوجها إن الوقت قد حان لأن تحل الحكومة جماعة الإخوان المسلمين. تشتكي «سميرة» من أن «نادين» تريد عمل تسريحة جديدة لشعرها حسب الموضة: خصلتان متموجتان وشعر قصير حول جانبي الرأس وفوق العنق بما يشبه القلنسوة. تضع ساقًا فوق ساق. ترتفع الجونلة حتى ركبتها. ترتدي جوربًا من النايلون. يتأمَّل أبي ربلة ساقها الممتلئة. تقول «نبيلة»: شُفتي البرانيط اللي طالعين فيها الوقت. تقول «سميرة»: إن قريبة لزوجها حضرت حفل شاي أقامته الأميرة «فايزة» لجمعية المرأة الجديدة. رأت السيدات في برانيط غريبة يعلوها ريش الطيور. – أغلبهم كان لابس أسود كأنهم في جنازة. تقول «نبيلة» إن اللون الأسود ما زال هو الموضة.

يسأل أبي «نادين» عن القسم الذي ستلتحق به السنة القادمة. تقول: فلسفة. يقترح عليها أن تقرأ من الآن بعض الكتب. يعطيها اسم كتاب في الفلسفة الإسلامية. وآخر في علم النفس. أشعر أنها تستخف باقتراحاته.

ينضم إلينا قريب لعمو «فهمي». طالب في السنة النهائية بكلية الحقوق. يرتدي بزة من قماش كحلي مقلم بزراير على الصفين. ربطة عنق دقيقة. نظارة نظر كبيرة مربعة الإطار. يخاطب أبي بلقب «أنيشتا» تتبعه أخته «سلوى» الطالبة في الكلية الأمريكية للبنات.

تنسحب الفتاتان وتختفيان في حجرة «شوقي وشيرين». يفد «علوي» الابن الأكبر للحاج «حمدي». سترة بيضاء بزرار واحد على جانب وياقتَين طويلتَين تنتهيان أسفل البطن. بنطلون رمادي بثنيةٍ وحذاء أبيض. يخلع الطربوش فيكشف عن شعرٍ خفيفٍ لامع ملتصقٍ بجلد رأسه.

يسأله أبي عن أخبار والده الذي يحجُّ للمرة الثانية. يقول: زمانه الوقت فوق جبل «عرفات». تحضر «خضرة» فناجين القهوة وزجاجات كازوزة «سباتس».

يخرج «علوي» من جيبه فنجانًا صغيرًا من الزجاج. يصفق «فهمي»: أهو جاب العدة. يقول «علوي»: عشان ما تكونش لك حجة. أعرف أنه يقرص «الزهر» ولا يلعب معه أحد إلَّا إذا ألقى الزهر من الفنجان کي لا يلمسه.

ينتقل الجميع إلى الفرانده. ترتدي «نبيلة» بلوفر قائلة إن الجو مائل إلى البرودة. تتردد قهقهات أبي عالیة. أقترب من غرفة الأولاد. الباب موارب. أتلصص النظر. «شيرين» منحنية فوق الفراش تتصفح مجلة. أسمع صوت «سلوى» تقول بصوت خفيض إنها حصلت على رواية ﻟ «يوسف السباعي». تريهما «شيرين» صفحة في المجلة عن رقصة أمريكية جديدة تُدعى «الهولاهوب». تظهر «نادين» في مجال رؤيتي. تضع يدها على صدرها الصغير. تلتفت نحو الباب فأبتعد بسرعة. أسمعها تقول إن الأمريكان اخترعوا سوتيانًا جديدًا يشبك ويفصل من الأمام فلا تحتاج الواحدة لأن تلوي يدها خلف ظهرها کي تفكه. يضحكن في خجلٍ.

أدفع الباب وأدخل. لا تلتفت إليَّ إحداهن. تقلب «شیرین» صفحة المجلة. تستعرض الأفلام الموجودة في السوق بصوت مرتفع: «الصيت ولا الغنى.» «محمد عبد المطلب» و«حسن فايق». «أميرة الجزيرة». «تحية كاريوكا». «بشارة واكيم». «إسماعيل يس» و«شكوكو». «رجل لا ينام» في «مترو» «يوسف وهبي» و«مديحة يسري». «نحو المجد» بطولة وإخراج «حسين صدقي». دمه تقيل. تضع المجلة جانبًا. أتناولها. أقلب صفحاتها. تطالعني صورة الملك بالملابس العسكرية والنظارة العسكرية. تحت الصورة بخط الرقعة: «الفدائي الأول».

أغادر الغرفة ومنها إلى الردهة الخارجية. أتنصت بجوار الحائط الذي يفصلها عن المطبخ. صوت غسيل الصحون. باب غرفة الترسينة مغلق. أمضي في الطرقة المؤدية إلى الحمام البلدي. هناك نافذة مفتوحة تطلُّ على الشارع. تتصاعد منه فرقعات البمب. أشب بقدمي. ألمح «شوقي» وفي يده بندقية صيد. أدخل الحمام البلدي. أتبوَّل. أغادره. أفتح باب غرفة الترسينة. أدخل وأغلق الباب ورائي. أجذب المقبض النحاسي المكسور للدولاب الصغير. الأدراج فارغة. ببعضها ملابس قديمة. أُغلق الدولاب. أهمُّ بمغادرة الغرفة. صوت أقدامٍ تجري. أفتح الباب في خفةٍ وأواربه. «خضرة» مندفعة نحو باب الصالة. على وجهها أمارات الخوف. يندفع عمو «فهمي» خلفها قادمًا من المطبخ. يحتكُّ المانتوفلي الذي يرتديه بالبلاط العاري. يُحاول الإمساك بها. تلج الصالة وهو خلفها. أخرج إلى الردهة. أطل من باب الصالة. تصطدم نظارتي بالمصراع الخشبي. يلحق بها عند الكنبة. وجهه متضرج وعيناه تبرقان. يمد يده إلى صدرها. تزيحه عنها هامسة في لهوجة: لا يا سيدي. حرام تقطع عيشي. تدور حول المائدة. تمر من أمام غرفة الأولاد. تقترب من الباب المؤدي إلى الردهة الخارجية. أتراجَع بسرعة. أختفي في الترسينة. أسمعها تفتح باب الشقة وتخرج. أغادر الترسينة إلى الصالة. عمو «فهمي» منحنٍ أمام مرآة البوفيه. يتأمَّل وجهه. يسوي شعره. يعتدل واقفًا. يدخل غرفة الضيوف في طريقه إلى الفرانده. يتلاشی صوت قدمَيْه في البساط السميك.

٥

يتكرر الطرق على الباب الخارجي. أمتطي جسم أبي النائم على ظهره وأهبط عن السرير. أرتدي شبشبي. أخرج إلى الصالة. أدير المفتاح في الباب. تدفعه «فاطمة» فيوشك على الاصطدام بوجهي. تتقدمني داخل الغرفة.

– إنتم لسه نايمين؟

يجيب أبي وهو يزيح الغطاء عن جسده: النهارده الجمعة.

– يلَّا أحضر لكم الفطار.

يعتدل أبي على جانبه الأيمن. يزيح جلبابه كاشفًا عن ساقيه. تقع عيني على حمامته بارزة من فتحة كلسونه. منتفخة كرأس قط. يظل ممددًا على جانبه دون أن يعبأ بتغطية نفسه. ينظر إلى «فاطمة». يمد يده ويدعك حمامته. يعتدل جالسًا ويدلي ساقيه.

تسأل: تحبوا تفطروا إيه؟ أعمل سخينة باللبن ولَّا فول مدمس؟ أقول: عسل بطحينة. تقول: مفيش. يخاطبني أبي: خد نص فرنك وروح هات من السرجة. – ما تبعت «فاطمة». يقول: النهارده الجمعة و«عباس» عايز يفطر. تقول: أيوه. لازم أروحله ولَّا يهري جتتي.

أذهب إلى دورة المياه. أغالب خوفي وأدخل الكنيف. أتبول وأغسل يدي ووجهي. أعود إلى الغرفة. أبي واقف بجوار الدولاب و«فاطمة» جالسة على حافة السرير. أجفِّف وجهي بالفوطة الملقاة على مسنده. أهم بخلع سترة البيجامة لأرتدي القميص والبنطلون. يقول أبي: متضيعش وقت. روح بالبيجامة. يعطيني نصف فرنك. أقول: فين الطبق؟ تقول «فاطمة»: على البوفيه.

أغادر الغرفة. أترك الباب مواربًا. أتناول الطبق. يُغلق أبي باب الغرفة. أفتح باب الشقة ثم أُغلقه بقوة. أُسرع بالاختباء تحت المائدة. أبتعد ناحية باب المنور کي لا تكشفني حواف المفرش. ترتطم رأسي بحافة المائدة. أضع يدي على فمي لأحبس صرخة. أدعك مكان الخبطة. أنكمش بعيدًا عن أعشاش الصراصير المرصوصة في الركن. يدق قلبي بقوة. لا أقوى على الخروج من مكمني والاقتراب من باب الغرفة. أرهف السمع. لا صوت. لا أجسر على الحركة. قلبي يواصل الدق في قوة. ضوء الصباح يعمُّ الغرفة. أدخل في هدوء دون أن يشعرا بي. أتوارى خلف عمود المشجب الخشبي. أنكمش بين بزة أبي ومنشته ومظلته. أسمع حركتهما على السرير. صوت ضحكات هامسة. هو أو هي؟ علی کومیدینو مجاور للسرير كأس ماء به طاقم أسنانه. أزيح سترته جانبًا. ظهره لي. رأسه عارٍ يحفُّ الشعر الرمادي بصلعته. ألمح جانبًا من وجهه الضاحك. يحيط أمي بذراعه. تضحك هي الأخرى. أمد يدي إلى سترته. أدسها في الجيب الداخلي الذي يضم النقود. آخذ كل شيء. أتسلل خارجًا. يغادران الغرفة بعد قليل. يعود إلى الغرفة. يستدعيني. يغلق الباب. يجلسني أمامه. يستجوبني. يتناول الخرزانة الرفيعة من فوق سطح الدولاب. ينهال بها عليَّ.

أسمع حركة. يُفتح باب الغرفة. تخرج «فاطمة». تغدو بین البوفيه والمطبخ. قبقابها يطرقع. تعد طبقًا من الفول المدمس. تحمله إلى أبي. تظل في الداخل. تخرج بعد قليل. تفتح باب الشقة. تخرج. تغلقه خلفها. يغادر أبي الغرفة إلى الحمام. يُتمتم ببعض الآيات. أعرف أنه يتوضَّأ. أزحف تحت المائدة في اتجاه باب الشقة. ألمح ساقيه أمام الحوض. أغادر مكمني والطبق في يدي. أتجه إلى باب الشقة. أفتحه في رفق ثم أغلقه بقوة. ما زال أبي عند الحوض. يملس أذنيه بالماء. يلتفت نحوي. يقول: هي «فاطمة» نسيت تقفل الباب؟ أقول وأنا ألوِّح بالطبق الفارغ أمامه: السرجة قافلة. النهارده الجمعة. يقول: كانوا بيفتحوا قبل الصلاة. أعملَّك بيض؟ أقول: مليش نفس. أدخل الغرفة وأجلس إلى مكتبي. أخرج كراريسي من الشنطة. أفتح كتاب المطالعة أقرأ قصيدةً بعنوان: «رثاء قطة». يدخل أبي. يفرش سجادة الصلاة على الأرض. يصلي الصبح.

يرتدي ملابسه. يخرج لصلاة الجمعة في المسجد. أتأكَّد من إغلاق باب الشقة وباب الغرفة. أفتح الدولاب. أجرُّ كرسي المكتب أمامه. أعتليه. في مدخل الرف العلوي زجاجة عليها صور أسد. الكينا الحديدية «بيسليري». أتناوَل كتاب «شمس المعارف». أحمله إلى المكتب. أقلب صفحاته. تسقط منه صورة صغيرة في حجم صور الكارنيهات. جديدة. ورقها لامع. أتعرف على صاحبتها من رائحة العطر التي تنبعث منها. طنط «سميرة». تبدو كما رأيتها في العيد. جميلة جدًّا.

أعيد الصورة مكانها. أتفحص الصفحات التي عيَّنها أبي بقصاصات الورق. أقلب الصفحات مرة أخرى. في نهاية الكتاب فهرست لأجزائه الأربعة. أقرؤه بسرعة. أخط أرقام بعض الصفحات في کراس الإنشاء. أبدأ بصفحة ١٠٨ في الجزء الأول. لا أفهم منها شيئًا. أنتقل إلى صفحة ٢٥ من الجزء الثاني. ثم صفحة ٦١ من الجزء الثالث وصفحتَي ٣ و١٤٠ من الجزء الرابع.

أقرأ: «تأخذ جلد بومة تدبغه بالحنا والشب وتكتب عليه حرف الألف، وارسم معه اسم الملك والدعوة والإضمار واعمله عرقية والبسها.» ماذا يعني الإضمار أو عرقية؟ أنتقل إلى غيرها: تكتب «يا قرشيا شرابيا يهوبيا» على رمل وتجلس عليه وتقرأ قوله تعالى وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا إلى قوله فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ. وتقول: خذوا أعينهم وأبصارهم واجعلوهم يا خدام هذه الأسماء في بحرٍ من الظلمات حتى لا يروني. صم بکم عمي فهم لا يبصرون.

أواصل القراءة: «فائدة اسم «غفَّار». مَن وضعَه في مربع في آخر ليلة من الشهر في صحيفة من رصاص وحمله بعد تلاوة الاسم عدده أعمى الله عنه بصر كل ظالم.» بجوار هذه الفقرة مربع بأربعة صفوفٍ من الأعمدة المتقاطعة. المربعات الرأسية تبدأ بحروف غ، ف، ا، ر. المربعات الأخرى تحوي أرقامًا.

أعود إلى «يا قرشیا شرابيا يهوبيا.» أنقل السطور القليلة في آخر صفحة بكراس الإنشاء. أغلق الكتاب وأعيد الاثنين إلى مكانهما في الدولاب. أجر الكرسي إلى مكانه.

أطل من البلكونة. «عبد الحميد» المجنون. يغادر المنزل ويتقدم إلى مدخل الحارة. في ملابسه الكاملة والجريدة المطوية في يده. تدس أمي المفتاح بعنفٍ في القفل. تدفع الباب. أدخل الغرفة. تُغلق الباب ورائي بالمفتاح. أبي واقف عند النافذة. يتأمل حركة الشارع. أروي له أخبار أمي. تسقط حصاة من النافذة. أسمع أحد الأولاد يهتف: «المجنون أهوه.»

يعود أبي حاملًا کیسًا من عنب «جناكليس» الوردي ذي الثمرات السميكة. وآخر من «القتة». لا أحب «القتة» لما بها من مرارة. أفضل عليها الخيار.

أنتظر حتى يستبدل ملابسه. أتظاهَر بحفظ إحدى الآيات القرآنية المقررة علينا. أسأله عن الآية التي تبدأ ﺑ: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا. يعرف كثيرًا من الآيات عن ظهر قلب. يمليها عليَّ.

٦

يحضر لنا عمو «فهمي» صندوقًا مستديرًا من البومبوني. فوق غطائه صورة ملونة لولد أجنبي يرتدي قبعة عالية ويمسك بعصًا. آخذ الصندوق منه وأضعه على المكتب. يجلس فوق حافة الفراش. يرتدي سترة بلون بني داكن وبنطلون بلون بيج. يحمل في يده كتابًا. يضع الكتاب فوق المكتب. يتربع أبي إلى جواره. يستديران ليتواجها. أجلس إلى مكتبي. أستأنف مراجعة الميزان الصرفي وأفعال المقاربة والرجاء والشروع. ألتقط کتاب عمو «فهمي»: «ألف ليلة الجديدة» ﻟ «عبد الرحمن الخميسي». «كتب للجميع». الثمن ٥ قروش. يقول لي أبي في صرامة: سيب الكتاب والتفت لدروسك. أقول إني انتهيت من درس القواعد. يقول: شوف حاجة تانية. ينادي على «فاطمة» لتعد القهوة. أجذب كراسة الكيمياء. أقرأ كيفية فصل الرمل عن الملح.

يخلع عمو «فهمي» الطربوش ويضعه إلى جواره. يمر بيده فوق شعره. حوله حز دائري من أثر الطربوش. يقول إن البلد هايصة بسبب طلاق الملك من الملكة «فريدة». وإن بنات مدرسة «السنية» تظاهرن هاتفات: «خرجتِ من بيت الدعارة إلى بيت الطهارة.»

تجلب «فاطمة» فنجانَينِ من القهوة في صينية. تضعها على المائدة المستديرة. تتلكَّأ قائلة: حاجة تانية يا بيه؟ يقول أبي: لأ. مفيش. تُغادر الغرفة. يرتشفان القهوة في صمت. يقول له أبي: إيه القميص الشيك ده؟ – «فان هاوزن». يخرج من جيبه علبة سجائر «بليرز» نمرة ٣. يسأله أبي: غیَّرت؟ يقول: أرخص من ٣ خمسات بعشرة قروش. يعرض على أبي سيجارة. يرفض قائلًا: أنا مبغیرش. يشعل عمو «فهمي» سيجارة بولاعته «الرونسون». أناوله المطفأة فيضعها بينهما على السرير. يسأل: يا ترى معندكش طاولة؟ يهز أبي رأسه: لا. يُضيف أنه كان يلعب كل ليلة في قهوة «البرلمان» أيام تجارة الأراضي. يتحسَّر على ذلك الوقت. يدور السمسار على اللاعبين بخريطة. يلقي عليها نظرة. يختار قطعة أرض. لا يدفع شيئًا. ولا يكاد يلقي بالزهر ويأخذ رشفة من كأس الويسكي حتى يعود السمسار. يعلن له أن قطعته بِيعت بثمنٍ أعلى. يحصل على الفرق دون مجهود. أكثر من ليلةٍ يعود إلى المنزل في عربة حنطور وفي يده كيس من العملات الذهبية.

يسأل عن «سميرة». يجيب عمو «فهمي» بأنها مشغولةٌ على «نادين» لأنها متمردة. تريد الذهاب مع خطيبها وحدهما إلى السينما. يقول أبي: وفيها إيه؟ يلتفت ناحيتي فأتظاهر بالانهماك في القراءة. يواصل: افرض باسوا بعض أو حاجة زي كده؟ مش بتحبه وحتتجوزه؟ يبقى خلاص. سيبوكو بأه من الكلام القديم الفارغ. الدنيا تغيَّرت.

يُشعل عمو «فهمي» سيجارة جديدة. يقول: الحقيقة يا «خليل» بيه أنا جايلك في موضوع شخصي. أرفع رأسي عن الكتاب وأرهف السمع. يلتفت أبي ناحيتي. أخفض رأسي. أحرك شفتي ویدي بالقلم. يشكو عمو «فهمي» متاعبه مع «نبيلة». يقول: أنا مش متأخر عن طلباتها. جبتلها غسالة كهربا بعصارة وحوض متحرك يساع ٥٢ لتر. دخلت تليفون. جبتلها تلاجة «إليكترولكس». – كهربا؟ – تشتغل بالكيروسين أو الكهربا أو الغاز. يسأل أبي: طب وإيه اللي مزعلها؟

يميل عمو «فهمي» برأسه ناحية أبي. أرهف السمع. يلتفت أبي نحوي. يأمرني بالاستذكار في الصالة. أحمل الكراس وأفتح باب الغرفة الموارب. أصطدم ﺑ «فاطمة» التي تبتعد بسرعة. أترك الباب مواربًا. أقف قريبًا منه. تقف «فاطمة» أمام البوفيه. تتشاغَل بإغلاق الملاحة. أسمع عمو «فهمي» يقول: مبترضاش تنام جنبي. وبتقول إنه معدش ليَّ في الستات.

يسأله أبي: ده صحيح؟

– اسمع يا «خليل» بيه. أنت فاهم اللي يحصل لما الست ترفض جوزها.

– قصدك إيه؟

يرتفع صوت «فهمي» منفعلًا: هي اللي قضت على رجولتي.

– وطي صوتك.

يستطرد «فهمي» دون أن يهتم: أنا مقدرش أقعد كده. بقالي أسبوع في الهدوم دي مش قادر أغيَّر لأن كل هدومي هناك. نتمشى جيئة وذهابًا فوق رصيف مدرسة اليهود. الشارع مظلم. شقتنا مضاءة. نافذة غرفة النوم مفتوحة. نتوقف على الرصيف المقابل في مواجهتها. أمي وجدتي تفتحان الدواليب. تكوِّمان الملابس وتحزمان الحقائب.

نتبادل أنا و«فاطمة» النظرات. ننصت. صوت أبي: وقاعد فين الوقت؟

– عند واحد صاحبي. مقدرش أفضل كده.

– طب هدِّي نفسك.

– الوقت أنا كويس خالص. باقوم الصبح عال العال.

يُكمل عبارته بصوت خافت. صوت أبي في حسم: ده انتعاظ الصباح. ما لوش قيمة. يتوقفان عن الكلام. يتهامسان. ينادي أبي عليَّ. أنتظر لحظة ثم أدخل. يقول: هات كتاب الإنجليزي. ورِّي عمك «فهمي» الكلمات اللي انت مش عارفها.

٧

أشرب كوب القرفة باللبن. تعد لي «فاطمة» الساندوتش الذي سآخذه معي. مربی فراولة بالزبدة. تلفه في ورقة جريدة. تضعه إلى جوار الشنطة فوق المكتب. أرتدي ملابسي. أحمل شنطتي وأترك الساندوتش. يطلب مني أبي أن أرتديَ البلوفر لأن الدنيا بردت. يعتدل أبي جالسًا. يشكو من تنميلٍ في قدميه. تقرفص «فاطمة» تحت قدميه وتدعكهما له. أغادر الغرفة. أخلع مفتاح الباب وأنا أتابعهما بركن عيني. أضعه في جيبي. أوارب الباب. أفتح باب الشقة. أرهف السمع. لا حركة. يبدأ قلبي في الدق. أغلق الباب بصوت مسموع وأهرع أسفل المائدة. أضع الشنطة أمامي. أسمع صوت إغلاق باب الغرفة. صوت أبي: اقفليه بالمفتاح. صوت «فاطمة»: مش لاقياه. – طيب، مش مهم، تعالي هنا.

أرفع رأسي محاذرًا الاصطدام بسطح المائدة السفلي. أفتح الشنطة وأخرج منها كيس الرمل. أنثره على الأرض. أكتب فيه بإصبعي «يا قرشيا شرابيا يهوبيا.» أجلس فوق الرمل. أتحاشى النظر إلى أعشاش الصراصير. أردد بصوت خافت: خذوا أعينهم وأبصارهم واجعلوهم يا خدام هذه الأسماء في بحر من الظلمات حتى لا يروني. صم بكم عمي فهم لا يبصرون. أسكت. أنصت. لا صوت.

أخرج بحذرٍ من تحت المائدة. أترك الشنطة فوق البوفيه وأقترب من باب الغرفة. قلبي يدق في عنف. أضع عيني على ثقب المفتاح. لا أرى شيئًا. أدير رأسي وألصق أذني به. لا أسمع شيئًا. أعدل وضع نظارتي فوق أنفي. أدير مقبض الباب برفق وأدفعه قليلًا. أردِّد في سري: «يا قرشيا شرابيا يهوبيا.» أخطو داخلًا في اطمئنان لأنهم لن يروني. تطالعني مؤخرة أبي العارية بين ساقي «فاطمة» العاريتين المرفوعتين إلى أعلى. راقدة على السرير ورأسها فوق الوسادة. أقترب خطوة. أسمعها تقول: معلهش. الظاهر انت مليكش مزاج. يقترب بفمه من فمها. تزيح فمها جانبًا. يحاول تقبيلها. تبدو عليها الدهشة. يقول لها: افتحي بقك. لا تفعل. يقول: امسكيه. تقول: كده؟ يقول: أيوه. تقول بعد لحظة: مفيش فايدة. أقترب أكثر. تلتفت ناحيتي. تصرخ: يا دهوتي. تزيحه جانبًا وتبسط ملابسها. تهمُّ جالسة. يلتفت أبي برأسه. يزعق: بتعمل هنا إيه؟ أصيح: ينعل أبوكم.

أستدير مغادرًا الغرفة. ألتقط شنطتي من فوق البوفيه. أفتح باب الشقة. أغلقه خلفي بعنف. أخرج إلى الشارع. أعبر عرض الطريق إلى الناحية الأخرى. أمضي في الشارع الجانبي الضيق الموازي لشارع الترام. أبلغ المدرسة عند نهاية تحية العلم. أنضم إلى الطابور أثناء الصعود إلى حجرات الدراسة.

درس اللغة الإنجليزية. ثم درس الطبيعة: خواص السوائل وقاعدة «أرشميدس». ننزل إلى المعمل لنأخذ درس الكيمياء. المحضِّر غير موجود ومصباح «بنسن» تالف. يشرح لنا المدرس على السبورة تحضير «الأكسجين» من «كلورات البوتاسيوم».

يدق جرس الفسحة الصغيرة. يستعد الأولاد لنزول الفناء. يتجمعون حول «ماهر». شعر رأسه مفروق من الجانب الأيسر. ياقة قميصه الأبيض مفتوحة ومطوية فوق ياقة السترة. يحمل في يده جهازًا غريبًا. يقول إنه ليس كاميرا وإنما نظارة مجسِّمة. «ستيريو سكوب فیوماستر». نردِّد الاسم في صعوبة. يقول إنها تتيح للناظر من فتحتها رؤية الدنيا على حقيقتها. تعرض صورًا مجسمة بالألوان الطبيعية لأشهر المعالم والحيوانات. يقترب المدرس ويمد يده ليتناول الجهاز. ينظر في عدسته ثم يقول: ياه. الزرافة زي متكون واقفة قدامنا. يرينا «ماهر» الفتحة التي توضع فيها أقراص الصور. يقول إن هناك ٩٤ قرصًا منها ٧ مشاهد ملونة. يسأل المدرس عن ثمن الجهاز. يقول «ماهر» بزهو: مائة قرش. – ياه! والأقراص؟ – الواحد بعشرين قرش.

نهبط إلى الفناء. ينادي البواب اسمي. يُعطيني لفافة قائلًا إن رجلًا أسود على دراجة أحضرها. الساندوتش الذي نسيته. يلعب الأولاد بالكرة الشراب. أُراقبهم وأنا ألتهم الساندوتش. نحدِّد مَرْميا الأهداف بقطع من الطوب. نتجمع حول «مجدي» و«هاني». يقذفان مليمًا في الهواء. ملك أو كتابة؟ يفوز «هاني» بالملك. يبدأ اختیار أعضاء فريقه. يتصفح الوجوه. يشير بإصبعه. يهرع أحدنا إلى جواره مزهوًّا. يتلوه «مجدي». تتعلَّق عيناي بعينيه وهما تمران بنا. لا تتوقفان عندي وإنما تنتقلان لمن يقف إلى جواري. يتواصل اختيار أعضاء الفريقين. لا يتبقى في النهاية سواي. يعد كل كابتن أعضاء فريقه. فريق «رمزي» ينقص واحدًا. يشير إليَّ مستسلمًا.

يدقُّ الجرس معلنًا انتهاء الفسحة. نصعد إلى الفصول. يدخل مدرس اللغة العربية. يشرح لنا الفعل المطلق. يتعجَّب من غبائي. طَرْقٌ علی الباب. يبدأ قلبي في الخفقان. يصيح المدرس: ادخل. يدخل مدرس الجغرافيا حاملًا خرزانة طويلة. خلفه «لمعي» الوسيم ذو الشفاه الغليظة والوجه المتورد. تقترب قدماه من مكاني وهو يهزُّ الخرزانة. حذاؤه ضخمٌ يكاد ينفجر من الجانبَين. يزداد خفقان قلبي. يتجاوزني إلى الصفوف الخلفية التي يجلس بها التلاميذ الكبار والراسبين. ينتقي واحدًا ذا رأس مبعجر. يجرُّه إلى مقدمة الفصل. ينهال عليه ضربًا بالخرزانة دون كلمة. يتهمه بقلة الأدب وعدم التربية. لا ينبس الولد بآهةٍ ويتحمل العلقة صامتًا. يستقر خلف قمطره. يرين علينا جميعًا الصمت. لا يعلق مدرس اللغة العربية بشيء. يخرج مدرس الجغرافيا. نستأنف الدرس. نقرأ من كتاب النصوص واحدًا بعنوان: «موت محقق ونجاة غريبة.» يؤنبني المدرس على أخطائي في النطق.

تنتهي الحصة. لا يشير أحد منا إلى ما حدث. ننزل إلى قاعة الرسم. المدرس أسمر متوسط القامة نحيلها. ربطة عنقه غير محكمة. عصبي. في يده مجلة «المصور». يقرأ لنا منها قصة ولد عمره ١٣ سنة: قال لأبيه: عار علينا يا والدي أن نبقى في «دمشق» و«فلسطين» تحترق. سأؤلف فرقة كوماندوز من زملائي الأطفال. ونذهب إلى الميدان. أكبر الأب روح الرجولة المبكرة في نجله فقبَّله وقال سنذهب سويًّا يا بني. وليكن أول المنضمين إلى فرقتك أخويك الصغيرين.

يواصل القراءة وهو يلف القاعة: التحق الأب بقوات جيش الإنقاذ وكوَّن الولد فرقة من ٣٠ طفلًا. تسللوا معه من الحدود حتى «القدس». نسفوا معاقل اليهود في حي النبي «داود». كان الصغير يقتحم حقول الألغام وينسفها. أشرف على ثلاثة بيوت تحصن بها اليهود بمدافعهم الرشاشة. تمكن من نسف البيتين الأول والثاني. هاجم الثالث ممسكًا مدفعه الرشاش بيمينه وفتيل اللغم بيساره وصاح: يا «هاجناه». إن كنتم رجالًا أطلوا برءوسكم وقاتلوني وجهًا لوجه. لم يجرؤ أحد وإنما انطلقت رصاصة في ظهر الطفل أردَتْه قتيلًا.

ينتقل المدرس إلى السبورة. يقول: كل واحد يرسم اللي يعجبه من القصة. أرسم الأب وولده. لا يعجبني الرسم. أزيله بالممحاة. أرسم حقلًا من النباتات والأشجار. أحتار في شكل الألغام وأين أضعها. المدرس يلف من خلفنا. يتأمَّل ما نرسم. ينحني فوقي ويرسم لي شجرة. يربِّت على ظهري مشجعًا. أرسم ولدًا على حافة الحقل.

يستبقيني المدرس أنا وثلاثة آخرين في نهاية الحصة. يأخذنا إلى حديقة المدرسة. نجلس فوق الحشائش الخضراء أسفل شجرة. يعدنا أن يجعل منا رسامين. يطلب منا أن نرسم فرع شجرة بما عليه من أوراق. أنقل الفرع وأوراقه بدقة بالقلم الرصاص. أملأ الصفحة. أمشي فوق الرصاص بقلم الحبر. يقول: كفاية كده النهارده.

أحمل شنطتي وأغادر المدرسة. أمضي في الشارع المؤدي إلى مدرسة اليهود. أخطو فوق الحصى الملون. أقف عند الناصية. أتطلع يسارًا. أغصان الأشجار جرداء. أخطو فوق زهور صفراء وحمراء. أبلغ الناحية المقابلة لمنزلنا. نوافذ شقتنا مفتوحة. يتراءى منها خيال شخص. على بعد خطوات وابور زلط هاجع. جانب الطريق مرصوف بالأسفلت. رائحة الزفت المغلي. كوم الزلط أمام المنزل. تلمع حباته في ضوء القمر. نجلس فوق قمته. نحك حبات الزلط بعضها ببعض. ينطلق منها شرار ملون. يناديني أبي فأسرع إلى الداخل. أذهب على الفور إلى الحمام. أغسل وجهي وقدمي. ألحق به عند النافذة. يكون الظلام قد حل. تأتي أمي بالقهوة وهي تغني.

أعود إلى بداية الشارع ومنه إلى الميدان. أعبره. أمضي من أمام دكان الحاج «عبد العليم». أدخل الحارة. ألمح أبي في البلكونة. الشال الصوفي العريض حول رقبته. الطاقية الصوفية الكبيرة فوق رأسه. عنقه ملوي نحو مدخل الحارة. يتراجع بمجرد أن يراني. أصعد الدرج. أفتح الباب بمفتاحي. أدخل الحجرة. يقف إلى جوار الدولاب ممسكًا بكتاب «شمس المعارف». لا يكلمني.

أضع الشنطة فوق المكتب. أستخرج كراساتي. أرصها فوق بعضها. أتابعه بركن عیني. يستدير. يضع الكتاب مفتوحًا على السرير. يغادر الغرفة. أختلس النظر من الباب الموارب. أسمع صوته في المطبخ يعدُّ الطعام. أستخرج مفتاح الغرفة من جيبي. أدفعه في ثقب الباب. أقترب من السرير. أنحني فوق الكتاب. هناك كتيب صغير بين دفتيه. أرفعه لأقرأ عنوانه. أتوقع شيئًا عن عقاب الابن العاق. «في القوة على الباه». أقلب صفحاته. لا أفهم شيئًا. أعيده إلى مكانه.

أخرج إلى الصالة. أبحث عنه. لا أثر له في الكنيف أو المطبخ. أعود إلى الصالة. باب المنور مغلق. أقترب من حجرة «ماما تحية». الباب مغلق. أنظر من ثقب المفتاح. كما هي عارية من أي أثاث. ألف حول المائدة. باب حجرة الضيوف مغلق. أنظر من ثقب المفتاح. يُطالعني جالسًا فوق الكنبة. رأسه منحنٍ. يتأمل الأرض. يرفع يديه إلى وجهه. يجهش فجأةً بالبكاء وينهنه كالأطفال.

٨

ينتهي من صلاة الجمعة فوق السرير. ينزوي متجهمًا في ركنه اللاصق بالحائط. المسبحة الألفية في يده. يردد في تركيز اسم «لطيف».

أسمع ضجة في الحارة. ألبس نظارتي وأهرع إلى البلكونة. يرتفع صوته بالاسم الإلهي دون أن يلتفت نحوي. طريقته في التحذير من عمل أي ضجة.

أقف خلف المصراع الزجاجي. الأولاد يحملون الطائرات الورقية. ترتفع في سماء الحارة بألوان وأحجام مختلفة. يصنع لي طائرة بلون برتقالي. أصعد مع الأولاد إلى سطح المنزل. كل واحدٍ معه طائرته. نقبض بشدة على الخيوط. نطلقها في الهواء. تُحلِّق عاليًا.

يجري الأولاد خلف طائراتهم المحلِّقة. يختفون عن نظري. أعود إلى المكتب. أراجع درس قياس الأطوال واستعمال الفرجار والقدمة. يتردد نداء في الحارة: سن السكين والمقص. أهرع إلى البلكونة. الرجل وسط الحارة خلف آلته. يحضر له «سمير» عدة سكاكين. يدفع العجلة المطاطية بيده فتدور. يضع سكينًا على حافتها. ينطلق منها الشرر. يحركها من مقبضها حتى طرفها. يرفعها ويعكسها. يضعها فوق العجلة. يظهر «عبد الحميد» قادمًا من مدخل الحارة. يسير في وقار حتى باب المنزل. نمر من البوابة الحديدية الكبيرة. يضم أبي کیس التفاح إلى صدره. نمشي في طريق طويل متربٍ تحفُّ به الأشجار الباهتة. نصل إلى مبنًى من طابقٍ واحد. ممرضات ذوات أجساد ضخمة. تتقدمنا واحدة تتدلى من خصرها سلسلة حديدية طويلة. تجرها خلفها على البلاط العاري. شبشبها المتآكل يكحت الأرض. كعباها تتخللهما الشقوق السوداء. ممر طويل تصطف على جانبيه أبواب مغلقة. بعضها له قضبان حديدية. خلفها نساء لهن نظرات غريبة. إحداهن تُقهقه ضاحكة بصوتٍ عالٍ. تُشير إليَّ امرأة بيضاء سمينة بوجهٍ مليءٍ بالبثور وتهمس: تعال. أتعلَّق بيد أبي. صالة مفتوحة بها عدة أسرَّة. أمي فوق أحدها. تبتسم في هدوء. يُقدم إليها أبي کیس التفاح. تتناول منه واحدة. تمسحها بيدها وتقضم جانبًا منها. تداعب وجهي بأصابعها. تسألني عن المدرسة في غير اهتمام. الممرضة الضخمة ترقبها عن كثب وعيناها على التفاح.

تصل أصابعه إلى منتصف السبحة. أفتح الشنطة. أستعرض ما لديَّ من بِلْي. أحرص على أن تكون من نوع واحد. الغالبية على هيئة كرات شفافة داخلها خطوط متعرجة متنوعة الألوان. أنتقي أربعةً من أحجامٍ وأشكالٍ مغايرة. أضعها جانبًا لأستبدلها أثناء اللعب.

تقترب أصابعه من نهاية المسبحة. أضع الشنطة جانبًا. أفتح كراسة الإنشاء. أكتب كلمة «المطالعة» في منتصف السطر. أفكر ثم أترك سطرًا وأكتب بحروف كبيرة: «المطالعة وما أدراك ما المطالعة.» يمتلئ السطر. أترك سطرًا وأنتقل إلى السطر التالي. أتوقَّف عاجزًا عن الاستمرار.

أنتظر حتى ينتهي من ألفيَّته. أقترب منه في تردد حاملًا کراسة المسودات وقلم الحبر. يكتب لي دائمًا موضوعات الإنشاء ثم أنقلها بخطي. أتطلع إلى خده الحليق الناعم. يتناول مني الكراس.

يقول: هات قلم الرصاص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤