الشيخ الأكبر

التصوف هو قلب الإسلام الخافق بالشوق والمحبة، وهو أيضًا فلسفة الإيمان، التي ظفرت بالعلوم الكونية، وآمنت في الإلهيات لاعتمادها على الدين والوحي.

وبالتالي فالمتصوف الإسلامي، هو صاحب العلم المحيط الشامل لجميع الحقائق، هو الفيلسوف العالمي، الذي جمع المعارف كافة، وتميز بإيمان، يمشي في مواكب الأنبياء، وهدى الرسل، ورضاء الله ومحبته.

وإذا قلنا: التصوف هو الفلسفة الكاملة، فإننا نقصد إلى هذه الكلمة قصدًا، ونتجه إليها عن عمد، ونحن نعلم أن السفهاء من الناس سيقولون كما قال بعض أربابهم من رجال الاستشراق: إن قيود الإسلام قد حجرت على العقول في المجتمعات الإسلامية؛ فباعدت بينها وبين الفكر والفلسفة. وسيقولون أيضًا، كما قال بعض أربابهم من متعصبي أوروبا: إن الأمة الإسلامية عامة، والعربية خاصة لم تعرف التفكير الفلسفي والنهج العلمي، ولن تعرفهما؛ لقصورها الذاتي، وحياتها الفاترة الجامدة على شواطئ الأوهام والخيالات.

لقد جالت العقول الإسلامية في المعارف الكونية، جولاتها الموفقة الفاتحة، وتناولت فيما تناولت المسائل الفلسفية الكبرى على ضوء إيمانها وكتابها الرباني، كما جال المتصوفة بصفة خاصة في آفاقها وسمواتها ومعارجها.

وإنما الفرق بينهم وبين فلاسفة اليونان أنهم لم ينظروا في المسائل الفلسفية لذاتها، كموضوعات علم مستقل مرتبط الأجزاء، بل اعتبروها مسائل دينية منطوية تحت أجنحة رسالتهم الكبرى؛ فعالجوها على هذا الضوء، وتناولوها على هذا الهدى.

وإذن؛ فالفلسفة عندهم لم تُجرد من الدين ولم تُفصل عنه، ولم تُرَتَّب مسائلها في علوم مستقلة قائمة بذاتها، خارجة عن دائرة الوحي والإيمان؛ ولهذا لم يؤلف المتصوفة الإسلاميون كتبًا في المنطق والجدل لبيان أصولهما وطرقهما، ولم يتركوا دراسات في المناهج العلمية التي تصعد بالاستقراء من الجزئي إلى الكلي، وتنزل بالقياس من الكلي إلى الجزئي؛ ولكنهم مع ذلك جادلوا وتحاكموا إلى المنطق، وأوضحوا الطرق، ومهدوا السبل، وقاسوا جريًا مع فطرة العقل، دون تقيد بحرفية القواعد، ما دامت روح تلك القواعد قد سلمت وعاشت، وترعرعت تحت ظلالهم.

ولم يؤلِّف المتصوفة الإسلاميون كتبًا في علم النفس والأخلاق، ولا في تعريف الجسم والحركة والزمان والمكان، على نحو المنهج اليوناني والنهج الأوروبي.

ولكنهم بلا ريب قد تركوا مكاتب الإسلام عامرة زاخرة بأروع الدراسات النفسية وَالْخُلقية، وأنضج الآراء في تعريف الأجسام والحركات، وخصائص الزمان والمكان.

فالذي يجرد الإسلام من الفلسفة، هو الذي يتمسك بقشور الفلسفة أو وثنياتها، أما مَنْ ينشد الروح والجوهر والإيمان، فقد بلغ بهم المتصوفة الإسلاميون أعلى قمم التصعيد والتفوق.

ومحيي الدين، هو المثل الكامل للصوفي الفيلسوف المسلم، الذي أحاط بمعارف عصره، بل وسبق ذلك العصر، إلى آفاق لا تزال الإنسانية تجهد قواها، وتحشد مواهبها للوصول إليها.

كما اختص محيي الدين بفيض دافق من الينابيع والإلهامات القلبية، أو بلغة التصوف بالهبات والعطايا الربانية، وهي موارد إلهية لا تنفد ولا تحد، ولا تسامقها عزمات، ولا تطاولها معارف؛ وإنما هي فيوضات تتنزل من لدنه — تعالى — على قلوب عباده، وألسنة محبيه، وأقلام مَنْ اصطفاهم واجتباهم لحمل أمانة العلم ورسالة المعرفة.

ولا يمكننا، ونحن نؤرخ لعبقرية محيي الدين وفلسفته أن نطبق عليه ما اصطلحت عليه الأقلام من استنطاق الهيئة، وتقصي الدراسات التي تزوَّد بها، والدوافع والكوامن النفسية التي أحاطت به، وتفاعلت مع عواطفه وأحاسيسه؛ فكوَّنتْه وصاغته.

لا يمكننا هذا؛ لأن محيي الدين عجيبة من عجائب التصوف، وصنيعة من صنائع الإيمان، ولطيفة من لطائف التقوى، وقبسًا من أقباس النور الذي يشرق في الأرواح المتطهرة العابدة.

إن محيي الدين، لم تكوِّنه عوامل المحبة الجنسية، التي تكوِّن الشعراء والأدباء، ولم تصقله الشكوك والريب والقسوة، التي تُلهب الأذكياء، ولم تدفعه عوامل البيئة والزمان والمكان إلى الوثوب والاعتلاء.

وإنما صاغته سبحات الروح، وكوَّنته إلهامات القلب، وأبرزته الجلوة والخلوة، والحضرة والمحبة، ورعتْه وحبتْه عناية الله، التي ترعى وتحابي المؤمنين، وتعلِّم وتلقِّن العابدين الساجدين، الذين قعدوا على بابه الأسنى، مجرَّدين حتى من أنفسهم في انتظار النفحات والهبات، فدخلوا تحت ظلال الآية الكريمة: عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا.

طريقته في التأليف

يقول محيي الدين: «فإن تأليفنا هذا وغيره لا يجري مجرى التآليف ولا نجري فيه نحن مجرى المؤلفين؛ فإن كل مؤلف إنما هو تحت اختياره، وإن كان مجبورًا في اختياره، أو تحت العلم الذي تعلمه خاصة، فيلقي ما يشاء ويمسك ما يشاء، أو يلقي ما يعطيه العلم وتحكم عليه المسألة التي هو بصددها، حتى يبرز حقيقتها، ونحن في تأليفنا لسنا كذلك؛ إنما هي قلوب عاكفة على باب الحضرة الإلهية، مراقبة لما ينفتح له الباب، فقيرة خالية من كل علم، لو سُئلتْ في ذلك المقام عن شيء، ما سَمِعَتْ لفقدها إحساسَها، فمهما برز لها من وراء ذلك الستر أمر ما، بادرت لامتثاله وألقتْه على حسب ما حُدَّ لها في الأمر.»

قلوب عاكفة على باب الحضرة الإلهية، مراقبة لما ينفتح له الباب، هذا هو صفوة ما يقال في عبقرية أهل الله، ومن هذا الباب كانت معارف محيي الدين، معارف متلاحقة متدفقة، ممتزجة متداخلة متشابكة، أشبه بدائرة المعارف، التي ليست لها أبواب ولا مناهج، بل هي بحار زاخرات متلاطمة المعاني جبارة الأمواج.

يقول رجال الدنيا: إن العبقرية صبر طويل وكفاح مرير، أما رجال التصوف فالعبقرية عندهم سجود القلب الطويل، في محراب النور والهدى، والمجاهدة المريرة الشاقة، التي تُوصل إلى الباب الأسنى.

العبقرية العلمية عند رجال التصوف منحة وخلعة، وهبة مستفادة من صفاء الروح وطهارة القلب، ومراعاة الله مع الأنفاس؛ فلا يصعد نفس ولا يهبط إلا بذكر الله وخشيته، والشوق الحار المشبوب بمحبته وسجود القلب تحت ظلال رؤيته.

وسجود القلب عزم عظيم، لا يطيقه إلا الفحول من أهل الحظوة والفتوة، وملازمة الباب مجردًا من كل شيء حتى من نفسه، مجردًا لربه قاصدًا إليه؛ فحينئذٍ تهبط الخلع والمنح، وتترى الهبات والنفحات، وتتنزل العلوم، وتتدفق في القلب ينابيع من المعارف لا تُحد ولا تُحصر، وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ.

كتب محيي الدين، إلى فخر الدين الرازي، الإمام العلاَّمة صاحب التفسير المعروف، رسالة يُبَيِّن له فيها نقص درجته في العلم عن أهل الله: «اعلم يا أخي — وفقنا الله وإياك — أن الرجل لا يكمل عندنا في مقام العلم حتى يكون علمه عن الله — عز وجل — بلا واسطة من نقل أو شيخ، فإن كان علمه مستفادًا من نقل أو شيخ، فما برح عن الأخذ من المحدثات، وذلك معلول عند أهل الله — عز وجل، ومن قطع عمره في معرفة المحدثات وتفاصيلها، فاته حظه من ربه — عز وجل؛ لأن العلوم المتعلقة بالمحدثات يُفني الرجل عمره فيها ولا يبلغ إلى حقيقتها، ولو أنك يا أخي سلكتَ مسلك أهل الله — عز وجل — لأوصلك الله — تعالى — إلى حضرة شهوده؛ فتأخذ عنه العلم وما أدراك ما هذا العلم الذي من رجاله الْخَضِر — عليه السلام.»

ذلك هو علم المتصوفة، وهذا هو المصدر الأعلى لمعارف محيي الدين، وَمَنْ يرد أن يعرف محيي الدين، فليلتمس له بابًا إلى تلك المعارف؛ ويومئذٍ يعرف محيي الدين، وما أدراك ما محيي الدين؟! ثم ما أدراك ما محيي الدين؟!

مكانته من الفكرة والأسلوب

محيي الدين هو المثل الأعلى للأرستقراطية العقلية، كما هو المثل الكامل للأديب المثالي، وإذا كان الشعراني، يمثل معارفه بالنسبة إلى معارف المتصوفة بإكسير الذهب بالنسبة إلى الذهب، فإن أسلوبه البياني — كما يقول بعض رجال الاستشراق — يشبه عمل الفنان المدقق الذي يتخير الدرر الغالية، بأكبر عناية، وأقصى حساسية، أكثر مما يشبه الثمار الأولى لنوبة من نوبات النشوة الروحية.

أسلوب محيي الدين، أسلوب الفنان المدقق، الذي يتخير جواهره ولآلئه، بعناية المتذوق الخبير، وحساسية الفنان القدير؛ فهو لا يشغلك بالألفاظ مع روعتها عن المعاني، ولا بالمعاني على سموها عن الألفاظ، بل لكل نصيبه ومكانه؛ فهو العالم الأديب، والأديب العالم، في كل جملة له معركة عقلية، وصورة بيانية، والقوة لديه قوة فكر وبيان، لا قوة زخرف وتهويل.

ولقد قَسَّمَ علماء البلاغة تأثيرها إلى قسمين: فالتأثير في العقول عمل الموهبة المُعلِّمة المُفسِّرة، والتأثير في القلوب عمل الموهبة المشرقة الجاذبة.

ولقد جمع محيي الدين بين الموهبتين؛ فهو لدى العقول الْمُعَلِّم الْمُفَسِّر الذي يعرض عليك ألوانًا متتابعة من شتيت الصور والمعاني، على سنان قلم عبقري، يُجْمِل وَيُفَصِّل، وهو لدى القلوب العازف الماهر، المترنم بالألحان والمواجيد، الذي يهبط بالمعارف من خدورها، فيزفها إليك مُجَلَّاة مُحَلَّاة بالإشراق والنور.

ولمحيي الدين أكبر الأثر في لغة التصوف، فلقد نقلها من لغة القلوب إلى لغة العقول ومزج بينهما؛ فكان منهما معًا أسلوب محيي الدين الذي تميَّز به وَعُرف عنه، وعاش به وله، والذي وثب به وَثَبَاتٍ عقلية ولغوية جبارة، تضيفه إلى المبتكرين العالميين.

ثم تأتي بعد ذلك خصوصية لمحيي الدين لا يشاركه فيها سواه، وهي سره كما أنها مفتاحه، وذلك أن قارئ محيي الدين، يحس بعد قراءته بأنه قد خُلق خَلقًا جديدًا، وأنه اطلع على آفاق من الفكر والبيان لم يكن له بها عهد، ثم يشعر بعد ذلك بحب غلَّاب قَهَّار، يربطه بمحيي الدين ويمسكه لديه، ثم يرى، إذا كان من أهل الرضا، في كل كلمة من كلام محيي الدين محرابًا وبابًا للسماء.

شخصيته

مقام محيي الدين بين رجال التصوف هو مقام السلطنة، ولعل هذا المقام قد اشتُقَّ من مكانته وشخصيته.

ولقد أجمع رجال التاريخ على أن محيي الدين، قد تميز بشخصية جبارة غلابة، لها جلال ورواء وبهاء، وسمت ووسامة ووقار، تخشع لديه الطغاة ويرجف منه المتكبرون.

حتى إن خصومه كانوا إذا واجهوه خنعوا والتمسوا لديه عفوًا، ومنه تسامحًا، وأقبلوا يتمسحون بأطرافه، ويتبركون بنجواه، ويرجون مغفرةً ورضًا.

ولقد مَرَّ بنا أن محيي الدين كان في مجالسه مع الملوك الناصح الْمُوَجِّه، الذي يقرع بكلمة الحق القوية أسماعهم؛ فيسارعون إلى الإجابة والإنابة.

ورأينا ملك قونية يلقبه بالوالد، وملك حلب يخاطبه بالمولى، والملك العادل الأيوبي يلتمس منه إجازة بخطه تُبيح له قراءة كتبه وروايتها.

ثم يحدثنا التاريخ أن ملك الروم سعى يومًا إليه ليزوره وينتفع بعلمه، فلما خرج من عنده خرج مصفرَّ الوجه مرتعد الجوارح، فسأله بعض رجاله عن حاله، فقال: هذا رجل تذعر منه الأسود.

وسُئل محيي الدين عن سِرِّ ذلك الرعب الذي يأخذ بالملوك والأمراء والسادة في مجالسه، فقال: «لقد خدمتُ بمكة رجلًا صالحًا، فدعا اللهَ أن يُذلَّ لي أَعَزَّ خلقه.»

محيي الدين الذي سعى إليه الملوك، وذلَّ له الأمراء والسادة، صاحب السلطنة والشخصية الآخذة الزاحفة، كان آية الآيات في الزهد والقناعة والتواضع؛ لأنه مؤمن، والمؤمن يعرف أول ما يعرف قدْر نفسه، وحقيقة واجباته، ولون رسالته.

هو العزيز القوي لدى الملوك والأمراء والسادة؛ لأنه يحب أن يقرع أسماعهم بكلمة الحق، يحب أن ينتزع من مخالبهم حقوق الضعفاء ولا سبيل إلى ذلك إلا بالقوة والعزة.

كان محيي الدين آية التواضع للضعفاء، بل الخادم الساعي في ركاب الصالحين والأولياء، خدم في إشبيلية امرأة عجوزًا عابدة، وخدم في مكة رجلًا صالحًا فقيرًا، وكان يسعى دائمًا إلى أمثاله خادمًا ومعينًا، وهذا فرق ما بين عظماء المتصوفة وعظماء الدنيا.

ولعل من أسرار قوته الروحية العظمى، التي هي أساس بناء الشخصية الكاملة: عزمه القوي الذي تميز به، عزمه الذي سلطه على نفسه؛ فأخضعها وسيَّرها وتولاها حتى في منامها.

يقول ابن شودكين عنه: «كان محيي الدين يقول: ينبغي للعبد أن يستعمل هِمَّته في الحضور في مناماته؛ بحيث يكون حاكمًا على خياله يصرفه بعقله نومًا، كما كان يحكم على يقظته، فإذا حصل للعبد هذا وصار خُلقًا له وجد ثمرة ذلك، وانتفع به في كل شيء.»

ولقد كان من ثمرات هذا العزم الجبار: المساهمة في بناء هذه الشخصية الجبارة المهابة، التي تحكمتْ في خيالها في يقظتها ومنامها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤