عم عثمان

كانت عيناها تتعلقان بشريط الضوء الرفيع الذي يمتد من الهلال المقوَّس الناحل، ويتسلل كنصل السيف في ظلمة السماء الداكنة، ثم لا يلبث أن ينكسر بين كتل الأشجار السوداء إلى قروش فضية لامعة تنساب متفرِّقة من بين غصونها وأوراقها المتشعبة، ثم لا تلبث أن تتماسك وتتجمَّع مرة أخرى لتصبح شريطًا رفيعًا يكاد يتهاوى في الجو لبضع خطوات حتى يسقط في النيل، ويتدحرج على صفحة الماء المتعرِّجة مستسلمًا معها لحركات الريح العابثة. وكأنما يلذُّ له مَلْمس الماء البارد فيُغرِق نفسه في النيل عمدًا، ويستحمَّ فيه كقرموط سمك ناصع البياض يتلوَّى نشوانَ مع نسمات ليلِ القاهرة الدافئ.

كانت عيناها نصف المغمضتين تلوذان من الخلود إلى النوم من فرط السعادة والهدوء بذلك الشريط الرفيع من الضوء، تتبعانه من أول طريقه في السماء إلى آخِر مطافه غريقًا طروبًا، وشعرَتْ ببرودة الماء من حول جسمها الساخن، فشعرت بسعادة جديدة وتمنَّت لو خلعت ملابسها وألقت بنفسها في أحضان الماء.

لكنها ظلت على كرسيِّها جالسةً تكتفي بمتعة النظر والتأمل، وفجأةً شُلَّت نظراتها، كأنما سُحِبت منها كهرباء الرؤية، على صوت دقات ساعة الجامعة تأتيها من بعيد، وسرت كهرباء السمع في أذنيها تعدُّ الدقات دقةً دقة، والأمل والخوف معًا يصوِّران لها أن الصوت سينقطع بعد تلك الدقة الأخيرة، لكنَّ دقةً أخرى تُطرق أذنيها فيكاد يغوص قلبها في قدميها. وظلَّ صوت الساعة يهدر في ظلام الليل كضرغام جائع حتى أكمَلَ اثنتي عشرة دقةً بالتمام والكمال.

وهنا أفاقت من نشوتها تمامًا واستردَّت بصرها ورأت الحقيقة ماثلةً أمامها، الحقيقة المُرة، ورأت زجاجةَ البيرة الفارغة وبجوارها كوبان كبيران فارغان من تحتهما منضدة خشبية حقيرة، ورأت أصابع يده الرفيعة تعبث بطرف المنضدة، ولم تكن تعرف أن أصابعه رفيعة إلى ذلك الحد، وهبطت نظراتها إلى قدميه ورأت حذاءه الأسود واستغربت منظره، وصعدت نظراتها إلى وجهه ورأت عينيه اللامعتين تنظران إليها فتذكَّرته. نعم، إنه هو، ولكنْ لماذا يبدو حذاؤه وكأنه حذاء رجل آخَر؟ ولماذا تبدو أصابع يديه نحيلة رفيعة كأنها ليست أصابعه؟

وسمعت صوته الدافئ يقول: هل أخافَتْكِ دقات الساعة إلى هذا الحد؟ ماذا يضايقك؟ هل تأخَّرْتِ؟

وارتعد جسمها الصغير وهي تقول: جدًّا، لم أتصوَّر أن الوقت يمضي بهذه السرعة، كنت أظن أنها العاشرة فقط.

وارتسمت على وجهه ابتسامة الرضا الذي يفيض بالرجل حين صارحَتْه بالحب الذي يُفقِدها الإحساس بالزمن، وقال يطمئنها: إن الأسرة سافرت إلى الإسكندرية، وليس معك بالبيت أحد إلا الخادمة العجوز، ولا بدَّ أنها نامت من الساعة التاسعة؛ إن النساء العجائز لا يجدْنَ شيئًا مثل النوم العميق.

وقالت بصوت فاتر: هذا صحيح، ولكن …

قال: ولكن ماذا؟

وقفزت إلى رأسها فجأةً صورةُ عم عثمان بشاربه الكثِّ الطويل كأنه حيوان بري يرقد على شفته العليا، ووجهُه الأسود اللامع، وشفتاه الغليظتان الزرقاوان تنقلبان إلى أعلى وإلى أسفل لتُبِينا عن أسنانه البيضاء الكبيرة.

وانتفض جسمها الصغير، وهي تقول بصوت ضعيف: ولكن عم عثمان يسهر طول الليل على دكته كأنه لا ينام كبقية الناس، وسوف يراني حين أعود بعد منتصف الليل.

ورن صوت قهقهة في الليل الساكن، وألقى برأسه إلى الوراء في حركة تنمُّ عن الطمأنينة وخلو البال: عم عثمان؟ وما شأن عم عثمان بك؟ إنه بواب العمارة فقط، ولا دخل له على الإطلاق في حياتك، تعودين أول الليل أو آخِره هذا من شأنكِ أنتِ؛ إن وظيفة البواب هي أن يراقب الغرباء عن العمارة لا أن يراقب السكان.

وقالت في أسًى: بل إنه يراقب السكان فحسب.

– ها ها ها … لم أكن أتصور أنك تخافين من عم عثمان إلى ذلك الحد.

قالت في تمرد: إنني لا أخاف منه، ولكني لا أحب أن يظنَّ بي سوءًا؛ إنه من أقاصي الصعيد حيث تلبس المرأة العباءة.

قال: ولكنَّه يعيش في القاهرة ويرى المرأة المتحررة التي تدخل وتخرج كالرجال.

قالت: إنَّه لا يفهم ذلك. لقد قالت لي الخادمة العجوز ذات يوم أنه حدَّثها عن سوء سلوك إحدى الساكنات لأنها تتأخر بالليل أحيانًا.

قال: أليس من المحتمل أن عملها يؤخرها ليلًا، أو أنها في حفلة، أو أي شيء من هذا القبيل؟

قالت: إنَّه لا يفهم سوى أنَّها امرأة، ولا بدَّ أنها أمضت ساعات الليل هذه مع رجل.

وسادت فترةُ صمتٍ طويلة، وتخيَّلت عينيه السوداوين الحمراوين تنظران إليها من تحت العمامة البيضاء الكبيرة نظرةَ شكٍّ وريبة، وتظل هاتان العينان تصوَّبان لها مثل هذه النظرة كلَّ صبح وكل ظهر وكل عصر، كلما تخرج وتدخل من باب العمارة. وكأنما أحسَّ بما يراودها، فقال لها: حسنًا، حين تدخلين الليلةَ وينظر إليك نظرةَ الشَّك، قولي له إنك كنتِ مع خطيبك، وإنك ستتزوجين بعد أيام.

ورنَّ صوتها في سكون الليل غاضبةً: أتتصوَّر أني أقف أمام ذلك البواب بعد منتصف الليل لأبرِّر له تأخُّري، وأشرح تفاصيل حياتي الخاصة كأنما هو ولي أمري؟ أليس هذا شيئًا مهينًا لي؟

قال: أنا مستعد أن أقول له أنا ذلك لو أردتِ.

قالت: إن ذلك أشدُّ مهانةً لي ولك؛ إنه البواب وليس المأذون.

قال في حيرة: ما هو الحل إذن؟ هل أسبقك إليه وأطلق عليه الرصاص قبل وصولك؟

وضحك ضحكةً مرحةً صافيةً، كأنما ليس هناك معضلة ليس لها حل في نظرها سوى أن يموت عم عثمان فعلًا قبل أن تصل إلى باب العمارة، ولكنه يموت قضاءً وقدرًا، وليس قتيلًا.

وأخذت تفكِّر في الأمراض التي يمكن أن تداهم الإنسان وتقضي عليه في الحال. ولم تكن تعرف شيئًا عن الطب والأمراض، ولكنها سمعت عن أناس يموتون بالسكتة القلبية في ثوانٍ، وقالت لنفسها: آه لو كانت تصيبه السكتة القلبية الآن، فيرقد ويغمض عينيه الحادتين الناريتين كفوَّهات البنادق.

ولكن صورة أطفاله الثلاثة ارتسمت في خيالها وهم جالسون إلى جواره على الدكة الخشبية يحملقون في الداخل والخارج بعيون بريئة جائعة مسكينة.

لا، إنها ليست بهذه القسوة. لا داعي للسكتة القلبية القاتلة، لماذا لا تمرض عيناه فيربطهما بأربطة ثقيلة من الشاش فلا يرى بهما أحدًا؟ ولكنْ كيف تمرض عيناه بتلك السرعة؟ لقد رأته وهي خارجة من العمارة منذ ساعات قليلة ينظر كالصقر هنا وهناك وعيناه تقدحان شررًا.

لا شيء إذن غير السكتة القلبية، وسوف تتبرع لأطفاله بجزء من طعامها كلَّ شهر.

آه! لماذا تراودها تلك الأفكار السوداء، وإن الوقت يمرُّ والليل يرتحل أكثر وأكثر. ونظرت في ساعتها وقالت له في ذعر: إن الساعة تقترب من الواحدة، ماذا أفعل؟ أريد أن أذهب إلى البيت.

وقال باسمًا: سآتي معك لأوصلك.

قالت: لا، سيراك عم عثمان، إنه سيظن حتمًا أنني كنت مع رجل، ولكن هذا أفضل من أن ينقلب ظنه يقينًا ويرى الرجل بعينَيْ رأسه.

وضحك ضحكةً طلقةً، ونظرت إليه وهي تقول: إنك لا تحس ولا تشاركني مشكلتي الفظيعة، إنك تضحك من قلب خليٍّ. طبعًا أنت رجل تعود إلى بيتك في أي وقت من الليل رافعًا رأسك في تيه وكبرياء، ويقف لك البواب احترامًا لمغامراتك مع النساء.

وقال في دهشة: إنني لا أصدِّق أن يكون عم عثمان هو بطل مشكلتك الفظيعة هذه! كأنك لم تتعلمي وتؤمني بحقك في ممارسة الحياة الحرة، فتصنعي لنفسك قيودًا وهمية تقيِّدين بها نفسك دون داعٍ.

قالت: إنك لا تستطيع أن تحكم لأنك لم تكن امرأة أبدًا.

إن عم عثمان ليس هو عم عثمان وحده، وإنما هو المجتمع كله الذي أعيش فيه. إن المجتمع يحكم عليَّ من خلال رأس عم عثمان الفارغ المعمم، وعينيه اللامعتين كعين الثعبان. إنها ليست مشكلة عم عثمان وحده التي تقلقني، إنها مشكلة المجتمع كله.

وشعرت بموجات من التمرد تعصف بكيانها الصغير، ولمعت عيناها فجأةً ببريق العصيان والجموح وقالت: ولكن يجب عليَّ ألا أعبأ بشيء، أنا حرة في حياتي الخاصة مثلك. لقد نلتُ الليسانس كما نلتَه أنت، وأشتغل كما تشتغل أنت، وأستلم ماهية مساوية لماهيتك؛ يجب أن أمارس حريتي كما تمارسها أنت.

قال: هذا ما يجب أن تفعليه كامرأة قوية لها شخصيتها واستقلالها.

قالت: سأفعل، والآن هل ستوصلني إلى باب العمارة؟

قال: إذا شئتِ.

وسارا في الطريق المظلم الخالي من الناس، وقد بدا أكثر اتِّساعًا وأكثر نظافةً، وأحست بأصابعه تلتف حول يديها في قوة وصدق، فهدأت نفسها واستكانت تحت ذراعيه وسارت بخُطًى بطيئةٍ ناعسةٍ كأنها في حلم لا تريد أن تصحو منه.

ولكنها سرعان ما تيقَّظت حين لمحت العمارة التي تسكن فيها من بعيد، وخفق قلبها وتسرَّبت منها القوة التي أحسَّت بها منذ قليل ونظرت إلى ساعتها، كانت الثانية صباحًا، فقالت في صوت متخاذل: أظن من الأفضل ألَّا يراك عم عثمان معي في ذلك الوقت المتأخر.

وقال: ولكنكِ صمَّمتِ منذ قليل على ممارسة حريتك.

قالت: نعم، ولكن لا داعي لذلك الآن، يمكنني أن أمارسها من الغد.

وضحك ضحكةً خافتةً حتى لا يرنُّ صداها في سكون الليل الهاجع، وضغط على يدها وتمنَّى لها التوفيق ووعدها باللقاء في الغد، ثم انصرف.

وسارت وحدها في وجل تشدُّ عضلات وجهها وجسمها وتشحذ أسلحتها كلها لمواجهة نظرة عم عثمان النارية المتشككة، ورفعت رأسها في كبرياء مصطنعة تحاول أن تُخفِي بها قوتها الهاربة.

ووصلت إلى باب العمارة، وسبقتها عيناها المهزوزتان إلى مكان دكة عم عثمان بجوار الباب، ورأت وهي تبتلع أنفاسها كتلة من الملابس البيضاء.

وساورها شعور غامض بأنه قد فارق الحياة، لكنها لم تدقِّق النظر في الكتلة البشرية لترى إذا ما كان يصدر منها أي حركة تشير إلى الحياة من قريب أو بعيد، فلم يكن يهمُّها في تلك اللحظة أن يكون حيًّا أو ميِّتًا.

ومشت بجوار الدكة رافعة رأسها في قوة وكبرياء، ونظرت شزرًا إلى الكتلة الراقدة، وقالت لنفسها في سخرية: ما كان أتفه تفكيري! أكنت أجلس بجوار النيل الساحر ومعي الرجل الذي أحبه، ثم أقضي الوقت وأنا أتخيل صورة عم عثمان؟ ما كان أجهلني! أضيِّع اللحظات الجميلة السعيدة وأنا أخاف من شبح تلك الكتلة الغائبة عن الوعي؛ ذلك البواب الذي آمره فيطيع ثم أعطيه أجره بضعة قروش.

وأعطت ظهرها للدكة الخشبية وسارت نحو السلم سعيدةً بتلك القوة التي تحس بها، وسمعت من خلف ظهرها صوت شخير غليظ خافت، وتوقَّفت عن المسير لحظةً، ثم استدارت خلفها ورأت عم عثمان يغطُّ في النوم العميق على الدكة، ومصمصت شفتيها في إشفاق وهي تقول لنفسها: مسكين عم عثمان! إنه يرقد في الشارع بعد المجهود الطويل الذي يقوم به طولَ النهار وجزءًا من الليل.

وصعدت السلم بخُطًى ثقيلةٍ وهي تسأل نفسها في حيرة: كيف يتحول شعورها في لحظة من الخوف من عم عثمان إلى الشفقة عليه؟! وزادها شعور الشفقة إحساسًا بقوتها وكبريائها، ووضعت المفتاح في الباب ودخلت بيتها وخلعت ملابسها، واستلقت على سريرها وهي تبتسم لنفسها في سعادة وراحة بال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤