مقدمة

يمتد تاريخ الرياضيات حتى أربعة آلاف عام مضَتْ على الأقل، ويوجد في كل حضارة وثقافة، وربما يكون من الممكن — حتى في مقدمة قصيرة جدًّا كهذا الكتاب — أن نوجز بعضًا من أهم الأحداث والاكتشافات بترتيب زمني تقريبي. وفي الحقيقة، ربما يكون هذا ما سيتوقَّعه أغلب القرَّاء؛ ومع ذلك، قد تواجِهنا عدَّة مشكلات في هذا العرض.

أولى تلك المشكلات أن مثل هذه الروايات تنزع إلى تصوير رؤية تقدمية لتاريخ الرياضيات، يكون فيها الفهمُ الرياضي عامةً مدركًا للتطوُّر والتقدُّم نحو الإنجازات الرائعة المتحققة في الوقت الحاضر. لكن لسوء الحظ، فإن مَن يبحثون عن أدلة على هذا التقدُّم يميلون إلى التغاضي عن التعقيدات والزلَّات والطرق المسدودة، التي هي جزء يتعذَّر اجتنابه في أي مسعًى بشري، بما في ذلك الرياضيات، وأحيانًا يمكن أن يكون الفشل ملهِمًا وموحيًا مثل النجاح. وإلى جانب هذا، بجَعْل رياضياتِ الوقت الحاضرِ المعيارَ الذي تُقاس عليه المجهودات الأقدم؛ قد نخاطر بالنظر إلى إسهامات الماضي بوصفها إسهاماتٍ جريئةً، ولكنها في النهاية جهود عَفَا عليها الزمن. بدلًا من ذلك، عند النظر إلى الكيفية التي نشأَتْ بها هذه الحقيقة أو تلك النظرية، فإننا بحاجة إلى رؤية الاكتشافات في سياق زمنها ومكانها.

ثمة مشكلة أخرى، سأتكلَّم عنها فيما بعدُ أكثر من ذلك؛ هي أن الروايات الزمنية تتبع غالبًا أسلوبَ «الأحجار المتفرقة»، الذي تُوضَع فيه المكتشَفات أمامنا واحدًا بعد الآخَر، دون كل الروابط المهمة الموجودة بينها. إن هدف المؤرخ ليس مجرد تجميع قوائم تواريخ للأحداث، وإنما إلقاء الضوء على المؤثرات والتفاعلات التي أدَّت إليها؛ وسيكون هذا موضوعًا متكرِّرًا في هذا الكتاب.

وثمة مشكلة ثالثة تتمثَّل في أن تلك الأحداث والاكتشافات المهمة تأتي مصاحِبةً لأُناسٍ مهمين؛ وعلاوةً على هذا، تركِّز الغالبيةُ العظمى من تواريخ الرياضيات على أولئك الذين عاشوا في أوروبا الغربية منذ القرن السادس عشر تقريبًا، وعلى الذكور تحديدًا؛ وهذا لا يعكس بالضرورة تمركُزًا أوروبيًّا أو توجُّهاتٍ منحازةً جنسيًّا من جانب الكُتَّاب. إن التطور السريع للرياضيات في الثقافة الذكورية في أوروبا منذ عصر النهضة، أدَّى إلى قدر كبير من المادة، رأى المؤرخون — وهم مُحِقُّون — أنها تستحِقُّ البحث والاستقصاء، وإلى جانب هذا لدَيْنا ثروة من المصادر من أوروبا لهذه الفترة، تقابلها فقط حفنة، بتعبير نسبي، لأوروبا ما قبل العصور الوسطى، أو الصين أو الهند أو الولايات المتحدة. ولحسن الحظ، فإن وفرةَ المصادر وإمكانيةَ الوصول إليها في بعض هذه المناطق الأخرى في سبيلهما إلى التحسُّن. ومهما يكن، تَبْقَ الحقيقة أن التركيز على المكتشفات الكبيرة يتغافل عن الخبرة الرياضية لمعظم الجنس البشري؛ النساء، والأطفال، والمحاسبين، والمدرسين، والمهندسين، وعمَّال المصانع وغيرهم، بل يغفل أيضًا عن قارات وقرون كاملة. من الواضح أن هذا لن يفيدنا في شيء. ودون إنكارٍ لقيمة بعض الإنجازات الجديرة بالذكر (وسيبدأ هذا الكتاب بواحد منها)، فإنه يجب أن تكون هناك طرق للتفكير في التاريخ من منظور الأشخاص الكثيرين الذين يمارسون الرياضيات، وليس مجرد قلة.

لن يستطيع هذا الكتاب أن يُقوِّم التحيُّزَ الذكوري في معظم روايات تاريخ الرياضيات إلا قليلًا، ومع ذلك فإنه يستطيع أن يقدِّم أكثرَ من مجرد مجامَلة لفظية للقارات الأخرى، خلا القارة الأوروبية، وسيحاول أن يستكشف كيف وأين ولماذا مُورِسَت الرياضيات على يد أُناسٍ لن تظهر أسماؤهم أبدًا في المسارد التاريخية القياسية. ولكن يتطلَّب عمل هذا شيئًا مختلفًا عن البحث الزمني المعتاد.

النموذج البديل الذي أَقترِح تتبُّعَه هو البناء حول الموضوعات وليس الفترات. سيركِّز كلُّ فصل على حالتَيْ دراسةٍ أو ثلاث، اختيرت ليس لأنها بأية طريقة شاملة أو جامعة، ولكن على أمل أنها ستوحي بأفكار وأسئلة وطرائق حديثة في التفكير. في الوقت نفسه، وتماشيًا مع المبادئ التي صرَّحْتُ بها أعلاه، حاولتُ — حيثما كان ذلك ممكنًا — إظهارَ أوجُه الشبه والاختلاف بين القصص المختلفة؛ بحيث يكون القرَّاءُ قادرين على تكوين رؤية مترابطة لعدد قليل على الأقل من جوانب التاريخ الطويل جدًّا للرياضيات. إن هدفي ليس فقط توضيح كيفية تناول المؤرخين المحترفين الآن لفرع معرفتهم ودراستهم، وإنما توضيح الكيفية التي يمكن أن يفكِّر بها أيضًا الشخص العادي في تاريخ الرياضيات.

وبهذه الطريقة، فإنني آمل أن يساعد هذا الكتابُ القارئَ على أن يُدرِك ثراء وتنوُّع النشاط الرياضي على مدار التاريخ الإنساني، وأن يكون مقدمةً قصيرةً جدًّا، ليس لجزء من رياضيات الماضي فحسب، ولكن لتاريخ الرياضيات نفسه بوصفه فرعًا أكاديميًّا حديثًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤