نادية … لم أستطع!

فرك جفنيه وتثاءب وتمطى، وشعر بارتخاء يَسْري في روحه وجسده؛ الارتخاء اللذيذ الذي يحدث في اللحظة العجيبة التي تتأرجح بين غيبوبة النوم ويكون العقل الواعي لم يستيقظ بعد … من كلا الزمان والمكان، الضائعة من كلا الوعي واللاوعي. وشعر أنه تحرَّر من العقلين معًا، وتخلص وجدانه من ثقلهما فأحسَّ أنه خفيف كالريشة، شفَّاف كالبلَّور.

وانفرجت شفتاه عن متعة غير محدودة لتنزلق من بينهما حروف متماسكة كحبات اللؤلؤ، وكاد يهتف: نادية. لولا أن إحساسًا غريبًا تسرَّب إلى أنفه ومسامِّ جسده مع رائحة الجدران الجديدة والعطر والفراش الجديد، فانزلقت اللحظة الناعمة لتسقط من الوجود والتصقت الحروف اللؤلؤية بحلق فمه، وشعر بالحقيقة المرة تخترق منافذ جسده وروحه مع الصوت الممطوط يقول: الفطور جاهز يا …

وفتح عينه، ورفع ذراعيه يتحسَّس السرير، وأمسك اللحاف الأطلس بيده، وضغط عليه ليتأكد من الحقيقة، وأمسَكَ ساقه وقرص فخذه بأصابعه ليستوثق من أنه هو نفسه بشحمه ولحمه وليس أحدًا سواه. وسمعها تردِّد بصوتها الممطوط: «الفطور جاهز يا …» وتقلَّصت عضلات وجهه في ابتسامة تشبه التكشيرة. لماذا لا تناديه باسمه؟ لعلها مثله؛ على طرف لسانها حروف اسم آخَر لا تقوى على الانزلاق من بين شفتيها، أو لعله الخجل أو الحياء. ولكنْ أيمكن أن يصفها بشيء من هذا القبيل بعد ما شهده منها في الليل؟

وتثاءب وتمطى وهو يقول: متشكر يا … وحاوَلَ أن ينطق اسمها ويقول «يا علية»، ولكنه لم يستطعه، فإن عقليه معًا الواعي والباطن لم يتعوَّدا أن يجمعا في رأسه سوى حروف نادية، ولسانه لم يألف إلا اسم نادية ملتصقًا بطرفه … إلى رأسه، وأسماء وأسماء مرت بلسانه دون أن تتعلق بطرفه أو تلتصق.

وشعر بيد عروسه الرقيقة تلمس كتفه وصوتها الممطوط الناعم يردِّد: الفطور جاهز يا … وفتح عينيه على آخِرهما تفضح منابت شعر كثيف اقتُلِع من جذوره حديثًا، وابتسم ابتسامة بليدة تشبه التثاؤب وقال: متشكر يا … وجنَّد كل خلايا عقله وكل عضلات لسانه ليقول: «يا علية، يا علية»، ولكنَّه لم يستطع.

ورآها وهي تتلوى أمامه في ثوب شفاف، فشعر بغثيان خفيف يشبه الغثيان الذي شعر به في أول شبابه، حين خلعت المومس ملابسها في اللحظة التي وضع فيها قدمه على باب حجرتها؛ ذلك الغثيان الذي جعل رجولته كلها تتسرَّب من روحه وجسده، وتتركه شيئًا عاجزًا هامدًا كأنما فارقته الحياة.

وتأمَّلَ عروسه وهي تتبختر أمامه شبه عارية، وتساءل: أيمكن أن تكون هي نفسها الفتاة البريئة الساذجة التي أرخَتْ جفنيها في حياء وخَفَر منذ يومين اثنين وهي تقدِّم صينية القهوة في بيت أبيها؟ أيمكن لمثل هذه الفتاة أن تخلع ملابسها بهذا الشكل أمام رجل غريب بلا معرفة وبلا تفاهُم؟ وما الفرق بينها وبين المرأة المومس؟ كلتاهما خلعت ملابسها أمام رجل غريب من أجل ورقة صغيرة، المومس ورقتها تُدفع فورًا، والزوجة ورقتها تُدفع مؤخرًا، ولكل امرأة ثمن؛ غالٍ أو رخيص، يُدفَع مقدمًا أو مؤخرًا. ولكن نادية؛ نادية الوحيدة التي لم يعرف ثمنها، لم تكن لها مطالب تشبه مطالب النساء، كانت تشمئزُّ من الهدايا، وكانت تحتقر الفساتين وحلي النساء، ولم تكن تنظر إلى الذهب أو الورق باحترام.

ورأى زوجته وهي تحوط ذراعَيْها برأسه، ووصل إلى أنفه رائحة عطرها النفاذ مختلطًا برائحة جسمها وروحها، فشعر بالغرابة تحوطه من كل جانب، لكنه حوطها بذراعيه في اطمئنان، فهو يعرف ما يرضيها ويستطيع أن يرضيها دائمًا دون خوف أو قلق. وشعر بها وهي تنزلق كقطعة الصابون الناعمة إلى جواره، وسرى دفء جسدها إلى كيانه، جسم المرأة يثيره ويرضيه، ولكن نادية كانت تزلزل كيانه، ترجُّ روحه وجسده، فينتفض انتفاضة عنيفة تخلع عنه غروره الأكبر.

لم يكن استسلام المرأة الكامل يرضيه بمثل ما كان يرضيه منها تلك اللمعة العنيفة الصادقة التي تتألق في روحها حين يلتقي معها في فكرة أو إحساس، لحظة عجيبة يشعر معها أنه استطاع أن يرضيها هي بالذات؛ قلبًا وعقلًا وجسدًا، ولو للحظة قصيرة. هي نادية، التي كان يشعر من حيث لا يفهم أن شيئًا ما لا يمكن أن يرضيها.

ولكنْ أي شعور بالقلق يدفعه من أجل هذه اللحظة القصيرة؟

أن يستطيع أن يرضيها، كان في حد ذاته شيئًا كبيرًا، أكبر من غروره، وأكبر من ثقته بنفسه ورجولته، بل أكبر من طموحه في عمله الذي كان ينسى في غماره أي إنسان. ولكنْ أي ثمن باهظ ثمنها؟! كيف يأتي لها بفكرة جديدة كل مرة؟! وكيف يأتي لها بإحساس جديد كل لقاء؟! أي شعور بالخوف … الخوف من الفشل في إرضائها؟!

وسمع صوت زوجته الممطوط الناعم يقول: أنت عاوز تنام يا … وتمطَّى في كسل وهو يقول: أيوه يا … وحوطها بذراعيه، فانكمشت كالقطة الصغيرة بينهما، وانفتحت عدسة مخه على عينَيْ نادية العميقتين تتطلَّعان إليه في تساؤل: تتركني وتتزوجها؟ ودفن رأسه في صدر زوجته هاربًا من العينين العسليتين، واختنق قلبه بكلمات أوشكت أن تنزلق من بين شفتَيْه: نادية … لم أستطع!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤