من أجل المعرفة

العربة البيضاء الصغيرة تنطلق بسرعة على الشارع العريض الناعم، وهي تستند برأسها على حافة النافذة، ونسمة الليل الدافئة تتخلل شعرها وملابسها، وتسري إلى جسدها فتبعث في روحها خدرًا جديدًا ترتخي معه نظراتها المتكسرة على صفحة النيل؛ لتلتقط من حين إلى حين صورة جانبية للأصابع العريضة التي تلتفُّ حول عجلة القيادة في قوة وحماس، والعينان شبه الزرقاوين تتطلعان إلى الأمام في حدة تنمُّ عن شوق عارم إلى بلوغ نهاية الطريق.

وأخرجت رأسها من النافذة ليداعب الهواء الدافئ شعرها وبشرتها، وسمعته يقول وهو يخطف إليها نظرة متلهفة: سنصل بعد قليل.

قالها بزهو؛ ذلك الزهو الذي يملأ الرجل حين يعتقد أن المرأة قد أحبته وأنه قد ملكها، وحملت نسمةُ الليل الرقيقة عن شفتيها ابتسامةً ماكرة وطوحت بها بعيدًا عن عينيه، وقالت: الليل في حلوان جميل.

ورمقها بنظرة مشحونة بالشوق وقال: أنتِ أجمل من الليل.

وهزها الحنين الصادق في عينيه، فأطرقت رأسها في خشوع واحترام، ولمحت يده وهي تترك عجلة القيادة لتبحث عن يدها، فأمسكت بها في حنان وعطف.

وسمعته يقول وهو يضغط بقوة على يدها: أحبك.

وأغلقت شفتيها في صمت.

لكنه سألها: هل تحبينني؟

فقالت وهي تقذف بنظراتها خارج النافذة: أَلَا ترى هذه الأنوار؟

ونظر إلى الأمام وقال: لقد وصلنا حلوان.

•••

أمسكت حقيبتها الصغيرة وسارت إلى جواره يتقدمها صبي صغير ظل يسير في طرقة طويلة متعرجة، ثم وقف أمام باب عليه رقم، وفتح الباب وانحنى في دأب ينتظر دخولهما.

واصطدمت عيناها بالسرير الواحد الذي يتوسط الحجرة، لكنها تجاهلته وسارت إلى النافذة وفتحتها وأطلَّت منها على الليل الساكن الرهيب تبرق فيه النجوم، وتنهَّدَت وهي تستنشق هواء الليل الدافئ وقالت: المنظر من هنا رائع!

وشعرت به يقف إلى جوارها ويتطلع معها إلى الأفق البعيد، لكنها استطاعت أن تضبط عينيه وهما تختلسان رغمًا عنه نظرات خاطفة وَجِلة إلى السرير.

وأسندت مرفقها إلى النافذة وشردت نظراتها بعيدًا وعادت بها إلى القاهرة، إلى حجرة مستطيلة، ومكتب صغير، وهو يجلس أمامها، بين شفتيه كلمات متعددة المعاني، وبين عينيه نظرات سحيقة الأغوار تَسْحق قوتها وغرورها وتجعلها تنكمش عند ركبتيه وتتكور، وتدفن رأسها بين كفيه، وتلهث في صمت بعاطفة عنيفة حبيسة لا تجد سبيلًا إلى الخلاص، حتى حينما يشدها إليه ويذيب كيانها بين ذراعيه، وتظنُّ أن عاطفتها قد ذابت هي الأخرى مع كيانها وتفرح بالخلاص، ولكن حين يُبعِد عنها ذراعيه تستردُّ كيانها وتستردُّ معه عاطفتها عنيفةً كما كانت، حبيسةً كما كانت، كأنما لم تفرج عن شيء منها.

ويعود إليها الشوق، ويعود إليها القلق، ويعود إليها التساؤل الحائر بلا جواب:

لماذا هو بالذات؟

لماذا لم يكن رجلًا آخر؟

وهل يمكن أن يكون رجلًا آخر؟

هل يمكن أن تعرف؟!

•••

ورنَّ صوت الرجل في أذنيها فشدَّت نظراتها من الأفق البعيد إليه، ورأته واقفًا إلى جوارها، بين شفتيه كلمات متعددة المعاني، وبين عينيه نظرات سحيقة الأغوار، ولكنها لا تَسْحق شيئًا فيها، وحاولت أن تنكمش عند ركبتيه، وحاولت أن تلهث بأية عاطفة فلم تلهث بشيء.

وشدَّها إليه.

ورأت ذراعيه القويتين تحيطان بها، أكثر قوةً من الذراعين الحبيبتين، أقوى عضلات وأغزر شعرًا، ولكنهما لا تذيبان أي شيء فيها.

•••

العربة البيضاء الصغيرة تنطلق على الشارع العريض الناعم، وهي تستند برأسها على حافة النافذة ونسمة النهار الدافئة تتخلل شعرها وملابسها وتسري إلى جسدها، فتبعث في روحها حماسًا جديدًا تستيقظ معه نظراتها الناعسة على صفحة النيل، وتسبقها إلى القاهرة إلى الحجرة المستطيلة والمكتب الصغير.

وأخرجت رأسها من النافذة ليداعب الهواء الدافئ شعرها وبشرتها، وسمعته يقول: أحبك.

قالها بزهو؛ ذلك الزهو الذي يملأ الرجال حين يعتقد أن المرأة قد أحبته وأنه قد ملكها.

وحملت نسمةُ النهار الرقيقة عن شفتيها ابتسامةً ساخرة، وطوَّحت بها بعيدًا عن عينيه. ورمقها بنظرة مشحونة بالعاطفة، عنيفةٍ كما كانت، حبيسةٍ كما كانت؛ كأنه لم يفرج عن شيء منها.

وهزَّها الحنين الصادق في عينيه، فأطرقت رأسها في خشوع واحترام، ولمحت يده وهي تترك عجلة القيادة لتبحث عن يدها، فأمسكت بها في حنان وعطف، وسمعته يقول وهو يضغط بقوة على يدها: هل تحبينني؟

فقالت وهي تقذف بنظراتها خارج النافذة: أَلَا ترى هذه البيوت؟

ونظر إلى الأمام وقال: لقد وصلنا القاهرة.

•••

في الحجرة المستطيلة، وعلى المكتب الصغير، وهو يجلس أمامها، وبين عينيه نظرات سحيقة الأغوار تَسْحق قوتها وغرورها فتنكمش عند ركبته وتتكور، وتدفن رأسها بين كفَّيْه، وتلهث في صمت بعاطفة حبيسة لا تجد سبيلًا إلى الخلاص.

ويشدها إليه ويذيب كيانها بين ذراعيه، وتظنُّ أن عاطفتها قد ذابت هي الأخرى، وتفرح بالخلاص، ولكن حين يُبعِد عنها ذراعيه تستردُّ كيانها وتستردُّ معه عاطفتها؛ عنيفةً كما كانت، حبيسةً كما كانت، كأنما لم تفرِّج عن شيء منها، ويعود إليها الشوق، ويعود إليها القلق، ولكن لا يعود إليها التساؤل الحائر: لماذا هو بالذات؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤