محيي الدين وملك المغرب

وكما جابتْ أفكار محيي الدين آفاق السماء، وتنقَّلتْ في أبراجها، كذلك كانت حياته، رحلات وتنقلات في جنبات الأرض، مطوفًا وزائرًا وعابدًا ومقيمًا.

وكان سنن العلماء في هذا العصر التنقل والتطواف في رقعة العالم الإسلامي العظيم، المتَّحِد الممتدِّ من أوروبا إلى هضاب الصين وسهول الهند.

كان العلماء يتلاقَوْن ويتجادلون، ويأخذ بعضهم من بعض ما درس وتعلَّم وحفظ، ويفضي بعضهم إلى بعض بما مُنح وأُعطي.

وكان العالم الإسلامي يقود الدنيا ويفرض عليها سلطانه بسيوفه ورماحه، وبعلومه وآدابه، وكشوفه الفنية والروحية، كما كانت تغلي في باطنه أحداث جسام بعيدة الأثر في حاضره وغده، بل في حاضر العالم كله وغد الإنسانية بأسرها.

كان الصليبيون يقرعون أبواب الشرق الأوسط، ويتصارعون مع فرسان مصر وأبطال الأيوبيين على ثالث الحرمين وأولى القبلتين.

وكان المرابطون — وهم فئة ثائرة بالسيف، غضوبة بالرمح — يعيثون بأمن المغرب الأقصى ويفسدون، وتسلُّ سيوفُهم عروشَ ملوكه وسادته.

وكان للعلماء ورجال التصوف خاصة هنا وهناك قوة رهيبة، تقود الجماهير وتوجهها، وتُجِلُّها الملوك وتتقرب إليها، ويتزلَّف إليها السادة والأمراء.

فلا عجب إذا رأينا ملك المغرب المُهدَّد بثورة المرابطين، يسعى إلى محيي الدين، الذي بزغ نجمه، وأشرق أفقه، وعُرف اسمه ومكانه في دنيا التصوف وعالم البيان واللسان، ولا عجب إذا سعى محيي الدين إليه، تدفئ صدرَه آمالٌ كبار، في أن يوجِّه هذا المَلِك وِجهة صوفية روحية، وبالتالي يوجه شعبه إلى تلك المناهل والينابيع.

وكانت رحلة محيي الدين الأولى إلى المغرب في مطلع عام تسعين وخمسمائة من التاريخ الهجري، أي: ومحيي الدين في الثلاثين من عمره.

وتقلَّد محيي الدين وهو في رَوْنق الشباب وفورة الحياة عمله الجديد، موقِّعًا على المراسيم ومُنشِئًا للرسائل، ومربِّيًا لأبناء البيت المالك.

وهي وظيفة أشبه بالوزارة، وإن كانت أرحب منها أفقًا، وأعظم نفوذًا، وألصق بالملك وأقرب، وهي مكانة تتصارع حولها الأهواء والغايات، وتُنصَبُ لها المكائد والشباك، ولقد اصطلاها محيي الدين وهو رجل الروح والدين، والطهارة والصفاء؛ فاصطلى جوًّا عجبًا.

ولكن محيي الدين، وهو مَنْ نعرف كرامةً وإباءً، وعلمًا ربانيًّا، وهديًا نبويًّا، ونهجًا صوفيًّا، وهي صفات شديدة الخطورة في هذا الجو، شديدة الخطورة في بلاط الملوك، لم تَطِبْ له تلك الحياة أو لم يَطِبْ هو لها؛ فوقعتِ النُّفْرة سريعًا بينه وبين الْمَلِك، وبينه وبين رجال الحاشية، وظن به الْمَلِك الظنون، ولَمَزَتْه البطانة وغمزته في نهجه وطريقته، ومذاهبه وتفكيره.

ويعود محيي الدين إلى إشبيلية بالأندلس، مقر نشأته ومرتع صباه، ويحلق في آفاق العلم والمعرفة ما شاء له الله.

ثم يطرق سمعَه بعد أعوام دعوةٌ إلى المغرب من جديد، بواسطة الشيخ الصوفي أبو عبد الله بن المرابط، صديق الْمَلِك ومرشده الروحي، وحبيب محيي الدين، الْمُقَدِّر له، والذي كان سببًا مباشرًا في رحلة محيي الدين الأولى.

وتمشي الريح رُخاء طيبة بين الْمَلِك ومحيي الدين، فقد فَطِن محيي الدين إلى عبرة الحوادث الأولى؛ فطوى جوانحه على أعنف آرائه، وترفَّق أكثر الرفق بالبطانة والحاشية، وما إلى البطانة والحاشية من ذيول وأذناب، واطمأن الْمَلِك إليه؛ فأطلق يده في شئون مملكته، يقوِّمها على النهج الصوفي، ويدفعها دفعًا إلى التعاليم التي عُرفت عن محيي الدين وعُرف بها.

ولعل تلك الحادثة التي يرويها لنا في الفتوحات توضح لون الحياة ولون الأعمال التي يقوم بها في عمله الجديد.

يذكر لنا محيي الدين أن من الملائكة طائفة تطوف سائحة في الدنيا، تطلب مجالس الذكر في الأرض، فإذا وجدوا أهل الذكر وهم أهل القرآن، نادى بعضهم بعضًا: هلموا إلى بُغْيَتكم؛ فيحفُّون بالذاكرين، ويبسطون لهم أجنحة الرحمة، ويدعون لهم أطيب الدعاء وأرجاه في الإجابة.

وتلك المجالس القرآنية، هي رِزْق هؤلاء الملائكة، وبها يعيشون، وعليها وبها تقوم حياتهم.

ثم يقول: «وواجب الإمام أو الحاكم أن يُقيم جماعة تتلو آيات الله بالليل والنهار؛ تقرُّبًا إلى الله واستجلابًا لرحمته، ورزقًا لتلك الطائفة من الملائكة.»

ثم يقول أيضًا: «وقد كنا في بلاد المغرب، قد سلكنا هذا المسلك بموافقة أصحاب موفقين، كانوا لنا سامعين وطائعين، ففقدناهم ففقدنا بفقدهم هذا العمل الخالص، وهو أشرف الأرزاق وأعلاها.»

وهو هنا صريح في حديثه عن الأصحاب الموفقين، الذين كانوا لحديثه سامعين، وهي تكنية جميلة، فلم يرد أن يذكر اسم الْمَلِك في موقف العتاب؛ لأنه — كما سنرى — لا يزال يحمل له ودًّا خالصًا، ويرجو آملًا حارَّ الأمل في العودة إليه.

كما نلمس أيضًا أنه أشبه بِمَنْ أُكره على مغادرة عمله؛ فهو ثائر العاطفة لِمَنْ فقدهم، ففقد بفقدهم النفوذ والقدرة على هذا العمل الخالص، وهو أشرف الأرزاق وأعلاها.

ثم يقول: «فأخذنا لمَّا فقدنا مثل هؤلاء، في بثِّ العلم من أجل الأرواح التي تتغذى بالذكر، ورأينا ألا نورد شيئًا منه، إلا من أصل هو مطلوب لهذا الصنف الروحاني وهو القرآن.»

فجميع ما نتكلم فيه في مجالسي وتصانيفي، إنما هو من حضرة القرآن وخزائنه، أُعطيت مفاتيح الفهم فيه، والإمداد منه؛ وذلك أرفع ما يُمنح، ولا يعرف قدره إلا مَنْ ذاقه وشهد له.

ويذكر لنا محيي الدين أنه أخذ في مجالسه العلمية، وفي كتبه التي ابتدأ في تأليفها، يبث علمًا من نوع العلم الذي تتغذى به أرواح الملائكة، وهو العلم المستمد من حضرة القرآن وخزائنه؛ حتى لا ينقطع هذا العمل الطيب، الذي بدأه بمعاونة الْمَلِك وهو إقامة الذاكرين بالقرآن ليلًا ونهارًا.

ويطوف محيي الدين بالأرض، وقلبه معلَّق بأمير المغرب وسيده، الذي أخلص له الحب والمودة؛ فلم يجد لحبه ولا لمودته جزاءً إلا هذا الفراق الذي أُكره عليه ولم يُرِدْه.

ويأخذ في تأليف كتابه الخالد الجامع المانع «الفتوحات» فيكتب وعينه على الْمَلِك الحبيب، بل يكتب لأنه يريد أن يُعَرِّف صديقه بفنون من المعارف حَصَّلها بعد أن فارقه، ثم يتقدم خطوة أخرى أفصح وأوضح، فيقول: إنه يريد أن يهدي إليه هذا الكتاب بما فيه من جواهر العلم وكنوز المعرفة، وآيات الحكمة التي يؤتيها الله — سبحانه — مَنْ يشاء.

ولنترك محيي الدين يحدثنا عن القصة كلها بما فيها من وفاء وولاء، وحب صادق، وعتاب وفراق، وتلك القصة جعلها محيي الدين مقدمة وسببًا في تأليف الفتوحات: «فاعلم أيها العاقل الأديب، والولي الحبيب، أن الحكيم إذا نأتْ به الدار عن قسيمه، وحالتْ صروف الدهر بينه وبين حميمه، لا بد أن يُعرِّفه بما اكتسبه في غيبته وما حصله من الحكمة؛ فكأن وليَّه ما غاب عنه بما عرف منه، وإن كان الولي — أبقاه الله — قد أصاب صفاءَ وُدِّه كَدَرٌ لعَرَض، وظهر منه انقباضٌ عند الوداع لتتميم غَرَض، فقد غمض وليه عن ذلك جفن الانتقاد، وجعله من الله — أبقاه الله — من كريم الاعتقاد؛ إذ لا يهتم بك إلا مَنْ يسأل عنك، فليهنأ الولي — أبقاه الله؛ فإن القلب سليم، والود — كما يعلم — بين الجوانح مقيم، وقد علم الولي أن الود فيه كان إلهيًّا، لا غرضيًّا ولا نفسيًّا، وثبت هذا عنده قديمًا عني من غير علة ولا فاقة إليه ولا قلة، ولا طلب لمثوبة، ولا حذر من عقوبة، وربما كان من الولي في الرحلة الأولى، التي رحلت إليه سنة تسعين وخمسمائة، عدمُ التفاتٍ فيها إلى جانبي، ونفورٌ عن الجرْي على مقاصدي ومذاهبي؛ لما لاحظ فيها من النقص، وعذرتُه في ذلك؛ فإنه أعطاه ذلك مني ظاهر الحال، وشاهد النص، فإني سترتُ عنه وعن بنيه ما كنت عليه في نفسي، بما أظهرت لهم من سوء حالي وشرَّة حسي، وربما كنت أسألهم أحيانًا على طريق التنبيه، فيأبى الله أن يلحظني واحد منهم بعين التنزيه، ولقد قرعتُ أسماعهم يومًا في بعض المجالس، والولي في صدر ذلك المجلس جالس، بأبيات أنشدتُها وفي كتاب الأسرار أودعتُها وهي:

أنا القرآن والسبع المثاني
وروح الروح لا روح المعاني
فؤادي عند معلومي مقيم
يناجيه وعندكمو لساني
فلا تنظر بطرفك نحو جسمي
وعَدِّ عن التنعُّم بالمعاني
وغُصْ في بحر ذاتِ الذات تُبصر
عجائب ما تبدَّتْ للعيان
وأسرار تراءتْ مبهمات
مُستَّرة بأرواح المعاني

فوالله ما أنشدتُ من هذه المقطوعة بيتًا، إلا وكأني أسمعته ميتًا، وسبب ذلك حكمة كنت أبغي رضاها، فما كان إنشادي لهم مع معرفتي بقلَّة حرمتي عندهم إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها.»

تلك هي الرحلة الأولى، وهذا حديثها، ثم يتحدث عن الرحلة الثانية بمودتها وما فيها من صفاء وولاء، فيقول: ثم كان الاجتماع بالولي — تولاه الله — بعد ذلك بأعوام، في محلِّه الأسنى، وكانت الإقامة معه تسعة أشهر دون أيام، في العيش الأرغد الأهنى، عيش روح وشبح، وقد جاد كل واحد منا بذاته على صاحبه وسمح.

ثم افترقنا ونحن على هذه الحال، لانحرافٍ قام ببعض هذه المحالِّ، فإني كنت نويت الحج والعمرة، ثم أسرع إلى محله الكريم بصخرة المقدس، وزيارة سيد ولد آدم، ديوان الإحاطة والإحصاء.

أقام في خاطري أن أُعَرِّف الولي — أبقاه الله — بفنون من المعارف حَصَّلتُها في غيبتي، وأهدي إليه — أكرمه الله — من جواهر العلم التي اقتنتُيها في غربتي؛ فقيَّدت له هذه الرسالة اليتيمة، التي أوجدها الحق لأعراض الجهل تميمة، ولكل صاحب صفي، ومحقق صوفي.

وسميتُها رسالة الفتوحات المكية، في معرفة الأسرار المالكية والملكية؛ إذ كان الأغلب فيما أودعتُه هذه الرسالة ما فتح الله به عَلَيَّ عند طوافي ببيته المكرم، أو قعودي مراقبًا له بحرمه المشرف المعظم، وجعلتها أبوابًا شريفة، وأودعتها معاني لطيفة؛ فإن الإنسان لا يسهل عليه شدائد البداية، إلا إذا وقع بصره على الغاية، ولا سيما إن ذاق من ذلك عذوبة الجنى، ووقع منه موقع المنى.

فإذا حصر الباب البصر، وردد عليه عين بصيرته الحكيم فنظر؛ فاستخرج اللآلئ والدرر، يعطيه الباب إذ ذاك ما فيه من حكم روحانية ونكت ربانية، على قدر نفوذ فهمه، وقوة عزمه وهمه، واتساع نفسه من أجل غطسه في أعماق بحار علمه.

لما لزمتُ قرعَ باب اللهِ
كنتُ المراقب لم أكن بالآهي
حتى بدتْ للعين سبحةُ وَجْهه
وإليَّ هل لم تكن إلا هي
فأحطتُ علمًا بالوجود فما لنا
في قلبنا علم بغير الله
لو يسلك الخلق الغريب مَحَجَّتي
لم يسألوك عن الحقائق ما هي؟

تلك هي قصة محيي الدين مع مَلِك المغرب، الذي وَفَى له في حضوره وغيابه، والذي أمَّل منه أن يكون سببًا في نشر تعاليمه الصوفية في ربوع المغرب، ولكن قرناء السوء أفسدوا ما بين الصديقين.

وفي ختام القصة لمحات تقف عندها العقول، فقد أودعها سر الفتوحات، بل سر الفهم والإدراك لأسرار علمه وعجائب كشفه.

فهو يقول: إن الإنسان لا تسهل عليه شدائد البداية، إلا إذا وقع بصره على الغاية، وتلك آية في فهم محيي الدين.

فهو في مطلع أبوابه في الفتوحات، يُلغز في شعره، ويُبهم في قوله، فإذا أخذتِ الألغاز، وأخذ الإبهام بنفس القارئ قُطع وأُغلقتْ عليه المعاني، أما إذا سبح معه سبحًا طويلًا، حتى يصل إلى نهاية الباب وغايته؛ تكشَّفتْ له البدائع، وسهلت عليه البداية، كما سهلت وتسهل عليه معاني الغاية.

ثم يقول: إذا حصر الإنسان بصره، على باب من أبواب الفتوحات وردَّد عليه بصيرته، استخرج اللآلئ والدرر، وأعطاه الباب ما فيه من حكم روحانية، ونكت ربانية، ويُعطى كُلٌّ على قدر فهمه، وقوة عزمه، واتساع نفسه في الغوص، وخوض لجج العباب.

محيي الدين لأصحاب الهمم والعزمات، ولمهرة الغواصين وجبابرة السابحين، لأهل الإشراق والنور والصفاء، محيي الدين لهؤلاء، وقليل ما هم.

أما فاتر العزم، خائر القوى، مطموس البصيرة، زائغ البصر، ضيق النفس، فليلتمس له سهلًا هينًا، يضرب على حوافيه، وليدع القمة للمحلقين الفاتحين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤