مقدمة المؤلف
على أننا لم ننسَ تمامًا وَعْدَنا، بل كنا في زيارتنا للمكاتب العمومية في أوربَّة، وإبَّان دروسنا الخصوصية نُدوِّن ما يَحضُرنا من ذلك، ونُعِد المواد لهذا البناء أملًا بتشييده قريبًا، لا بل كنا إذا ما سَنحَت الفرصة نُسلف القراء من تعليقاتنا قِطَعًا، تجدها في بعض مقالاتنا في المشرق؛ كنصرانية غسَّان (١: ٥١٩ و٥٥٤)، ودين امرئ القيس الشاعر الجاهلي (٨: ٨٨٦ و٩٤٩)، وغير ذلك مما جعلناه كتمهيد لمقال أطول.
وزِدْ على ذلك أن التشديد الزائد في مراقبة المطبوعات كان يمنعنا عن إيضاح أفكارنا كما كنَّا نَوَد؛ فكان الأمر يخمد همَّتنا ويُثبِّط عزمنا.
فاليوم والحمد لله قد توثَّر الطريق وتسهلت الأمور، فيجوز لنا أن نستوفي هذا البحث على قَدْر الإمكان. ولنا على كتابه وسائل جديدة فيما سطَّره أصحاب الرِّحَل الحديثة إلى بلاد العرب، وما نقلوه عن الآثار القديمة؛ كالكتابات الحِمْيرية والنَّبَطية والصفوية واليونانية، وكالتصاوير والتماثيل التي وُجدت في أطراف جزيرة العرب، مع ما نُشر في هذه السنين الأخيرة من التآليف المفقودة في السريانية واليونانية والعربية، وما كَتَبه المستشرقون في هذه الاكتشافات، فراجعنا كل ذلك لنقتبس منه أنوارًا نستضيء بها في بُنَيَّات طريقنا.
على أن البحث في النصرانية وآدابها يقتضي نظرًا سابقًا في جزيرة العرب وأقسامها وأهلها، يليه بحث ملخَّص في أديان العرب القدماء قبل ظهور الدِّين النصراني وانتشاره في أحياء العرب.
(١) جزيرة العرب: موقعها وأقسامها وأهلها
خص الله جزيرة العرب بموقع عجيبٍ كان سبب غناها، وجعل لها حصنًا طبيعيًّا يصونها من سيطرة الأمم الفاتحة، بما بُسط فيها من المفاوز والصحارى القحلة. فتراها متوسطة بين آسيا وإفريقية ترتفق على سواحل بحر العجم والهند والقلزم من ثلاث جهات، وتزاحم من الشمال الشرقي إلى الشمال الغربي بلاد العراق، وما بين النهرين والشام ومصر. فكانت مجاورة لمهد البشر الأول تنظر إلى نموهم وترقيهم وفتوحاتهم، وربما كانت وصلةً بينهم ومستودعًا لتجارتها؛ إلا أنها لم تدعهم يزحفون عليها ليضربوا فيها أطنابهم. وإن فعلوا على رغم منها كان دخولهم في براريها كسحابة صيف لم تلبَث أن تنقشع، فيعود أهلها إلى استقلالهم.
أما العرب فلم يعرفوا هذا التقسيم، وإنما قسموا بلادهم إلى عدة أنحاء، أخصها صحارى نجد في أواسطها، يليها الحجاز مشرفًا على البحر الأحمر، بينهما تهامة. وفي الجنوب الشرقي اليمن وحضرموت ومهرة في شمالها البحرين وعمان على سواحل بحر الهند، وفي شمالها الغربي الجوف واليمامة. ثم هجر أو الأحساء على سواحل خليج فارس، ثم العراق العربي وبَوادي الجزيرة إلى بادية الشام شرقيَّ دمشق، حيث حوران واللجأ والصفا والبلقاء وجولان، إلى بريَّة طور سينا.
(٢) أديان العرب قبل النصرانية
«وكانت أديان العرب مختلفة بالمجاورات لأهل المِلل والانتقال إلى البلدان والانتجاعات، فكانت قريش وعامة ولد معد بن عدنان على بعض دين إبراهيم يحجُّون البيت، ويقسمون المناسك ويَقْرُون الضيف، ويعظمون الأشهُر الحُرُم، وينكرون الفواحش والتقاطع والتظالم، ويعاقبون على الجرائم. فلم يزالوا على ذلك ما كانوا ولاة. وكان آخر من قام بولاية البيت الحرام مِن ولد مَعَد: ثعلبة بن إياد بن نزار بن معد. فلما خرجت إياد وَلِيَت خزاعة حجابة البيت؛ فغَيَّروا ما كان عليه الأمر في المناسك، حتى كانوا يفيضون من عرفات قبل الغروب ومِن جَمْع بعد أن تطلع الشمس، وخرج عمرو بن لُحَيٍّ. واسم لُحَيٍّ ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر إلى أرض الشام، وبها قوم من العمالقة يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأوثان التي أراكم تعبدون؟ قالوا: هذه أصنام نعبدها، نستنصرها فنُنْصر ونستسقي بها فنُسْقى. فقال: ألا تعطوني منها صنمًا، فأسير به إلى أرض العرب عند بيت الله الذي تَفِد إليه العرب؟! فَأعْطَوه صنمًا يقال له: هُبَل. فقدم به مكة فوضعه عند الكعبة. فكان أول صنمٍ بمكة، ثم وضعوا به إساف ونائلة كل واحد منهما على ركن من أركان البيت. فكان الطائف إذا طاف بدأ بإساف فقبَّلَه وختم به، ونَصَبوا على الصفا صنمًا، يقال له «مُجاوِر الريح»، وعلى المَروة صنمًا يقال له «مُطعِم الطير». فكانت العرب إذا حجَّت البيت، فرأت تلك الأصنام سألت قريشًا وخزاعة فيقولون: نعبدها؛ لتُقرِّبنا إلى الله زُلْفى. فلما رأت العرب ذلك اتَّخذت أصنامًا، فَجعلَت كل قبيلة لها صنمًا يُصَلُّون له؛ تقرُّبًا إلى الله فيما يقولون، فكان لكلب بن وبرة وأحياء قُضاعة «وَدٌّ» منصوبًا بِدومَة الجَنْدَل بجَرش، وكان لحِمْيَر وهَمدان «نَسْر» منصوبًا بصنعاء، وكان لكنانة «سُواع»، وكان لغطفان «العُزَّى»، وكان لهند وبجيلة وخثعم «ذو الخَلَصة»، وكان لطيِّئ «الفُلس» منصوبًا بالحبس، وكان لربيعة وإياد «ذو الكَعبات» بسنداد من أرض العراق، وكان لثقيف «اللَّات» منصوبًا بالطائف، وكان للأوس والخزرج «مَناة» منصوبًا بفَدَك مما يلي ساحل البحر، وكان لِدَوس صنم، يقال له «سعد»، وكان لقوم من عُذرة صنم يقال له «شمس»، وكان للأَزْد صنم يقال له: «رئام».»
وإذا أضفت إلى الأصنام المذكورة في هذه النُّبذة أسماء آلهة أخرى، ورَدَ ذِكْرها في المعاجم وفي بعض التواريخ والشروح؛ كرضا، ومناف، وجَلْسَد، وسعير، والقصير بلغ بك العدُّ إلى نحو ثلاثين صنمًا. وإذا بحثت عنها وعن صفاتها وخواصها، والأمكنة التي شاعت فيها عبادتها وطرائق مناسكها؛ وجدتَ الكتبة يتباينون ويتناقضون، فلا يكاد يُعوَّل على كلامهم. ولعل كثيرًا من هذه الأصنام لم تُعبَد في جزيرة العرب كوَدٍّ وسُواع ويغوث ويعوق ونَسْر، الذين يقال عنهم إنهم من آلهة قوم نوح (اطلب: سورة نوح، ع٢٢-٢٣)، فأين هذا وما زعم ابن إسحاق وابن هشام أن في الكعبة كان عدد الأصنام ٣٦٠ على عدد أيام السنة؟
فهذه الأعلام وغيرها أيضًا مما يمكن جَمْعها من المعجمات والآثار، ولو ثبت أنها دالَّة على أصنام العرب ومعبودات القبائل، إلا أنها لا تفيدنا فتيلًا لمعرفة خواصها وسدَنتها، والأمكنة والأزمنة التي شاعت فيها عبادتها وطرائق إكرامها والمناسك الخاصة بها، وفي بعض رواياتهم عنها ما لا يقبله العقل السليم ويردُّه النقد الصحيح كقول مُؤرِّخي العرب عمومًا بأن أول مَن أتى بالأصنام من بلاد الشام وجعلها في الكعبة إنما هو عمرو بن لُحَيٍّ رئيس بني خزاعة، لما طرد بني جُرْهُم منها وتولَّى مع قومه تدبيرها. فلدينا كما سترى شواهد تبطل هذا القول. ومثله مزاعم أخرى لا بد أن تُعرض على محك الانتقاد، فلا تُقبل إلا بالبرهان؛ لأن مُؤرِّخي العرب لم يُدوِّنوا رواياتهم إلا بعد الإسلام بزمن طويل، فكتبوا ما تناقلته الألسن شفاهًا، فتضاربت رواياتُه واختلفت صوره.
- (١) جزيرة العرب قبل محمد في الآثار للعلامة ف. برجه Berger (Ph): L’Arabie avant Mahomet d’aprés les Inscriptions.
- (٢) أديان العرب في الجاهلية لبرغمان Bergmann: De Relgione Arabum anteislamica.
- (٣) العرب في الشام قبل الهجرة للعلامة دوسو Dussaud (R.): Les Arabes avant l’Islam en Syrie.
- (٤) سُواع والعُزَّى والكتابات اليمنية Glaser (E): Suwā’ und al–’Uzza.
- (٥) مقدمة جِرِيمه على تاريخ محمد Grimme (H.): Mohammad.
- (٦) أبحاث عن الشرق الإسلامي لهرتمان Hartmann (M.): Der islamsche Orient, II, Berichte und Forschungen.
- (٧) ديانة عرب الجاهلية للألماني كراهل Krehl (L.): Ueber die Religion der vorislamischen Araber.
- (٨) تاريخ الشرق القديم لفرنسوا لونرمان ولبابلون Lenormant (Fr.) et Babelon: Histoire ancienne de l’Orient, 9e éd.
- (٩) العرب القدماء للعلامة نولدك Noeldeke (Th.): Arabs (ancients) dans (ENCYCLOPÆDIA OF RELIGION AND ETHICS).
- (١٠) تاريخ العرب لكوسان دي برسفال Perceval (C. de): Essai sur l’Histoire des Arabes avant l’Islamisme.
- (١١) بنو لخم في الحيرة لروتشتين Rothstein (G.): Die Dynastec der Lahmiden in Al-Hira.
- (١٢) بقايا الوثنية بين قدماء العرب للمستشرق فلهوسن Wellhausen (J.): Reste arabischen Heidentums, 2e éd.
هذا إلى مقالات متعددة ظهرت في المجلات الآسيوية الفرنسوية والألمانية والنمساوية، وفي نشرات أخرى شرقية، كالنشرة السامِيَّة وغير ذلك.
•••
كان زعم رينان زعمًا غريبًا، وأراد أن يثبته بالأدلة الوضعية لولا أن الاكتشافات الحديثة جاءت كلها مُزيِّفَة لزَعْمِه. ذهب المذكور إلى أن الشعوب السامِيَّة عمومًا والعربية خصوصًا كانت تقول بالتوحيد، لا عن وحيٍ خاص بل عن غريزة؛ لأن عقل الساميين على زعمِه مطبوع من أصله على البساطة، فيوافق توحيد الله بساطة عقله، وكانت غايته من ذلك أن ينكر الوحي بالإله الواحد إلى بني إسرائيل.
(٢-١) الشمس
(٢-٢) القمر
(٢-٣) العزَّى
وكان أهل الجاهلية عمومًا — ولا يُسْتَثنى منهم العرب — يجعلون الآلهة أزواجًا لكل ذَكَر أنثاه، فكان لإلهة الشمس تِرْبُها، وهو البَعْل من أصنام العرب، أيضًا كان مكرَّمًا في شبه جزيرة سينا، وتَسمَّى به العرب: عبد البعل وأوس البعل، وربما أشاروا به إلى الشمس. وكان ذكَر العُزَّى الإله «عزيز» الذي وُجِد اسمه في عدة كتابات في جهات الرُّهَا وحوران، وكان ذكر اللات «اللاه» وجدوا اسمه في آثار كتابية. وكان لعَتَر زوجها وهو الإله «مونيموس» الذي يُذكر مع «عزيز».
ومن آثار إكرامهم للجماد الأنصاب، وهي حجارة كانوا يَنْصِبونها في أنحاء بلادهم ذِكْرًا لآلهتهم ويَصبُّون عليها الزيت أو الأقط أو السمن أو يطلونها بدم الذبائح، ولعلهم أقاموها في بعض المواطن كتذكار لحادث جليل أرادوا تخليده بينهم فأكرمها الأخلاف وعظَّموها.
هذا نظر إجمالي في آلهة العرب ومعبوداتهم، ويلحق به عدة أبحاث يلزمنا الكلام عنها.
«المقامات الدينية» العرب إما أهل وبَر وإما أهل مَدَر فكان يصعب على القِسْم المتبدِّي منهم أن يتخذوا أمكنة ثابتة لإقامة عباداتهم، ومن ثم كانت الفرائض عندهم بسيطة يقيمونها حيثما حلُّوا، إما بتوجيه نظرهم إلى الأجرام الفلكية مع ذكر آلهتهم، وإما ببعض أعمال تقويَّة من سجود ودعاء وتقادُم، لا سيما في بعض أطوار حياتهم المهمة كمَوْلِد بَنِيهم وتزويجهم ودفن موتاهم، وفي بعض أمكنة عالية يدعونها المشارف، وكان إكرامهم لمواليد الطبيعة يُوافِق أيضًا حالتهم البدوية فيجدون منها شيئًا أينما ساروا كالأنصاب وبعض الأشجار والطيور التي يعيفونها ويزجرونها على مقتضى حركاتها يمينًا أو شمالًا، وكذلك يتيمنون بالصيد السانح ويتشاءمون بالبارح، وكان الأب في عائلته والشيخ في قبيلته يقومان مقام الكهنة ويتوليان إجراء المشاعر الدينية باسم ذويهم.
وكانوا يتخذون لهذه المقامات «حَرَمًا» أي يجعلون لها دائرة تحفظ حرمتها ولا يجوز لأحد انتهاكها وكان حرم مكة أشهرها، وكذلك كان يخدم هذه المقامات رجال يدعونهم كهنة أو كُهانًا ويريدون بهم الخبيرين بالأحوال الماضية والعرافين، وربما دعوهم سَدَنة أي خدَمًا للمقدس لقيامهم بحاجاته وحاجات زواره، ومنهم من تسمى باسم هذه الأمكنة كعبد الكعبة وعبد الدار.
وكانوا يزينون تلك الهياكل بالتصاوير المنقوشة على جدرانها أو ينصبون فيها التماثيل للأصنام على هيئات شتى، منها حجارة منحوتة بيضاء أو سوداء، ومنها صخور من العقيق وبعض الحجارة الكريمة أو الصخور العادية كسعد معبود بني كنانة الذي فيه يقول الشاعر:
ومن الأصنام ما كان يمثِّل أشخاصًا بعينهم يجعلون في أيديهم شارات أو أمتعة تدلُّ على خواصهم الموهومة كوَد وهُبَل جعلوا في أيديهما أقواسًا وأزلامًا، وكالشمس اتخذوا لها صنمًا بيده جوهر على لون النار وجعلوا لها بيتًا حجُّوا إليه، وكذلك اتخذوا للقمر صنمًا على شكل العجل وجعلوا في يده جوهرة، ونصبوا أيضًا أصنامهم في خارج الهياكل بقربها أو على مشارف ليراها الناس كنائلة وإساف ومناف.
وكانوا يكرمون تلك الأصنام بمناسك مختلفة منها «حَجُّهم» إليها أفرادًا أو زرافات.
وكانوا إذا اغتسلوا أو توضَّئُوا يَطُوفون حول الصنم دفعات معدودة ويستلمون الصنم أو يقبلونه ويتقربون منه بتلبية معلومة قد دَوَّن منها الكَتَبة بعضها كتلبية ذي الكفين صنم دوس رواها ابن حبيب: «لبَّيك اللهم لبَّيك إنَّ جُرْهمًا عِبادُك، الناس طُرُف وهم تِلادُك، ونحن أولى منهم بولائك.» وروى تلبية نَسر: «لبيك اللهم لبيك لأننا عبيد، وكلنا ميسرة وأنت ربنا الحميد.» وتلبية شمس صنم تميم: «لبيك اللهم لبيك لبيك ما نهارنا نجرُّه. أزلامه، وحَرُّه وقُرُّه، لا نتقي شيئًا ولا نضرُّه، حجًّا لرب مستقيم بِرُّه.»
ومن مناسكهم أيضًا أنهم كانوا يسكبون «السَّكْب» من خمر أو زيت أو حليب لأصنامهم أو يجعلون أمامها طعامًا يأكله الطير، وقد سمَّوا لذلك بعض آلهتهم «مُطْعِم الطير».
«وليس لهؤلاء الهمج دين إلا أنهم يكرمون كوكب الصبح «العُزَّى» ويخرُّون له ساجدين ويضحُّون له أجود أسراهم الذين أخذوهم في الغزوات، وهم يُفضِّلون لذلك الشبان إذا كانوا في عِزِّ الشباب وصَبِيحي الوجوه، ويعدُّون لهذه الغاية مذبحًا من الحجارة والصخور التي يكوِّمونها وينتظرون الفجر حتى إذا لاح كوكب الصبح يضربون الضحية بالسيوف ويشربون دمها، وعادتهم إذا لم يقع في يدهم أحد من الأسرى أن يضحوا ناقة من العيس خالصة البياض فينيخونها ويدورون حولها ثلاثًا ثم يتقدم كاهنهم أو زعيمهم بكل رونق وهم يتغنون بأغانيهم فيضرب بسيف أوداج الناقة ويَتلقَّى دمها فيشربه، ثم يركض الباقون ويقطع كل منهم قطعة من الذبيحة فيأكلونها نيئة ويسرعون في ذلك لئلا يبقى شيء من الجزور حتى الجلد والعظام عند طلوع الشمس.»
ثم انتقل الكاتب إلى وصف ما جرى لابنه وكان الفتى مترهبًا معه في جبل الطور يعيش منفردًا في بعض أنحائه إذ هجم عليه العربان وإذ رأوه وسيمًا جميلًا استَعدُّوا لتقريبه للعزَّى، فقال نيلس راويًا لما سمعه من ابنه بعد أن نجا من الأسر:
«وكان هؤلاء الغزاة عزموا على تضحيتي لنجم الصبح فأعَدُّوا كل شيء للذبيحة في سَحَر اليوم التالي، فأقاموا لذلك مذبحًا وهيَّئُوا السيف والسَّكب والأقداح والبخور، وكنتُ أنا مُلقًى على وجهي على الحضيض، أما نفسي فكانت مرتفعة إلى الله أدعو إليه بحرارة كي ينقذني من هذا الخطر العظيم … وكان البرابرة قضوا قسمًا كبيرًا من ليلهم أكلًا وشربًا وقصفًا حتى غلب عليهم النوم فهجعوا إلى الصباح ولم يستيقظوا إلا والشمس قد طلعت وفات وقت الضحية … فلما رأوا ذلك أخذوني إلى قرية تدعى «سوقا» وتهدَّدوا بقتلي أمام أهلها إن لم يَفْدِني أحد منهم، فرحمني أحدهم ودفع فِدْيَتي واهتم بشأني أسقف المحل وها أنا الآن عائد إلى والدي.»
ومن دياناتهم إذا ضحَّوا الضحايا أن يصبُّوا دمها على الأنصاب كما سبق ويَطْلُوا به أجسامهم ويغمسوا به أيديهم عند حلفهم دلالة على صدق مواعيدهم ويدعون ذلك «اليمين الغموس».
(٣) بقية أديان الجاهلية غير النصرانية
كان الشِّرْك يعمُّ كما ترى بلاد العرب في الجاهلية، ولا نريد أن نحدد هنا زمنه هل امتد إلى مدة القرون التي سبقت الإسلام؟ أو هل شمل أنحاء الجزيرة التي عرفت الإله الواحد الصمد فَندَع الأمر للفصول الآتية؟
وإنما نضيف إلى قولنا السابق شيئًا عمَّا عُرف من الديانات الأُخَر في جزيرة العرب غير النصرانية بوجيز الكلام فنقول: إن هذه الأديان كانت المجوسية، والصابئية، واليهودية، وقد نوه بها في القرآن غير مرة.
-
(١)
المجوسية: ديانة قدماء الفُرس الذين كانوا يعبدون النار ويرون فيها صورة اللاهوت ويقرنون بها عبادة النور، أخذوا هذا الدين من كيومرت أحد أجدادهم، وخصوصًا مِن زرادشت حكيمهم، فهل أثَّر هذا الدين في العرب؟ فالأمر ممكن بل هو محتمل لتقرُّب بلاد العرب شمالًا من الفرس ولخدمتهم لملوكهم في جهات العراق، وممَّن أشاروا إلى دخول المجوسية بين العرب ابن قتيبة فزعم أن المجوسية كانت في تميم، والله أعلم.
-
(٢)
الصابئية: إذا أُريدَ بها عبادة النجوم والشمس والقمر والسيارات السبع فإنها انتشرت خصوصًا في جنوبي جزيرة العرب، أما إذا أريد بها شيعة المندائيين الذين لا يزال منهم بضعة ألوف في العراق فإن تأثيرها في العرب كان مُنحصِرًا، ومن أراد تاريخ هذه الشيعة فعليه بالمقالات المُطوَّلة التي نشرها حضرة الأب أنستاس في المشرق في سنواته الثالثة والرابعة والخامسة، فإنه استوفى فيها الكلام.
ويلحق بدين الصابئين مذهب الحَرَّانيين الذين عبدوا النَّيِّرات السماوية مدة أجيال طويلة، وكان لهم بيت في حَرَّان يعظمونه بقي إلى خلافة المأمون فأُخرب، وكذلك المنويَّة المنسوبة إلى ماني وتُدْعى أيضًا بالثنوية لقول أصحابها بوجود مبدأين مُتناقِضَين هما النور والظُّلمة، وآل أَمْر هذه الشيعة إلى الزَّندَقة، وقالوا قول الدهريين.
-
(٣)
اليهودية: دخل اليهود في أزمنة مختلفة في جزيرة العرب فاستوطنوا في بعض جهاتها، وعلى الأخص بعد جلاء بابل لما فَرَّ بعض بني إسرائيل من وجه الآشوريين فَتوغَّلُوا في أنحاء العرب، وحدث مثل ذلك بعد خراب أورشليم على يد الرومان إذ تشتت شمل اليهود، وكانت سُكناهم خصوصًا ما وراء بحر لوط وفي جهات تيماء، ووادي القرى في يثرب، وخيبر، وبعض أحياء اليمن، ولم نعلم من أخبارهم إلا النَّزْر القليل، وما لا ريب فيه أن القبائل اليهودية كانت تعيش بين العرب دون أن تختلط بهم مواظِبَة على عاداتها المألوفة وشرائطها الدينية كما ترى المُوسَوِيِّين في بلاد غير جزيرة العرب، وممن كتبوا عن تأثير اليهودية في دين العرب إبراهيم غايغر (Abr. Geiger) له كتاب عنوانه (ما أخذ محمد عن اليهودية) وفيه مبالغات ظاهرة وزاد عنه تطرُّفًا المستشرق دوزي (Dr R. Dozy) الذي وضع كتابًا عن اليهود في مكة منذ عهد داود إلى القرن الخامس بعد المسيح (Die Israeliten zu Mekka von Davids Zeit bis in’s 5th Jahrhundert unserer Zietrechnung) (Leipzig, 1864) وفيه من المزاعم الغريبة التي لم يوافقه عليها أصحاب النقد.
«لهذا الكوكب (أي الزُّهرة) كانت قبائل أبناء هاجر (العرب) تُقدِّم الذبائح «لتنال نساؤهم موهبة الحسن والجمال»، لكن نساءهم كبقية النساء فمنهن جميلات ومنهن قبيحات، ومنذ أقبلت النساء العربيات على «عبادة» شمس البر (أي المسيح) فإنهن جحدن «عبادة» ذاك الكوكب «الزُّهرة» الذي عَبدْنَه باطلًا، فإن أولئك الأفراء (أي العرب) حنوا رءوسهم للنير وإناثهم «خضعن» للتأديب، والنساء اللواتي تربين في المقدس (أي البِيعة) أَبْدَلْن «عبادة» الزُّهرة بعبادة المسيح واختلطن معنا بِصَلاتهن.»
«وصنف «من العرب» عبدوا الأصنام وكانت أصنامهم مختصة بالقبائل فكان وَد لكلب وهو بدَوْمة الجندل، وسُواع لهُذَيل، ويَغُوث لمَذْحِج ولقبائل من اليمن، ونَسْر لذي الكلاع بأرض حِمْيَر، ويعوق لهمذان «لهَمْدان»، واللات لثقيف بالطائف، والعُزَّى لقريش وبني كنانة، ومناة للأوس والخَزْرج، وهُبَل أعظم أصنامهم، وكان هُبَل على ظهر الكعبة، وكان إساف ونائلة على الصفا والمروة.»
«الخَلَصة بيت أصنام لدَوْس وخَثْعَم وبَجِيلة … وقيل: هو الكعبة اليمانية التي بناها أبرهة بن الصبَّاح الحِمْيَرى … وقيل: كان ذو الخَلَصة يسمي الكعبة اليمانية، وبيت الحرم الكعبة الشامية.»
وقد ذكر ياقوت الكعبة اليمانية في محل آخر (٢: ٧٠٣)، ودعاها بدَيْر نجران وعليه يجب القول: إن القبائل التي كانت تحج إليها؛ أعني خَثْعَم وبَجِيلة ودَوْس كانت نصرانية.