الفصل الأول
تاريخ النصرانية في جزيرة العرب
هيا بنا الآن بعد هذه المُقدِّمات الوجيزة نبحث
عن النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية، وهما
البحثان اللذان جَعَلْنا الفصول السابقة كتمهيد
لهما.
(١) الباب الأول: مبادئ النصرانية بين
العرب
قلنا في مطلع كلامنا: إن الإفادات التي
خَلَّفها كَتَبة العرب عن الأديان الشائعة في
جزيرتهم قبل الإسلام نَزْرَة قليلة، وهذا القول
يصحُّ أيضًا في النصرانية مع أنها كانت أقرب
إليهم عهدًا، فإذا ذَكَروا الدين المسيحي لا
يكادون يذكرون من تاريخه غير شيوعه في بعض
القبائل، هذا إذا اعتبرت فصولهم الوجيزة التي
خصوها بالأديان، بيد أنهم في عرض كلامهم عن بعض
عادات العرب وقصصهم وأمثالهم ولهجاتهم حدَا بهم
الأمر إلى أن يأتوا بمعلومات أخرى عديدة تجدها
متفرقة متشعثة في تآليفهم لم يجمعها حتى الآن
العلماء المستشرقون لانشغالهم بالبحث عن آلهة
العرب وعن فَكِّ رموز دياناتهم القديمة، ونشر
ما وجده السائحون في بلادهم من الكتابات
الحجرية في اللغات الحميرية والنبطيَّة
والصفويَّة فضلًا عن اليونانية واللاتينية أو
ما استخرجوه بالحفر من الآثار بعد مخاطرتهم
بالحياة.
وكذلك ورد في كُتب نصارى أهل الشرق، ولا سيما
قدماء الروم والسريان وبعض الكَتبة اللاتينيين
فوائد شتى عن النصرانية في أنحاء العرب
دوَّنوها في معرض رواياتهم التاريخية وأوصافهم
الاجتماعية ورِحَلهم العلمية وفي أخبارهم عن
أولياء الله القديسين الشهداء أو النساء
المُتعبِّدين في بوادي العرب مَمَّا رأَوه
بالعيان أو استفادوه من شهود عيانيين أو كَتَبة
موثوق بهم فهذه المعلومات أيضًا عظيمة الشأن
غالية الأثمان لم تُجمع حتى اليوم تمامًا وإنما
روى منها بعض الكتبة فصولًا تحتاج إلى توسيع
وتكملة نخص منها بالذِّكْر الكتب والمقالات
الآتية، ما عدا ما ذُكِر من ذلك في التآليف
التي عدَّدناها سابقًا:
- (١)
أعمال البولنديين: مقالة للأب
كربنتيه اليسوعي في النصرانية بين
العرب E.
Carpentier S. j.: De SS. Aretha et
Ruma Commentarius (Acta SS., X,
Octob.,
661–697).
- (٢)
أصول النصرانية في بلاد العرب
للعلامة رَيْت
Wright: Early Christianity
in Arabia ,
London,1855.
- (٣)
الشرق المسيحي للأب لوكيان
Lequien: Oriens
Christianus.
- (٤)
دي ساسي: مقالة عن تاريخ العرب
قبل محمد Le
Bon de
Sacy (S.): Mémoire sur
l’Histoire des Arabes avant
Mahomet.
- (٥)
تاريخ الدول العربية بين المسيح
ومحمد J. J.
Reiskii: Primæ lineæ Historiæ Regnorum
Arabicorum inter Christum et
Mohammedem.
اعلم أن أقدم الآثار النصرانية — كما لا يخفى
— الأناجيل الأربعة، وتاريخ أعمال الرسل للقديس
لُوقا، ورسائل بعض تلاميذ الرَّب الأولين،
وكلها من القرن الأول للمسيح كما يقر به معظم
العلماء من الإباحيين، فضلًا عن المؤمنين وإن
كان أولئك يخالفون الكاثوليك في تعيين سَنة
كتابة هذه الأسفار وأصحابها، فهذه الآثار لا
تخلو من الدلائل على أن العرب نالوا شيئًا من
أنوار النصرانية منذ بزوغ شمسها.
ولعل أول من استحق أن يُنظم من العرب بين
تَبعَة السيد المسيح أولئك الشيوخ الذين
عُرِفوا بالمجوس فأتوا إلى بيت لحم وأَهْدَوا
الرب ألطافهم وسَجَدوا له في مَهْده، كما أخبر
متى في إنجيله (ف٢)، أما كونهم من العرب أو على
الأقل بعضهم فلنا على ذلك عدة بيِّنات تُرجِّح
هذا الرأي إن لم تجزم به قطعيًّا، فمن ذلك أقدم
نصوص الآباء والكتبة الكنسيين من القرن الثاني
للمسيح إلى القرن الخامس الذين يجعلونهم عربًا
كالقديس يوستينوس في القرن الثاني في مباحثه مع
تريفون، وترتوليان المعلم في كتابيه ضد اليهود
(ف٩) وضد مرقيون (ك٣، ف١٣)، وكالقديس قبريانوس
في القرن الثالث في ميمرهِ عن كوكب المجوس،
وكالقديس إبيفانيوس في القرن الرابع في شرحه
لدستور الإيمان (عدد ٨)، والقديس يوحنا فم
الذهب معاصره في الميمر الثاني على شرح إنجيل
متى، وهكذا فَسَّر هؤلاء الكتبة آية إشعيا
النبي عن المسيح (ف٦٠، ع٦): «كثرة الإبل تغشاكِ
بُكرانُ مِديَن وعيفة كلهم من شبأ يأتون حاملين
ذهبًا ولبانًا يُبشِّرون بتسابيح الرب.» وسبق
داؤد فقال (مز، ٧١): «ملوك سبأ وشبأ يقربون له
العطايا.» فإن مِدْيَن وعيفة وشبأ كلها تدل على
نواحي العرب.
وعليها تدل أيضًا الألطاف التي قدمها هؤلاء
المجوس للمسيح؛ أي الذهب واللبان والمر، وكلها
من مرافق بلاد العرب، فإن ذهب أنحاء العرب كان مشهورًا،
١ وتنبأ داؤد بتقدمته للمسيح (مز،
٧١) فقال: «يؤدون إليه مِن ذَهَب شبأ.» أما
اللبان والمر فلا يكادان يُستَخْرَجان من غير
جزيرة العرب فَيَتَّجر بهما أهلها كما شهد على
ذلك قدماء الكتبة بعد سفر التكوين (٣٧:
٢٥).
ثم يؤيد هذا الرأي قول المجوس في الإنجيل
لهيرودس بأنهم رأوا نجم المسيح في الشرق فأتوا
ليسجدوا له، فقولهم: «في الشرق» يدل على بلاد
العرب أكثر من سواها لوقوعها شرقي فلسطين،
فضلًا عن كون العرب يُعْرَفون بالأسفار
المقدَّسة ببني الشرق (وبالعبرانية
קרם
פב بمعناها) بل شاع هذا
الاسم عند الرومان واليونان فاشتقوا منه
Sarraceni
وΣαραϰηνοί.
وزد على ذلك أن النجم الذي رآه المجوس هو
الكوكب الذي سبق وأنبأهم به بلعام في مشارف
مُؤاب (سفر العدد ٢٤: ١٧) لما قال: «إنه سيطلع
كوكب من يعقوب ويقوم صولجان من إسرائيل.»
فتحققت النبوءة حيث تنبأ بها بلعام مرغومًا
فتناقل العرب نبوءته ابنًا عن أب، وراقَبوا
كوكبه حتى رأوه، ولا بأس من كون هؤلاء القادمين
إلى مهد المسيح يُدعون مجوسًا، فإن هذا الاسم
كان يطلق عند العبرانيين على حكماء الشرق
عمومًا، وكثيرًا ما أثنى الكتاب الكريم على
حكمة العرب في سفر أيوب، وسفر الملوك الثالث
(٤: ٣٠)، وسفر باروك (٣: ٢٣)، وقد شهد كتبة
اليونان بأن فيثاغورث الفيلسوف رحل إلى جزيرة
العرب ليأخذ الحكمة عن أهلها، بل صرح بلينيوس
الطبيعي بأن بلاد العرب كانت بلاد مجوس.
٢
وفي الإنجيل الطاهر شاهِد آخَر على سَبْق
العرب في معرفة السيد المسيح، وذلك لما ذكر
المبشرون متَّى (ف٤، عدد: ٢٤-٢٥)، ومرقس (٣:
٧)، ولوقا (٦: ١٧) في جملة الجموع المتقاطرة
إلى استماع تعاليم الرب أهل آدوم والمدن العشر
وما وراء الأردن، فلا شك أن صيته يكون بَلَغ
العرب القاطنين في تلك الجهات، بل ذكر الإنجيل
(متَّى، ٨: ٣١؛ ومرقس، ٧: ٣١) أن السيد المسيح
عَبَر الأردن وتَجوَّل في المدن الواقعة ما
وراء ذلك النهر، ومر بالمدن العشر
٣ وصَنَع الآيات في بقعة الجرجاسيين،
وكان أهل الحَضَر والمَدَر من العرب يسكنون تلك
الأنحاء، فلا يقبل العقل أنهم لم يقتبسوا شيئًا
من أنوار ابن الله الكلمة.
ثم ما لبث العرب أن نالوا نصيبًا طيبًا من
الدعوة المسيحية، وذلك يوم حلول الروح القُدُس
على التلاميذ في العليَّة الصهيونية كما أخبر
القديس لوقا في سفر الأعمال (ف٢) فإنه صرح بأن
العرب كانوا في جملة الذين عاينوا آيات ذلك
اليوم الشريف وسمعوا الحَواريين يتكلمون بلغتهم
العربية، فلا جرم أن بعضًا منهم كانوا في عِداد
الثلاثة الآلاف المصطبغين ذلك اليوم (أعمال، ٢:
٤١) فلما عادوا إلى بلادهم نشروا بين مواطنيهم
ما رأوا وسمعوا من أمر المسيح وتلاميذه.
وبعد مُدَّة قليلة أثار اليهود على تلامذة
الرب تلك الاضطهادات التي ذَكَرها صاحب الأعمال
(ف٨) فكانت على شبه الرياح التي تُقَوِّي
الشجرة النامية وتُؤصِّل جذورها في الأرض وتنقل
بذورها إلى أمكنة أخرى فتزداد وتَتوفَّر، وأول
مَن يُذْكَر من الرُّسل أنه دخل بلاد العرب هو
الإناء المصطفى القديس بولس فإنه أخبر عن نفسه
في رسالته إلى أهل غلاطية (ف١، ع١٧) أنه بعد
اهتدائه إلى الإيمان بظهور السيد المسيح له على
طريق دمشق واعتماده على يد حنانيَّا التلميذ
هرب من دسائس اليهود إلى جزيرة العرب، حيث أقام
مدة، فمن البديهي أن ذلك الرسول الذي خصه الله
بدعوة الأمم باشَر مذ ذاك الحين بالتبشير فدعا
إلى النصرانية من رآهم من العرب مُستعِدِّين
لقبول دين الخلاص؛ لئلا يحل به ذاك الويل الذي
كان يوجس منه فزعًا، حيث
قال٣ (كور، ٩:
١٦): «الويل لي إن لم نبشر.» وعليه فنصادق على
قول الذين يجعلون بولس الرسول كأحد رسل العرب،
وقد عَدَّه بعض كتبة الروم كأول الدعاة إلى
المسيح في بُصرى حاضرة حوران.
ولما
جرى نحو السنة خمسين للمسيح افتراق الرُّسل إذ
ساروا إلى أقطار المعمور ليقوموا بمهنة التبشير
التي أمرهم بها سيدهم كان لبلاد العرب نصيب حسن
في هذه القسمة المباركة، فإن التقاليد القديمة
تتواصل وتتفق على أن بعض الرسل تلمذوا أمم
العرب وقبائلهم من جهات مختلفة، وقد جمع
العلامة يوسف السمعاني في مكتبته الشرقية في
المجلد الثالث القسم الثاني
(Bibl. Or.
III2,
1–30) كثيرًا من شواهد
كتبة اليونان والسريان والعرب التي تثبت كرازة
الرسل في أحياء العرب وفي أقطارها المتباينة
كبادية الشام وجهات طور سينا واليمن والحجاز
والعراق يذكرون منهم متى وبرتلماوس وتدَّاوس
ومتيَّا وتوما، وقد نقل بعض هذه الشواهد
المؤرخون المسلمون نفسهم كالطبري في تاريخه
(ج١، ص٧٣٧-٧٣٨) وأبي الفداء في تاريخه (١: ٣٨)،
والمقريزي في الخطط (٢: ٤٨٣)، وابن خلدون في
تاريخ العبر (٢: ٤٧)، والمسعودي في مروج الذهب
(١: ١٢٧)، هذا فضلًا عن بعض تلاميذ الرسل
كفيلبس الشَّماس وتيمون وإدي أو تدَّاي ممن
تناقل الرواة خبر بشارتهم بين العرب، وكفى
دليلًا بهذه الشواهد المتعددة على أن الدعوة
النصرانية التي امتدت إلى أقاصي المعمور لم
تهمل جزيرة العرب القريبة من مهد الدين
المسيحي، بل كان أهلها يقبلون كل يوم إلى
فلسطين ويمتزجون بسكانها امتزاج الماء بالراح
فيعاملونهم ويتاجرونهم، وقد ذكر القديس
إيرونيموس في شروحه على نبوة أرميا (ف٣١) ونبوة
زكريا (ف١١) أن أسواقًا سنوية كانت تقام قريبًا
من سيحم (نابلس) يأتي إليها عدد عديد من نصارى
ويهود ووثنيين يقصدونها للمتاجرة من بلاد الشام
وفينيقية والعرب، فلا نتعدى إذن طورنا إن أكدنا
انتشار النصرانية في بلاد العرب منذ عهد الرسل،
وبذلك تحققت نبوءات الأنبياء الذين سبقوا
وتنبَّئوا باهتداء العرب وإيمانهم بالمسيح، قال
النبي إشعيا بعد وصفه العجيب للسيد المسيح
(ف١١، ع١–١٠) ذاكرًا للشعوب التي تقبل شريعته
فجعل منها آدوم ومؤاب، وكرر ذلك في الفصل ٤٢
وعدد قبائل قيدار وبلاد سلع
(Pétra)
وفي الفصل ٦٠ ذكر بين المستنيرين بأنوار
أورشليم وملكها الموعود مدين وعيفة وسبأ وقيدار
والنبط، وفيه يذكر قدومهم على المسيح ليُهْدوه
ألطافهم من ذَهب ولبان، وكان النبي داؤد (في
مزمورَيْهِ، ٦٧، ع٣٢؛ و٧١: ٨٠–١٠) سبق إشعيا في
ذكر سجود العرب للمسيح وطاعتهم له، ومثلهما
أرميا في فصله التاسع، حيث ذكر «افتقاد الرب
للأمم المختونين مع الغُلْف … أدوم وبني
عَمُّون وموآب وكل مقصوصي الزوايا الساكنين في
البريَّة.»
وفي السنة ٧٠ للميلاد تَمَّت نبوءة المسيح عن
خراب أورشليم فلم يبقَ فيها حجر على حجر
وتَفرَّق بقايا اليهود شَذَرَ مَذَر بعد أن
قُتل منهم وسُبي الألوف ومئات الألوف إلا أن من
كانوا تنصَّروا منهم كانوا بأمر الرب سبقوا
وخرجوا من المدينة وعَبَروا الأردن وسكنوا في
مُدن العرب التي هناك كما أخبر أوسابيوس المؤرخ،
٤ فاستوطَنوا تلك الأصقاع وكان
يرعاهم أساقفة من جنسهم، وقد وجد أصحاب الآثار
في أيامنا عددًا دثرًا من كتبهم الدينية
كالأناجيل الأربعة وبعض أسفار التوراة وقطعًا
طقسية وأناشيد وصلوات وغير ذلك مما يشهد على
نصرانيتهم وسُكناهم زمنًا طويلًا في تلك
النواحي، وهذه البقايا كانت مكتوبة باللغة
الفلسطينية؛ أي الآرامية الشائعة في فلسطين،
ولا ريب أن العرب الذين حل بينهم هؤلاء النصارى
أخذوا شيئًا من تعاليمهم واستضاءُوا بأنوار
دينهم.
وإذا استفتينا أقدم آثار النصرانية وما كتبه
آباء الكنيسة الأولون في القرون الأولى للميلاد
وجدناهم يذكرون الدعوة المسيحية في جزيرة العرب
إما تعريضًا وإما تصريحًا.
فمن تنويههم بذلك قولهم جميعًا بأن الإيمان
المسيحي «منتشر في العالم كله» فإنْ صحَّ هذا
القول في البلاد القاصية حتى الهند والعجم
وجزائر البحر أفلا يكون أيضًا صح بالحري في
بلاد العرب المُجاوِرة لمنبع الدعوة المسيحية،
فترى القديس مرقس في آخر إنجيله (١٦: ٢٠)
مؤكدًا بأن تلاميذ الرب «خرجوا وكرزوا في كل
مكان والرب يعمل معهم ويثبت الكلام بالآيات.»
وبعده بقليل كان يشكر بولس الرسول أهل رومية في
رسالته إليهم (١: ٨) «على أن إيمانهم يبشَّر به
في العالم كله.» وفي رسالة القديس إغناطيوس
النوراني تلميذ الرسل إلى أهل أفسس
(PP. GG., V, col,
647) يذكر «الأساقفة الذين
يرعون المؤمنين في العالم كله ويتفقون جميعًا
بالإيمان.» ومثله معاصره القديس بوليكربوس الذي
كان يدعو المسيح «راعيًا للكنيسة الكاثوليكية
المنتشرة في العالم كله.»
(ibid., col.
1035) فهذه النصوص وغيرها
كثير تثبت صريحًا انتشار الدين المسيحي في
العالم كله فتشمل أيضًا بلاد العرب، ولولا ذلك
لما أمكن القديس أوغسطينوس أن يقول في شرحه على
المزمور ٦٦ (PP. LL. t. 36,
col., 669): «نحن
الكاثوليك مُنبَثُّون في الأرض كلها لأننا نعلن
بكل مكان ما للسيد المسيح من المجد ونشترك به.»
ولَمَا استطاع قبله كيرلس الأورشليمي أن يقول
في تعليمه الثامن عشر (PP. GG.,
t. 33, col. 1043): «تُدعى
كنيستنا كاثوليكية لأنها منتشرة في كل المسكونة
من أقاصي تخوم الأرض إلى أقصى حدودها.» وسبقهما
القديس قبريانوس فقال فقي كتاب وحدة الكنيسة
(PP. LL., IV. Col.
502): «إن الكنيسة تلقي
أشعتها في كل المعمور.» وقال معاصره القديس
إيريناوس في كتابه ضد الهرطقات
(PP. GG. VII. Col.
550): «إن الكنيسة
المنتشرة في سائر العالم قد وَرِثت الإيمان من
الرسل وحفظته بكل حرص.»
وزاد عن هؤلاء إيضاحًا في أواسط القرن الثاني
للمسيح القديس يوستينوس الشهيد من أهل نابلس في
مباحثته مع تريفون اليهودي (PP.
GG., VI, col. 750) فَعدَّ
بين مَن دانوا بدين المسيح «الساكنين في الخيم
وأهل البادية» قال: «ليس مطلقًا جنس من البشر
سواء كانوا من اليونان أو البرابرة وبأي اسم
تسمَّوا حتى العائشين في العربات «الإسقيثيين»
والساكنين في الخيم الذين يرعون المواشي وأهل
البادية الذين لا يحلون في بيت إلا وبينهم جموع
يقدمون الصلوات والقربات للرب باسم يسوع
المصلوب.»
وقال إيريناوس معدِّدًا الشعوب التي دخلت
بينهم النصرانية (PP, GG. VII.
Col. 554)، وقد دعا العرب
بأهل الشرق كما روى مفسروه: «هذا الإيمان
المسيحي هو اليوم مُنْبَث في العالم كله … فترى
الألسنة مختلفة والنفس واحدة والقلب واحدًا
سواء اعتبرت آل جرمانية أو الأيبريين أو
القلتيين أو سكان الشرق أو مصر أو ليبية والأمم
التي في أواسط الدنيا فكلهم يعتقدون اعتقادًا
واحدًا يشبه إيمانهم الشمس التي تضيء العالم
كله وهي واحدة.»
وللمعلم ترتليان في أوائل القرن الثالث نصوص
متعددة يؤكد فيها انتشار النصرانية بين كل شعوب
زمانه مهما كانت بعيدة أو مجهولة فما قولك
بالعرب؟ قال في كتابه إلى الأمم
(Ad Nationes, c.
8): «تأمَّلوا أنه لا يوجد
اليوم أمة إلا ودخلتْ فيها النصرانية.»
(non ulla gens non
christiana)، وفي الفصل
السابع من رده على اليهود يعدد في جملة
المُتَنَصِّرين ليس فقط الأمم الخاضعة للرومان
«لكن غيرها كثيرة كالسرماتيين والداقيين
والجرمانيين والإسقيثيين وقبائل مجهولة وأقطار
متفرقة وجزائر البحر ففيها كلها يعرف اسم
المسيح وفيها يملك.»
وكثيرًا ما دعا الكتبة جزيرةَ العرب باسم
الهند لا سيما جهات اليمن، وقد شاع هذا الاسم
بهذا المعنى (اطلب: البولنديين، في المجلد
العاشر من أعمال القديسين، من شهر ت١، ص٦٧٠)،
وإليها أشار القديس يوحنا فم الذهب في رده على
اليهود (PP. GG., XXX.
500.) قال: «انظر بأي سرعة
انتشرت الكنيسة في كل أطراف المسكونة وبين كل
الشعوب، وذلك بمجرد فضل الإقناع حتى إن أممًا
كثيرة تركت أديانها وتعاليم أجدادها وشَيَّدت
هياكل لتعبد فيها الرب، فمنها ما هو واقع في
ممالك الرومان كالإسقيثيين والمغاربة وأهل
الهند، ومنها ما هو خارج عن تخوم الرومان إلى
جزائر بريطانية وأقاصي العالم.»
وبعضهم قد دَعَوهم صريحًا باسم العرب أو
الإسماعيليين، قال أرنوبيوس في القرن الثالث
للمسيح يذكر الشعوب الوثنية التي بَشَّر بينها
الرسل، فأنشئت الكنائس لمن تنصر منهم (ك٢، ف٥
و١٢): «انظروا العجائب التي جرت في أنحاء
المعمور منذ ظهور المسيح حتى إنه لا يكاد يوجد
الآن أمة عريقة بالهمجية إلا لطفت خشونتها محبة
به وأخضعت عقلها للإيمان بتعاليمه، فاتفقت على
ذلك أجيال الناس المتباينة المختلفة طباعًا
وآدابًا، ومما نقدر أن نحصيَهُ من هذه الشعوب
أهل الهند والصين والفرس والماديين والذين
يسكنون في بلاد العرب ومصر وجهات آسية وسوريَّا
… وفي كل الجزائر والأقاليم.»
فترى
أنه أحصى بلاد العرب في جملة من دان للمسيح في
ذلك العهد، وقد ذكرهم المؤرخ سوزمان
(PP. GG. t, 67,
1476.) في القرن الرابع
وأفاد «إن بعض قرى العرب ودساكرهم يوجد فيها
أساقفة.» وكذلك صرح بذِكْرهم تاودوريطس في
القرن الخامس في كتابه المعروف بدواء أضاليل
اليونان (PP. GG. T, 88, p.
1037.) قال: «ليس فقط قد
خضعت للمسيح الأمم الخاضعة لشرائع الرومان
كالحبش المتاخمين لتيبة وقبائل الإسماعيليين …
بل حتى غيرهم من الأمم أحنوا رءوسهم لتعاليم
الصيادين وشرائع الإنجيل كالسرماتيين والهنود
والعجم والصينيين
(Seræ)
والبريطانيين والجرمانيين»، وقال مثل ذلك في
محل آخر في كتابه المسمَّى التاريخ الرهباني
(PP. GG. t,. 82, p.
1471).
(٢) الباب الثاني: النصرانية بين عرب
الشام
إذا نظرت في خارطة إلى بحر الشام وحدَّدت
مدينتيه الساحليتين طرابلس شمالًا وعَكَّا
جنوبًا، ثم سِرْت منهما على خَطَّين متوازيين
إلى الشرق بلغ بك المسير بعد مرحلتين من طرابلس
وثلاث إلى أربع مراحل من عكا إلى مفاوز
مُتَّسعة تمتد على مدى البصر إلى جهة تدمر،
فالفرات شمالًا وإلى مشارف الشام فاللجا وتلال
الصفا حتى جبال حوران وسهول البلقاء جنوبًا،
فكل تلك النواحي الرحبة الأرجاء التي تقيس نحو
أربعمائة كيلومتر طولًا في مثلها عرضًا تعرف
اليوم ببادية الشام.
ولم تكن هذه البادية في سالف الأجيال قفرة
قليلة السكان لا تكاد تجد فيها كاليوم غير
قُرًى معدودة أو بعض أحياء البدو الذين يتنقلون
فيها مع مواشيهم انتجاعًا للمراعي، وإنما كانت
بعد تَملُّك الرومان عليها في أوائل التاريخ
المسيحي أصبحت كروضة غَنَّاء شَيَّد فيها
أصحابها المدن العامرة لسكنى الأهلين
وابْتَنَوا الحصون الحريزة تأمينًا للطُّرق،
وعزَّزوا الزراعة والفلاحة وأنبطوا الآبار
وحفروا الصهاريج لجمع مياه الأمطار وخدَّدوا
القُنِيَّ لسقي المزروعات، والآثار الباقية من
هذه الأعمال إلى يومنا تنطق بعمران تلك الأصقاع
وحضارتها الراقية.
أما سكَّانها فكانوا من عناصر شتى، بينهم
الرومان المستعمِرون، لا سيما من الجنود الذين
أتمُّوا مدة خدمتهم، ثم جالية اليونان من بقايا
الدول السابقة منذ عهد الإسكندر والسلوقيين، ثم
الوطنيون والفِنِيقيُّون الذين احتلوا تلك
البلاد لاستثمارها والمتاجرة فيها.
وكانت تلك الأنحاء أوفق ما يتمناه العرب
لسكناهم فترى أهل الحَضَر منهم يسكنون القرى
ويتعاطون أشغال الفلاحة، أما أهل الوَبَر
فكانوا يَرعون مواشيهم في الأرياف ويرتزقون
بلحومها وألبانها وأصوافها، وقد نما فيها عددهم
حتى رسخت قدَمُهم وصار إليهم الأمر.
وكان الرومان في بدء احتلالهم يعدُّون العرب
كخطر على البلاد، لما اعتاده أهل البدو من
الغزوات وشن الغارات والسلب والنَّهب فحاوَلوا
غير مرة كسر شوكتهم غير أنهم عرفوا بالاختبار
أنهم لا يظفرون بهم ظفرًا تامًّا ما لم
يستنجدوهم ويستعينوا ببعض عشائرهم لقطع دابر
الشاذ الباقين منهم، فحالَف الرومان شيوخ
قبائلهم ودفعوا لبعضهم قسمًا من السلطة على
بادية الشام بصفة شيوخ أو ملوك فكانوا يتصرفون
مع أهل جنسهم تَصرُّف السيد مع المَسود، وربما
زاحموا الدولة الرومانية كلما كانوا يشعرون
بانتفاض حَبْلها أو ضعف وُلاتها، فترى
النَّبطيِّين منهم في أواسط القرن الأول للمسيح
مُتقلِّدين الحكم على دمشق نفسها، كما ورد عن
الحارث ملكهم في رسالة بولس الرسول في رسالته
الثانية إلى أهل كورنتية (١١: ٣٢) وتبعه في
الحكم غيره من النَّبَط، وقد أفادنا تاقيتس
المؤرِّخ في تاريخ طيطس بأن الرومان كانوا
اتخذوا في مقدمة جندهم كتيبة من العرب كانوا
يتقدمون الجيش في محاربة أورشليم على عهد
وسبسيانوس وابنه طيطس، بل كان الرومان يدفعون
لبعض الفِرَق العربية وظائف معلومة ليقوموا
بحراسة التخوم الرومانية من جهة البادية، وقد
أخبر أميان مرقلينوس (Ammien
Marcellin, XXV, 6.) في
ترجمة يليانوس الجاحد بأن بعض شيوخ هؤلاء
المتحالفين قَدموا على القيصر وشَكَوا إليه
تأجيل عمَّاله في دفع رواتبهم فغضب يليانوس
وزَجَرَهم بقوله: إنه أعدَّ لهم حديدًا
(لقتالهم) لا ذهبًا (لأجرتهم)، فخرجوا ناقمين
على الرومان ولحقوا بجيش العجم وحاربوا يليانوس
مع جيش سابور فكانت عليه الدولة.
أما الديانة التي كانت عليها أمم بادية الشام
وقبائلها فكانت خلطًا من أديان الوثنية، فكان
اليونان والرومان أَتَوا بمعبوداتهم المنوطة
بالسيارات كالمشتري وزُحَل وعُطارد والزُّهرة
والمريخ، فأكرموها إكرام أجدادهم ومواطنيهم لها
في أثينة ورومية، ونشر الفينيقيون عبادة تموز
وعشتروت والبعل، أما النبط فكانوا يُفضِّلون ذا
الشرى
(Dusares)
واللات وشمس ويتع، ثم اختلطت هذه العناصر
المتباينة وتداخلت أديانهم ببعضها وأكرم كل قوم
معبودات القوم الآخَرين.
وفي غضون ذلك ظهرت النصرانية وقامت لمناهضة
تلك الأديان كلها دون أن ترضى أن تختلط بها أو
تبادلها بشيء، والمُرجَّح أن الدين المسيحي دخل
بلاد العرب من غربي الجزيرة من جهة الشام حيث
انتشر بعد صعود السيد المسيح بزمن قليل كما ورد
في سفر الأعمال، ولا يقبل العقل أن بولس الرسول
رحل إلى العربية كما جاء في رسالته إلى أهل
غلاطية (١: ١٧) دون أن يكون سبقه إليها أحد من
المُتَنَصِّرين أو خلف فيها أثرًا من
دِينه.
والظاهر أن النصرانية دخلت أولًا في حاضرة
حوران أعني بُصرى كما تشير إليه التقاليد
القديمة التي تناقلها الكتبة اليونان والسريان
ثم العرب المسلمون من بعدهم، فقد ورد في جدول
دورتاوس السوري لتلامذة السيد المسيح السبعين
أن تيمون أحد الشمامسة السبعة المذكورين في سفر
الأعمال (٣: ٨) نشر الدعوة النصرانية في مدينة
بُصرى فعُدَّ كرأس أساقفتها، وفي الروايات التي
تداولها الكتبة النصارى عن الرسل وأثبتها
السمعاني في مكتبته الشرقية (ج٤، ص١–٢٠) أن
البعض منهم تلمذوا العرب وخَصُّوا بهم عرب
بادية الشام وحوران كما يظهر من القرائن، وصرح
بالأمر المقريزي في كتاب الخطط والآثار (ج٢،
ص٤٨٣) فروى عن متَّى العشَّار «أنه سار إلى
فلسطين وصور وصيداء وبصرى»، وقال ابن خلدون في
تاريخه (٢: ١٥٠): «إن برتلماوس بعث إلى أرض
العرب والحجاز»، أما تدمر وباديتها فذكر سليمان
أسقف البصرة في كتابه السرياني المعنون بالنحلة
(Budge: Book of the Bee, p.
106.) أن
يعقوب بن حلفا بشَّر فيها.
على أن هذه الشواهد في الدعوة النصرانية
الأولى في بادية الشام تعم كل عناصر الأهلين
ولا تفرز العرب من سواهم، فتُبْقي شكًّا في
تنصُّرهم إلا أن ما يتبع ذلك العهد من الشواهد
التاريخية أصرح وأجلى.
٥ فقد أفادنا مُؤرِّخو العرب أن
القبيلة الأولى التي تولَّت على بادية الشام
باسم الرومان إنما كانت قُضاعة من قبائل اليمن،
ثم غلبتها على الأمر سليح ثم جاءت بعدهما قبيلة
غسان فملكت على تلك الجهات وبَقِي مُلْكُها إلى
ظهور الإسلام، والحال أن هذه القبائل الثلاث قد
دانت بالنصرانية على رأي أولئك المؤرخين، قال
اليعقوبي في تاريخه (طبعة ليدن، ١: ٢٣٤) عن
قُضاعة: «إن قُضاعة أول من قَدم الشام من العرب
فصارت إلى ملوك الروم فمَلَّكُوهم، فكان أول
الملك لتنوخ بن مالك بن فهم … فدخلوا في دين
النصرانية فملَّكهم ملك الروم على مَن ببلاد
الشام من العرب.» وكذلك بنو سليح فقد صرح
بنصرانيتهم المسعودي في مروج الذهب (طبعة باريس
٣: ٢١٦) قائلًا: «وردت سليح الشام فتغلبت على
تنوخ وتنصَّرت فمَلَّكها الروم على العرب الذين
بالشام.»
أما نصرانية غسَّان فهي من الأمور التاريخية
الراهنة التي لا يختلف فيها اثنان، على أن
كاتبًا من البَغادِدَة أغفل اسمه كان تصدَّى
لنا في هذه المسألة ونَشَر في المقتبس (٢: ٣٨٢)
رأيًا خالف فيه مجموع المؤرخين وزعم أننا
بنسبتنا النصرانية إلى غسان ركبنا شططًا،
فرددنا عليه بمقالتين ضافيتين نشرناهما في
الشرق (١٠: ٥١٩–٥٥٤) جمعنا فيهما البينات
اللامعة والشواهد الساطعة التي تثبت تَديُّن
غسَّان وأحيائها وملوكها بالنصرانية، ولا بأس
أن يقال: غسان كلها مع إمكان وجود بعض أفراد أو
عشائر لم يكونوا نصارى فإن الكلام على
الأغلبية، ولإثبات زَعْمنا أتينا بالأدلة
التابعة التي لم نركن فيها إلى أقوال مؤرِّخِي
العرب فقط وكل ذي انتقاد يعلم أن كتبة العرب لم
يُدوِّنوا تاريخًا صحيحًا قبل القرن الثامن،
وإنما نقلنا نصوص كَتَبة يُوثَق بهم من يونان
ورومان وسريان ممن كانوا معاصرين للحوادث التي
فصلوا أخبارها وأمكنهم الوقوف على صحَّتها، إما
بالمعاينة وإما بصوت العموم.
(٢-١) نصرانية غَسَّان
غَسَّان قبيلة يمنية قدمت جهات الشام بعد
انفجار سد مأرب وسَيْل العَرِم، فاستوطنوها
ثم تَغلَّبَت على أهلها بعد سليح كما سبق
فصار إليها الأمر وتَبِعت قُضاعةَ وسليحًا
في نصرانيتهما، والكَتَبة العرب لسان واحد
في إثبات ذلك فإن تَتبَّعْنا آثار
النصرانية في كتبهم وَجدْنَاهم يذكرون
لملوك غَسَّان الأوَّلِين أبنية تدل على
نصرانيتهم، فإن حمزة الأصبهاني في تاريخ
الملوك والأنبياء (ص١١٧) يؤكد أن ثاني ملوك
غسان عمرو بن جفنة بنى بالشام عدة ديورة
«منها دير هند، ودير حالي، ودير أيوب.» ثم
ذكر (ص١١٨) للأيهم بن الحارث بن جبلة أخي
المنذر الغساني الأكبر أنه «بنى دير ضخم،
ودير النبوة»، ومن المعلوم أن تنصُّر
الملوك يدلُّ عادة على تنصُّر رعاياهم، وفي
الواقع لا تكاد تجد مؤرخًا عربيًّا إلا
يشير إلى نصرانية غسَّان، فالمسعودي في
مروج الذهب طبعة مصر (١: ٢٠٦)، وفي كتاب
التنبيه والإشراف طبعة ليدن (ص٢٦٥)، وابن
رسته في كتاب الأعلاق النفيسة (طبعة ليدن،
٢١٧)، وأبو الفداء في تاريخه (١: ٧٦)،
والنويري (Rasmussen,
72) وغيرهم لا
يَدَعُون في الأمر رِيبًا، وقال اليعقوبي
من كَتَبة القرن العاشر للمسيح (في تاريخه،
١: ٢٩٨): «وأما مَن تنصُّر مِن أحياء العرب
فقوم من قريش ومن اليمن طي وبَهْراء وسليح
وتنوخ وغسان ولخم.»
وقال في (ج١، ص٢٣٣) بعد ذِكْرِه
لتَنَصُّر بني سَلِيح في الشام:
«وتَنصَّرَت غسان مملكة من قِبَل صاحب
الروم.» وجعل تَنصُّرها على عهد «جَفْنة بن
عليَّة (ثَعلبة) بن عمرو بن عامر»، وكذلك
الفيروزآبادي في مُقدِّمة قاموسه: «أن
كثيرًا من ملوك الحيرة واليمن تَنصَّروا،
وأمَا ملوك غسان فكانوا كلهم نصارى»، وقد
أفادنا ابن خلدون في تاريخه (٢: ٢٧١) عن
أخبار غَسَّان بعد الإسلام ما حرفه:
قال:
«وقامَت غَسَّان بعد مُنْصَرفها من الشام
بأرض القسطنطينية حتى انقرض مُلك القياصرة
فتَجَهَّزوا إلى جبل شركس وهو ما بين بحر
طبرستان وبحر نيطش الذي يمده خليج
القسطنطينية وفي هذا الجبل باب الأبواب،
وفيه من شعوب التُّرك المُتَنَصِّرة،
والشَّرْكس، وإركس، واللاص، وكسا، ومعهم
أخلاط من الفُرس واليونان.»
وقال السيوطي في المُزْهِر نقلًا عن كتاب
الألفاظ والحروف بأن اللغة العربية لم تؤخذ
من قبائل شتى إلى أن قال: إنها لم تؤخذ
«ولا من قُضاعة وغَسَّان وإياد لمجاورتهم
أهل الشام وأكثرهم نصارى يقرءون
بالعبرانية» يريد بالعبرانية السريانية
الفلسطينية.
وممن أشار إلى نصرانية غَسَّان النابغة
في بائيته التي مدح فيها ملوك غسان وأثنى
على دينهم وذكر عيد الشعانين فقال:
مَحلَّتُهم ذات الإله
ودِينهم
قديم فما يَرْجُون غير
العواقبِ
رِقَاق النِّعال طَيِّبٌ
حُجُزاتهم
يُحَيَّون بالرَّيْحان يوم
السَّباسبِ
هذا ما عَلِق في ذهن العرب عن نصرانية
غسَّان ولعله كافٍ لِيُقْنِع بِشيُوع دين
المسيح في بادية الشام كلها؛ لأن كلامهم
يدل على أن النصرانية بتلك الأصقاع ما كانت
محصورة في غسان، بل امتدَّت أيضًا إلى
القبائل العربية من أهل الحضر والمَدر
الذين سكنوا في تلك الأنحاء واختلطوا
بمستعمريها، فمن أراد أن يتتبع تاريخ
النصرانية بينها ينبغي عليه أن يجمع ما
دوَّنه المؤرخون اليونان والرومان والسريان
منذ انتشار الدين المسيحي في تلك الجهات؛
إذ لا يجوز القول بأن النصرانية لم تؤثر في
غير الأجانب المستوطنين فيها وأقوالهم
جديرة بالاعتبار وهم معاصرون للأمور التي
كتبوا عنها.
فممَّا رواه أوسابيوس القيصري في تاريخه
الكنسي (ك٦، ف١٩) أن النصرانية كانت في
مبادئ القرن الثالث للمسيح راسخة القَدَم
وافرة العدد في بُصْرى حاضرة حوران. وقد
أخبر عن أوريجانوس المعلم الإسكندري الشهير
أنه رحل ثلاث مرات إلى بُصْرى، فالمرة
الأولى استدعاه حاكمها الروماني المدعو
جالِّيوس سنة ٢١٧م ليفقهه تعاليم الدين
المسيحي وينصِّره فجاء أوريجانوس إلى بلاد
العرب ملبِّيًا دعوته وبعد أن أتم مرغوب
الحاكم وعمَّده رجع إلى الإسكندرية، أما
الرحلة الثانية فباشرها أوريجانوس كما أفاد
أوسابيوس في تاريخه (ك٦، ف٣٣) بسبب
بيرلُّوس مطران بُصْرى، فإن هذا الرجل كان
من مشاهير أساقفة زمانه في بلاد العرب
ألَّف رسائل ومقالات دينية وأدبية فصيحة
الألفاظ بليغة المعاني لولا أنه شَطَّ في
كلامه عن لاهوت السيد المسيح فجرى بينه
وبين الأساقفة معاصريه جدال وخصام، ولما لم
يُقْنِعوه أرْسَلوا إلى أوريجانوس ليأتي
إلى حوران، فيباحث بيرلُّوس المذكور ويرده
عن ضلاله فعاد المعلم الإسكندري إلى حاضرة
بلاد العرب، وبعد أن اجتمع بأسقفها وتحقَّق
شَطَطَه عَرَض عليه الرأي الصحيح وأزال
رِيبه فجاهر بيرلُّوس بخضوعه للإيمان
المستقيم أمام مجمع من الأساقفة عُقد لذلك
وانصرف أوريجانوس راجعًا إلى الإسكندرية،
ففي التئام هذا المجمع دليل واضح على نفوذ
النصرانية في بادية الشام ووجود أساقفة في
مدنها كجرش (Gérasa) وربة
عمَّان (Philadelphie).
أما المرة الثالثة التي قدم فيها
أوريجانوس الإمام إلى بادية الشام فكانت
بسبب بدعة ابتدعها بعض أهلها فزعموا أن
النفوس تَفْنَى بالموت كالأجساد ثم تُبْعَث
يوم الدَّيْنُونة معها لتنال الثواب عن
أعمالها، فلمَّا عرف أوريجانوس بهذا القول
أسرع إلى تفنيده في مجمع ضم أربعة عشر
أسقفًا وبَيَّن أمام الجموع الملتئمة
لاستماعه حقيقة تعليم الكنيسة فَرَد
الضالين وثبَّت الإيمان في قلوبهم وانكفأ
منصرفًا إلى مركزه (راجع: تاريخ أوسابيوس،
ك٦، ف٣٧).
وكان قبل ذلك بمدة اشتهر مبتدِع آخَر
نصراني من عرب الشام اسمه منيم (Monoimos)
كان هذا كطاطيانوس (Tatien) تلميذًا
للقديس يستينوس النابلسي والفيلسوف الشهيد
لكنه خلط بين الآراء الفلسفية والإيمان كما
ذكر تاودوريطوس في كتاب الهرطقات
(Fab. Hær., I,
18.) واتضح مؤخرًا من
كتاب القديس هيبوليتس الشهيد المدعو
بفيلوسوفومينا Philosophoumena.
ومما يُثبت ارتقاء النصرانية واتساع
دائرتها في بادية العرب أن منها خرج أول
قياصرة الرومان النصارى، ونريد به فيلبُّوس
العربي الذي ملك على رومية من السنة ٢٤٤
إلى ٢٤٩م، وكان أصله من بُصْرى ثم تَجنَّد
في جيوش الرومان ولم يزل يتقلب في كل مناصب
الجندية حتى صار كبير رؤساء العسكر ووزير
الحرب وصحب غرديان الثالث في محاربة
الفُرْس، إلا أن الجند شغبوا على الملك في
طريقه وأقاموا بدلًا منه فيلبُّوس العربي،
وكان فيلبوس نصرانيًّا كما تشهد على دينه
الآثار التاريخية ورسائل أوريجانوس إليه،
كما يشهد على نصرانيته نقود طُبِعَت باسمه
مع رموز نصرانية كصورة الطوفان وفُلْك نوح
والحمامة والغراب، وكذلك يشهد على نصرانيته
القديس إيرونيموس (
De Viris
Illustribus, no 54).
وقد زعم البعض أن غورديان قتل بإغرائه إلا
أن غيرهم ينكرون ذلك بتاتًا ولعله لم يخل
من الطمع فلم يدافع عن مولاه كما وجب عليه؛
ولذلك قد أخبر أوسابيوس القيصري (ك٦، ف٣٤)
وصاحب التاريخ الإسكندري
Chronicon
Alexandrinum أنه
لما عاد راجعًا بالعسكر إلى رومية مر
بأنطاكية وأراد أن يشترك مع النصارى في
موسم عيد الفصح إلا أن أسقف المدينة القديس
بابيلاس تصدَّى له ولم يسمح له بمشاركة
المؤمنين إلا بعد اعترافه بخطاياه وتقدمته
التوبة عنها.
٦ وكانت أيام فيلبوس العربي أيام
راحة وعمران للدولة الرومانية، وفي عهده
أقيمت الأفراح العمومية في كل المملكة
بنسبة مرور ألف سنة على مدينة رومية ومن
أعماله تشييد مدينة «عَمَّان» في حوران
ودعاها باسمه
Philippopolis
ونالت بهمته النصرانية سلامًا مؤقتًا
فانتشرت أي انتشار إلى أن فتك به أحد
القُوَّاد المدعو دقيوس وقتله مع ابنه
وتولَّى الأمر مكانه، قال أوسابيوس (ك٦،
ف٣٩): إن دقيوس هذا أثار على النصارى
اضطهادًا دمويًّا بُغضًا بفيلبوس سلفه.
٧ وفي تاريخ أوروزيوس «أوروشيوس»
من كتبة القرن الخامس (ك٧، ف٢١) أن دقيوس
قتل فيلبوس وابنه بسبب تنصرهما وعليه يكون
موتهما استشهادًا، وقد جمع البولنديون في
أعمال القديسين (
Acta SS.
Janv., II, 617–621.)
عدة شواهد تثبت ذلك، فكفى به فخرًا لبلاد
العرب أن أول قياصرة رومية المُتَنَصِّرين
كان مولده في ربوعها وسبق قسطنطين في
تَنصُّره.
كل ما سبق قد تم قبل القرن الرابع فلما
نالت النصرانية حريتها وخرجت ظافرة من
الدياميس زاد الدين بذلك رونقًا وعزًّا في
بادية العرب وكافة مدنها، ولنا أدلة على
ذلك في الكنائس العديدة التي تَشيَّدَت مذ
ذاك العهد بكل أنحاء حوران والصفا واللجا
وجولان والبلقاء التي وَجَد كثيرًا من
بقاياها الجليلة الأثريون الذين تجوَّلوا
في تلك الجهات «كوادنغتون
(Waddington)»،
و«دي
فوكويه
(de Vogüé)»، و«وتشتين
(Wetzstein)»، و«راي
(Rey)»،
و
Dussaud،
وآباء رهبانيتنا، وكلهم وصفوا هذه الآثار
ورسموا تصاويرها وذكروا تواريخها.
٨
ومن هذه الآثار مئات من الكتابات
اليونانية واللاتينية
٩⋆
وجدت في نيف ومائة موضع فيها أسماء كنائس
وأساقفة ووجهاء من النصارى وعليها رموز
نصرانية لا شك فيها؛ كالصليب في هيئات
مختلفة، وأول حروف اسم السيد المسيح،
والأنجر، وسعف النخل، والسمكة، ومنها ما
يحتوي شعارًا دينيًّا صريحًا كآية التوحيد
«الله واحد هو» وتسبحة السيد المسيح «قد
انتصر المسيح» أو «المسيح إله هو»، وبين
تلك الكتابات كتابة عربية سبقت الإسلام
خمسين سنة بأحرف عربية تاريخها سنة ٤٦٣
لِبُصْرى أي ٥٦٨ للمسيح وُجدت في حران وجاء
فيها ذكر مشهد أقيم تذكارًا للقديس يوحنَّا
المعمدان على يد أحد شيوخ القبائل العربية
المدعو شراحيل.
١٠
وكذلك توفرت شواهد المؤرِّخِين الذين
أبقوا لنا ذكرًا للنصرانية ولأمورها
الدينية والمدنية في بادية الشام، فمنها
جداول الأساقفة الذين حضروا المجامع
المسكونية الكبيرة التي سبقت الإسلام،
وبالأخص الأربعة الأولى في نيقية
والقسطنطينية وأفسس وخلقيدونية، فهناك
أسماء عدة أساقفة أَتَوا من مدن بادية
الشام وصادقوا على أعمال تلك المجامع
بتوقيعهم وأسماء بعضهم عربية محض كالحارث
أو منقولة عن العربية كتاودولس تعريب عبد
الله وتاودورس تعريب وهب الله.
وكان هؤلاء الأساقفة من أهل الحضر يسكنون
مدن بادية الشام، إلا أن غيرهم كانوا
يسكنون المَضارب ويتنقلون مع القبائل
الراحلة الناجعة المتقلبة في المجالات
ارتيادًا لمراعي غنمها ومصالح إبلها، وقد
بلغتنا أسماء بعضهم ممن عُرِفوا بأساقفة
الخيام وحضَر بعضهم المجامع الكنسية وأمضوا
عليها.
واشتهر بعض أساقفة البلاد العربية بما
خلفوه من الآثار، منهم القديس طيطس رئيس
أساقفة بُصرى وضع عدة تآليف أعظمها شأنًا
ما كتبه في تزييف بدعة ماني والمانويين
وكانت هذه التآليف مفقودة حتى تَوفَّق إلى
اكتشافها في عهدنا بعض المستشرقين فوجدوها
في السريانية ونشروها مع ترجمتها، وكان
طيطس في عهد يليانوس الجاحد ولم يَخَف من
تحذير شعبه عن كفر ذلك القيصر
المارق.
واشتهر في القرن الخامس للميلاد خلفه على
كرسيه القديس أنطيفاتر صاحب مصنفات عديدة
في مواضيع دينية شتى كمقالات في إيضاح
الإيمان وميامر في الأعياد وردود على
الهراطقة.
وفي تاريخ كتبة اليونان كسوزومان (ك٦،
ف٣٨)، وروفينوس (ك٢، ف٦)، وتاودوريطس (ك٤،
ف٢٠)، وثاوفان في تاريخ سنة ٣٧٩ وغيرهم من
مُؤرِّخِي القرن الرابع إلى أواخر السادس
للمسيح فصول شتى وأخبار منثورة عن أحوال
الدين بين عرب الشام تفيدنا علمًا عن سطوة
النصرانية واجتذابها لقلوب أهل البادية لا
سيما بواسطة السُّيَّاح والنُّسَّاك الذين
كانوا يعيشون في قِفارهم ويخدمون الله
كملائكة مُتقَمِّصِين أجسادًا هيولية،
فكانت فضائلهم العجيبة والكرامات التي تجري
على أيديهم من شفاء الأسقام وطرد الأرواح
النجسة واستمداد النعم الروحية والبركات
الزمنية تجذب إليهم أهل المدن والقرى، فلا
يلبثون أن يسمعوا تعاليمهم ويستنيروا
بإرشاداتهم ويهتدوا على أيديهم إلى جادَّة
الحق فيطلبوا الاصطباغ بمياه
المعمودية.
قال سوزمان في تاريخه
(Sozoméne, HE, VI, c.
38 ) عن عرب الشام:
«قد تَنصَّر كثير من العرب (هو يدعوهم
بالشرقيين Σαραϰηνοί) قبل زمان
والنس «من ٣٦٤ إلى ٣٧٨م» ممن اجتذبتهم إلى
الإيمان المسيحي إرشادات الكهنة والرهبان
الذين كانوا يعيشون في النسك والزهد في
الأنحاء المجاورة لهم عائشين بالقداسة
ومجترحين المعجزات الباهرة.» ثم ذكر سوزمان
ما أشرنا إليه سابقًا في دفاعنا عن نصرانية
غسان أعني رجوع قبيلة كان زعيمها يُدْعى
زوكوموس (وهو ضجعم) فنال له أحد الرهبان
بصلواته إلى الله ولدًا ذكرًا فاعتمد هو
وكل قبيلته.
وأردف المؤلف ذلك بخبر ماوية
١١ ملكة العرب التي حاربت الرومان
وغلبتهم واستولت على بلادهم إلى تخوم مصر
ولم تَرضَ بصلحهم إلا على شرط بأن يرسل
الرومان إلى مملكتها ناسكًا شهيرًا يُدْعَى
موسى خصَّه الله بصنع العجائب وبقداسة
الحياة فسُقِّف على العرب الذين تحت حكمها،
وكان عدد النصارى الذين وجدهم في دولتها
قليلًا أما هو فأنار معظم رعاياها
وعمَّدهم، وقد أخبر تاودوريطس في تاريخه
(ك٤، ف٢٠) أن ماوية هذه توطيدًا للصلح مع
الرومان قَرنَت ابنتها بالزواج مع القائد
الروماني فكتور، وكانت الفتاة شديدة التحمس
في الإيمان.
ومذ ذاك الحين إذا ورد اسم أحد ملوك غسَّان
١٢ إما في تواريخ السريان وإما في
تواريخ اليونان واللاتين تجد الكتبة لسانًا
واحدًا في وصفهم كنصارى يخصُّهم الكتبة
بالألقاب الشرفية الممنوحة لهم من
القياصرة، فيُدْعَون بطارقة وأمراء وذوي
العز والدولة، وربما زادوا على هذه الألقاب
ما دل على دينهم فيدعون مؤمنين
،
ومحبين للمسيح
،
وكذلك ورد في أحد مخطوطات لندن اسم كاهن
يُدعى «كاهن ذي العزة والمحب للمسيح
البطريق المنذر بن الحارث».
١٣
وفي القرن الخامس أخذ الرهبان يعيشون
عيشة اجتماعية بعد أن كانوا يعيشون منفردين
في الأقفار، والمُرجَّح أن الأديرة التي
ذكرها حمزة الأصبهاني وأبو الفداء وغيرهما
بُنيت في هذا الزمان، وكذلك الأديرة التي
وصفها ياقوت الرومي في معجم البلدان كدير
أيوب في حوران (في قنوات على ما يظن وهي
بلد أيوب)، ودير بَوَنَّا، ودير سعد، ودير بُصْرى،
١٤ وقد بقي بعض هذه الأديرة مدة
حتى بعد عهد الإسلام.
وممَّا زاد النصرانية ترقِّيًا في بلاد
العرب عدد كبير من الأساقفة
١٥ والكهنة والرهبان
١٦ كانوا في أيام الاضطهادات على
عهد القياصرة الوثَنِيِّين أو ملوك الروم
المتشيعين لا يجدون على حياتهم أمانًا إلا
بأن يَهْجُروا بلادهم ويَفِرُّوا إلى أنحاء
العرب حيث كان يصعب على المغتصبين أن
يدركوهم ويُلْحِقوا بهم الأذى.
وربما نفى المُغْتَصبون هؤلاءِ
المعترفِين بالإيمان من بلادهم إلى بلاد
العرب ليذوقوا هناك مَشقَّات العيش من
الجوع والعطش والعري.
١٧ وكَثُر عددهم في أيام بدعة
آريوس، وكان بعض هؤلاء رجالًا ذوي علم واسع
وفضل كبير كإيليَّا بطريرك القدس، وأوجان
أسقف الرُّهَا، وبروتوجان أسقف حرَّان،
فكان المنفيُّون إذا احتلوا بين العرب سعوا
في إنارة عقولهم وبيَّنوا لهم بطلان
أوثانهم وأقنعوهم بجحد أضاليلهم.
بل يذكر التاريخ جملة من الشهداء قُتلوا
في سبيل الإيمان في بادية الشام ومدنها
كالقديسين كيرلُّس وأكويلا ودومطيان
المستشهدين في مدينة عَمَّان على عهد
ديوقلطيانوس وتذكرهم الكنيسة في ١٠ آب،
وكزينون، وزيناس الشهيدين على عهده أيضًا
سنة ٣٠٥م، وذكر أوسابيوس القيصري (ك٨، ف٢١)
أن في زمن هذه الملك «قُتل عدد لا يُحصى من
الشهداء في بلاد العرب.» وفي السِّنكسار
الروماني عدة شهداء.
قُتلوا في بادية الشام في ذلك الاضطهاد
عينه فيُكرمون لشهامتهم في غُرَّة آب،
واسْتُشْهِد فيها على عهد يليانوس الجاحد
القديسان أوجان، ومكاريوس المكرَّمان في
ك١، فلا غرو أن دم هؤلاء الشهداء أخصب
زريعة الإيمان وأنماها في جهات
العرب.
ومن هذه الآثار القديمة أعلام الأمكنة
التي بقيت حتى اليوم كدليل ناطق على اتساع
النصرانية في منازل غسَّان لا سيما الصفا
وحوران، فإن عددًا دَثْرًا من أسماء
الأمكنة يدعى في زماننا بالدير كدير الكهف،
ودير قن عددها الأثريون دي فوكوي،
ووادنغتون، ودسُّو وغيرهم.
ويضاف إلى هذه الشواهد جداول المراكز
الدينية التي تدل على تعدُّد الأسقفيات في
تلك الأنحاء فإن مطران البصري وحده كان
يحكم على ٢٠ أسقفًا،
١٨ وكان بعض هؤلاء الأساقفة
يتنقلون مع القبائل الراعية فيسكنون الخيم؛
ولذلك يدعونهم أساقفة الخيم
(
έπίσϰοπoι τῶν παρεμβoλ
ῶν)، وقد أمضوا غير
مرة أعمال المجامع بهذا التوقيع «فلان أسقف
أهل الوبر.» أو «فلان أسقف القبائل الشرقية
المتحالفة.» أو «فلان أسقف العرب البادية.»
١٩ أَفَتَرى بَيِّنَة أعظم من ذلك
على انتشار النصرانية بين عرب
الشام.
فهذه الحجج كافية لِيُقِر كل مُناظر بصحة
قولنا عن غسَّان: إنها كانت تدين
بالنصرانية، ولو شئنا لعزَّزنا هذه الأدلة
بشواهد أخرى من كَتبة السريان كميخائيل
الكبير، ويوحنَّا أسقف أفسس، ويوشع
العمودي، وابن العبري ونصوصهم تُوافق ما
ذكرناه آنفًا.
ومما يقتضي التنبيه إليه أن النصرانية في
بادية الشام ثبتت في عِزِّها إلى ظهور
الإسلام ونَمَت واتَّسعَت حتى يجوز القول
بأن الوثنية تقلَّص ظلها حتى كاد يضمحل،
ومما يدلُّ على ذلك أن نصارى العرب الذين
اجتمعوا مع الرومان لرد غارات المسلمين في
غُرَّة الإسلام كانوا ألوفًا مُؤلَّفة
٢٠ يبلِّغ الكتبة عددهم إلى مائة
ألف بنيِّف،
٢١ فهذا العدد الوافر من
المقاتلين يدلُّ على أن النصارى في بادية
الشام كانوا ألوف الألوف فلا يكاد يبقى
مكان لأهل الشِّرْك وعبدة الأصنام.
هذا ولا نَدَّعي أن النصرانية الغالبة
على بادية الشام كانت صافية خالية من كل
شائبة وضلال، كلا بل نعلم حق العلم أن
البدعة اليعقوبية تسرَّبت إلى تلك الجهات
وكدَّرت صفاء الإيمان بما أدخلته من
المعتقدات الباطلة في طبيعتَي السيد المسيح
وبزعمها أن المسيح طبيعة واحدة كما هو
أقنوم واحد فمزَجَت اللاهوت بالناسوت،
وبَلْبَلتْ كل تعاليم الخلاص.
ولم تكن اليعقوبية البدعة الوحيدة التي
قوَّضت أركان التعاليم الرسولية، بل دخل
إلى بلاد العرب كثيرون من المبتدعين الذين
كانوا يُؤمِّلُون رواج أضاليلهم في أنحائها
دون أن يلاقوا فيها زاجرًا يزجرهم ولا
وازعًا يزعهم، وكان بعضهم يَفِرُّون إلى
جهات العرب لينجوا من مُصادرة ملوك الروم
الذين كانوا يريدون قهرهم على جحود
أضاليلهم فيفضِّل أولئك المُتشيِّعون الهرب
إلى بادية العرب، فكثروا هناك ونشروا بدعهم
حتى قال القديس إبيفانوس: إن بلاد العرب
ممتازة ببدعها (Arabia
hæresium
ferax).
وقد ردَدْنا في «المشرق» (١٠: ٥٥٦) على
بعض اعتراضات اعترض بها على نصرانية غسَّان
مُراسِل «المقتبس» فبيَّنَّا بطلانها،
كزعمه بأن الحارث الأكبر ابن أبي شمَّر
الغساني المُلقَّب بالأعرج كان وثنيًّا؛
٢٢ لأنه أهدى سيفَيْه رسوبًا
ومخذمًا لبيت صنم كما روى الطبري (١: ١٧٠٦)
فأثبتنا نصرانية الحارث بشواهد مؤرِّخِين
معاصرين للحارث من يونان ولاتين وسريان،
وقد ورد اسمه في الكتابات القديمة ملقِّبًا
بالمحب للمسيح كما رأيت، وإن كان يعقوبيَّ
النِّحْلة كما ذكر هؤلاء الكتبة، أما
تَقْدِمَته سيفين لبيت صنم فهي رواية ضعيفة
لا يتفق فيها الرواة (اطلب: ياقوت، ٤: ٤٥٣)
ما لم يقل: إن الطبري جعل بيت صنم أحد
معابد النصارى أو يقال: إن الحارث النصراني
أتى بفعله عملًا ذميمًا فنسي شرائع
النصرانية أو تجاهل بها.
واعترض الكاتب البغدادي على نصرانية عرب
غسَّان بشهادة ياقوت الحموي (٤: ٦٥٢) بأن
غَسَّان كانت تَعبُد مناة وذكر دعاءها عند
وقوفها عند صنمها، فكان جوابنا أننا لم
نُنكِر كون غسان دانت مدة بالوثنية لكنها
لمَّا تَنصَّرَت نبذت عبادة مناة وبقية
الأصنام منذ القرن الرابع للمسيح كما ثبت
من الشواهد التي ذكرناها، هذا فضلًا عن أن
الدعاء الذي ذكره عن تاريخ اليعقوبي (١:
٢٩٧): «لبيك ربَّ غسان راجلها وفارسها.» لا
يختص بصنم ويجوز التوسُّل به.
وكان آخر ما اعترض علينا الكاتب البغدادي
قول اليعقوبي إلى إله الحق (١: ٢٩٨) بعد
ذكر نصرانية غسان أن «قومًا منهم تهوَّدوا»
فكان جوابنا عليه أن الكتبة العرب إجمالًا
(إلا اليعقوبي) ليس فقط لم يذكروا تهوُّد
غسان، بل نَفَوا اليهودية عنهم، وعنهم نقل
صاحب الفضل شكري أفندي الآلوسي البغدادي في
كتاب بلوغ الأرب في أحوال العرب (٢: ٢٦)
حيث روى عن تُبَّع الأصغر الحميري أنه
لمَّا تهوَّد دعا إلى اليهودية غسَّان
فأبوا معتذرين بدخولهم إلى النصرانية، قال:
«وسار تبَّع إلى الشام وملوكها غسَّان
فأعطته المقادة واعتذروا من دخولهم إلى
النصرانية.»
وأضفنا إلى قولنا هذا جوابًا آخر فقلنا:
إنه لمحتمل أيضًا أن اليعقوبي نسب اليهودية
إلى قوم من غسان لانتشار بعض الشيع بينهم
كشيعة الأبيونيين (Ebionites)،
والنزاريين Nazaréens وغيرهما كانت
من بقايا اليهود الأوَّلين الذين تَنصَّروا
وحفظوا شيئًا من نواميس موسى وهم الذين
خرجوا بأمر الرب من أورشليم قبل حصارها في
عهد طيطس فعَبَروا بلاد العرب وعُرِفوا
ﺑاليهود
المتنصِّرين Judéo-chrétiens.
(٣) الباب الثالث: النصرانية بين عرب الغور
والسلط والبَلقاء
إن نهر
الأردن المعروف بالشريعة بعد خروجه من أغوار
حرمون في جهات بانياس وجريه جنوبًا، فتتكون منه
بحيرة الحولة يصب في بحر الجليل، ثم يخترقه
فيسيل متحدِّرًا إلى الأعماق بين ضفَّتين
ترتفعان شرقًا وغربًا حتى يبلغ تحدُّره نحو ٣٠٠
متر تحت سطح بحر الشام وينتهي إلى بحر لوط،
فتلك الناحية التي يقطعها الأردن تدعى بالغَور،
وليست تلك الجهة مسيلًا للنهر فقط بل تتسع
ضفافها وترتفع بالتدريج في سعة يقدَّر معدُّلها
نحو ١٠ كيلومترات فيها البقع المخصبة والنواحي
العامرة والعيون المتدفقة.
وإن لحظت عبر الأردن وجدت وراء ضفافه شرقًا
بلادًا واسعة تعلوها الجبال الشاهقة؛ كجبل
عجلون، وجبل جلعاد، وجبل نبو إلى جبال مؤاب
بينها المشارف الفسيحة والأودية الكثيرة
الخيرات، والمناجع الطيبة كالسلط والبلقاء
٢٣ وصحاري مؤاب تتصل شمالًا ببادية
الشام وجنوبًا بنواحي كرك وجهات النبط وشبه
جزيرة سينا، فهناك سكنت شعوب كبيرة كالعمونيين
والمؤابيين والمدينيين، وكانت قبائل العرب
البادية والحاضرة ممتزجة معها تتنقل في جهاتها
من أريافها إلى صُرُودِها طلبًا للمراعي أو
تسكن في المَدر فتُعْنى بالفلاحة.
فالنصرانية وجدت لها في تلك الأقطار كلها بين
أهلها المطبوعين على شظف العيش وسذاجة الأخلاق
ومجانبة التَّرفُّه والبذخ تربة صالحة ما كاد
يقع في ظهرانيها الزرع الجيد حتى نما أيَّ نمو،
وكان حلول المسيحيين الأولين في تلك الجهات
قليلًا بعد صعود الرب، ولا سيما لمَّا ثار
الاضطهاد الأول على تلاميذ الرسل (أعمال ٨: ١)،
ولما جاء الرومان لمحاصرة أورشليم إذ خرجوا إلى
عبر الأردن بوحي من الرب
٢٤ فاستوطنوا أنحاءه كما أخبر
أوسابيوس، ولا شك أنه نال العرب قسم من تلك
النعم الروحية التي أفاضها الله على سكان تلك
الأصقاع فدانوا بدين المهاجرين.
ومن الأدلة التي تناقلها بالتقليد فدوَّنها
المؤرخون تنصُّر الضجاعمة الذين سبقوا
الغسانيين في ملك البلقاء، وقد حفظوا لنا اسم
أحد أمرائهم فدعوه دؤاد بن الهبولة المعروف
باللثق وجعلوا مقامه في مادبا (اطلب: تاريخ ابن
خلدون، ٢: ١٥٣) وذلك في أواخر القرن الثاني للمسيح.
٢٥
ولمَّا انتهى طور الاضطهادات على المسيحيين
في القرن الرابع قُسمت تلك النواحي إيالتين
مدنيتين، فدعيت الواحدة بفلسطين الثانية كانت
حاضرتها مدينة باسان والأخرى فلسطين الثالثة
كانت حاضرتها مدينة بترا أو سلع، وقد بلغ عدد
الكراسي فيها قبل الإسلام نيِّفًا وأربعين
كرسيًّا يُعرف أسماء كثيرين من أساقفتها الذين
دبروها ورعوا مؤمنيها فناهيك بذلك شاهدًا
صادقًا على امتداد الدين المسيحي في
العرب.
وكان أكثر الدعاة عملًا في نشر النصرانية
نسَّاكها وسيَّاحها الذين كانوا اتخذوا لهم
مآوي ومحابس يسكنونها مُعتزلِين عن الناس
ليعيشوا فيها عيشة الملائكة بالزهد وضروب
المناسك الرهبانية، فكان مثلهم يعمل في قلوب
العرب خصوصًا، ويجتذبهم إلى دِين أولئك الأبرار
فيطلبون منهم نعمة المعمودية.
ومما أخبر به القديس هيرونيموس في ترجمة
القديس هيلاريون
٢٦ أن هذا السائح الجليل الذي تنسَّك
في جهات غزة سار إلى مدينة الخلصة
(
Elusa) في
البَرِّيَّة جنوبي بحر لوط ليعود أحد تلامذته،
وكان أهلها يدينون بالوثنية ويُكرمون الزُّهرة
على شكل حجرة فوافق وصوله إليها يوم عيد
الزُّهرة، فلما بلغهم قدوم القديس خرجوا
لاستقباله وأكرموه إكرامًا جزيلًا مع نسائهم
وأولادهم، وكانوا يطلبون بركته، وكان قوم منهم
نالوا بدعائه الشفاء من أمراضهم، فجعلوا
يتوسلون إليه بأن يقيم بينهم فوعدهم بأن يفعل
إذا نبذوا عبادة الحجارة وآمنوا بالسيد المسيح،
فأجابوا إلى طلبته ولم يَدَعوه يخرج من بلدتهم
حتى اختط لهم حدود كنيسة يقيمونها وكان مِمَّن
تنصروا على يد القديس كاهنهم وسادن أصنامهم،
ومذ ذاك الوقت وردت عدة آثار عن النصرانية في
الخلصاء وأسماء أساقفتها منهم واحد يُسمَّى عبد
الله، وسنذكر أعمالًا أخرى لهيلاريون.
وممن دخلت النصرانية بينهم في تلك الأنحاء
أمة النبيط أو النبط،
٢٧ فهؤلاء كانوا أيضًا من العرب
فأنشَئُوا دولة عظيمة ومصَّروا لهم الأمصار
واتخذوا لهم مدينة عظيمة يدعونها بترا أو سَلَع
لا تزال آثارها الفخيمة تدهش كل من يقصدها، وقد
مرَّ لحضرة الأب جلابرت (المشرق، ٨: ٩٦٥–٩٧٣)
وَصْف بعض أبنيتها العادية،
وكان ظهور
النبط نحو القرن الخامس قبل المسيح وما لبثوا
أن اشتد ساعدهم، واستفحل أمرهم، وصار لملوكهم
شهرة واسعة، واستقَلُّوا بالمُلك في القرن
الثاني قبل المسيح، وكان أولهم «الحارث الأول»
ودام ملكهم إلى العُشر الأوَّل من القرن الثاني
بعد المسيح حيث تغلب الرومان على بلادهم، وكان
آخر ملوكهم مالك أو مليكوس الثاني «١٠٣–١٠٧م»،
وأصبحت بلاد النبط إقليمًا رومانيًّا يتولاه
أحد حكام رومية.
وكانت بترا معبرًا لكل القوافل القادمة من
مصر إلى دمشق ومن جزيرة العرب إلى فلسطين ومن
العراق إلى مصر؛ ولذلك ازدادت ثروتها واشتهر
أهلها بالمتاجرة وبلغتها النصرانية قبل غيرها
من مدن النبط، وترى إستيريوس أسقفها يلعب دورًا
مهمًّا في عهد قسطنطين لمعاكسة البدعة
الإريانية، ثم انتشرت النصرانية في بقية النبط
وتأصَّلَت فيهم وثَبَتوا عليها حتى بعد ظهور
الإسلام بمدة حتى إن بعض الكتبة يدعون نصارى
العرب نبطًا، ولك مثال على ذلك في بعض مقامات
بديع الزمان في المقامة القزوينية، حيث جعل
نصَّابه أبا الفتح الإسكندري نبطيًّا فيقول
متظاهرًا بالإسلام:
إنْ أكُ آمنتُ فَكَم
ليلةٍ
جحدتُ فيها وعبدتُ
الصليبْ
وكذلك ضرب شعراء العرب المثل برهبان مَدْين
وزهدهم، قال كُثَيِّر عزة:
رهبانُ مَدْينَ والذين
عَهِدتُهم
يبكون من حَذَر العقاب
قُعودا
وكانت نواحي الغَوْر على ضفَّتَي نهر الأردن
أديرة عديدة يُعرف منها نحو العشرين قد اكتْشَف
بعضها حضرة رئيس مدرسة الصلاحية المفضال
الأب ي. ل، فدرلين
(R. P. J. L. Féderlin) ووصف
أخربتها وصفًا مدققًا في مقالاته الفريدة التي
نشرها في مجلة الأرض المقدسة
٢٨ في السنين ١٩٠٢م، و١٩٠٣م، و١٩٠٧م،
ولا شك أن رهبان تلك الأديرة اجتذبوا إلى الدين
المسيحي مَن كان يجاورهم من عرب الحضر، بل
لدينا دلائل على تَرهُّب بعض أولئك العرب
المتنصِّرين في هذه الأديرة أشهرهم القديس
إيليا البطريرك الأورشليمي، فهذا كان عربي
الأصل رحل من بلده إلى دير نطرون في مصر، وبعد
أن ارتاض في الآداب الرهبانية سكن مدة في دير
سابساس على ضفة الأردن اليُمنى ثم رُقِّي إلى
رتبة البطريركية فدافع عن الإيمان بغيرة شديدة
حتى فضَّل النَّفْي على موافَقة المبتدعين ومات
في أَيْلة سنة ٥١٣م.
وممن
يستحق ذكرًا خصوصيًّا في تبشير العرب ودعوتهم
إلى النصرانية القديس العظيم أفتيميوس كوكب
بَرِّيَّة الأردن وجهات الغور، فإن الله اصطفاه
في أواسط القرن لينير عددًا عديدًا من العرب
ويهديهم إلى سبيل الإيمان، فإن المؤرخ الشهير
والراهب معاصره كيرلُّس من سيتوبوليس (Scythopolis) أو بيسان روى في
ترجمته تفاصيل ذلك الخبر الذي رواه حضرة الأب
بيترس من جماعة البولنديين (في المشرق، ١٢:
٣٤٤–٣٥٣) نقلًا عن نسخة عربية قديمة في مكتبتنا
الشرقية، وخلاصته أن أحد الوثنيين يوناني الأصل
المدعو إسباباط، ولعله إصبهبذ (’Aσπέβετος)
ولاه أزدشير الملك تخوم العجم، فلما أثار
الاضطهاد على نصارى مملكته، وأخذ يصادرهم
ويذيقهم ضروب العذابات جعلوا يُوَلُّون هاربين
من العجم إلى ممالك الرومان وإسباباط لا يتعرض
لهم رغمًا عن أوامر الملك، فسعى المجوس به لدى
أزدشير ليعاقبه، ففر هو أيضًا هاربًا إلى أراضي
الرومان حيث أكرم وفادته أناطوليوس الحاكم
وولاه على القبائل العربية المنتمية
لرومية.
وكان
لإسباباط ولد يُدعى طرابون مصاب بالفالج أفرغ
أبوه في شفائه كل الوسائل دون فائدة فالتجأ
أخيرًا بإلهام من الله إلى القديس أفتيميوس،
فشفى الغلام ونصَّر أباه ودعاه بطرس وعَمَّد كل
آل بيته، وتبعهم في دينهم قوم كثيرون من العرب
سعى القديس أفتيميوس في تلقينهم كل عقائد
النصرانية، ثم اجتذب مَثَلَهم غيرهم من قبائل
العرب فخطط لهم القديس أفتيميوس حدود مدينة
صغيرة ليست بعيدة من ديره، وأمرهم ببنائها على
رسم معلوم وحفر لهم بئرًا وابتنى لهم كنيسة
ودارًا لزعيمهم، ثم اتفق مع البطريرك يويناليوس
فجعل بطرس أسقفًا عليهم، وأخذ كثيرون من العرب
يتواردون إلى منزلهم حتى بلغ عددهم عشرين ألفًا
ودعيت مدينة هؤلاء المُتَنَصِّرين بالمحلة
(
παρεμβολη)، وتوالى
الأساقفة عليهم حتى أواخر القرن السادس مع ما
ألمَّ بهم من الضيقات والبلايا، لا سيما
بمعاداة قبائل العرب الوثنيين الذين غَزَوهم
غير مرة.
٢٩
والحق يقال: إن هؤلاء الغزاة كانوا على مألوف
عادَّة شُذَّاذ العرب يتلصصون الأقفار فينهبون
محابس الرهبان وأديرتهم، ويسلبون ما يجدونه
فيها، وقد أخبر كاسينانوس في خطابه السادس
(Migne, P. L., XLIX, col.
643–648) أن هؤلاء
الأشقياء هجموا على تقوع على مسافة ستة أميال
من مدينة بيت لحم جنوبًا، فقتلوا رهبانًا كانوا
يعيشون في البراري بالنسك والتُّقى ثم أخبر أن
أهل تلك الناحية أبدوا لذخائرهم إكرامًا عظيمًا
«ولا سيما جموع العرب الذين هناك وبلغت رغبتهم
في اقتنائها إلى أن وقَع بينهم قتال للفوز بتلك
الأجسام المقدَّسة» وكان ذلك سنة ٣٩٥ للمسيح،
وفي هذا دليل على أن عرب فلسطين كانوا يدينون
بالنصرانية.
وجاء أيضًا في مجموع المجامع
(Labbe: Collect.
Concil., III,
728) أن البطريرك
يوليناليوس سقَّف عددًا من الأساقفة لجهات
العرب قبل السنة ٤٣٠م، وهذا دليل آخر على
انتشار النصرانية بين عرب فلسطين، وورد قبل ذلك
في تاريخ سنة ٣٦٣م في مجمع أنطاكية اسم أسقف
يُدعى تاوتيموس قد وقَّع على أعماله بهذا
الإمضاء «تاوتيموس أسقف العرب» ولعله أراد
قبائل العرب الساكنة في نواحي تَدْمر حيث كانت
النصرانية أصابت مقامًا رفيعًا ليس فقط في
حواضرها كتدمر والقريتين وحوَّارين، ولكن في
بادية تدمر نفسها حيث تنصَّرت القبائل المتنقلة
فيها.
(٤) الباب الرابع: النصرانية في النجب وطور
سينا
إن انحدرتَ من فلسطين جنوبًا فَسِرتَ من غزة
على سيف البحر مارًّا بالعريش حتى ترعة سويس ثم
مددت من هاتين النقطتين خطَّين متوازيين إلى
الجنوب انبسطت أمامك البراري الواسعة
كبَرِّيَّة سين، وبَرِّية سُور وبلاد الشراة
والنجب، ثم يتشكَّل لك شبه مثلث مخروط رأساه
الأعليان عند خليج سويس غربًا وخليج عقبة شرقًا
والرأس الثالث يدخل في البحر ويعرف برأس محمد،
فهذا المثلث الكبير هو شبه جزيرة سينا، فيه
بادية التيه التي تَنَقَّل فيها بنو إسرائيل
سنين عديدة وبَرِّيَّة فاران، وهناك سلسلة جبال
شاهقة كجبل غرندل، وجبل سرابيط الخادم، وجبل
التِّيه، وخصوصًا طور سينا أو حوريب، وجبل
موسى، وجبل سربال، وجبل كاترين، مع ما فيها من
الأودية (انظر في المشرق، ٩: ١٠٦٨، خارطة طور
سينا) فتلك البلاد كانت شمالًا في أيام بني
إسرائيل مواطن للأدوميين ولِلعَمالقة
وللمدينيين، وقد كثرت فيها بعد ذلك قبائل العرب
من بني إسماعيل والنَّبَطيين، فاستولَت عليها
واقتسَمَتْها وكانت تتجول فيها على حسب حاجاتها
كما يتجول الملك في مملكته والسيد في أملاكه
دون أن تركز في محل مخصوص إلا أهل المدر منها،
فإنها وجدت في بعض بقعها وواحاتها ما يقوم
بلوازمها ومناجع مواشيها فاستوطنتها.
فهذه البلاد الواسعة قدم إليها تلامذة المسيح
ليدعوا الناس إلى دين سيِّدهم. وممن ذكرهم
القدماء الرسول برتلماوس فقالوا عنه: إنه
«تَلْمَذ بلاد العرب والنبط.» يريدون جنوبي
الجزيرة وهذه الجهات خصوصًا. وجاء في تاريخ
القبط للمقريزي (
Wetzer:
Macrizii
Historia Coptorum, p.
14) أن متيَّاس (وهو
الرسول الذي أقيم بدلًا من يهوذا الأسخريوطي)
سار إلى بلاد الشراة،
٣٠ فبشَّر فيها بالمسيح.
وكأن النصرانية وجدت في تلك الأنحاء ملجأ في
قرون الميلاد الأولى، نزعت إليه ولاذت به رغبة
في التنسك والزهد، أو فرارًا من اضطهادات
الوثنيين، فكان نصارى مصر والشام يرون في شبه
جزيرة سينا مقامًا آمنًا، لا يستطيع العالم أن
يكدِّر فيه صفاء حياتهم الملائكية، ولا يقدر
أعداؤهم القبض عليهم، فكانوا يسكنون في أوديتها
ووهادها أو يَرْقَون جبالها ليعيشوا فيها عيشة
سماوية في مناجاة الله.
ولنا على ذلك عدة شواهد تَرتقي إلى أواسط
القرن الثالث للميلاد منها رسالة للقديس
ديونيسيوس أسقف الإسكندرية كتبها إلى فابيوس
أسقف أنطاكية وصف فيها المحن والبلايا المتعددة
التي نالت نصارى مصر بسبب اضطهادات الحنفاء
وعبدة الأوثان، لا سيما في عهد القيصر دقيوس
٣١ فمما قاله:
٣٢ إن أسقف مدينة نيلوس هرب إلى جبال
العرب مع عدد كبير من النصارى فبعضهم ماتوا
وبعضهم استعبدهم العربان إلى أن افتداهم
النصارى بالمال الكثير، وبقي غيرهم منقطعين إلى
العيشة النسكية، وقد أثبت البولنديون في أعمال
القديسين وبعض مُؤرِّخي الكنيسة أن العيشة
الرهبانية في شبه جزيرة سينا، وما وراء بحر
القلزم سبقت عهد القيصر ديوقلطيانوس.
وجاء في أعمال القديسين الشهيدين غلاقتيون
وامرأته إبيستام المولودين في حمص
٣٣ أنهما نذرَا لله عِفَّتَهما في
الزواج ورحلَا إلى طور سينا، حيث وجدَا عشرة من
النُّسَّاك كانوا يعيشون هناك عيشة الأبرار،
فأخذ العرسان عنهم آداب السيرة النسكية وعاشَا
مُتفرِّدَين لأعمال البر، غلاقتيون بين الرجال
وإبيستام مع النساء حتى بلغ خبر أولئك
السُّيَّاح والي الرومان سنة ٢٥٠م فطلبهما
وقتلهما شهيدين.
ومع ما كان يلقى أولئك السُّيَّاح من أنواع
المشقات من القبائل الوثنية التي تسكن جهات
الطور والبراري المجاورة لأرض مصر لم يلبث أن
يؤثر في بعضها مثل أولئك الأبرار حتى ارتد منهم
قوم إلى الإيمان، ونظن أن القديس ديونيسيوس
الإسكندري يشير إلى هؤلاء المُتَنَصِّرين في
كتابه إلى البابا القديس إسطفانوس الأول نحو
٢٥٥م، حيث يبشره بموافقة الكنائس الشرقية على
تعليمه بخصوص معمودية الهراطقة قال:
٣٤ «وقد ترى رأيكم كل الأقاليم
السورية مع بلاد العرب التي تقومون من حين إلى
آخر بضرورياتها، والتي وجَّهتم إليها رسائلكم
الآن.» فقوله: «بلاد العرب» يدلُّ خصوصًا على
ما جاوَر منها مصر كما يظهر من القرائن، وقوله:
«تقومون بضرورياتها» دليل حي على عناية الكرسي
الرسولي في القرون الأولى بكل كنائس العالَم
حتى أقصاها لمساعدتها في حاجاتها الروحية
والمادية.
وفي هذه البلاد العربية المجاورة لمصر بَشَّر
بالإيمان أحد الشهداء في عهد ديوقلطيانوس، وهو
القديس كيروس كما ورد في أعماله التي نشرها
الكردينال ماي،
٣٥ ونصَّر جمًّا غفيرًا من أهلها
بكلامه ومعجزاته ثم قُتل شهيدًا.
وأشهر منه أربعون شهيدًا قتلهم العرب
الوثنيون في سنة ٣٠٩م، وكان هؤلاء تنسَّكوا في
لحف جبل موسى فيعيشون هناك في الصوم والشغل
اليدوي، فوثب عليهم أهل البوادي وقتلوا منهم
أربعين، وقد أقيم لذكرهم دير ترى حتى يومنا
آثاره ويُدعى بدير الأربعين،
٣٦ ويُعيَّد لهؤلاء الشهداء في تاريخ
٢٨ ك١.
ولمَّا فازت النصرانية بتنصُّر قسطنطين رسخ
الدين النصراني في أنحاء طور سينا والبلاد
العربية الواقعة بجواره، وقد أخبر المؤرخون أن
القديسة هيلانة شيَّدت كنيسة على طور سينا
تذكارًا لما جرى فيه من الأعاجيب في عهد موسى
وشعب إسرائيل، وزاد النُّسَّاك عددًا وانتشارًا
في سائر أصقاع تلك الجهات، ففي غزَّة ونواحيها
الشرقية والجنوبية اشتهر القديس هيلاريون المار
ذكره، ولا تزال آثار هذا الرجل العظيم باقية
هناك، وقد وصفها في المشرق (١: ٢١٣–٢١٥) السائح
الهمام الكاهن لويس موسيل نزيل كُلِّيَّتنا
سابقًا مع بيان موقعها، وذكر تلامذة القديس
الذين أخذوا عنه الطريقة النسكية، وفي ترجمة
حياته التي كتبها القديس هيرونيموس معاصره ما
ينبئ بأعماله الرسولية بين عرب تلك النواحي،
وقد أقام عدة أديرة في ظهرانيهم في برية غزة
وجهات عين قادس، وكان يتردد إليها ويرافقه
الرهبان في سياحته زرافات بلغ أحيانًا عددهم
ألفي راهب.
٣٧ ولما شاع خبر قداسته كان الأهلون
يخرجون إليه أفواجًا أفواجًا وجماهير مجمهرة
يتقدمهم الأساقفة والكهنة، وذكرنا سابقًا إكرام
العرب له في خَلَصة، وأخبر الثقة أنهم كانوا
يقصدونه في كل حاجاتهم فتارة كان يلتمس لهم
المطر في سنتهم، وتارة كان يشفي نوقَهم من
عاهاتها، وكان يخرج منهم الشياطين أو ينال لهم
من الله البرءَ من أمراضهم فرد النظر في مدينة
العريش
(
Rhinocolure)
لامرأة عمياء، وأبرأ من مرض عُضَال شيخ مدينة
أَيْلة النصراني المدعو أوريون،
٣٨ وذكر سوزومان في تاريخه الكنسي
(ك٥، ف١٥) أن القديس شفى أيضًا في غزة جدَّه
ألافيان الذي اشتهر بَعدئذٍ بتقاه وشَيَّد
أديرة وكنائس.
وفي هذا القرن الرابع نُفي إلى براري سينا
والنبط رجال أفاضل من الأساقفة والكهنة نفاهم
الملك قنسطنسيوس الآريوسي كالقديسين أوجان
وبروتوجان المنفيين من الرُّهَا إلى براري
العرب (عِيدُهما في ٥ أيَّار) وفي ترجمة القديس
هيلاريون ورد ذكر الأسقفين دراكُنْتيس وفيلون
المنفيَّين إلى نواحي غزة، وإلى أَيْلة نفى
الإمبرارطور أنستاس القديس إيليا بطريرك
أورشليم، وكان عربي الأصل كما مر،
٣٩ وكذلك أسقف أَيْلة الذي أمضى أعمال
المجمع الخلقيدوني سنة ٤٥١م كان عربيًّا ويدعى
غَوْثًا.
وأخذت الأديرة تمتد في أواسط بلاد سينا وتكثر
حولها القبائل المتنصِّرة وأخص هذه الأديرة دير
فاران الذي ورد ذكره في كتاب المرج الروحي
تأليف حنا موسكوس في القرن السادس للمسيح،
٤٠ وقد أثنى هناك على رئيسه غريغوريوس
الذي صار بعد ذلك بطريركًا على أنطاكية، وكان
دير فاران حافلًا بالرهبان الوطنيين وغيرهم،
ذكر الآباء منهم القديس سلوانس رئيسه ثم موسى
الفاراني الشهير بقداسته وكراماته.
وفاران هذه كانت شهيرة في عهد الدولة
الرومانية، وأصبحت مدينة كبيرة وافرة السكان،
وهي اليوم قرية حقيرة نحو الخمسين بيتًا وهي
تُدعوا فيران موقعها في واد كثير الخصب تنمو
فيه الأشجار، لا سيما النخيل وتجري فيه المياه
الطيبة، فالنصارى دخلوا فاران ونشروا فيها
دينهم حتى كاد يعم كل أهلها منذ القرن الرابع،
وكان فيها كرسي أسقفي يذكر الروم في الميناون
في ١٨ شباط أسقفها المدعو أغابيطوس أو محبوب في
عهد قسطنطين الكبير، وممن لا يشك في تاريخه
الأسقف نثراس أو نثير في النصف الثاني من القرن
الرابع وتلميذ القديس سلوانس، وكان أمير فاران
نصرانيًّا يُدعى عوبديان أو عبدان، وقد بقيت
فيها النصرانية معزَّزة رفيعة الشان إلى القرن
السابع، وحجت إليها القديسة سيلفيا «أوكارية»
في أواخر القرن الرابع في رحلتها إلى الأراضي
المقدسة، والقديس أنطونينوس الشهيد نحو سنة
٥٨٠م، وترى بين أخربتها حتى اليوم بقايا من
كنيستها ومدافنها النصرانية عليها النقوش
المسيحية كالصلبان والرموز الدينية واسم السيد
المسيح مختصرًا.
ومن الأديرة الشهيرة في التاريخ الكنسي دير
رَيْث الذي موقعه بجوار مدينة الطور، فهذا
الدير توارد إليه الرهبان ونمت شهرته حتى طمعت
فيه قبيلة همجية كانت تسكن في سواحل مصر
يدعونها بلاميس (Blemmeys) فاجتازت بحر القلزم
واغتالت رهبانه سنة ٣٧١م وفرت هاربة، فلمَّا
بلغ الخبر أهل فاران ساروا مع أسقف البلد
وعوبديان الأمير إلى دير ريث، وجمعوا جثث
الشهداء ودفنوهم بكل إكرام، وقد روى أخبارهم
أمُّونيوس الراهب الشاهد العياني
لاستشهادهم.
وقبل أن يقدس هؤلاء وادي فيران وسواحل جبل
الطور كان رقي قوم آخرون أعالي جبل موسى حيث
كان التقليد عيَّن موقع مناجاة الكليم لربه،
وحيث صعد إليَّا إلى جبل الله فانقطعوا على
مثالهما للإلهيَّات، وقد مر بك ذكر بعض هؤلاء
النسَّاك في أواسط القرن الثالث، وأخبر
سولبسيوس ساويرس
٤١ في سياحته إلى جبل سينا نحو السنة
٣٨٠م أنه رأى راهبًا كان يقطن أعالي سينا منذ
خمسين سنة، ثم كثر عددهم فابتنوا لهم مآوي
ليسكنوا فيها، على أن لصوص العرب الوثنيين
والمعادين لأهل الحضر المتنصِّرين قدموا من
شمالي الجزيرة وجهات الشراة وهجموا بغتة على
محابس الرهبان المتفرقة في أنحاء جبل موسى،
ووقع ذلك نحو سنة ٣٩٠م كما رواه أحد الشهود
العيان والكاتب اليوناني القديس نيلوس الذي مر
ذكره وكان هذا من أسرة شريفة تولَّى نظارة
الأمور على مدينة القسطنطينية ثم استعفى
ليتجرَّد لخدمة الله فرحل إلى طور سينا مع ابنه
تاودولوس وتنسَّكا في ذلك المقام، فقتل العرب
في هذه الزحفة سبعة من السياح وأسروا غيرهم،
وكان من جملتهم ابن القديس نيلوس الذي روينا
شيئًا من أخباره في باب تاريخ أديان العرب، وقد
نجا من أيدي الغزاة في مدينة الخَلَصة بِهِمَّة
أهلها النصارى وأسقفها.
٤٢
ومذ ذاك الحين أخذ رهبان جبل سينا يتحصَّنون
في وجه الغزاة، ولمَّا صار الأمر إلى يوستنيان
الملك ابتنى لهم الكنائس الفخيمة والأبنية
الحصينة، وجعل في خدمة الرهبان بعض قبائل العرب
المُتَنَصِّرين أخصهم بنو صالح، وقد عرفوا
بالجبلية، وكان الزوَّار إذا ما قصدوا الأراضي
المقدسة يزورون أيضًا هذه الأديرة لينالوا
بركتها وبركة أهلها، وقد ازداد عدد رهبانها حتى
جُعل لطور سينا أساقفة عدَّدنا أسماءهم في
مقالة نشرناها في أعمال المكتب الشرقي.
٤٣
وكذلك اشتهر بين الرهبان بعض القديسين
والكتبة كالقديس أنستاس السينوي في القرن
السادس، وليس أقل منه شهرة القديس يوحنا رئيس
طور سينا المعروف بالسلمي أو كليماكوس باسم
كتاب ألفه دعاه سُلَّم الكمال، وكان معاصرًا
للقديس البابا غريغوريوس الكبير، وكان بين
القديسين مكاتبات رواها جامعو آثار الحبر
الأعظم، وقد ذكرنا في المشرق (٧: ٩٩٣) ما تبرع
به ذلك البابا من الحسنات لدير طور سينا، حيث
أنشأ يوحنَّا مأوى للعجزة والزوار.
وفي أعمال القديس صفرونيوس بطريرك القدس تكرر
ذكر طور سينا ورهبانه والزوار المترددين إليه.
٤٤
وبعد ذلك بقليل استولى العرب المسلمون على
شبه جزيرة سينا، وقد قيل: إن بين آثار دير
الطور سجلًّا أعطاه محمد كامان لأهله وبقي
عندهم إلى أيام السلطان الغازي سليم الأول،
فأخذه إلى القسطنطينية (راجع في المشرق، ١٢:
٦٠٩ و٦٧٩) مقالتنا في عهود نبي الإسلام
والخلفاء الراشدين للنصارى.
ومن الآثار النصرانية كتابات عديدة وُجِدَت
منقورة في الصخر أو مكتوبة بالمغرة على جوانب
وادي المكتب، فإن السُّيَّاح كانوا إذا مروا
هناك كتبوا أسماءهم وطلبوا من الله الرحمة
وأعلنوا إيمانهم بالله الواحد ورسموا بعض
العلامات المسيحية كالصليب والأنجر وسعف النخل
والحرف الأول من اسم السيد المسيح، وهذه
الكتابات منها يونانية ومنها قبطية لا شك في
نسبتها إلى النصارى، وبينها كتابات أخرى عديدة
مكتوبة بالنبطية ومن جملتها ما نصفه يوناني
ونصفه الآخر نبطي، وبعض العلماء يرتَئُون أنها
للوطنيين المشركين أما غيرهم فيرجِّحون أيضًا
أنها للنصارى منهم من قبائل تيم الله وكلب وأوس
ممن اعتقدوا النصرانية، بل تُرى العلامات
النصرانية عليها كما تُرى على اليونانية
والقبطية، وإن لم يكن في منطوقها ما يدل على
الدين المسيحي صريحًا ما لم يُقَل: إن تلك
العلامات أُضيفت بعد ذلك العهد والله أعلم.
٤٥
ومن البلاد اللاحقة بشبه جزيرة سينا بقعة
واسعة في تخوم فلسطين عن جنوبها الشرقي كثيرة
النخيل عرفها الكتبة اليونان ودعوها فينيقون
(
Φοινιϰών) أي مغارس
النخل، وقد ظن البعض أن موقعها في وادي فيران
إلا أن كلام الكتبة الأقدمين لا ينطبق عليها،
والصواب أنها شمالي غربي وادي فيران، وقيل: إن
هناك مكانًا يُدعى بالنخل لكثرة نخله، فلعله هو
مدلول كتبة اليونان، ففي القرن السادس كان يحتل
هذا البقيع قوم من العرب من جذام ولخم، وكان
أحد أمرائهم يدعى أبا كرب، فروى عنه المؤرخ
بروكوبيوس الغزي
٤٦ أنه كتب إلى يوستنيان ملك الروم
يقدم له ولايته فشكره الملك وجعله أميرًا على
كل قبائل العرب
(
phylarque)
التي في جواره فتولاها باسم ملك الروم وأخضع
العرب لأمره، ولا شك أن هذا الأمير كان
نصرانيًّا، ولولا ذلك لما رضي يوستنيان أن
يُرَئِّسه على بلاد كان الدين المسيحي قد مد
عليهم سيطرته كالنبط وبني كلب وغيرهم، وفيه
أيضًا دليل على نصرانية العرب المستوطنين لبقعة
النخيل التي كان أبو كرب مالكًا عليها.
وقد جاءت الاكتشافات الجديدة للسياح
الأوربيين في بلاد مؤاب وآدوم والنبط مُثْبِتة
لهذه الآثار التاريخية القديمة، فإن الكاهن
العالم نزيل كُلِّيَّتنا سابقًا الدكتور لويس
موسيل الذي تَجوَّل مرارًا في تلك الأنحاء وصف
ما رأى بالعيان في مجلدات ضخمة فرسم في تآليفه
ما وجده من الآثار كالرسوم والقبور والصلبان
وغير ذلك منها في قصر الموقَّر،
٤٧ وفي العويرة،
٤٨ وفي أم الرصاص،
٤٩ ومما تُرى بقاياه إلى يومنا آثار
كنائس عديدة في أمكنة شتى كعبد والعوجاء وفار
وفينان وحسبان والكسيفة والمكاور والمحي، وقد
يُسمَّى بعضها اليوم بأعلام تدل على دين أهلها
كالكنيسة والنصرانية والدير،
٥٠ بل وجد بين الأحياء التي تسكن حتى
الآن في تلك البوادي عادات نصرانية تدل على
أصلها القديم كرسم الصليب والدعاء إلى السيد المسيح.
٥١
ومثله سائح آخَر جال في تلك الأنحاء سنة
١٩٠٨م يُدعى دلمان،
٥٢ فإنه وصَف نحو عشرين أثرًا
نصرانيًّا وَجدَها في رحلته إلى جهات
النبط.
وليس أقل منها شأنًا ما رواه العالمان
برونُّو ودومازفسكي في المجلدات الثلاثة الضخمة
التي دوَّنا فيها أعمال بعثتهما العلمية إلى
إقليم عربية،
٥٣ وقد مر وصْفُها للأب جلابرت في
المشرق (٨: ٤٥٧–٤٦١) في المقالة المعنونة السكة
الرومانية من مادبا إلى عقبة، وفي هذا التأليف
الجليل وَصْف آثار خطيرة للنصرانية لا يسعنا
هنا بيانها.
فيؤخذ من كل هذه الأدلة التي استدلَلنا بها
أن طور سينا والبلاد اللاحقة أو المحدقة به كاد
يعمها الدين النصراني في القرن السادس، وقد أقر
بذلك المستشرق دوزي
(Dozy) في مقدمة كتابه عن الإسلام
٥٤ قال: «إن شبه جزيرة سينا كلها
تقريبًا كانت ارتَدَّت إلى النصرانية، وكانت
حاوية لجملة من الأديرة والكنائس، وكان عرب
الشام يدينون بالنصرانية.»
٥٥
(٥) الباب الخامس: النصرانية في اليمن
فَلْنَدعنَّ طور سينا لِننحَدِر إلى أطراف
جزيرة العرب في جنوبها الشرقي حيث نلقى بلادًا
واسعة كثيرة الخيرات وافرة الأسباب تمتد بين
بحر القلزم وبحر الهند فيها السهول الرحبة
المخصبة والجبال الطيبة الهواء الغنية بالمعادن
وبالأشجار النافعة كالكروم والبن والوَرْس
واللُّبان أو الكُنْدُر، فتلك البلاد سكنتها
أمم عديدة تزاحمت فيها وتنازعت على ملكها
وتَركت فيها آثارًا عظيمة من أبنيتها كهياكل
وقصور أشهرها قَصرَا غمدان ورَيْدان، وكانت تلك
الشعوب من عناصر شتَّى وقبائل مختلفة منها
كُوشيَّة ومنها ساميَّة، وبلاد اليمن تشمل عدة
أعمال ومخاليف كعسير ومهرة وحضرموت والشحر، ومن
مدنها الشهيرة مأرب ذات السد قاعدة تَبابِعة
اليمن، ومن حواضرهم أيضًا ظَفَار وصنعاء ونجران
وزبيد وذَمار وعَدَن كلها قصبات شهيرة حافلة
بالسكان دارَّة المرافق، وكانت لغتها من اللغات
السامِيَّة تُدعى بالحِمْيَرية، لها قَلَم خاص
يُعْرَف بالمُسْنَد وجد منها الأثريون المحدثون
كتابات عديدة يرتقي بعضها إلى الأزمنة السابقة
لتاريخ الميلاد بمئين من السنين تدلُّ على أن
أهلها كانوا يدينون بالصابئية ويكرمون القوات
العلوية والنيِّرات السماوية والسيارات السبع،
وكان المتملك على اليمن في أوائل تاريخ الميلاد
ملوك من حمير يتلقَّبون في الكتابات المكتشفة
حديثًا في جنوبي جزيرة العرب ﺑ «ملوك سبأ وذي
ريدان» ولما استولى ملوك حِمْيَر على بلاد
حضرموت نحو السنة ٣٠٠ للمسيح أضافوا إلى
ألقابهم «ملوك حضرموت ويمانات».
٥٦
لا مِراء أن النصرانية منذ بزوغها وجَّهَت
أنظارها إلى اليمن كما يشهد عليه أقدم الكتبة
الغربيين والشرقيين حتى إن بعض الآباء زعموا أن
المجوس الثلاثة الذين سبق ترجيحنا لجنسهم
العربي كانوا من اليمن وماتوا شهداء في صنعاء
بعد أن عَمَّدَهم القديس توما قبل سفره من عدن
إلى الهند.
٥٧
ومن الرسل الذين يُنْسَب إليهم التبشير
بالمسيح في اليمن متَّى الرسول، فإن أوريجانس
في كتابه الذي رد فيه على الأمم، ومثله المؤرخ
سقراط (ك١، ف١٥)، وروفينوس في تاريخه (ك١، ف٩)،
والقديس هيرونيموس في تأليفه عن الكتبة
الكنسيين ونيقيويفوروس في تاريخه (ك٢، ف٤٠)
كلهم يؤكدون بأن مَتَّى الرسول بَشَّر في جهات
الحَبَش، وادعى المحدثون بأن اسم الحبش يُطلق
أيضًا على اليمن، وهو اسم شاع عند القدماء،
فسمَّوا به تلك الناحية؛ لأن الحبشة كانوا
استولوا مدة طويلة على اليمن، ولأن قبائل من
الحبشة كانت اجتازَت من سواحل الحبش إلى اليمن،
وهذا القول لا يخلو من الصحة؛ لأن القدماء ربما
دعوا أهل اليمن بالحبش منذ عهد هيرودوتس
وإسطرابون (ك١، ص٥١، من طبعة أوكسفورد) إلا أن
معظم الكتبة لا يسلمون ببشارة متَّى في اليمن،
ويزعمون أن القديس بشَّر حبشة إفريقية ليس عرب
اليمن.
وسبق لنا ذكر القديس برتلماوس ودعوته للعرب،
٥٨ فإن الكتبة القدماء كأوريجانوس
وأوسابيوس القيصري (في التاريخ الكنسي ك١، ف١٠)
وسقراط المؤرخ زادوا على تعريفهم للعرب بقولهم:
إن الرسول برتلماوس بشَّر بالمسيح في الهند
القريبة يريدون بها اليمن؛ لأن اسم اليمن كان
مجهولًا لديهم فسموها بالهند القريبة مُعارَضة
بالهند الشرقية ما وراء البحر الهندي، ثم إن
المؤرخ فيلوسترجيوس (ك٢، ف٦)، وتاوفانوس في
تاريخ سنة العالم (٦٠٦٤) وتاوفيلاكتوس (ك٣)
يَدْعُون الحِمْيَريين بالهنود، وزاد بعضهم
إيضاحًا، فقالوا: إن برتلماوس بَشَّر بني سبا،
وفي الميناون المنسوب إلى الملك باسيل يقال:
إنه بشَّر هنود العربية السعيدة وهي اليمن كما
لا يخفى.
وقد رأيت آنفًا أنهم ينسبون أيضًا دعوة
النصرانية في بلاد العرب إلى القديس توما قبل
سفره إلى الأقطار الهندية، وقد ارتأى هذا الرأي
القديس غريغوريوس النَّزينزي في ميمره عن
الرسل، ومثله تاودوريطس في كتابه عن الأناجيل
(ك٩) وبعض كتبة السريان.
ومن الشواهد الجليلة التي توقفنا على دخول
النصرانية في اليمن منذ القرون الأولى لتاريخ
الميلاد ما رواه أوسابيوس القيصري (ك٥، ف١٠)،
ومثله هيرونيموس (
Hieron., de
vir. illustr. c. 36) عن
أحد العلماء الإسكندريين في النصف الثاني من
القرن الثاني للمسيح، ألا وهو بنتانوس الفيلسوف
٥٩ فإن هذا كان من الفلاسفة
الرِّوَاقيين جحد الوثنية وتنصَّر وعهد إليه
دمتريوس أسقف الإسكندرية التدريس في مدرسة
الإسكندرية ففعل وأحرز له شهرة واسعة بالتعليم
الديني، وعنه أخذ أوريجانوس المعلم الكبير
فبنتانوس المذكور نحو السنة ١٨٣ للمسيح تَنزَّل
عن التدريس وسافر إلى الهند ليبشر فيها بالدين
النصراني، وقد اتفق المؤرخون على أن الهند
المقصودة هنا هي المجاورة لمصر، أعني بلاد
اليمن كما سبق.
قال أوسابيوس: «فبلغ بنتانوس تلك الجهات ودعا
إلى النصرانية أهلها فأوقفوه على إنجيل مخطوط بالعبرانية
٦٠ للقديس مَتَّى كان أتى به إليهم
القديس برتلماوس الرسول وأودعه عندهم.» وفي هذا
القول شهادة على ما سبق بالدعوة النصرانية في
جهات اليمن منذ عهد الرسل.
هل كان لدعوة بنتانوس في اليمن تأثير في أهل
تلك البلاد؟ ذلك أمر لا يمكن القطع به، وإنما
هو مُحتمَل بل مُرجَّح، ففي وجوده بين القوم
إنجيلًا قديمًا دليل على أن النصرانية التي
بشَّر بها برتلماوس الرسول لم تَمُت بينهم،
ويُؤخَذ من رواية أوسابيوس أن الأستاذ
الإسكندري عاد إلى وطنه راضيًا شاكرًا لم يذهب
تعبه سُدًى، ولعله لم يَنْسَ أولئك الموعوظين
فأمَدَّهم بمرسلين يجارونه في عمله، وكما هاجر
بعض النصارى المصريين في زمن الاضطهادات إلى
جهات سينا وبادية الشام على ما روى المؤرخون
يجوز القول أيضًا بأن قومًا منهم هاجروا إلى
اليمن لا سيما في عهد دقيوس وديوقلطيانوس
فنشروا دينهم فيما بينهم.
ومما يستدل إليه من تواريخ العرب كالطبري
وسيرة الرسول لابن هشام والمسعودي وغيرهم أن
النصرانية واليهودية أخذَتا في النزاع
والمخاصمة منذ أواسط القرن الثالث للمسيح، وبلغ
الخصام إلى أعيان الدولة وملوكها، فيخبرون أن
التُّبَّع أسعد أبا كرب تهوَّد على يد
ربَّانِيِّين من يثرب، وحمل أهل رعيته على
التهود وتبعه في أمره بعض أولاده بعده، لكن
النصرانية فازت في عهد عبد كُلَال بن
مثوب.
وقيل: إن عبد كُلَال المذكور مَلَك في القسم
الثاني من القرن الثالث
٦١ منذ نحو السنة ٢٧٣ للمسيح إلى
٢٩٧م، وقد جعل الأصفهاني مُلكه (ف١٣١، طبعة
بطرسبرج) أربعًا وسبعين سنة، وقد اتَّفَق
المؤرخون على تدينه بالنصرانية،
٦٢ جاء في القصيدة الحميرية:
أم أينَ عبدُ كُلالٍ الْماضي
على
دِين المسيح الطَّاهر
المسَّاحِ؟
وقال الطبري في تاريخه (طبعة ليدن، ج١،
ص٨٨١):
وملك بعد عمرو بن تُبَّع، عبدُ كُلال بن
مثوَّب … فأخذ المُلكَ عبدُ كُلال … ووليه بسن
وتجربة وسياسة حسنة، وكان فيما ذكروا على دين
النصرانية الأولى وكان يسرُّ ذلك من قومه، وكان
الذي دعاه إليه رجل من غَسَّان قدم عليه من
الشام، فوثَبت حِمْيَر بالغساني
فقتلَتْه.
ثم عاد من بعده عبد كُلال إلى اليهودية
أخلافه، هذا ما يُسْتَخْلَص من تواريخ العرب،
إلا أن هذه التواريخ سقيمة جدًّا، ولا سيما
تاريخ حِمْيَر، قال حمزة الأصبهاني (ص١٣٤):
«ليس في جميع التواريخ أسقم ولا أخل من تاريخ
الأقيال ملوك حمير.»
ومما وُجِد من الكتابات الحجرية الحميرية في
أواسط القرن الماضي (
CISI.
6) كتابة فيها اسم عبد
كُلَال وامرأته أبعلي وولديه هني وهعلل نقشوها
تذكارًا لبناية دار يدعونها «يرث» شيدوها «برضى
الرحمن» وذلك في شهر ذي خرف من السنة الحميرية
٥٧٣ الموافقة للسنة المسيحية ٤٥٨، فذكر الرحمن
٦٣ من الأدلة على توحيده أو
نصرانيته.
ومن الآثار التاريخية اليونانية عن نفوذ
النصرانية في اليمن ما رواه المؤرِّخ الآريوسي
فيلوسترجيوس من كتبة القرن الرابع وأوائل
الخامس، فكان هذا من قباذوقية، وكتب تاريخًا في
اثني عشر كتابًا دافَع فيه عن أعمال الآريوسيين
مباشرة من السنة ٣٠٠ إلى ٤٢٥م، وتاريخه مفقود
إلا ما نقله عنه فوطيوس البطريرك القسطنطيني في
مكتبته يبلغ نحو ثمانين صفحة،
٦٤ ومما رُوي هناك
٦٥ أن الإمبراطور قنسطنسيوس ابن
قسطنطين الكبير المتشيِّع للآريوسية أرسل نحو
السنة ٣٥٦م وفدًا من الرومان إلى الحِمْيَريين
في اليمن، وكان يترأس الوفد تاوفيل الهندي من
جزيرة سرنديب أي سيلان، فرحل هذا إلى بلادهم
ودخل على الملك وقدَّم له ألطافًا وهدايا فنال
لديه الحظوى وبشر هناك بالدين المسيحي واسترخص
بتشييد الكنائس بل جادَل اليهود الذين وجدهم في
بلاط الملك، واقتنع الملك بالحجج الدامغة عن
صحة النصرانية حتى نصَّره، وشيد تاوفيل ثلاث
كنائس: الأولى في حاضرتهم ظَفَار، والثانية في
عَدَن على ساحل الأوقيانوس (الهندي) حيث كان
ينزل الرومان للمُتاجَرة، والثالثة في فُرْضَة
عند مدخل خليج العجم يظنونها هرمز، وعيَّن
للمُتَنَصِّرين رئيسًا ثم رحل، هذا ما رواه
فيلستورجيوس إلا أن تشيعه للآريوسية حدَا به
إلى القول: إن النصرانية لم تدخل بلاد العرب
قبلًا، والأمر على خلاف ذلك كما رأيت،
والمؤرخون يرون أن الأسقف الذي أمضى أعمال مجمع
نيقية سنة ٣٢٥م باسم «يوحنا أسقف الهند» إنما
كان أسقفًا على اليمن، وقد سبق أن اسم الهند
كثيرًا ما أطلق على اليمن، وكذلك قد بيَّن
العلَّامة المستشرق السنيورك روسيني
٦٦ أن الملك قنسطنسيوس لم يقصد بوفده
إلى ملك حِمْير أمرًا دينيًّا محضًا، وإنما
أراد أن ينهج للرومان طريقًا تجارية في البحر
إلى اليمن، ويعقد مُحالَفة مع الحِمْيَريين ضد
الفُرْس وملكهم سابور الثاني، أما اسم الملك
المتنصِّر على يد تاوفيل في اليمن فلم يذكره
المؤرخ فيلسترجيوس، ولعله مرثد بن عبد كُلال
المالك على ما يظن من السنة ٣٣٠ إلى ٣٥٠م، وقد
أطرأ الثعالبي في طبقات الملوك حِلْمَه وحُبَّه
للفقراء وحِكمَتَه وتَساهُله، وقال عنه: إنه لم
يشأ أن يقلق رعاياه بسبب دينهم، أو هو وليعة بن
مرثد الذي تعصب أولًا لليهودية ثم عدل إلى
النصرانية، وقد جاء للفيروزآبادي ما يؤيد
نصرانية هؤلاء الملوك، حيث قال: «إن كثيرًا من
ملوك اليمن والحيرة تنصرَّوا.»
ومما يشهد على ثبات المعاهدة التجارية
المُبْرَمة بين الرومان والعرب قانون سنَّه
تاودسيوس الكبير في تلك الأثناء نظَّم فيه أمور
الوفود الراحلين إلى الحِمْيَريين والحبشة من الإسكندرية.
٦٧
ومن الشهود على نفوذ النصرانية في اليمن
القديس هيرونيموس، فإنه غير مرة ذكر بين
المُتَنَصِّرين أهل الهند والحبشة، من ذلك
رسالته إلى مارسلَّا الرومانية
(Migne, P. L., XXII.
489) حيث يُعدِّد فئات
المتقاطرين لزيارة الأراضي المقدسَّة، وكلهم
على إيمان واحد ممن كان يشاهدهم ويحادثهم فجعل
في مقدمتهم العجم والأرمن وعرب اليمن (الذين
دعاهم بأهل الهند) والحبشة، وكذلك كرر قوله في
رسالته إلى السيدة ليتا (Ibid.,
XXII. 870) وخصَّ بالذِّكر
«رهبان الهند» أي اليمن كما قلنا.
وفي ترجمة القديس سمعان العمودي التي كتبها
تاودورويطس في القرن الخامس قد ذكر غير مرة بين
الذين قصدوا القديس على عموده عربَ حمير، وقد
رآهم تاودوريطس عيانًا قال
(Migne, P. G., LXXIV.
104): «ولا يتزاحم حول
سمعان أهل بلادنا فقط، بل يأتيه جموع من
الإسماعيليين والعجم والأرمن والكرج
والحميريين.» وكذلك كتب أنطونيوس تلميذ القديس
(Ibid., LXXXII,
328): «قد نصَّر سمعان
العمودي أممًا عديدة من الشرقيين (السراكسة)
والعجم والأرمن والأسكوتيين وذوي القبائل.» وقد
صرَّح باسم تلك القبائل قدرينوس المؤلف فقال:
إنهم «الحميريُّون».
ثم إن النصرانية لم تدخل فقط إلى اليمن من
جهة الجنوب ومن بلاد الرومان، ولكن نفذت إليها
من جهات الشمال وخصوصًا من العراق، فمن المعلوم
أن ملوك الفرس كانوا يسعون في محالفة ملوك
اليمن، ويتقربون إلى أهلها ليستعينوا بهم على
رد غارات الرومان، وكذلك ملوك اليمن والحبشة
ربما أوفدوا الوفود إلى ملوك العجم ليبرموا
معهم المعاهدات كما روى المؤرخون.
٦٨
وكانت القوافل تسير ذهابًا وإيابًا من العراق
إلى اليمن، ومن اليمن إلى العراق، فالنصرانية
التي كانت بلغت في الشمال مبلغًا عجيبًا ما
كانت لتهمل هذه الوسائط لنشر الدين المسيحي في
الجنوب، ومن التقاليد الشائعة عند الكلدان أن
رسولَي الكلدان الأوَّلين آدي وماري سارَا
أيضًا إلى بلاد العرب سكان الخيم وإلى نجران
وجزائر بحر اليمن.
٦٩
وجاء
في المصحف الناموسي (ص١٨): «وبشر الجزيرة
والموصل وأرض السواد كلها، وما يليها من أرض
التيمن كلها وبلاد العرب سكَّان الخيم، وإلى
ناحية نجران والجزائر في بحر اليمن ماري الذي
من السبعين.» وإلى هذه البشارة في اليمن أشار
القديس أفرام في القرن الرابع، حيث قال في أحد
ميامره: «جاءت ملكة التيمن «سبأ» إلى سليمان
ونالت من نوره شعلة استضاءت بها، وبقيت تلك
الشرارة مخبوَّة تحت الرماد إلى أن ظهرت شمس
العدل السيد المسيح، فاتقدت تلك الشرارة حتى
أصبحت نجمًا باهرًا ينير اليوم تلك
الأنحاء.»
وما لا ينكر أن النساطرة كانوا انتشروا في
تلك البلاد قبل الإسلام، وأنشئُوا عدة كنائس
وكان لهم فيها أساقفة أَتَوْها من قبل جثالقة
المشرق أصحاب كرسي المدائن، وبقوا فيها بعد
الإسلام مدة كما سيأتي، وقد ارتأى العلامة دي
ساسي في إحدى مقالاته
٧٠ أن نصارى الشمال من أهل العراق
كانوا يترددون إلى اليمن، وأنهم أَدخَلوا بين
إخوانهم في الدين الكتابة السريانية بدلًا من
الخط المُسْنَد الشائع هناك قبلهم، وقد روى
السمعاني في المكتبة الشرقية
(
Assemani, BO, III,
603) أن اللغة السريانية
كانت دخلت في جهات عديدة من اليمن، وكذلك ذكر
المؤرخ فيلسترجيوس أن في زمانه كانت مستعمرات
أخرى سورية احتلت سواحل إفريقية بإزاء بلاد
العرب، وأن أصحابها كانوا يتكلمون بالسريانية،
وقد جاء في كتاب كشف الأسرار في بيان قواعد
الأقلام الكوفية «إن القلم الكوفي كان يُدعى
بالسوري.» ولعله أراد بذلك شبهه بالقلم
السرياني، وقال هناك: إن «آل طسم وقحطان وحمير»
كانوا يكتبون به.
•••
ومن
أعظم الشواهد التي أثبتها العرب على دخول
النصرانية في اليمن ما رواه الطبري في تاريخه
٧١ وياقوت في معجم البلدان (٤: ٧٥٢)؛
وابن خلدون في كتاب العبر (٢: ٥٩)؛ وابن هشام
في سيرة الرسول (ص٢٠) وغيرهم أن أهل نجران وهي
من أمهات مدن اليمن تَنصَّروا جميعهم، وقد
ذكروا الخبر في كلام طويل، خلاصته أن رجلًا من
بقية أصحاب الحواريين يقال له: فيميون وقالوا:
قيمون وقالوا: ميمون
٧٢ من أفضل الناس عبادة وأعرقهم في
أعمال الصلاح كان سائحًا تجري على يديه
الكرامات والمعجزات وصل في سياحته إلى بلاد
غسَّان فتبعه رجل من أهل الشام اسمه صالح
فَتوغَّلَا في بلاد العرب، ثم اختطفتهما سيارة
وباعوهما بنجران وأهلها حينئذٍ من بني الحارث
بن كعب المنتمين إلى كهلان يعبدون العُزَّى على
صورة النَّخْلة، فأوقف فيميون سيده على بطلان
الشرك بما صنع لديه من الآيات، ولا سيما إذ دعا
ربه في يوم عيد العزَّى، فأرسل الله ريحًا جعف
النخلة من أصلها فعرف أهل نجران صحة دينه
ودانوا بدين المسيح، وجعل فيميونُ عليهم رئيسًا
أحد أشراف المدينة عبد الله بن الثامر ورعاهم
أسقف كان يُدعى بولس.
وأقام أهل نجران على دين المسيح حتى دعاهم
إلى اليهودية أحد ملوكهم اسمه ذو نؤاس كان
متعصبًا لدين اليهود فأبى النجرانيون اتباعه في
ضلاله، وكان رئيسهم إذا ذاك اسمه الحارث،
واستعدوا للدفاع عن بلدهم إلا أن ذا نؤاس
٧٣ دخله بالمكر وحفر أخاديد (أشار
إليها في القرآن) أضرمها نارًا وألقى فيها على
ما روى ابن إسحاق عشرين ألفًا من النصارى أو
يزيدون ماتوا في سبيل إيمانهم مع الحارث رئيسهم.
٧٤
على أن الخبر لم يلبث أن نما إلى قيصر الروم
بواسطة رجل من أهل نجران فر هاربًا اسمه دوس ذو
ثعلبان، فاستنصره على ذي نؤاس فأمر القيصر
النجاشيَّ ألِصْبان ملك الحبشة بمحاربة
اليهودي، ففعل وأرسل جيشًا مع إرياط وأبرهة
الأشرم فناجزوه القتال وظفروا ببلاده ومات
الطاغية غرقًا، وأتم الحبشة فتح اليمن فملكوا
عليها أكثر من نصف قرن كان أول ملكهم إرياط
(٥٢٥م)، ثم أبرهة الأشرم (٥٣٧–٥٧٠م)،
٧٥ ثم ابنه يكسوم (٥٧٠–٥٧٢م)، ثم
مسروق (٥٧٢–٥٧٥)، أما الملوك الحميريون فبعد
موت ذي نؤاس حاوَل أحدهم المسمَّى ذو جدن أن
يضبط زمام الملك لكنه قُتل في حرب الحبشة، ولم
يعودوا إلى المُلك إلا في زمن سيف ابن ذي يزن
الذي استعان بالفُرس وأخرج الحبش من اليمن وملك
هو وابنه معدي كرب، ثم إن الفُرس لم يلبثوا أن
يمدوا سيطرتهم على تلك البلاد، وجعلوا عليها
عمَّالًا كان أولهم وهرز (٥٩٧م) ثم بَدْهان وفي
زمنه فَتَح المسلمون نواحي اليمن.
هذا ملخَّص ما جاء في تواريخ المسلمين، وقد
أيَّدته في أموره الجوهرية التواريخ اليونانية
والسريانية كتاريخ الحرب الفارسية لبروكوبيوس
الغزي (Procop., de Bello
pers. I, c.
20)؛ وتاريخ يوحنا المعروف
بأسقف آسية (Assemani, BO, II,
83)؛ وتاريخ تاوفانوس (ج١،
ص٣٤٦، من طبعة بونَّا)؛ وتاريخ يوحنَّا ملالا
(ص٤٣٤، من الطبعة عينها) فكل هؤلاء ذكروا أمور
الحبشة وما جرى من الحروب بين ملكها وملك
حِمْيَر اليهودي بسبب قتله لنصارى نجران، وفي
رواياتهم بعض إفادات عن ذي نؤاس الذي يدعونه
دمنوس أو دميانوس، وعن القيصر يوستينوس الذي
انتصر للمظلومين وبعث الحبشة لمحاربة اليمن،
وكان على الحبشة ملك يدعونه أليسباوس Elesbaas أو
ألِصْبان وصحَّفَه غيرهم بأليستاوس من أحكم
الملوك وأعرقهم في الدين النصراني، وهم يقولون:
إن أسقف نجران المدعو بولس كان توفي قبل هجوم
ذي نؤاس عليها، وإن الملك اليهودي بعد ظفره
بنجران انتهك حرمة قبره.
أما استشهاد أهل نجران على عهد ذي نؤاس فقد
وصفه المعاصرون، منهم شمعون أسقف بيت أرشام
الذي سمع في العراق الخبر من شهود عيانيين
فدَوَّنَه في رسالة نشرها السمعاني في المكتبة
الشرقية (BO, I,
364–79)، وكذلك ليعقوب
الرُّهَاوي فيهم ميمر نشره الأب بيجان
(Acta Martyrum I.
372–97) ثم نشر البولنديون
أعمالهم في اليونانية عن نسخة قديمة في تاريخ
٢٤، ت١ (Act. SS. X, Oct.
750–780)، وفي مكتبتنا
الشرقية نسخة عربية من هذه الأعمال نقلناها عن
مخطوط قديم.
ومن الآثار الكتابية التي نُشرت حديثًا
وأتتنا بفوائد جديدة عن دخول النصرانية في
نجران أعمال القديس «أزقير» بالحبشية من
مخطوطات خزانة الكتب الشرقية في لندن فنشرها
لأول مرة الأستاذ الإيطالي المفضال كنتي روسيني،
٧٦ وخلاصتها أن «أزقير» كان كاهنًا
نصرانيًّا دعا إلى دينه أهل نجران فأمر الملك
شرحبيل بن ينكف بحبسه، لكنه نجا من الحبس
وعمَّد كثيرين وتبعه رجل يدعونه قرياقوس،
واجتمعت عليه اليهود ففَنَّد أقوالهم جهارًا
وقضي لمجادلته آخرًا بقطع الرأس مع ٣٨ آخرين،
وعيده في الكلندار الحبشي واقع في ٢٤ شهر خدار
(٢٠، ت٢).
فكل هذه الآثار بَيَّنت انتشار النصرانية في
اليمن، ولم يزدها اضطهاد ذي نؤاس واليهود إلا
نموًّا لأن مَلِك الروم ونجاشي الحبش القديس
أَلِصْبان ما فَتِئَا أن أرسلَا جنودًا إلى
اليمن انتقمت للمظلومين، وكسرت شوكة اليهود في
تلك الأنحاء.
وقد أتتنا في هذه الحقبة الأخيرة شواهد جديدة
غير منتظرة، ألا وهي كتابات يونانية وحبشية
وحميرية اكتشفها الأثريون، وهي تُبيِّن ما كان
من النفوذ للحبشة في بلاد اليمن، فاليونانية
اكتشفها أكسوم الرحالة الإنجليزي هنري سَلت (H. Salt).
كتبها «أَيْزن ملك أكسوم والحميريين وريدان
والحبش والصابئة وزيلع وتهامة وبغيث، وتوقال
ملك الملوك ابن الإله المريخ غير المغلوب.» يصف
فيها انتصاره على أعدائه البغيثيين، وتاريخ هذه
الكتابة أواسط القرن الرابع يظهر منها أن ملوك
الحبشة الوثنيين كانوا استولوا مدة على اليمن
والحميريين.
ومن الكتابات الحبشية كتابة وقف عليها المرسل
الإيطالي يوسف
سابيتو (G. Sapeto) في أكسوم أيضًا ثم
نشرها وفسرها وهي للملك النصراني «تازينا ابن
الاعميدا ملك أكسوم وحمير وريدان وسبا إلخ»
افتتحها بذكر الاسم الكريم «خالق السماء والأرض
الرب الأزلي»، وكان تازينا المذكور مالكًا نحو
السنة ٥٠٠م ومن كلامه يظهر أن ملوك الحبشة لم
يزالوا باسطين سيطرتهم على الحميريين، ولا غرو
أن نصرانيتهم أثَّرَت بدين الحميريين الوثنيين
واجتذَبَت منهم قومًا إلى المسيحية.
أما الكتابات الحميرية فأعظم شأنًا وأخطر
بيانًا لتاريخ النصرانية اكتشفها في أنحاء
اليمن رجال ذوو حزم لا يهابون الأخطار دخلوا في
هذه السنين الأخيرة إلى أقاصي اليمن، ونقلوا ما
كانوا يراقبونه من الكتابات الحميرية الكاشفة
لأسرار التاريخ اليمني، أشهرهم العلماء:
يوسف
هالوي
(J. Halévy)، وإدورد
جلازر
(Ed Glaser) فأتوا من اليمن بمئات
من الآثار الكتابية بينها كتابات حميرية تفصل
محاربة الحبشة لذي نؤاس وظفرهم باليمن، وتاريخ
هذه الكتابات هو تاريخ حمير الواقع سنة ١١٥
للمسيح، فمن جملة المآثر التاريخية كتابة تنسب
إلى حصن الغراب وجدها جلازر
٧٧ فنشرها وهي ﻟ «سميفع أشوع»
٧٨ أقامها في ذي الحجة سنة ٦٤٠ (أي
٥٢٥ للمسيح) تذكارًا لدخول الحبشة في بلاد حمير
بعد انتصارهم على ملكها (ذي نؤاس).
ومنها كتابة أخرى تاريخها سنة ٦٥٧ و٦٥٨ (أي
٥٤٢-٥٤٣م) ورد فيها ذِكْر انفجار سد مأرب،
٧٩ وهو من أجلِّ الحوادث التاريخية
كان العلماء يرقُّونه استنادًا إلى مؤرخي العرب
إلى القرن الثاني للمسيح، فثبَت الآن أنه جرى
في أواسط القرن السادس، والكتابة قد نُقرت في
الصخر بأمر أبرهة الملك الحبشي أولها: «بقوة
ونعمة ورحمة الرحمن ومسيحه وروحه القدوس قد أمر
برسم هذه الكتابة أبرهة الحاكم (على اليمن)
باسم الملك الجيزي (الحبشي) رمحيس ذو بي يمن
ملك سبا وذي ريدان وحضرموت ويمانات والعرب
الذين في الجبال والسهول.» ومما قال هناك:
«ونحن على ذلك إذ بلغنا خبر تهدُّم السد
والخَزَّان والحَوض والمصرف في شهر ذي المدرح
سنة ٦٥٧.» ثم أردف أبرهة قوله: «فأرسلت إلى
القبائل لتنفذ الحجارة والأخشاب والرصاص لترميم
السد في مأرب … ثم توجهت إلى مأرب وبعد أن
صلَّيتُ في كنيستها عمدت إلى ترميم السد فعزلوا
الأنقاض حتى وصلوا إلى الصخر وبنوا عليه»، ثم
يذكر تَأخُّر العمل لسأم بعض القبائل عن الشغل،
وكيف حالَف أبرهة أقيال اليمن، وقابَل وفود
ملوك الروم وفارس والحيرة (المنذر) وغسَّان
(الحارث بن جبلة وأبي كرب بن جبلة) وغير ذلك
مما يفيدنا علمًا عن أخبار العرب، وفَوْز أبرهة
بقبائلهم سنة ٦٥٧ للحبش (٥٤٢م)، ثم عاد إلى
وَصْف ترميم سد مأرب فقال: «فرمَّموه ووسعوه
حتى بلغ طوله ٤٥ ذراعًا وارتفاعه ٣٥ ذراعًا.»
ثم فصَّل هناك ما أنفق على العمل من الحجارة
والأطعمة للعملة إلى أن ختم الكتابة بقوله:
إنهم «انتهوا من العمل في شهر ذي معان سنة ٦٥٨ (٥٤٣م).»
٨٠
ولعل هذا السد كان انفجر قبل ذلك غير مرة
ورُمِّم إلا أن أخبار العرب تنطبق خصوصًا على
هذا الحادث الأخير، وإنما خلطوا في أقوالهم
خلطًا عجيبًا وكفى به استدلالًا على ضعف
رواياتهم التاريخية التي لا يمكن التسليم
بصحتها إلا بعد النقد والنظر المَلِيِّ.
لا غرو أن النصرانية في مدة ملك الحبشة على
اليمن بلغت أقصى النجاح والتقدم، لنا على ذلك
شواهد تاريخية عديدة، وكان أول ما باشَر به
الحبش أن جعلوا نجران كقبلة الدين النصراني بعد
أن اصطبغت بدماء أهلها الشهداء، فأقاموا فيها
مزارًا كان العرب يقصدونه من كل صوب، كانوا
أنفقوا عليه القناطير المقنطرة ليزينوه بأنواع
الحلي، وهذا المزار قد شاع ذكره عند العرب
فدعوه «كعبة نجران» أو «كعبة اليمن» وضربوا
بحُسْنه المثل، وإليه أشار الأعشى في بعض
أبياته حيث قال يكلم ناقته:
وكعبة نجرانَ حتمٌ
عليك
حتى تُناخِي
بأَبوابها
تزور يزيدًا وعبد
المسيح
وقيسًا هم خير
أربابها
إذا الحبرات تلوَّت
بهم
وجرُّوا أسافل
هدَّابها
يريد بني عبد المَدَان الذين كانوا يتولون
أمرها وهم أعيان بني الحارث بن كعب
٨١ وأعرق الناس في النصرانية، وممن
طبَّقت أخباره أقاصي العرب في ذاك الوقت خطيب
مصقع ضربت العرب المثل في بلاغته نريد القس بن
ساعدة أسقف نجران، وقد جمعنا في شعراء
النصرانية (ص٢١١–٢١٩) ما رواه الكتبة العرب
عنه، وعن يزيد بن عبد المدان النجراني
(ص٨٠–٨٨).
وممَّا يعود فضله إلى الحبشة كنيسة عظيمة
٨٢ جمعوا فيها ضروب المحاسن وأنفقوا
عليها المبالغ الطائلة بنوها في حاضرة ملكهم
صنعاء لا تزال حتى اليوم تُرى بقاياها في جامع
هذه المدينة، وكانوا زَيَّنوها بكل أصناف الزين
والتصاوير وضروب الفسيفساء وهي الكنيسة
٨٣ التي عرفها العرب بالقُلَيس،
٨٤ وذكروها في تواريخهم ووصفوها في
كتبهم (اطلب مجموعنا: مجاني الأدب، ج٣، ص٣٠٢؛
وكتاب الأغاني، ٢: ٧٥) فما لبثت أن جذبت إليها
الجماهير المجمهرة حتى نسي الوثنيون قصر غمدان
القريب منها وأصنامه الصابئية.
وكما فعلوا في صنعاء أقاموا أيضًا في ظَفَار كنيسة
٨٥ أخرى جليلة كانت آية في الحسن
والجمال، وكان المتولي تدبير هذه الكنيسة أسقف
شهير يدعى جرجنسيوس اتخذه ملك الحبشة كمستشاره
ومساعده لتنصير الحِمْيَريين، فما أَلا جهدًا
في ذلك، وقد ترك لنا من آثاره كتاب شرائع
الحميريين التي تُرى ترجمتها اليونانية في
مجموع الآباء اليونان لمين
(
Migne, P. G., T. 86, col.
567–620) وكان يجادل
اليهود ويرد على مزاعمهم وله جدال مع هربان
الرباني صبر أيضًا على آفات الدهر باليونانية
(
Ibid., col.
621–783) ولدينا منه ترجمة
عربية.
ولنا حتى اليوم دليل حسي على تأثير نصرانية
الحبشة في العرب ألا وهو ما دخل في اللغة
العربية من الألفاظ الدينية الحبشية بعضها حبشي
الأصل كالمِنْبر والمِصْحَف والحواري والمنافق
والفاطر؛ (أي الخالق)، والجِبْت؛ (أي الصنم)،
والشيطان والزَّار، وبعضها يوناني أو سرياني أو
عبراني لكنه دخل في العربية بواسطة الحبش كما
تدل عليه صورته الحاضرة كالإنجيل، وجهنم،
والتابوت، والقلم، والحرم، والجن، والرقية،
وللعلامة المستشرق نولدك بحث خصوصي في هذه الألفاظ.
٨٦
وكان شيوع الخط المُسْنَد وهو الخط الحميري
في بلاد العرب بفضل الحبشة واشتقاقه من الخط
الحبشي القديم ظاهر، نقلوه إلى اليمن في
التاريخ السابق للميلاد ثم استعملوه في
كتاباتهم الحجرية إلى ظهور الإسلام. قال ياقوت
في معجم البلدان (٤: ١٧١) عند وصفه كنيسة
القُلَيْس: إن أبرهة كان كتب على بابها
بالمُسْنَد: «بنيت هذا لك (اللهمَّ) من مالك
ليُذكر فيه اسمك وأنا عبدك.»
وفي مدة ولاية الحبش على اليمن رحل إلى الهند
قُسَمَا الرحالة (
Cosmas
Indicopleustes) نحو السنة
٥٣٥م فعدَّد ما وجده من الكنائس في طريقه
وانتشار النصرانية في أواسط الشرق وأقاصيه، وقد
خص بينها بلاد اليمن، حيث قال ما تعريبه:
٨٧ «إنك حيثما سرتَ تجدْ كنائس
للنصارى وأساقفة وشهداء وسيَّاحًا حتى بين أهل
عربية السعيدة الذين يُدْعَون بالحميريين كما
في كل العرب أيضًا وبين النبط وبني جرم
…»
وإن سأل السائل أكانت النصرانية في اليمن
مستقيمة خالية من البدع، الجواب أنه من المرجح
أن دينهم كان في أول الأمر خالصًا من كل شائبة
وكاثوليكيًّا محضًا؛ لأن الإمبراطور يستينوس
وخلفه يستنيانوس لحسن ديانتهما ما كانَا ليسمحا
للحبش أن يَنشرَا في بلاد العرب غير الإيمان
الأَرثذكسي الموافق لتعليم المجامع الأربعة
الأولى، يثبت ذلك تكريم الكنيسة لملك الحبشة
أَلِصْبان الذي كان مالكًا في وقت فتح الحبشة
لليمن ثم جلوس جرجنسيوس على كرسي أساقفة صنعاء,
هو قديس تكرمه الكنيسة لقداسته، وإنما يظهر
أيضًا أن بدعة أوطيخا سرت إلى جهات اليمن
وكدَّرت صفاء إيمانهم، فإن الحبشة في القرن
السادس جنحوا إلى تعاليم اليعاقبة، فلا بد أن
أضاليلهم انعكس صداها إلى العرب، لكن المؤرخين
اليعاقبة قد بالَغوا في ذكر شيوع هرطقتهم بين
أهل اليمن كما يُسْتدل من تاريخ يوحنَّا الآسيوي،
٨٨ وكما نقله ابن العبري في تاريخ
مختصر الدول، ص١٤٨.
على أن العنصر العربي وسلالة ملوك اليمن لم
يَعُودوا يطيقون نِير الأجانب عليهم، لا سيما
بعد موت أبرهة وتَملُّك ابنيه يكسوم ومسروق على
حِمْيَر إذ تشدَّدا على الوطنيين وأساءَا إليهم
الصنع، فأخذ أمراء حمير يطلبون لهم وسيلة
لينجوا من الحبشة، وكان في مقدمتهم سيف بن ذي يزن
٨٩ فاستنجد بملك الروم وطلب منه جيشًا
ليُخرج الحبش من جزيرة العرب، فلم تلقَ دعوته
أذنًا صاغية فعدل إلى كسرى ملك العجم فنصره
بجند من صعاليك دولته تحت قيادة رجل اسمه وهرز،
فظفروا بالحبشة وبددوا شملهم، وملك سيف بن ذي
يزن. لكن ملكه لم يدم زمنًا طويلًا إذ فتك به
بعض الحبشة فخلفه ابنه معدي كرب، ولم يلبث
العجم أن استولوا على اليمن فأرسلوا عمالًا
يحكمون باسمهم، كان أولهم وهرز المذكور ثم خلفه
باذان، وفي عهده صارت اليمن في أيدي
المسلمين.
أما
النصرانية فإنها لم تمت بنفي الحبشة، بل بقيت
في عزها إلى ظهور الإسلام، ولعل سيف بن ذي يزن
عينه كان يدين بها يؤيده ما وقفنا عليه في أحد
مخطوطات باريس العربية، وهو كتاب أنساب العرب
لسلمة بن مسلم (Suppl. Paris,
2886) في الصحيفة ٩٧ حيث
قال: إن سيف بن ذي يزن دخل على القيصر ومال إلى
النصرانية، والحق يقال: إنه ما كان ليلوذ
بالقيصر ملك الروم النصراني لو دان هو
باليهودية كذي نؤَاس، وكذلك قد مدحه الشاعر
النصراني أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت بقصيدته
الشهيرة التي أولها:
لا يطلبُ الثأر إلا كَابْن
ذي يزنٍ
في البحر خيَّم للأعداء
أحوالا
ولا شيء في هذ الأبيات يُشْعِر بيهودية سيف،
ولَو عرف أهل نجران وعرب النصارى في اليمن أن
ابن ذي يزن من أنصار اليهودية لَما مكنوه من
الملك.
وعلى ظننا أن نساطرة العراق انتهزوا فرصة
دخول الفُرس في اليمن لينشروا هناك بدعتهم،
ولعلهم كانوا سبقوا إلى بثها قبل ذلك فعززها،
وفي تواريخ النساطرة ما يصرح بانتشار تلك
البدعة في جنوبي العرب ومقاومتهم لليعاقبة، وفي
كتاب الأغاني (١٠: ١٤٨) أن عشرة من أساقفة
نجران قدموا على نبي المسلمين وجادَلوه فدعاهم
إلى المباهلة، ولعل منهم من كان نسطوريًّا وكان
حينئذٍ رئيسًا على نجران رجل اسمه السيد،
٩٠ فأُعطي الأمان هو وقومه.
ولكن النصارى بعد فوز الإسلام أخذوا
يَضْعُفون في اليمن شيئًا فشيئًا،
٩١ ولا سيما بعد أن أمر عُمَر
بإخراجهم من الجزيرة استنادًا إلى حديث يعزونه
إلى محمد هذا منطوقه: «لأُخرجن اليهود والنصارى
عن جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلمًا»،
والظاهر أن هذا لم يتم بالحرف فإن لدينا عدة
شواهد على وجود النصارى في اليمن في أيام
الخلفاء، فمن ذلك ما ورد في أعمال طيموتاوس
الكبير بطريرك النساطرة أنه سامَ أسقفًا على
نجران وصنعاء اسمه بطرس في أواخر القرن الثامن،
٩٢ وجاء في كتاب الفهرست لأبي الفرج
بن النديم (ص٣٤٩) أن المؤلف اجتمع براهب من
نجران في اليمن يدعى حسَّان كان أنفذه جاثليق
النساطرة إلى الصين، فعاد منها سنة ٣٧٧ (٩٨٨م)
وأخبره بعجائبها.
وجاء في تقويم الكنائس النسطورية الذي طبعه
الخوري بطرس عزيز الكلداني «واليوم مطران سلمست
في العجم» عن بعض مخطوطات مكتبتنا الشرقية (ص٧)
في الحاشية أن البطريرك يوحنَّا الخامس أرسل
كتابًا إلى حسن قسيس اليمن سنة ٩٠١م يجاوب فيه
على ٢٧ سؤالًا ألقاها عليه، وقال في الجداول:
إن في سنة ١٢١٠ للمسيح كان في صنعاء اليمن خمسة
أساقفة للنساطرة، الأول مطرابوليط على صنعاء
اسمه إسطيفانوس وتحت يده ثلاثة أساقفة إيليا
وياولاها وشمعون لهم ثلاث كنائس وعدد المؤمنين
عندهم ٥٧٠٠، ثم كان أسقف لمدينة زبيد اسمه عبد
يشوع وعدد المؤمنين فيها ٢١٠٠ بيت، ثم ذكر
نجران وقال: إن في سنة ١٢٦٠م كان لها أسقف يدعى
يعقوب، وإن في أنحائها كان ١٤٠٠ بيت من
النساطرة، وقال عن عدن: إنها كان يوجد فيها سنة
١٢٥٠م أسقف اسمه ميلو، وإن جماعة النساطرة كانت
١٣٠٠ بيت إلا أن أكثرهم قُتلوا بالسيف أو عدلوا
إلى الإسلام، هذا ما نقلناه عن هذا الأثر الذي
لم يمكنَّا أن نقابله على غيره لنتأكد
صحته.
وفي القرن السادس عشر ذكر الكاتب الإسباني
أوردينو دي سينالتوس Ordeno de
Cenaltos أنه في
رحلته إلى المغرب لقي بعض قبائل عربية احتفت
به، وأكدت له أن أصلها من قبائل نصارى العرب في
اليمن، وقد أخبرنا المرسلون الكبوشيون في عدن
سنة ١٨٥٩م أنهم وجدوا في بعض أهل اليمن آثارًا
مسيحية ظاهرة ورثوها من أجدادهم
النصارى.
(٦) الباب السادس: النصرانية في حضرموت وعمان
واليمامة والبحرين
إن بلاد حضرموت وعُمَان واليمامة والبحرين
مجاورة لليمن، فكان ملوك اليمن إذا قويت شوكتهم
طمحوا إليها بالأبصار وأدخلوها في سيطرتهم، إلا
أن أخبار تلك الجهات نادرة جدًّا لا يعرف إلا
القليل من أمورها السياسية والأدبية
والدينية.
(٦-١) حضرموت
ومنها
٩٣ بلاد مَهْرة ما وقع من جزيرة
العرب شرقي اليمن بين اليمن وبحر الهند،
روى ابن خلدون في تاريخه
٩٤ أسماء دولة مستقلة ملكت عليها
بعد المسيح إلى أيام الحبشة، فلمَّا صارت
اليمن في حوزة الحبش ملكوا أيضًا حضرموت؛
ولذلك لم يذكر ابن خلدون لحضرموت أمراء بعد
دخولهم إلى اليمن فَنوَّه بسكوته إلى أنها
دخلت في حكم الحبش، فلا بد إذن من أن يقال:
إن النصرانية دخلت أيضًا في حضرموت مع
أولئك الفاتحين، بل دخلت قبلهم والدليل
عليه أن قسمًا كبيرًا من كندة كانوا يسكنون
في حضرموت
٩٥ ومعلوم أن النصرانية كانت
الديانة الغالبة على كندة كما سترى.
ثم إنه كان لحضرموت عدة مدن ساحلية ذكرها
بطليموس الجغرافي
٩٦ كانت تقام فيها أسواق تجارية
تقصدها الروم وغيرهم، فكان أهل حضرموت
يختلطون بتجار النصارى القادمين من أنحاء
شتى فيدينون بدينهم، وكان يسكن بعض هؤلاء
النصارى الجزائر المجاورة
٩٧ التي لدينا شواهد على
نصرانيتها قبل الإسلام بزمن مديد، قال قزما
الرحالة (
Cosmas, P. G., T.
88, col. 169): «وفي
جزيرة تابروبانا التي يدعوها أهل الهند
سيدليبا «وهي سيلان ويدعوها العرب سرنديب»
في بحر الهند كنيسة للنصارى مع عدد من
الإكليريكيين والمؤمنين، وكذلك في مالي
«ملبار» حيث يُجنى الفلفل، وفي جزيرة
كاليانا أسقف يُسام في العجم ويُرسل إليها،
وفي جزيرة ديوسقريدس
٩٨ (وهي سُقُطرى
٩٩ القريبة من سواحل العرب) كذلك
إكليريكيون يُرسمون في العجم وهناك جمٌّ
غفير من النصارى … وخدمة الدين النصراني في
تابروبانا يُرسلون أيضًا بعد
سيامتهم.»
وما يدل على علاقات هؤلاء النصارى مع
سواحل العرب ما قرأناه في كتاب سلمة بن
مسلم العوتبيِّ الصحاريِّ في أنساب العرب
الذي مرَّ ذكره (ص١٠٦) عن مهرة
وسُقُطرى:
«وبجزيرة سُقُطرى من جميع القبائل من
مهرة، وهي جزيرة طولها ٣٠٠ فرسخ وبها
العنبر السقطري … وكان أهلها من أولاد
الروم، فدخلوا في نسب القُمْر من مهرة وهم
معروفون، (قال) وبها عشرة آلاف مقاتل كانوا
نصارى، وذلك أنهم يذكرون أن قومًا من بلد
الروم طرحهم بها كسرى فعمروا بذلك الموضع
حتى عبرت إليهم مهرة فغلبت عليهم وعلى
الجزيرة، (قال)، وقد يقولون: إنه لم يكن
بها روم ولكن رهبانية على دين الروم من
النصرانية ثم دخلتها الشراة من مهرة
وحضرموت وقتلوا من بها.»
وقد بقي قوم من النصارى في سُقُطرى حتى
القرن السادس عشر، كما ورد في رسالة للقديس
فرنسيس كسفاريوس
١٠٠ كتبها عند سفره إلى الهند،
وكان نزل إلى سُقُطرى ورأى فيها بقايا
النصرانية، فألحوا عليه بأن يسكن عندهم فلم
يمكنه الأمر.
ويثبت انتشار النصرانية في حضرموت ما جاء
في كتاب طبقات ابن سعد في فصل الوفادات،
فذكر وفد حضرموت، وأورد قول أحد الوافدين
اسمه كُليب بن أسد:
أنتَ النَّبِي الذي كنا
نُخَبَّره
وبشَّرَتْنا بك التوراة
والرُّسلُ
فكفى بهذا دليلًا على وجود النصرانية في حضرموت.
١٠١
(٦-٢) عُمَان
شمالي حضرموت واقعة على شواطئ بَحرَي
الهند والعجم، وحاضرتها صُحار، وكانت
النصرانية دخلت إلهيا بواسطة دعاة أتوها من
العراق، وفي التواريخ الكلدانية
١٠٢ أسماء أساقفة كانوا في عُمَان
منذ القرن الخامس وهم يدعونها مَزُون كما
دعاها أيضًا العرب ونبه إليه ياقوت في معجم
البلدان (٤: ٥٢١)، فممن ذكروه: يوحنان سنة
٤٢٤م، وداود (٥٤٤م)، وشمويل (٥٧٦م)،
وإسطفان (٦٧٦م).
وفي جملة الرسائل التي بعث بها رسول
الإسلام إلى الملوك رسالة وجهها إلى ملك
عُمَان المسمَّى جَيْفر بن الجلندي من أزد
عُمَان كان نصرانيًّا هو وأخوه عبَّاد،
ويقال: عَبْد وعُبَيْد، فنصرانية الملك
تشير إلى نصرانية البلاد الخاضعة
له.
وكان في عُمَان أديرة للنصارى يشير إليها
صاحب الأغاني، وجاء في تاريخ ابن الأثير
(١: ٢٣٤) أن قيس بن زهير «لمَّا تَنصَّر
ساح في الأرض حتى انتهى إلى عُمَان
فترَهَّب بها.»
(٦-٣) البحرين
هي البلاد
١٠٣ الساحلية الواقعة في شرقي
جزيرة العرب على سواحل خليج العجم،
١٠٤ حيث مغاص اللؤلؤ الشهير كان
أهلها في الجاهلية من بني عبد القيس وهي
إحدى القبائل المعروفة بنصرانيتها، قال
الشاعر ذو الرَّمة في بعض أحيائهم (اطلب
نسخة مكتبتنا الخطية، ص٥٧):
ولكنَّما أهل امرئ القيس
معشرٌ
يحلُّ لهم أكل الخنازير
والخمرُ
وفي البحرين مغاص اللؤلؤ الشهير الذي لا
يزال أهل تلك الأنحاء يستخرجون منه الدرر
الثمينة، وقد مررنا به في رحلتنا من بغداد
إلى الهند، ولأهل البحرين عادات نصرانية
تناقلوها أبًا عن جد حتى اليوم، وأشار
إليها السيَّاح الألمانيون الذين طافوا تلك
البلاد حديثًا كصورة الصليب يرسمونها على
جبهاتهم أو يطبعونها بالوشم على أعضائهم،
وكإكرامهم للخبز ذكرًا بالقربان الأقدس،
وقد لحظ ذلك منهم أحد آباء رهبانيَّتنا منذ
ثلاثين سنة في دمشق، كان قوم منهم قصدوها
للارتزاق.
وكانت بلاد البحرين والأحساء المجاورة
لها تحت حكم الفرس منذ ظهور الإسلام، وكان
أهل الأرض كما أثبت ياقوت في معجم البلدان
(١: ٥٠٨) «من المجوس واليهود والنصارى.»
وكان العامل عليها أحد بني تميم
المُتَنَصِّرين اسمه المنذر ابن ساوي،
١٠٥ ومن أشرافها النصارى عند ظهور
الإسلام بشر بن عمرو المعروف بالجارود،
وكان سيد عبد القيس، والمؤرخون العرب
يذكرون أنه أسلم ومات سنة ٦١ﻫ
(٦٨١م).
وكان للنساطرة في بلاد البحرين أساقفة،
وخصوصًا في قَطَر
١٠٦ وهم يسمونها بيت قطرايا.
١٠٧ وقد ذكروا في مجمعهم الذي عقده
سنة ٥٨٥م الجاثليق يشوعياب أهل البحرين
المُتنصِّرِين، ويأمرونهم بالكف عن الشغل
يوم الأحد إن أمكنهم الأمر وإلا أعفوهم من
ذلك لأجل الضرورة، وقد ثبت هؤلاء النصارى
على دينهم بعد الإسلام كما يظهر من مجمع
آخَر نسطوري عُقِد سنة ٥٧ﻫ (٦٧٦م) دبَّر
فيه الآباء عدة أمور دينية، ومنه يظهر أن
بلاد البحرين كانت حافلة بالكنائس والأديرة
ودعاة الدين وكان إذ ذاك على قَطَر أسقف
اسمه توما.
١٠٨
وكان لقصبة بلاد البحرين وهي هَجَر أسقف
يُدعى إسحاق ذكر في مجمع النساطرة سنة ٥٧٦م
ثم ورد ذكر أسقف آخر يُدعى فوسي سنة ٦٧٦م.
١٠٩
ومن جزائر البحرين دَارِين ويقال:
دَيْرِين ذُكر لها في تواريخ النساطرة
ثلاثة أساقفة، وهم: بولس سنة ٤١٠م، ويعقوب
سنة ٥٨٥م، ويشوعياب سنة ٦٧٦م.
١١٠
ومنها أيضًا جزيرة سماهيج «وفي السريانية
مشمهيج» في وسط البحر بين عُمَان والبحرين
(ياقوت ٣: ١٣١) كانت فيها كنيسة مسيحية،
وفي المجامع النسطورية
(Chabot, 273, 275,
etc) أسماء ثلاثة
أساقفة تولوا تدبيرها وهم باطاي وإلياس
(٤١٠م) وسركيس (٥٧٦م).
ومن مدن الأحساء الخَط وهي بلدة تُنسب
إليها الرماح الخطية، وكان الفُرْس يدعونها
بيت أردشير، وكان للنساطرة فيها كنائس ذُكر
من أساقفتها إسحاق سنة ٥٧٦م، وشاهين سنة ٦٧٦م.
١١١
(٦-٤) اليمامة
وربما سُمِّيت بالعَرُوض والجَوِّ
وتُلْحَق بإقليم الأحقاف، وهي مَفاوِز
متسعة في الجنوب الغربي من عُمَان بين
الأحساء شرقًا والحجاز غربًا كانت قصبتها
حَجْر بفتح فسكون مدينة كبيرة، والعرب
يجعلون فيها قومًا من الجبابرة من طسم
وجديس، وما لا ينكر أن النصرانية انتشرت في
تلك الأنحاء بعد قسطنطين الكبير، فإن عمرو
بن مَتَّى في كتاب فطاركة المشرق ذكر أن
عبد يشوع السائح
١١٢ بشَّر بالنصرانية في جهات
اليمامة في أواخر القرن الرابع
للمسيح.
وكان معظم سكان اليمامة قبل الإسلام بني حنيفة
١١٣ ممن يشهد الكتبة المسلمون على نصرانيتهم،
١١٤ وكان يملك عليهم قبل ظهور
الإسلام بقليل هوذة بن علي
١١٥ الذي كان أَسَر قومًا من بني
تميم ثم أطلقهم يوم عيد الفِصْح، كما ذكر
ابن الأثير في تاريخه (ج١، ص٢٦٠، من طبعة
مصر) فقال الأعشى يمدحه لفعله:
بِهِم يُقرِّب يوم
الفِصحِ ضاحيةً
يرجو الإله بما أسدى وما
صنَعَا
على أن بعض الكتبة زعموا أن بني حنيفة
كانوا يعبدون صنمًا من عجين ثم أتت عليهم
سنة فأكلوه، فهجاهم البعض بقوله:
أَكلتْ حنيفةُ
رَبَّها
زمن التقحُّم
والمجاعَهْ
لم يَحذَروا من
ربهم
سوء العقوبة
والتباعَهْ
وعندنا أن هذه الشكوى باطلة، وأن الذين
نسبوا إلى بني حنيفة أكل صنم من عجين إنما
خُدِعوا بما رأوه من تقرُّبهم من القربان
الأقدس، فإن الأصنام لا تُتخذ من العجين
ولا تسد جوع كثيرين في أيام القحط، فضلًا
عن كون الأقط اليابس العتيق لا يصلح
لأكل.
ومما يدل على نصرانية اليمامة مقاومة
أهلها للمسلمين تحت قيادة مسيلمة الذي عُرف
بالكذاب، وكان نصرانيًّا هو وسجاح التغلبية
امرأته، وقيل: إن أمر مسيلمة المذكور قد
تفاقَم حتى خاف المسلمون فتنته، وكان يتلو
قرآنًا كرسول المسلمين، ذَكرَه
عبد المسيح الكندي في رده على الهاشمي
(ص٨٧، من طبعة أوكسفورد) فدخل عليه قوم
ليلًا واغتالوه وكُفوا شرَّه.
هذه بعض شواهد على وجود النصرانية في
البلاد العربية المتوسطة بين اليمن والعراق
المجاورة لبحر الهند وخليج العجم وفيها
دلائل كافية على ما كان للدين المسيحي من
النفوذ في تلك الجهات التي لم يفدنا عنها
المؤرخون إلا الفوائد الزهيدة.
(٧) الباب السابع: النصرانية في العراق
إن صعدت من بلاد البحرين وجهات الأحساء انتهى
بك المسير إلى مَفاوز واسعة يَحدُّها شرقًا
خليج العجم وغربًا بوادي قحلة جرداء، لكن
شمالها أراضٍ طيبة كثيرة الخيرات تُعَدُّ من
أخصب بلاد الله يسقيها النهران الكبيران الفرات
ودجلة فيجعلانها جنَّات غنَّاء تزاحمت على
ملكها الأمم القديمة من بابليين وكلدان
وآشوريين، وشبعت من دسمها ووفرة غلاتها، وكان
العرب يدعون تلك الأنحاء بالعراق ويخصُّون باسم
السواد الأرياف المجاورة لبوادي العرب.
والعرب منذ سالف الأعصار كانوا لا يزالون
يراقبون لتلك البلاد طامعين في ثروتها حتى إذا
وجدوا غِرَّة من عمَّال الأمم المالكة عليها
غزوها وبسطوا أيديهم إليها ريثما يزحف إليهم
مَن يردهم إلى بواديهم، وكان ملوك العراق في
الغالب يفضلون محالفتهم فيجعلونهم كحرس ثغورهم
وسور مملكتهم على شرط أن يُعْطَوا حظهم من
مستغلات تلك الجهات ويسرحون في مراعيها
قطعانهم.
لكن القبائل المحالفة لممالك العراق كان
يحسدها على هناء عيشها غيرها من العشائر فتسير
إليها من الجنوب، ولا تزال تزاحمها إلى أن
تغلبها على منازلها فتسكنها معها أو بدلًا
منها، ومن القبائل التي ذكرها المؤرخون ووصفوا
سيرها إلى سواد العراق قبائل يمنية من الأزد
تركوا بلاد اليمن، سواء كان ذلك لانفجار سد
مأرب على قولهم، أو لأسباب أخرى كالمزاحمة
وتوفُّر النَّسل فعدل قسم منها إلى غرب البلاد
نحو الشام، وهم الغسانيون تحت إمرة جفنة بن
عمرو بن ثعلبة، وتوقَّل القسم الآخر في الشمال
تحت قيادة مالك بن فهم، وإذ وجدوا في تلك
الجهات عشائر من إياد ولخم وغيرهما انضموا إلى
بعضها، وقهروا البعض الآخر حتى رسخت ثمَّت
قدمهم وثبتت كلمتهم، بل أخذوا يسعون في ضبط
زمام السلطة على كل القبائل التي هناك ففازوا
بمرغوبهم وأنشئوا لهم دولة تُعرف بدولة
المناذرة كان أول ملوكها جذيمة الأبرش فاستولى
على جهات السواد الواقعة غربي الفرات، واتخذ له
مدينة الأنبار كقاعدة ملكه ثم نقلها خلفاؤه من
بعده إلى الحيرة، ولم يزالوا يتتابعون في الملك
عليها إلى ظهور الإسلام، فغلب خالد بن الوليد
ملكها الأخير المنذر بن النعمان أبي قابوس سنة
١١ للهجرة (٦٣٣م). وكان ملوك الحيرة في مدة
دولتهم محالفين لملوك العجم من السلالة
الساسانية، بينما كان إخوتهم الغسانيون أحلافًا
للروم في بادية الشام.
وإن اعتبرنا دين عرب العراق وجدنا الشرك
شائعًا بينهم كما في بقية جهات العرب وجرت
عندهم خصوصًا عبادة الكواكب والسيارات السبع،
كما ألفها عرب اليمن والكلدان أهل العراق،
ولعله دخل في دينهم أيضًا شيء من ديانة المجوس
كتعظيم الشمس والنيِّرات.
أما النصرانية فكان لها فيهم تأثير عظيم،
وهذا ما يلوح من الآثار القديمة التي ورد فيها
تاريخ تلك البلاد بعد السيد المسيح، فلمَّا
أشرقت شمس النصرانية سار دعاتها إلى ما بين
النهرين والجزيرة والعراق فدعوا إليها أهل تلك
الأقطار الذين لبَّوا دعوتهم وانتظمت الجموع
الغفيرة في سلك النصرانية، وإذ كانت العرب
ممتزجة مع سكان تلك الجهات أقبلوا هم أيضًا إلى
التدين بها وجحدوا عبادة الأصنام والكواكب،
ولنا على تنصُّر عرب العراق شواهد سبق بعضها
عهد مالك بن فهم.
فمن ذلك ما رواه كتبة الكلدان عن أول من
بشَّر بالدين المسيحي في مواطنهم، وكان العلامة
يوسف السمعاني في مكتبته الشرقية (٤: ٥–٣٠) جمع
عدة شواهد من أقوالهم تصرح بانتشار النصرانية
في العراق ونواحي آشور وبابل على يد الرسولين
توما وبرتلماوس، وبدعوة ثلاثة من المبشرين
الأولين أعني إدي أو تدَّاي أحد السبعين
وتلميذيه إجي وماري، لكن كثيرًا من علماء
التاريخ لم يسلموا له بصحتها؛ إذ رأوها حديثة
العهد من القرن العاشر، فما بعد لكن الاكتشافات
الحديثة في السريانية لم تُبْقِ ريبًا في الأمر
إذ تثبت أن إدي الذي يعتبره الكلدان كرسولهم،
كان حقًّا من تلامذة السيد المسيح وأن بشارته
في جهات العراق لا يجوز نكرانها، فإن أقدم
التواريخ الكلدانية من القرن الخامس إلى التاسع
التي نشرت مؤخرًا كتاريخ «بَرْحَدْ بشابا
عَربايا»، وتاريخ «مشيحا زخا» وشعر نرساي في
القرن الخامس، وشهادة آباء مجمع المدائن
المنعقد في بلاط الملك كسرى سنة ٦١٢م وأعمال
الشهداء والكتب الطقسية القديمة كلها تشير إلى
بشارة الرسول إدي.
١١٦ كما أن بعضها يروي أعمال القديس
ماري تلميذ إدي.
١١٧ وفي الشواهد عن هؤلاء المبشرين
الأولين للكلدان ربما ذكروا أيضًا تبشيرهم
لنواحي العرب، قال صاحب كتاب النِّحْلة من كتبة
القرن السابع: «وكان الداعي والمنصِّر والمتلمذ
والمدبِّر بالجزيرة والموصل وأرض بابل والسواد
وما والاه من بلاد التيمن والحزَّة ونواحي
العرب من التلاميذ السبعين إدِّي وماري ولحق
بهما من التلاميذ الاثني عشر ناثنيل وهو ابن
ثلماي (أي برتلماوس).» وقد قال سليمان بن ماري
عن هذا الرسول (ص٥): إن برتلماوس تلمذ مع إدي
وماري «نَصِيبِين والجزيرة والموصل وأرض بابل
والسواد وبلاد العرب وأرض المشرق
والنبط.»
وقد سبقهما القديس إفرام الكبير في القرن
الرابع، وذكر بشارة إدي إلى الرُّهَا والمشرق
في الميمر الذي مدح فيه مدينة الرُّهَا.
أما ماري فإن ذكره لا يكاد يفترق عن ذكر إدي
في الشواهد السابق ذكرها كالكتب الطقسية
النسطورية وأعمال المجامع وترجمته المُومَأ
إليها، وكلها تشير إلى دعوته بين العرب في بلاد
ميشان وسواد العراق وسكَّان الخيام، قال ابن
ماري في تاريخ فطاركة المشرق: «إن ماري بادر
إلى تلماذ جميع نواحي أرض بابل
١١٨ والعراقيين والأهواز … وبلاد العرب
سكان الخيم ونجران وجزائر بحر اليمن.» وقد روى
الطيب الذكر السيد عبد يشوع خيَّاط في مقدمة
أعمال مار ماري
١١٩ أن ذخائره وُجدت سنة ١٨٧٩م مع
ذخائر يشوع سبران أحد شهداء القرن السادس بين
آثار كنيسة قديمة موقعها في كرملاش شرقي
الموصل، فهذه الشواهد من شأنها أن تزيل الشك في
تاريخية ماري التي ارتاب فيها البعض.
قلنا: إن بعض قبائل العرب كانت سبقت مالك بن
فهم في سكنى العراق من جملتها بنو إياد الذين
يذكر المؤرخون تنصُّرهم منهم البكري في معجم ما
استعجم (ص٤٨)، وقد أشار شاعرهم لقيط بن يعمر
الإيادي إلي بِيَعهم في قصيدته العينية التي
كتبها ليحذرهم من غزوة كسرى، وهي من أقدم
الآثار العربية فقال:
تامَت فؤادي بذاتِ الجزع
خَرْعبةٌ
مرَّت تريد بذات العَذْبة
البِيَعَا
ففي ذكره
لِلْبِيَع في ديار إياد على عهد كسرى شاهد على
شيوع النصرانية بينها منذ القرن الرابع، وهذا
يخالف رواية ابن دريد في الاشتقاق (ص١٠٥،
ed.
Wüstenfeld.) حيث أخَّر
تَنصُّرَهم قائلًا: «إياد قدم خروجهم من اليمن
فصاروا إلى السواد فألحَّت عليهم الفُرس في
الغارة فدخلوا الروم فتنصَّروا.»
١٢٠
وكان أيضًا بين قبائل العراق قوم من لَخْم،
وفي السيرة الحلبيَّة (طبعة مصر ٣: ٩٥) أن بني
لخم كانوا من عدد القبائل المُتنَصِّرة، لكنَّ
الكاتب لم يذكر زمن تنصُّرهم.
ولمَّا ظفرت النصرانية بالدين الوثني في
الدولة الرومانية بجلوس قسطنطين على منصة الملك
بلغ صدى ذاك الانقلاب حتى العراق، وحدثت نهضة
جديدة ساقت الألوف المُؤلَّفة إلى التنصُّر
رغمًا عن مُعارَضة ملوك العجم حتى كادت
النصرانية تعمُّ تلك الأنحاء كلها وتستأصل شأفة
المجوسية، لكنه قام سابور ذو الأكتاف وسفك دماء
النصارى مدة ملكه الذي دام سبعين سنة فضحَّى ﺑ
١٦٠٠٠٠ من المسيحيين الذين كانوا في دولته،
وأعمال هؤلاء الشهداء قد كتبها شهود عيانيُّون
تُعَد رواياتهم من أصدق وأثبت التواريخ نشرها
السمعاني ونقلها إلى اللاتينية.
ولا غرو أن بين هؤلاء الشهداء كان أيضًا قوم
من العرب المتنصِّرين، كما يستدل من أمكنة
استشهادهم وبعض أعلامهم كعبد الله، والحارث،
وعزيز، وحبيب إلخ، وقد ذكر إليَّا النصيبيني
أساقفة على البصرة (وكان اسمها فرات ميشان) منذ
السنة ٣١٠م.
وقد شهد المؤرخون أن سُيَّاحًا من النصارى
كانوا يعيشون بين أحياء عرب العراق منذ أواخر
القرن الثالث وأوائل الرابع ذكرهم المؤرخ سوزمان
١٢١ ودعاهم بالرعاة (
Βοσχόμενοι) لأنهم كانوا
يعيشون في البراري ويقتاتون من النبات، وروى
ذلك المؤرِّخ «أنهم بحياتهم النسكية وفضائلهم
العجيبة ردوا كثيرين من العرب والعجم إلى الدين
النصراني.»
ثم تبع هؤلاء السيَّاح رهبان غيرهم جَرَوا
على مثال رهبان الصعيد وأخذوا عنهم طرائقهم
النسكية فكثيرون منهم اشتهروا في جهات العراق
وفي البلاد التي كان يسكنها العرب.
وممَّن خصَّهم بالذِّكر قدماء الكتبة الراهب
حنا الكشكري
١٢٢ الذي سكن في بلاد جرم وابتنى ديرًا
هناك نحو سنة ٣٢٠م.
وذكر تاودوريطس المؤرخ القديس سمعان القديم،
١٢٣ فروى أنه كان تنسك في بلاد
«الإسماعيليين» مختفيًا في بعض المجاهل إلا أن
العرب اكتشفوا مكانه وأتوه جموعًا متكاثفة
ليسمعوا تعاليمه وينالوا منه الشفاء لمرضاهم،
فأجاب إلى مُلْتَمَسهم لكنه لم يزل يُراقِب
الفرصة ليهرب من لجاجهم ويبقى معتزلًا في
مناجاة ربه.
ويُرْوى عن القديس يليان سابا أي الشيخ أنه
ساح في بلاد العرب مع تلميذه المُسمَّى يوحنَّا الفارسي
١٢٤ في غضون ذلك القرن الرابع.
وفي هذا القرن نفسه كانت القبائل اليمنية من
آل نصر بن ربيعة الأزدي التي انتقلَت من جنوبي
العرب إلى الشمال، فألقت في جهاتها عصا
التسيار، وأخذَت تقوى وتنمو وتضم إليها شتات
القبائل العربية لتملك عليها، وكان بين ملوكها
الأولين المسمَّى امرأ القيس بن عمرو المعروف
بالبدء الذي طالت مدة ملكه إلى أواسط القرن
الرابع، ومما يَجْدُر بالذِّكْر أن الكتبة
يؤكدون تنصُّره
١٢٥ قال ابن خلدون في تاريخه نقلًا عن
ابن الكلبي وغيره (طبعة مصر ١: ٢٦٣): «ولمَّا
هلَك عمرو بن عدي وَلِي بعده على العرب وسائر
من ببادية العراق والحجاز والجزيرة امرؤ القيس
بن عمرو بن عدي ويقال له: البدء، وهو أول من
تنصَّر من ملوك آل نصر وعمَّال الفرس.»
ولسنا نحن نرى في الأمر عجبًا بعد ما روينا
عن أمور النصرانية في اليمن، فهذه القبائل
المهاجرة إلى الشمال كانت عرفت الدين المسيحي
في مواطنها فبقيت خميرته فيها عند انتقالها إلى
العراق، يؤيد ذلك ما رواه القزويني من أمر
«الأنبياء» الذين أرسلهم الله إلى بني حمير
ليردوهم إلى الله قال: «فبعث الله ثلاثة عشر
نبيًّا (لأهل اليمن) فكذبوهم.» لكن المسعودي في
مروج الذهب (٣: ٣٩٣) ذكر توبتهم على يد أولئك
الرسل وانتظام أمورهم فقال: «وأزال الله
أنعامهم وأموالهم فقالوا لرسلهم: ادعوا لنا
الله أن يُخْلِف علينا نعمتنا ويرد علينا ما
شرد من أنعامنا ونعطيكم موثقًا أن لا نشرك
بالله شيئًا، فسألت الرسل بربها فأجابهم إلى
ذلك وأعطاهم ما سألوا، فاتسعت بلادهم وأخصبت
عمائرهم إلى أرض فلسطين والشام.» وقال
القزويني: «إن ذلك كان بين مبعث عيسى والنبي.»
فتعيَّن بقوله هذا أن هؤلاء الأنبياء أو الرسل
ما كانوا إلا دعاة لدين المسيح كما يُستدل عليه
من الشواهد السابقة.
ولنا دليل آخر على تنصُّر تلك القبائل
اليمنية في العراق، وذلك ما ذكره المؤرخون
عنها، فقالوا: إن قبائل من قُضاعة من تيم اللات
وكلب بن وبرة والأشعريين مع قوم من الأزد
تحالفوا وتآخوا فدُعوا تنوخًا ونزلوا جهات
البحرين، ثم العراق ما بين الحيرة والأنبار
وتنصَّروا، قال ابن خلكان في ترجمة أبي العلاء
المعري (ص٤٩، éd. de
Slane): «تنوخ اسم لعدة
قبائل اجتمعوا قديمًا بالبحرين وتحالفوا على
التناصر وأقاموا هناك وسموا تنوخًا، وتنوخ إحدى
القبائل الثلاث التي هي نصارى العرب وهم
بَهْراء وتنوخ وتغلب.» أما تَنصُّرُهم في القرن
الرابع فيؤخذ من قول صاحب الأغاني عن سابور ذي
الأكتاف لمَّا حاربهم، وكان شعارهم شعار
المسيحيين، قال (١١: ١٦٢): «ونزلت تنوخ
بالبحرين سنتين … حتى نَزلوا الحيرة فَهُم أول
من اختطها … ثم أغار عليهم سابور الأكبر
فقاتلوه، فكان شعارهم يومئذٍ: آل عُبَّاد الله
فسُمُّوا العُبَّاد.»
ولعلَّ الديرَيْن أي دير الجماجم
١٢٦ بظاهر الكوفة، ودير الحريق قرب
الحيرة اللذين ذكرهما ياقوت في معجم البلدان
(٢: ٦٥٢، ٦٦٤) قد أنشأهما نصارى العرب في
العراق تذكارًا لأولئك الشهداء الذين قتلهم
سابور لأجل إيمانهم، وفي روايات نقلها ياقوت ما
يلمِّح بذلك، وجاء في روايات أخرى فيه عن ابن
الكلبي أن دير الجماجم بناه بنو عامر شكرًا لله
على ظفرهم ببني ذبيان وبني تميم بعد حرب وقعت
بينهم، أما دير الحريق فبُني تذكارًا لقوم
أُحرقوا بالحيرة.
وما لا يُنكَر وتثبته الشواهد التاريخية أن
الأديرة كثرت في أواخر القرن الرابع للمسيح في
جهات العراق التي كان يسكنها العرب، فإن القديس
أوكين الذي كان نشر العيشة الرهبانية في بلاد
الجزيرة وما بين النهرين أرسل عصبة من تلاميذه
حتى أقاصي العراق، وما عتَّمت الآداب الرهبانية
أن انتشرت فيها على يدهم أيَّ انتشار خص منهم
المؤرخون بالذكر الراهب يونان أو يونس الذي
شيَّد ديرَيْن الواحد في الأنبار قاعدة
اللخميين قبل سكناهم في الحيرة على الفرات،
والآخر بقرب نينوى، وقد عرف العرب الديرين
كليهما، فذكرهما ياقوت ودعا الأول (٢: ٧٠١) دير
مار يونان والثاني دير يونس، قال عن هذا الأخير
(٢: ٧١٠) إنه «في جانب دجلة الشرقي مقابل
الموصل وبينه وبين دجلة فرسخان وأقل وموضعه
يُعرف بنينوى.»
وفي التواريخ الكلدانية القديمة أن يونان
المذكور طاف بلاد السواد وبشَّر العرب بالمسيح،
وكان قبل أن يزهد بالدنيا يتعاطى العلوم
الفلسفية ويزاول الطب، فحببه ذلك إلى العرب
وكافة أهل السواد، ولما ابتنى ديره في الأنبار
كثر عدد الطالبين للترهب تحت تدبيره.
وفي النصف الثاني من هذا القرن الرابع تولَّى
أحد رهبان النصارى اسمه عَبدَا بناء الأديرة في
أنحاء العرب، فقدم على جاثليق المدائن المسمى
تموز أو تومرصا ونال منه الرخصة في ذلك، فبنى
هو ديرًا كبيرًا في دير قنَّى أو درقان وطنه
على اسم مار ماري، حيث كانت ذخائر ذاك الرسول،
وبنى تلامذته أديرة أخرى منهم تلميذه عبد يشوع
الذي شيد على نهر صرصر الدير المعروف بالصليب،
حيث كان ظهر صليب منير في أيام استشهاد
المسيحيين على يد سابور بإغراء المجوس، وشيد
ديرًا آخر في باكسايا في سواد العراق، ثم ديرًا
ثالثًا عند الفرات، وأخبر المؤرخ ابن ماري
(ص٢٩) أنه تلمذ العرب في متوث وميشان واليمامة
وردَّ بني ثعلبة إلى الإيمان،
١٢٧ فجعله تومرصا أسقفًا مقامه في دير
محراق، ومنهم تلميذه يبالاها الذي رد أقوامًا
من العرب في أرياف الفرات وابتنى ديرًا في
دسكرة السواد وديرًا آخر على ضفة النهر، قيل:
إن عدد رهبان ديره قد كثر حتى ضاق بهم الدير مع
سعته، فبلغوا الأربعمائة بنيِّف، وكان الرهبان
من أنحاء شتى يتكلمون لغات مختلفة فجعلهم
أربعًا وعشرين فرقة يتعاقبون في تلاوة الفرض
الإلهي ليلًا ونهارًا، فيتلون الصلوات
والتسابيح في لغاتهم أي السريانية واليونانية
واللاتينية والقبطية، وكان سبقه إلى ذلك في هذه
المناسك راهب آخر اسمه إسكندر الذي أنشأ طائفة
الساهرين
(Acémètes) لمواصلتهم الصلاة
ليلًا مع نهار، وقد ذكر سليمان بن ماري في
تاريخ فطاركة كرسي المشرق (ص٢١) وعمرو بن متى
في المجدل (ص٢٨) كثيرًا من هذه الأديرة،
واختصرا تواريخها عن كتبة معاصرين أخصهم أحي
تلميذ مار عبدا الذي وضع ترجمة حياة معلمه ثم
صار بعد ذلك بطريركًا على الكلدان.
فهذا العدد الوافر من الأديار وكثرة
المترهَّبين فيهما دليل واضح على سطوع ضياء
النصرانية بين عرب العراق في ختام القرن الرابع
للمسيح، فإن كل دير منها كان كينبوع من المياه
الحية يسقي تلك الأرجاء فينبت للخلاص الثمار
الطيبة، وكان المتنصِّرون يمارسون من الفضائل
أسماها ومن الأعمال المبرورة أفضلها وأولاها
حتى إنهم ما كانوا يحجمون عن الموت والعذابات
لأجل دينهم كما يُروى عن السفراء الثلاثة الذين
أوفدهم ملك العجم إلى القيصر يليانوس المارق
سنة ٣٦١م وأسماؤهم مانويل (أو عمانويل)،
وشابيل، وإسماعيل أراد يليانوس أن يغصبهم على
السجود للأصنام فأبوا وماتوا في سبيل دينهم
القويم في القسطنطينية وأعمالهم مدونة في مجموع
البولنديين (
Acta Sanctorum, d.
XVII Junii)، وكان قبلهم
سفيران آخران (سنة ٢٥٠م) قد وفَدَا على دقيوس
من قبل دولة الفرس اسمهما عبدون وسنان
١٢٨ وفضَّلا الموت على جحود النصرانية،
فقُتلا في رومية وعيدهما في الكنيسة في ٣٠
تموز.
وبعد هؤلاء نسَّاك العراق بزمن قليل قام في
الكنيسة الأنطاكية قدِّيس آخر اشتهر في الشرق
والغرب معًا نريد به القديس سمعان العمودي
المولود نحو سنة ٣٦٠ للمسيح الذي رقي عموده في
الجبل المعروف باسمه في جهات أنطاكية وأضحى بعد
مدة كمنارة استضاء بها العالم كله، وسيرته قد
كتبها أحد تلاميذه المسمى أنطون فنُشرت في
أعمال الآباء اللاتينيين
(
Migne, P. L. t. 73, p.
329)، وكتبها أيضًا
تاودوريطس معاصره الذي كان يتردد عليه وهو من
أوثق المؤرخين وأصدقهم رواية، وكذلك روى أعماله
كثيرون من السريان فنُشرت تآليفهم في هذه
المدَّات الأخيرة، ومن يتصفحها يتحقق ما ناله
العرب من فضل القديس سمعان، وقد مرَّ لنا ذكر
الحِمْيَرِيِّين الذين كانوا يقصدونه من اليمن،
وكان العراقيون من العرب ينتابونه بشوق أعظم
لقربهم منه، اسمع ما كتبه تاودوريطس أسقف قورش
بعد أن شاهد عيانًا العجائب التي كان يأتيها
العمودي قال عن العرب ما نروي قسمًا منه معرَّبًا:
١٢٩
«إن مقام سمعان على عموده قد أنار قلوب
الألوف المُؤلَّفة من بني إسماعيل، فكانوا
يأتونه أفواجًا أفواجًا، فيتقاطرون إليه تارة
مائتين وتارة ثلاثمائة، وأحيانًا ألوفًا
(ότε ϰαί
χίλιοι) فيجحدون لديه
أضاليل أجدادهم، وربما حطموا أمامه أصنامهم
ولعنوا بإغرائه الزُّهرة وعبادتها النجسة ثم
كانوا يتلقَّنون التعاليم الخلاصية ويذعنون
للبشارة الإنجيلية، وقد حصل لي خطر على حياتي
من تزاحمهم عليَّ لأن القديس سمعان كان يأمرهم
أن يطلبوا مني البركة الأسقفية مؤكدًا لهم أنها
تعود عليهم بالخبر، فكانوا إذ ذاك يقحمون عليَّ
من كل جانب من الأمام والوراء والجانبين، ويركب
بعضهم على أكتاف البعض ويمدُّون إليَّ أيديهم
ليلتمسوا مني البركة ولولا أن القديس سمعان كان
يزجرهم لكنت تأذيت من لجاجهم وازدحامهم
عليَّ.»
وقد ذكر هناك تاودوريطس ومثله المؤرخ
إيفاغريوس والكاهن قزما معاصره عدة عجائب وآيات
باهرة صنعها سمعان مع العرب وشيوخهم زادت ثقتهم
به وتواردهم إليه وإقبالهم على استماع أقواله،
فمن ذلك ما أخبر به عن أمير قبلة نُقل إليه
مخلَّعًا على سرير من مدينة الرَّقَّة فشفاه
القديس برسم إشارة الصليب عليه وصبغه بمياه
المعمودية فعاد كمخلع الإنجيل حاملًا سريره،
والحضور كلهم يشكرون الله على هذه النعمة السابغة.
١٣٠ وكذلك أخبر عن أمير آخر كان تنصَّر
ونذر بين يدي القديس أنه يصوم عن أكل اللحم
فنسي نذره مرة وأكل قطعة من اللحم استحالت في
جوفه إلى حجر كاد يلفظ به روحه لو لم يسرع إلى
القديس الذي خلَّصه بصلاته.
١٣١ وأرسلت ملكة العرب من العراق
وسألته أن يزيل عُقْمَها وينال لها من الله
ابنًا ذكرًا فنالته وأرسلته إلى رجل الله لينال
بركته.
وذكر تلميذه أنطون في سيرته
١٣٢ أن أميرًا من أمراء قبائل عرب
الجزيرة دعاه مالكًا
(
Basilicus)
قدم على القديس فوجد سمعان يصلي فوق عموده
فجثَا تحته ينتظر نهاية صلاته ليطلب بركته،
وإذا بدودة كانت ترعى جسم القديس وكان يحتمل
ذلك بصبر حبًّا بالله سقطت فالتقطها الأمير
ليحفظها كتذكار وذخيرة، فلحظ سمعان فعل الأمير
فصرخ إليه: إنك بفعلك هذا أيها الرجل الشريف قد
كدَّرتني فكيف تمس ما ينتثر من جسدي من القذر،
ففتح الأمير يده وإذا بالدودة قد استحالت إلى
درة ثمينة فأراها القديس وقال: ليست هذه دودة
بل درة، فأجابه سمعان: على حسب إيمانك قد صنع
بك الرب، فلتكن يدك مباركة طول حياتك، وانطلق
الأمير فرحًا.
على أن بعض أمراء العرب غير المُتَنَصِّرين
لم يرضوا بفعل رعاياهم وخروجهم إلى بلاد
الرومان وتنصُّرهم على يد سمعان العمودي،
وممَّا أخبر المؤرخ قزما الكاهن أن ملك الحيرة
الذي دعاه بالنعمان وهو النعمان الأول الذي
يلقبه العرب بالأعور
١٣٣ لمَّا استولى على مُلك الحيرة بعد
امرئ القيس الثاني (نحو سنة ٣٩٠ إلى ٤٢٠م)
امتعض من رحلة أهل الحيرة إلى القديس سمعان،
فأعلن بأمر ملكي أنه ينهى تحت عقاب الموت
الخروج إلى زيارة السائح، فما انتشر هذا الخبر
حتى استولى الخوف على رعاياه، فرَأَوا أن
الطاعة لهذا الحاكم الظالم أولى من التعرُّض
للموت الأحمر، إلا أن الملك لم يلبث أن ندم على
ما فعل، ففي ذات الليلة التي وليت صدور الحكم
ظهر له القديس في الحلم وفي يده سيف ومعه خمسة
رجال لابسين ثيابًا بيضًا ناصعة، فنظر إلى
الملك شزْرًا وبكَّته على فعله، ثم أمر الرجال
أن يربطوه ويجلدوه جلدًا مبرِّحًا دون أن يرثوا
لعويله، فلمَّا كاد يصير إلى التلف أمر بالكف
عنه ثم سل السيف متهددًا وقال: «إياك إياك أن
تعود إلى مثلها فبهذا السيف تُقطع مفاصلك.»
فقام الملك وهو على آخر رمق، ولما أصبح الصباح
جمع حاشيته وألغى حكمه أمامهم وحض شعبه أن
يذهبوا إلى القديس كيفما شاءوا، قال قزما
المؤرخ: «وهذا الخبر رواه أحد قوَّاد النعمان
المسمَّى أنطيوخس بن سالم، وكان سمعه من فم
النعمان ولمَّا جاء ليزور القديس أخبر بما سمع
أمام سمعان نفسه وأنا حاضر.» وأردف الراوي
قائلًا: ومذ ذاك الحين أُطلقت الحرية لعرب
الحيرة بأن يدينوا بالنصرانية ثم قال: والملك
النعمان كان يريد بعد ذلك أن يتنصَّر ويزهد
بالدنيا، لكنه خاف من سطوة مَلك العجم.
(قلنا): ولنا في شهادة مؤُرِّخِي العرب ما
يثبت هذه الرواية ويؤيد صحتها، فإن المؤرخين قد
رووا أن النعمان الأعور بعد سنين من ملكه اجتمع
بأحد النساك الصالحين المدعوِّين بالرابطة
فزهَّده بالفانية ودعاه إلى ترك الدنيا وعبادة
الله، فلبى الملك دعوته، ولبس معه المسوح
وساحَا في الأرض زهدًا.
١٣٤ وليس هؤلاء الرابطة على رأينا سوى
رهبان النصارى الذين بينَّا لك وفرة عددهم في
جهات العراق وزهدهم بالعالم، وفيما ذكرنا من
تاريخ قزما مصداق على هذا الرأي، ولعل الدير
الذي دعاه العرب بدير الأعور قد ابتناه نعمان
الأعور المذكور لولا أن ياقوت (٢: ٦٤٤) نسب دير
الأعور الواقع على قوله بظاهر الكوفة إلى رجل
من بني حذافة بن زهر بن إياد، وقد مرَّ بك أن
بني إياد من أقدم قبائل العرب
المُتَنَصِّرة.
ولا غرو أن تنصُّر هذين الملكين زاد
النصرانية شأنًا وعزًّا في العراق، قال قزما
بعد رواية أنطيوخس بن سالم عن ندامة النعمان أن
الدين المسيحي مذ ذاك الوقت نما نموًّا عظيمًا
فكثر عدد الأساقفة والكهنة حتى ضاق عن الحصر،
ولمَّا قام الملك أزدشير الأول واضطهد النصارى
في ملكه نال عربَ العراق قِسمٌ من تلك المحن
أظهروا فيها من الثبات ما غيَّر بعد مدة أفكار
الملك، فتغاضى عنهم، وقيل: إن امرأة الملك
أزدشير نالت بشفاعة القديس سمعان الشفاء من مرض
عُضال فرغبت إلى الملك أن يكفَّ الاضطهاد عن
النصارى في مملكته.
وفي القسم الأول من القرن الخامس بلغت
النصرانية أوج فخرها وازدهارها في العراق، وكان
الإيمان كاثوليكيًّا محضًا لم يُشَب بشيء من
أضاليل النساطرة
١٣٥ واليعاقبة، وكان الأساقفة حريصين
على وديعة التعاليم الرسولية كما ترى من أعمال
مجمع المدائن
١٣٦ الذي عقد سنة ٤١٠م فشذبت أضاليل
آريوس وغيره من المبتدعين.
وفي هذا الزمان عُرف القديس ماروثا رئيس
أساقفة ميَّافارقين الذي حظي لدى ملك العجم
أزدشير الثاني وأبرأ ابنته من داء عقام، فنالت
من أبيها الحرية التامة لنشر النصرانية في
العجم، وماروثا من كبار القديسين الشرقيين
والمدافعين عن الإيمان المستقيم بهمته عُقد
مجمع ثانٍ في المدائن سنة ٤٢٠م لإثبات عقائد
الإيمان وحُرم نسطور.
وفيه أيضًا أصبحت جهات الجزيرة ولا سيما
العراق العربي كصعيد آخر بلغ فيها عدد
الزُّهَّاد إلى ما تجاوز كل إحصاء، فكانت
الأديرة كمدن واسعة يسكنها ألوف من الرهبان
يقضون فيها الحياة في الصلاة والشغل، ولو راجعت
الفصل الذي خصَّه البكري في معجم ما استعجم
(٣٥٨–٣٨١)، وياقوت الحموي (٢: ٦١٠–٧٣٩) وغيرهما
بهذه الأديرة لرأيت أن بلاد العراق كان لها
نصيب كبير منها، وهم لم يذكروا غالبًا إلا ما
ورد اسمه في شعر الشعراء كدير الأبلق في
الأهواز، ودير أبي يوسف فوق الموصل قريب من
بَلَد، وديارات الأساقف
١٣٧ بالنجف بين قصري أبي خصيب والسدير،
وديرَي الأُسكون بالحيرة وقرب واسط كانت فيهما
مدارس للعلوم الدينية، ودير أشموني قرب بغداد،
١٣٨ ودير الأعلى بالموصل على جبل مطلٍّ
على دجلة، ودير باشهرا بين سامرَّا وبغداد،
ودير باعَربا بين الموصل والحديثة على شاطئ
دجلة، ودير ميخائيل، ودير الثعالب منسوب على ما
نظن إلى بني ثعلبة المُتَنَصِّرين قريب من
بغداد عند الحارثية، ودير الجرعة بالحيرة، ودير
الخوات بعُكْبرا، ودير الخنافس على قُلَّة جبل
تشرف على دجلة ونينوى، ودير دُرْتا غربي بغداد،
ودير الدِّهْدار بنواحي البصرة، ودير
النَّرْندَوْرد في الجانب الشرقي من بغداد،
ودير سابور غربي دجلة، ودير سمالو، وكلاهما قرب
بغداد، ودير السُّوسي بنواحي سرَّ من رأى (وهي
سامرَّا) ودير الشاء بأرض الكوفة، ودير صباعي
شرقي تكريت، ودير الطواويس بسامرَّا، ودير
العاقول بين مدائن كسرى والنعمانية، ودير
العجَّاج بين تكريت
١٣٩ وهيت، ودير العَلث ودير فثيون،
وكلاهما بسامرَّا وديرَي القباب وقوطا من نواحي
بغداد، ودير القيَّارة عند الموصل، ودير
كرْدشير بين الري وقم، ودير كوم من أعمال
الموصل، ودير مارفثيون بالحيرة أسفل النجف،
ودير مارسرجيس قرب سامرَّا، ودير متَّى قرب
نينوى، ودير مديان على نهر كرخايا قرب بغداد،
ودير مر جرجس بالمزرفة قرية من منتزهات بغداد،
ودير مَرْ ماري من نواحي سامرَّا، ودير يُحنَّا
جانب تكريت، ودير ملكيساوا فوق الموصل، ودير
هِزْقِل في جهات البصرى، ودير الجاثليق، دير
قديم البناء قرب بغداد غربي دجلة، ودير الجب
شرقي الموصل بينها وبين أربل يقصده الناس لأجل
الصرع فيبرأ منه بذلك كثير (ياقوت، ٢: ٦٥١)،
دير الجرعة وهو دير عبد المسيح الحيري، ذكره
سليمان بن ماري وقال: إنه فيه دفن (ص٢٦)، دير
الدهدار، قال ياقوت: إنه دير أزلي كثير
الرهبان، وبناؤه قبل الإسلام، ودير سرجس وبكوس
بين الكوفة والقادسية، ودير اللُّج بالحيرة،
قال ياقوت (٢: ٦٩١) «بناه النعمان بن المنذر
أبو قابوس في أيام مملكته، ولم يكن في ديارات
الحيرة أحسن بناءً منه ولا أنزه موضعًا.»
وغيرها أيضًا تؤيد كثرتها ما قلنا عن انتشار
النصرانية في العراق.
والعرب لم يعرفوا فقط هذه الأديرة ورووا
أسماءها في أشعارهم أو ذكروها في جملة أخبارهم،
بل نُسب كثير منها إليهم أو لوقوعها في ديارهم،
أو لأنهم عُنوا بتشييدها، وكل ذلك ما يزيد
بيانًا قولنا في نفوذ النصرانية بين عرب
العراق، فمن ذلك ما ذكره البكري وياقوت أيضًا
كدير ابن برَّاق بظاهر الحيرة، ودير ابن عامر،
ودير ابن وضَّاح ويسمى أيضًا دير مر عَبدَا
بناه بذات الأُكيراح من نواحي الحيرة عَبدَا بن
حنيف بن وضَّاح اللحياني، ودير حنظلة المنسوب
إلى حنظلة بن عبد المسيح بن علقمة بن مالك من
بني لخم، ودير حنة دير قديم في الحيرة منذ أيام
بني المنذر لقوم من تنوخ يقال لهم: بنو ساطع،
ودير حنة آخر بالأُكيراح بناحية البليخ ذكره
البكري (٣٧٢) ثم قال: «والأُكيراح موضع أيضًا
بالحيرة فيه دير بناه عبد بن حنيف من بني لحيان
الذين كانوا من لخم وملك الحيرة منهم ملكان.»
ودير خندف وهي ليلى بنت حلوان القضاعي أم ولد
إلياس بن مضر بن نزار، ودير السوا المنسوب إلى
رجل من إياد، وقيل: إلى بني حذافة، ودير عبد
المسيح المنسوب إلى عبد المسيح بن عمرو بن
بُقَيلة الغساني الشاعر وأحد المعمرين موقعه في
ظاهر الحيرة، ودير العذارى بين سرَّ من رأى
والحظيرة، وكان يسكنه عدد من أبكار العباديين
وعرب النصارى، روى ياقوت (٢: ٦٨٠) والبيروني في
كتابه الآثار الباقية (éd.
Sachau p. 314) «إن أحد
ملوك الحيرة أراد أن يختار منهنَّ له نسوة
فصُمن ثلاثة أيام بالوصال فمات ذلك الملك في
آخرها، ولم يمْسَسْهنَّ، ومذ ذاك أخذوا يصومون
هذا الصوم المعروف بصوم العذارى.» ودير علقمة
بالحيرة منسوب إلى علقمة بن عدي بن الرميك من
بني لخم، ودير عمرو في جبال طيئ، ودير قرة
المنسوب إلى قرة أحد بني حذافة بن زُهر بن
إياد، ودير اللج للنعمان ملك الحيرة، ودير هند
الكبرى وهند الصغرى وسنعود إلى ذكرهما.
ويخبر عن المتعبدين في تلك الأديرة أو
القلالي الممتدة بين الحيرة والبصرة أنهم كانوا
يجتمعون في الأعياد فيحتفلون بها برونق، وكان
أهل تلك الأنحاء يخرجون إليهم فيحضرون حفلاتهم
ويطلبون منهم شفاء مرضاهم، وكان النسَّاك
يعيشون غالبًا من صيد الأسماك ومن حسنات
المؤمنين.
فهذه أديرة عديدة كلُّها من بناء نصارى العرب
في جهات العراق، فلعمري إنها من أدل الأدلة
وأجْلَى البَيِّنات على علو منار النصرانية بين
عرب الجاهلية.
وما قلناه عن الأديرة يجوز قوله عن عدة كنائس
وبِيَع شيَّدها العرب وأشاروا بذلك إلى تُقاهم
وتحمُّسهم في الدين، وكانوا يتفاخرون ببناء
البِيَع في أحيائهم، قال الفيروزآبادي: وكان في
الحيرة كثير من الكنائس البهية، وقال الزبرقان
بن بدر التميمي لما وفد على محمد يذكر كنائس
قومه (سيرة الرسول، لابن هشام ٩٣٥):
نحن الكِرامُ ولا حيٌّ
يُعادِلُنا
منَّا الملوك وفينا تُنْصَب
البِيَعُ
وقال في معجم البلدان (٢: ٧٠٣): «كان أهل
ثلاث بيوتات يَتبارَون في البِيَع وربها (كذا)
أهل المنذر بالحيرة، وغسَّان بالشام، وبنو
الحارث بن كعب بنجران، وبَنَوا دياراتهم في
المواضع النزهة الكثيرة الشجر والرياض والغدران
ويجعلون في حيطانها الفسافس، وفي سقوفها الذهب
والصور، وكان بنو الحارث بن كعب على ذلك إلى أن
جاء الإسلام.» وقال ابن دُرَيْد في كتاب
الاشتقاق (ed. Wüstenfeld.
226) عن بني عدي: «ومن بني
لخم بنو عدي بن الذُّميل بن أسس لهم بيعة
بالحيرة وكانوا أشرافًا.»
وبيعة خالد بن عبد الله القسري أمير الكوفة
قال ياقوت (١: ٦٩٦): «بناها لأمه وكانت
نصرانية.» ثم «بيعة عدي بن الرميك اللخمي
بالكوفة ذات أشجار ونخل كثير.»
وكان يحق بنا أن نضيف إلى هذه الشواهد جدول الأساقفة
١٤٠ الذين كانوا في القرن الخامس
يدبرون كنائس العراق العربي كالأنبار والحيرة
والبصرة وبيت عربايا وميشان وغيرها، لكن ذلك
يطول بنا فنشير إليه فقط إشارة خفيفة.
لكنَّ الحقيقة تضطرنا أيضًا أن نذكر ما أصيبت
به كنائس بابل والعراق، فإنَّ في أواخر القرن
الخامس نفثت البدعة النسطورية فيها سمَّها
وخدعت كثيرين من المؤمنين والأساقفة فأعاروا
لها أذنًا صاغية وانتموا إلى أصحابها، ثم قامت
بأثرهم البدعة اليعقوبية وانتشرت انتشارًا
عظيمًا في بلاد الجزيرة، وبلغت أيضًا إلى أنحاء
العراق فقامت الحرب الدينية بين البدعتين على
ساق، وكانتا في البيعة الشرقية
١٤١ كالزؤان الذي خنق الزرع الجيد الذي
زَرَعه ربُّ البيت، فلا غَرو أن العرب انقسموا
مع أهل تلك البلاد إلى قسمين، فعدل قسم منهم
ولا سيما أهل القبائل الواقعة شرقي الموصل حتى
خليج العجم إلى النسطورية، بينما كان القسم
الآخر ومقامهم على الأخص في غربي الموصل وفي
ديار ربيعة إلى جهات الرُّهَا وتخوم حلب وحمص
وحماة قد تبع اليعقوبية.
فابتدأ
تقهقر النصرانية مذ ذاك الحين في الشرق فترى
تاريخ الكنيسة الشرقية ينحصر غالبًا في تاريخ
الخصومات والمشاغبات التي سببتها تانك البدعتان
أو ما كان ينوط بهما من البدع والمشاكل، وزاد
في الطين بلَّة تداخل ملوك القسطنطينية من
الروم في أمور الدين، فأقاموا نفوسهم كقضاة في
المعتقدات المسيحية، وكان منهم من يُعَضِّد
البدع وينتمي إليها جهارًا كما فعل قنسطنسيوس
ووالنس اللذان نَصَرا الآريوسية وكزينون
وإنستاس المدافعين عن اليعقوبية، وكهرقل الذي
دافع عن بدعة المنوثليين، فكنتَ ترى المجامع
تتوالى منها كاثوليكية ومنها هرطوقية، فتبطل
هذه ما أثبتته تلك، وكان الأحبار الرومانيون
مهتمين وقتئذٍ بتهذيب أُمَم البرابرة التي هجمت
على المملكة الرومانية، فلا يستطيعون أن
يُداووا أسقام الشرق، كما يشاءون لبُعد الشرق
عن نظرهم أو أيضًا لما كانوا يجدونه في ملوك
الروم وبطاركة القسطنطينية من المخالفة
لأوامرهم، فأصبح الشرق في هرج ومرج واختلت بذلك
أمور الدين وانتقض حبل الإيمان المتين.
وإن تتبعنا تاريخ النصرانية بين عرب العراق
في أواخر القرن الخامس ومدة القرن السادس وجدنا
بينهم رجع صدًى لهذه الحوادث الجارية في
ظهرانيهم وهم منوطون في العراق بالكنيسة
الكلدانية التي تبعت أضاليل نسطور، وفي الجزيرة
وديار بكر وربيعة وأنحاء الرُّهَا بالكنيسة
السريانية التي غلبت عليها الهرطقة
اليعقوبية.
وكان ملوك الحيرة أول من تأثر بهذه الحوادث
فإن السياسة قضت عليهم بأن يتبعوا الدولة
الساسانية التي بسطت حمايتها على النسطورية
وعضدتها في بلاد العراق إلى نصيبين، وذلك بغضًا
بملوك الروم الذين كانوا يتقلبون حينًا مع
البدعة اليعقوبية وحينًا مع الكنيسة
الكاثوليكية، ونرى المؤرخين الروم واللاتين
مضطرين في إيضاح تاريخ ملوك الحيرة، فتتناقض
آراؤهم فيهم؛ إذ كانوا يرونهم في مصاف أعدائهم
الفرس، فبعضهم يجعلونهم وثنيين وبعضهم يذكرونهم
في عداد النصارى، ويروي غيرهم عن أمراء الجيش
ما لا يصحُّ إلا عن الملوك، وبعكس ذلك ينسبون
إلى الملوك ما أتاه الأمراء، وترى شيئًا من هذا
الاضطراب في رواية السريان والعرب، وها نحن
نورد من ذلك ما نراه أقرب إلى الحق.
خلَف المنذرُ الأول في ملك الحيرة أباه
النعمان بعد تَنصُّره وزهده فملك ٤٤ سنة
(٤١٨–٤٦٢م) قضاها في حروب متواترة ضد الروم في
خدمة ملوك الفرس لا سيما بهرام جور بن أزدشير
الذي كان تربى بين عرب الحيرة، وكان بهرام
عدوًّا للنصارى
١٤٢ فامتحنهم في بلاد فارس وجوارها
وصادَرهم وقَتَل منهم كثيرين، تعيِّد الكنيسة
ذكرًا لاستشهادهم، وكأن المنذر وافقه على آرائه
وعاد إلى شرك آبائه القديم، وأخبر سقراط
١٤٣ المؤرِّخ معاصره أنه دخل في بلاد
الروم، فنهب وسلب وأحرق وسبَى وكان يقصد
السَّير إلى القسطنطينية ليفتتحها لكنه لم يفلح
وأُصِيب جيشه بكسرة عظيمة، وقُتل منهم مائة ألف
على قول سقراط، وسبعون ألفًا على رأي الكتبة
السريان.
وقام بالمُلك بعد المنذر أبناؤه الثلاثة
بالتوالي أعني نعمان الثاني (٤٦٢–٤٧١م)
١٤٤ المعروف بابن شقيقة
١٤٥ صاحب الفرقتين الشهباء ودوسر، ثم
الأسود (٤٧١–٤٩١م) ثم المنذر الثاني (٤٩١–٤٩٨م)
ولا نعلم من أمر دينهم شيئًا، بل أخبارهم
مضطربة لا تؤخذ سندًا لتاريخ.
وأثبت منها أخبار النعمان الثالث ابن الأسود
بن المنذر (٤٩٨–٥٠٣م) الذي سها عن ذكره معظم
مُؤرِّخِي العرب إلا حمزة الأصفهاني (ص١٠٤)
وقال: إن أمه كانت تدعى أم المالك، وإنها كانت
ابنة عمرو المقصور أحد ملوك كندة وجد امرئ
القيس الشاعر، غزا أيضًا الروم ونهَب بلادهم
وكان في خدمة الملك قباذ، ولعله هُوَ هُوَ الذي
أشار إليه مُؤرِّخو الروم
١٤٦ لمَّا ذكروا فتح الفرس لمدينة آمد
فقالوا: إن ملك العرب طلب من قُباذ أن لا
يصيبوا بأذًى الذين التجَئُوا إلى كنيسة
الأربعين شاهدًا، وفي هذا دليل إلى ميله إلى
النصرانية لكنه بعد ذلك دالَت عليه الدولة
فكسره الرومان دفعتين، وأخبر يوشع العمودي
المؤرخ السرياني
١٤٧ أن النعمان مشى أخيرًا إلى محاربة
الرُّهَا مع قباذ، ولما نهاهما عن ذلك أحد ضباط
جيشه النصارى، وذكر له قصة الأبجر ملك الرُّهَا
والسيد المسيح غضب عليه وشتم دينه، وكان ذلك
داعيًا إلى موته إذ انتقض جرحه السابق فمات،
فعين قُباذ كخلفه في تدبير الملك رجلًا يدعوه
أبو الفداء وحمزة الأصفهاني وغيرهما أبا يعفر
علقمة، وهذا لم يكن من أبناء الملوك ولعله كان
فقط وليًّا للملك، وإنما كان من أشراف اللخميين
وأحد أبناء أسرة بني ذميل النصرانية التي سبق
ذكرها، فاستخلفه قباذ، ولم يَتولَّ سياسة
الدولة إلا ثلاث سنوات ثم أقيم امرؤ القيس
الثالث الذي لم تطل مدته (٥٠٥–٥١٢م).
وصار الملك من بعد امرئ القيس إلى ابنه
المنذر الثالث الشهير بابن ماء السماء الذي ملك
٤٩ سنة (٥١٣–٥٦٢م) وماء السماء لقب أمه ماوية
(ويُرْوَى مارية) ابنة عوف، وقيل: بل هي أخت
كليب والمهلهل التغلبيين وأن اسمها رُبَيعة،
والعرب دعوها بماء السماء لكرمها ورِقَّة
طباعها، ويدعى أيضًا هذا المنذر بذي القرنين
لضفيرتين كانتَا له من شعره، وكان المنذر
المذكور أرفع ملوك الحيرة قدرًا وأشدهم بأسًا،
وهو الذي انتصر من بليزار أحد أبطال الروم في
زمانه وكبير قُوَّاد يستنيان، أما دينه فإن
شواهد المُؤرِّخِين متضاربة في تعريفه، وما
يُحصَّل منها أنه عرف النصرانية منذ حداثة سنه؛
لأن أمه كانت نصرانية فلا شك أنها لقنته منذ
صغره مبادئ الدين المسيحي، لكنه لمَّا كبر
وتولى الملك تحت سيطرة ملوك العجم عدل إلى
الشرك ودين المجوسية أو بالحَرِي إلى مذهب
مزدك؛ أي المانوية بإيعاز ملك فارس. والظاهر
أنه في أثناء زندقته استقبل الوفد الذي أرسله
إليه ذو نُؤاس بعد قتله نصارى نجران، كما أخبر
الكاتب المعاصر شمعون أسقف بيت أرشم،
١٤٨ منه أن يقتفي آثاره ويقتل نصارى
الحيرة فأثَّر كلام ملك اليمن في المنذر وأراد
أن يختبر صدق إيمان المُتنصِّرِين من جيشه
فدعَا قومًا منهم وعرض عليهم جحود إيمانهم،
فقام أحد صناديد ضباطه فقال له: «إنَّ
تنصُّرَنا قد سبق جلوسك على عرش المناذرة
فهيهات أن تقنعنا بالعدول عن ديننا، وعلى كل
حال إن كان رصفائي لا يثبتون في مذهبهم فإني لا
أجحده مطلقًا، ولست أخاف العذاب ولا الموت كما
تحقَّقتَ ذلك لمَّا رأيتني في وقائع الحروب؛ إذ
لم يكُ سيفي أقصر من سواي.» فلمَّا سمع المنذر
كلامه عرف أنه لا يستفيد شيئًا فعدل عن قصده،
وترك كلًّا من جنوده يتبع دينه، وبقي المنذر
على زندقته زمنًا وعبد كبعض العرب اللات
والعزَّى، ومما أخبره عنه المؤرخ زكريا الخطيب،
١٤٩ وميخائيل الكبير
١٥٠ أنه انتهك في بعض حروبه حرمة
الكنائس والأديرة فنهب وسلَب وأسر في أراضي
الرومان عددًا من الأسرى بينهم ٤٠٠ من العذارى
الراهبات قَتلَهن وقدَّمَهن كذبائح
للعُزَّى.
على أن المنذر لم يثبت في زندقته، بل جحد
الوثنية ونبذ مذهب مزدك، بل تنصَّر بعد ذلك،
١٥١ كما يؤخذ من شهادات المُؤرِّخِين
الروم والسريان والعرب، وقد روى صاحب الأغاني
(١٩: ٧٧)، والقزويني (ص٢٨٥) وغيرهما خبر
تنصُّره في مطاوي ذكرهم للغريَّين قالوا: إن
المنذر المذكور إذ كان قتل في بعض أيام ثملته
اثنين من أعز ندمائه عمرو بن مسعود، وخالد بن
المضلل أقام على قبريهما غريَّين أو طربالين،
واتخذ لهما يومين يوم نعيم كان يغني فيه من
أتاه قبل غيره ويوم بوس كان يقتل فيه أول وافد
عليه، فقتل في إحدى السنين عَبيد الأبرص الشاعر
ثم أتاه في سنة أخرى أحد مضيفيه المحسنين إليه
في يوم صيده يُدعى حنظلة بن أبي عفراء الطائي
وهو يُرجِّي خيرًا، فلم يَرَ المنذر بُدًّا من
قتله لئلَّا يحنث بوعده إلا أن حنظلة طلب تأجيل
الحكم لمدة معلومة، واتخذ له كفيلًا شريك بن
عمرو الشيباني، فلمَّا جاء اليوم المعهود وكاد
يُنفَّذ الحكم في الكفيل رجع حنظلة مستعدًّا
ليُقتَل، وإذ قضى الملك المنذر منه العجب سأله
ماذا دفعه إلى القيام بوعده فأجاب أن دينه
النصراني دفعه إلى ذلك، فتَنصَّر المَلِك وأهل
الحيرة معه، هذا ما رواه العرب، ومنهم من ينسب
الأمر إلى النعمان الأول وغيرهم يروونه عن
النعمان أبي قابوس، إلا أن أصحاب النقد
يرجِّحون أنه المنذر الثالث ابن ماء السماء،
وهو يؤيد كما ترى ما قلناه عن تنصر المنذر.
١٥٢
قال أبو الفداء في تقويم البلدان
(
ed. Reinaud, p.
229): «كانت الحيرة منازل
آل النعمان بن المنذر وبها تَنصَّر المنذر بن
امرئ القيس وبنى بها الكنائس العظيمة.» ومن
الحيرة كان أحد كبار السياح المعروف بمار
يوحنان (
Chabot: Le livre de la
Chasteté., p. 28) الذي
تَنسَّك في جبل الإزل في دير معرتا، قال
مُؤلِّف كتاب العفاف السرياني
إنه «كان من الحيرة عربي الأصل من أسرة شريفة
وبعد أن دَرَس في مدرسة نَصِيبِين تَرهَّب في
دَيْر معرتا وكرمه الله بعمل المعجزات.»
أما حنظلة فروى ياقوت (٢: ٦٥٥) أنه بعد نجاته
من الموت زهد في الدنيا وابتنى ديرًا قريبًا من
الفرات عند الرحبة دُعي باسمه دير حنظلة، وكان
حنظلة عم إياس بن قبيصة الذي صار ملكًا على
الحيرة بأمر ملك العجم كما سترى.
وقد جاء
أيضًا في تاريخ
١٥٣ ابن العبري (مختصر الدول ١٤٨) أن
المنذر كان يعتقد اعتقاد اليعقوبية كنصارى
العرب إلا أن ابن العبري ليس مصيبًا في ذلك
ولعله انخدع بشهادة بعض المؤرخين اليعاقبة
مثله، ولنا على صحة إيمان المنذر دليل لامع،
وهو ما رواه المؤرخ اليوناني تاوفانوس قال: إن
ساويريس البطريرك السرياني الدخيل أراد أن
يجتذب إلى بدعته ملك الحيرة، فأرسل إليه أسقفين
ليقنعاه بأن في المسيح طبيعة واحدة ليس طبيعتين
كما تُعلِّم الكنيسة الأرثذكسية، فالملك سمع
كلامهما ساكتًا ثم فضَّ كتابًا كان في يده فبدت
عند قراءته الكآبة على وجهه، فسأله الأسقفان:
ما الأمر؟ فقال: قد أبلغني كاتب هذه الرسالة أن
رئيس الملائكة قد تُوفِّي، فهذا الخبر قد
أمعضني جدًّا، فضحك الأسقفان حتى قهقها وقالَا
للملك: كيف يمكن أن يموت ملاك لا جسد له، فهذا
كذب محض، فأردف الملك وقال لهما: وكيف أنتما
تزعمان أن المسيح وهو ذو طبيعة إلهية مفردة قد
مات، أليس هذا أعظم كذبًا وضلالًا؟ ثم رد
الأسقفين خائبين.
١٥٤
فيظهر من جواب المنذر لهذين الأسقفين أنه ليس
فقط كان نصرانيًّا، بل كاثوليكيًّا يؤيد ذلك
المؤرخ فكتور التونوي المتوفى سنة ٥٥٦م، فقال:
إن المنذر تعمَّد على يد أساقفة من أنصار
المجمع الخلقيدوني.
١٥٥
وكان هذا المجمع قد عُقد سنة ٤٥١م وحضره
أسقفان من العرب أوسطات ويوحنَّا فوقَّع كلاهما
على أعماله باسم أسقف السراكسة أو الشرقيين،
وعلى رأي البولنديين المشهورين بتدقيقهم في
البحث أن البدعتين اليعقوبية والنسطورية لم
تفشوا بين عرب العراق إلا بعد أواسط القرن
السادس في أيام فيروز ملك العجم، لمَّا أطلق
العنان لبرصوما، إلا أن السمعاني في المكتبة
الشرقية (مج٣ الجزء ٢، ص٦٠٥) يَرْتَئي أن
البدعتين أُخِذتَا في الانتشار منذ أواسط القرن
الخامس ويأتي ببعض الشواهد لتأييد قوله، وكان
للنسطورية في العراق السهم الأفوز.
وكانت وفاة المنذر ابن ماء السماء في يوم حليمة
١٥٦ أحد أيام العرب الشهيرة بين
اللخميين وبني غسَّان، فضبط زمام الملك ابنه
عمرو بن المنذر الشهير بعمرو بن هند (٥٦٢–٥٧٤م)
واشتهر كأبيه بعدة وقائع مع الروم وعرب غسَّان
وعرب اليمامة وغيرهم، أما دينه فالنصرانية، لنا
على ذلك شاهد جليل رواه أبو عبيد البكري الوزير
في معجم ما استعجم (ص٣٦٤)؛ وياقوت في معجم
البلدان (٢: ٧٠٩) في وصف دير هند الأقدم أو دير
هند الكبرى
١٥٧ أم عمرو وابنة الحارث بن عمرو بن
حجر الكندي قال:
«وكان في صدره (أي صدر دير هند) مكتوب: بَنَت
هذه البِيعَة هند بنت الحارث بن عمرو بن حُجر
الملكة بنت الأملاك وأم الملك عمرو بن المنذر
أَمَة المسيح وأم عبدِه وابنة عبده في زمن ملك
الأملاك خسرو أنوشروان وفي زمن أفرائيم الأسقف،
فالإله الذي بَنَت له هذا الدير يغفر خطيئتها
ويترحَّم عليها وعلى ولدها ويُقبل بها وبقومها
إلى أمانة الحق ويكون الإله (وروى ياقوت: الله)
معها ومع ولدها الدهر الداهر.»
فهذا القول من أوضح البينات على نصرانية عمرو
بن هند بل على نصرانية ملوك كندة كما
ترى.
وخلف عَمْرو بن هند النعمان بن المنذر
١٥٨ وهو صاحب عدي بن زيد الشاعر
النصراني العبادي الشهير، وعلى ما يستنتج من
رواية مُؤرِّخِي السريان أنه كان نصرانيًّا قبل
جلوسه على سَدَّة المُلك، أما العرب فيخبرون
أنه تَنصَّر على يد صهره عديِّ بن زيد زوج
ابنته هند بنت النعمان، ومارية الكندية
المعروفة بالحُرَقة، وقد روى غير واحد منهم
(راجع الأغاني ٢: ٣٤) أن النعمان مرَّ بمقبرة
فأنشده عدي أبياتًا زُهْديَّة (اطلب: شعراء
النصرانية، ص٤٤١-٤٤٢) كانت سبب تنصُّره،
١٥٩ بل روى أبو الفرج أنه «لبس المسوح
وتنصَّر وتَرهَّب وخرج سائحًا على وجهه، فلا
يُدْرى ما كانت حاله فَتنصَّر ولده بعده
وبَنَوا البِيَع والصوامع.»
١٦٠
على أنك رأيتَ مِمَّا سبق أن ملوك الحيرة
تَنصَّروا قبل ذلك، وقد جاءت أخبار النعمان بن
المنذر مضطربة، فمنهم من أخبر أنه فتَك بعَدِي
بن زيد فقتله فقام ابن عدي المدعو زيدًا كجده
فسعى به لدى كسرى أنوشروان فحبسه وقتَله، وروى
غيرهم ولعله الأصح أن قاتِل عدي بن زيد إنما هو
خلَفُه المنذر أبو قابوس.
١٦١ أما ابنته هند فزهدت بالدنيا
وعمَّرت لها ديرًا عُرف بدير هند، ولهند هذه
قصة مشهورة مع سعد ابن أبي وقاص بعد يوم
القادسية ثم مع المغيرة بن شعبة الذي خطبها
لمَّا تولَّى الكوفة فَردَّتْه ردًّا لطيفًا
وماتت في رهبانيتها.
ومما لا يُنْكَر أن النصرانية غَلَبت بعد ذلك
على ملوك الحيرة وأهلها العرب حتى يجوز القول
بأنها عمتهم قاطبة، وأن المسلمين لمَّا فتحوا
مملكة المَناذِرة وجدوها مملكة نصرانية في
دينها وآدابها وعاداتها، ومن بعض أصحابها أخذ
العرب كتابتهم كما مر في المشرق (٤: ٢٧٨–٢٨٢)
وإن كانت بعض فروع الكتابة أَتتهم أيضًا من
نصارى النبط، ومن أهل دَوْمة الجندل، ومن
الحبشة كما ورد هناك أيضًا، وأثبتته الاكتشافات
الأثرية الأخيرة. وكان المُتولِّي على عرب
الحيرة في عهد الفتح الإسلامي إياس بن قبيصة
الطائي كان كسرى أبرويز ولَّاه عليهم بعد وفاة
المنذر ريثما يُعَيِّن لهم ملكًا من أبنائه،
فبقي على ولايتهم إلى دخول المسلمين في الحيرة،
ونصرانية إياس المذكور ثابتة لا شك فيها كما رأيت.
١٦٢
(٨) الباب الثامن: النصرانية في الجزيرة
تَتبَّعْنَا آثار النصرانية بين العرب في
الجاهلية على حدود بحر فارس ثم في جهات العراق،
ورأينا ما خَلَّفَتْه لنا التواريخ من أخبار
الدين المسيحي في الممالك الثلاثة الكبرى التي
اقْتسَمَت جزيرة العرب، أعني دول الغساسنة
والتَّبابِعَة والمَناذِرة، وحتى الآن لم
نَستوفِ مآثر نصارى العرب على التخوم الفاصلة
بلادهم عن البلاد المجاورة.
فمما لم نَذكُره حتى الآن السهول الواسعة
والبقاع الرحبة الممتدة من جهات الموصل إلى
مجرى الفرات المتوسطة بين الأرمن والشام، فهناك
مَفاوِز مُتَّسِعة يسقيها النهران الكبيران
دجلة والفرات مع عدة أنهار تنصب فيها أخصها
الخابور. فتلك البوادي التي كانت الأمم القديمة
تتزاحم في ملكها لخصبها العجيب ووفرة خيراتها
وسعة غلاتها أزهرت فيها مدن عديدة وحواضر
ممصَّرة لم يَبْقَ من أكثرها اليوم غير أخربة
مهيبة أو مدن ثانوية تنبئ بعظم مقامها في
القرون الغابرة كنصيبين، ودارا، ودُنيسر، وآمد،
ومَيَّافارِقِين، وسعرت، ومارِدِين،
والرَّقَّة، ورأس العين، وقرقميش، وقرقيسيا،
والرُّهَا، التي يطلق على مجموعها اسم
الجزيرة.
فتلك البلاد المُتدفِّقة بالنِّعَم الزاخرة
بالخير قد أحبتها منذ سالف الأجيال قبائل العرب
سواء كانوا من أهل الحَضَر أو من أهل المدر؛ إذ
كانوا يجدون فيها ما يصلح لمعاشهم الساذج
ولرعية مواشيهم فيتنقلون إذا شاءوا من الأرياف
إلى البراري ليس مَن يتعرض لاستقلالهم أو
يتداخل في أمورهم غير شيوخهم وأمراء
عشائرهم.
وما يدل على انتشار القبائل العربية في
الأنحاء المذكورة أَعلامُها المشيرة إلى
قاطنيها كباعربايا، وجزيرة ابن عمر، وديار
ربيعة، وديار بكر، وديار مُضر، وغير ذلك ممَّا
ينوِّه اسمه بأصل سكانه، فباعربايا أو بيت
عربايا اسم لثلاثة أماكن احتلَّها العرب أخصها
مدينة كانت قريبة من نصيبين، وجزيرة ابن عمر
وعلى الأصح «ابني عمر» هي مدينة موقعها على
دجلة يدعوها الكلدان بازَبْدى ثم نُسِبَت إلى
ابني عُمَر، وهما على ما روى ابن خلكان «أوس
وكامل ابنا عُمَر بن أوس التغلبي».
أما ديار بكر، وديار ربيعة، وديار مُضر فقد
أحسن في وصفها ياقوت في معجم البلدان (٢:
٦٣٦–٦٣٨) فقال عن ديار بكر:
«ديار بكر هي بلاد واسعة تُنْسَب إلى بكر بن
وائل … بن ربيعة بن نزار بن مَعَد بن عدنان،
وحدُّها ما غرَّب من دجلة من بلاد الجبل المطل
على نَصِيبِين إلى دجلة، ومنه حصن كَيْفا وآمد
ومَيَّافارِقِين، وقد يتجاوز دجلة إلى سعرت
وحِيزَان وحِينِي، وما تخلل ذلك من البلاد ولا
يتجاوز السهل.»
وقال عن ديار ربيعة:
«ديار ربيعة بين الموصل إلى رأس عين
ودُنَيْسر والخابور جميعه، وما بين ذلك من
المدن والقرى، وربما جُمِع بين ديار بكر وديار
ربيعة وسُمِّيت كلها ربيعة فإنهم كلهم ربيعة،
وهذا اسم لهذه البلاد قديم كانت العرب تحلُّه
قبل الإسلام في بواديه واسم الجزيرة يشكل
الكل.»
وقال في ديار مُضَر:
«ديار مُضَر هي ما كان في السهل بقرب من شرقي
الفرات نحو حرَّان، والرَّقَّة، وشِمْشاط،
وسروج تل مَوْزَن.»
أما القبائل التي كانت تسكن في تلك الجهات،
فكانت من ذرية نزار بن معد، كإياد بن نزار بعد
فرارهم من تخوم العجم ومضر بن نزار منهم بنو
النَّمِر بن قاسط، ولا سيما بني ربيعة منهم
خصوصًا بني تغلب، وبني بكر، وبني شيبان، قال
أبو محمد الحسن الهمداني في كتاب صفة جزيرة
العرب (ص١٣٢، éd. D. H.
Müller) يذكر مَنازل تلك
القبائل:
«ثم تأتي الفرات من بلد الروم شاقًّا في طرف
الشام على التواء إلى العراق فغربيُّه ديار
كَلْب، وشرقيُّه ديار مُضَر «فيها» من المدن
الرافقة وهي على شط الفرات يسكنها أخلاط مُضر،
وحرَّان موضع آلة القياس مثل الأسطرلاب وغيرها
… لبني تميم، ومن يخالط بني سُليم، والرُّها
لبني سُلَيم وكنيسة الرُّها التي يُضرب بها
المثل، ومَرْبَعا والخابور لبني عُقَيْل أعلاه،
ولبني مالك وبني حبيب وبطون تغلب الباقي، ثم
آخر ديار مُضَر رأس العين للنمر بن
قاسط.»
«ديار ربيعة، وما خلفها، أولها وآخر ديار
مُضر رأس العين، ثم كفرتُوثا لجشم عن أياسرها
مارة من موضع الجنات المضروب بها المثل، وهي
تطل على دَارِين ثم نَصِيبِين … وهي دار آل
حمدان بن حمدون موالي تغلب، فمن نَصِيبِين إلى
أَذْرَمة والسُّمَيعية مسيرة يوم، وعن أيمن ذاك
جبل سنجار جبلُ شَراة بين تغلب والشَّراة منها
بنو زهير، وبنو عمرو ثم من أيمن ذلك دُهُنَّا
إلى رحبة مالك بن طوق وقرقيسيا ثم ترجع إلى
أذرمة إلى برقعيد، وهي ديار بني عبد من تغلب …
ثم منها إلى بلَدَ وفيها شَراة وغير ذلك إلى حد
الموصل، وإن أردتَ بعد أرض الموصل مررت بتكريت،
وكان «نهر» الثرثار عن يمينك، وأكثر أهل الموصل
مَذْحِج وهي رَبِعية فإن تياسرت منها وقعتَ إلى
الجبل المسمَّى بالجُودِيِّ يسكنه ربيعة، وخلفه
الأكراد، وخلف الأكراد الأرمن، وإن تيامنتَ من
الموصل تريد بغداد لقِيَتْك الحديثة وجبل
بارمَّا يُسمَّى اليوم حُمْرين … ثم السن
والبوازيج بلاد الشَّراة من ربيعة ثم يقع في
جبل الطور البَرِّي وهو أول حدود ديار بكر وهو
لبني شيبان وذويها لا يُمازِجُهم إلى ناحية
خراسان إلا الأكراد.»
فإذ عرفتَ حدود الجزيرة والقبائل العربية
المنتشرة فيها
١٦٣ بقي علينا أن نُبيِّن ما كان
للنصرانية من النفوذ بينها فنقول:
إن أوَّل برهان يُثْبِت دخول النصرانية بين
عرب الجزيرة ما أصاب هذا الدين من الانتشار
السريع الغريب فيما بين النهرين كما تُصرِّح به
كل الآثار التاريخية والكتابية والبنائية
كالكنائس الباقية إلى يومنا الراقية إلى القرن
الرابع والخامس للمسيح، وكصوامع الرهبان
ومغاورهم، فلا يقبل العقل أن عرب الجزيرة لم
ينالوا من الدعوة المسيحية حظَّهم كما أصابه
إخوتهم في بادية الشام، وفي اليمن والعراق ولهم
في شظف عيشهم وسلامة طباعهم ما يُعِدُّ قلوبهم
لقبول ذلك الزَّرع الإلهي الذي أتى به ابن الله
إلى الأرض وبذره في التربة الجيدة، ولا سيما
بعد أن عاين أهل الجزيرة مع العرب (أعمال ٢:
٩–١١) المعجزات التي جَرَت يوم حلول الروح
القدس في أورشليم.
ولنا دليل ثانٍ على تديُّن عرب الجزيرة
بالنصرانية بعد نَبْذِهم لشرك الوثنية ألا وهو
الغيرة الملتهبة التي كانت في قلوب الرُّسل
والدعاة الأولين للنصرانية، فإن بعضهم بلغوا
إلى أقاصي الأرض كما رأيتَ فما قولك بالبلاد
بالمجاورة لليهودية التي كثرت فيها المعامَلات
مع فلسطين منبع الدين المسيحي.
ثالثًا: وإن استفتينا التواريخ القديمة،
والتقاليد المحلية، والطقوس السريانية
وَجدْنَاها كلها تَتفِق على ذِكْر دعوة العرب
إلى الإيمان بالمسيح كدعوة بقية أهل الجزيرة،
قال عبد يشوع الصوباوي في ذِكْر إدي رسول
الجزيرة ما تعريبه: «قد اقْتبَلَت الرُّها ثم
نَصِيبِين وسائر العرب وكل تخوم الجزيرة
الكهنوت المُقدَّس من إدِّي أحد السبعين
تلميذًا.» وقال إيليَّا الأسقف الدمشقي يذكر
إِدِّي وتلميذه ماري: «وكان الداعي والمُنَصِّر
والمُتلمِذ والمُدبِّر بالجزيرة والموصل وأرض
بابل والسواد … ونواحي الأعراب من التلاميذ
السبعين إدِّي وماري.»
١٦٤ وقال ماري بن سليمان
(
éd. Gismondi, p.
2): «وتوجَّه آحي وماري
(تلميذَا إدي) إلى نَصِيبِين وأَعْمدَا أهلها،
وأنفذ ماري إلى المشرق وآحي إلى قَرْدَى
وبَازَبْدَى، ثم توجه إدِّي إلى المشرق وبدأ
بناحية حزَّة والموصل وباجَرْمَى، وعاد إلى
مدينة الرُّهَا واستناح فيها بعد ١٢ سنة …»،
وقال أيضًا: «وإدِّي قصد مع آحِي ومار ماري
بلاد الرُّهَا، والموصل، وبابل، والشمال
والجنوب، وبوادي المغرب (والصواب: العرب).»
وجاء في أخبار فطاركة كرسي المشرق، لعمرو بن
متَّى الطيرهاني (ص١
éd.
Gismondi) مصرِّحًا: «ثم
إنه (أي ماري) بادَر إلى تلماذ جميع نواحي أرض
بابل والعراقين والأهواز واليمن والجزائر وبلاد
العرب سكان الخيم ونجران وجزائر بحر
اليمن».
ويُمكِنَّا أن نضيف إلى هذه الشهادات ما
رويناه سابقًا عن تبشير عرب العراق، فإن
الشواهد المروية هناك عن الرسل وتلاميذهم تصحُّ
في عرب الجزيرة، ومثلها أقوال المؤرخين في
بشارة الرسول برتلماوس للعرب، وكذلك ورد في
السنكسارات القديمة وفي خطط المقريزي.
١٦٥ أن يهوذا الرسول المعروف بتداوس
«كرز في سورية والجزيرة».
رابعًا: وإن تَخطَّيْنا عهد الرسل إلى القرن
الثاني والثالث للمسيح رأينا بلاد الجزيرة
زاهرة بالدين النصراني، ففي الرُّهَا كانت
الترجمة الأولى للكُتُب المُقدَّسة إلى
السريانية، وهي الترجمة المعروفة بالبسيطة في
أواخر القرن الأول للمسيح أو أوائل الثاني.
١٦٦ وهناك تولى طاطيانوس تلميذ القديس
يوستينوس الفيلسوف الشهيد في القسم الثاني من
القرن الثاني تنسيق الأناجيل الأربعة برواية
واحدة تُعْرَف بالدياطاسارون.
١٦٧ وهناك تنصَّر الأباجرة ملوك
الرُّهَا سواء يُسلَّم بصحَّة المكاتبة بين
السيد المسيح والأبجر المعروف بأوخاما كما
تَعتقده الكنائس السريانية أو يُؤَجَّل
تنصُّرهم إلى أيام كراكلَّا برجوع أبجر التاسع
(١٧٩–٢١٤م) وهناك عُقِد مَجمعان واحد ذكره
أوسابيوس في تاريخه (ك٥، ف٢٢) نحو سنة ١٥١
للمسيح الْتَأَم فيه ١٩ أسقفًا للنظر في أمر
الفِصْح وتعيين يومه.
١٦٨ والآخر عُقِد بعده بزمن قليل للفحص
عن أقوال بعض المبتدعين كتاودوطس، وأبيون،
وأرتيمون حضره ١٤ أسقفًا.
١٦٩ فكفى بعدد هؤلاء الأساقفة دليلًا
على انتشار الدين المسيحي في زمن قريب من رُسل
الرَّب يؤيد ما جاء في تقاليد كنائس الجزيرة عن
أسماء عدة أساقفة رعوا المؤمنين قبل القرن
الرابع في مدن عديدة كنَصِيبِين وبازَبْدَى
(جزيرة بني عمر) وآمد والرَّقَّة وهلمَّ
جرَّا.
أما كون العرب هناك كانوا من جملة
المُتنصِّرِين فيشهد عليه ابن ديصان الذي عاش
في الرُّهَا (١٥٤–٢٢٢) فيذكر أهل الرُّهَا وأهل حضر.
١٧٠ وكانوا من عرب قُضاعة عليهم ملك
يمتد ملكه في أنحاء الجزيرة، فقال عنه عدي بن
زيد:
وأخو الحَضْر إذ بناه وإذ
دجـ
ـلةُ تُجْبَى إليه
والخابورُ
خامسًا: ثم جاء القرن الرابع والخامس فكانا
زمن انتصار الدين المسيحي في العالم الروماني،
فظهرت النصرانية في كل رونقها وجلالها في أنحاء
الجزيرة فاسْتَقَت القبائل العربية هناك من
مواردها العذبة، وكان ذلك على الأخص بواسطة
الرُّهْبان والسُّيَّاح الذين اختاروا بلاد
الجزيرة ليقدسوها بفضائلهم كما قَدَّس سيَّاح
مصر بلاد الصعيد، وكان مُنشِئ العيشة الرهبانية
في الجزيرة القديس أوكين من تلامذة القديس
أنطونيوس الكبير، وقد أجمع المُؤرِّخُون
الكلدان والسريان أنه قدم من مصر في العشر
الثاني من القرن الرابع، وسكن في جبل نَصِيبِين
المسمَّى جبل الإزْل وبشَّر بالإيمان في
نَصِيبِين، وعمَّد عاملها وأولاده، وطاف بلاد
قَرَدَى وبَازَبْدَى وجهات نَصِيبِين، حيث كانت
قبائل العرب وتَلْمَذ الناس وبنى الأديرة، منها
دير الزعفران مقام بطاركة اليعاقبة في يومنا
وهو قرب مارِدِين، وتَتلْمَذ له عدد من
الرهبان، وكانت وفاة مار أوكين في
نَصِيبِين.
ويؤيد شهادة السريان المُؤرِّخ اليوناني
المعاصر سوزومان.
١٧١ في الكتاب السادس من تاريخه (الفصل
٣٤) فقال عنه: إن أوكين وهو دعاه أونس
(Aónes) جارى
القديس أنطونيوس بنشره المناسك الرهبانية في
الجزيرة وفي تخوم العجم، وقال عنه: إنه سكن في
نواحي نَصِيبِين في فادانا
Phadana ثم انتقل المُؤرِّخ
إلى ذكر تلاميذه أو المتشبهين بسيرته، فذكر في
جبل سنجار: باتَّاوس، وأوسابيوس، وبرجس، وكالس،
وآبا، ولعازر الذي سُقَّف بعد ذلك على
نَصِيبِين، وعبد الله، وزينون، وهليودورس، وذكر
في حرَّان: أوسابيوس الحبيس، وبروتوجان الذي
تولَّى الأسقفية على حرَّان بعد بيتوس.
وذكر السريان من تلامذة مار أوكين القديس
شليطا الراهب الذي بَشَّر بالإيمان في
بَازَبْدَى ثم سابا الذي عمَّر هناك ديرًا،
ويوحنا الذي كان يطوف القرى وينصِّر الناس،
وآحا أخا يوحنا.
١٧٢ ثم تَبِعَهم آخرون كثيرون وعمَّروا
الأديرة العديدة حتى صارت بعض أنحاء الجزيرة
كمدن رهبانية، لا سيما الأمكنة المُقْفِرة
والجبال كالجبل المعروف بطور عابدين في شمالي
شرقي مارِدِين وجبل الإزْل السابق ذكره، وجبال
الموصل والرُّهَا، وزعم بعض المُؤرِّخِين أن
بين هذه الأديرة ما كان يبلغ عدد رُهْبانه عدة
آلاف منها للرجال ومنها للعذارى.
١٧٣ وقد بَقِي من هذه الأديرة إلى
يومنا آثار ظاهرة وبقايا مُعتَبَرة، فإن حضرة
القس إسحاق أرملة وصف في مقالة نفيسة الأديرة
التي تُرى آثارها بقرب مارِدِين فقط (اطلب:
المشرق، ١٢: ٧٦٠).
واشتهر
مع هؤلاء كثيرون من كبار المعلمين والأولياء
كالقديس يعقوب النَّصِيبِيني، والقِدِّيس
أفرام، والأساقفة القديسين برسيس وأولوجيوس،
وربُّولا، والقديس بوليان سابا.
فهؤلاء كلهم أو أكثرهم اختلطوا بعرب الجزيرة
ونصَّروهم ودَعَوْهم إلى الدين المسيحي، وكانت
سيرتهم الملائكية تُؤثِّر في أهل البادية
فكانوا يقصدونهم ويلتمسون صلواتهم ويطلبون منهم
شفاء أمراضهم فينالون غالبًا مُلْتَمَسهم،
ويقبلون دين المحسنين إليهم فيعتمدون، وذلك منذ
القرن الرابع كما تشهد عليه نصوص المُؤرِّخِين
حتى أمكن السمعاني أن يقول في مكتبته الشرقية
(٤: ٥٩٨): إن العرب الذين كانوا يسكنون في
الجزيرة ونواحي الكلدان والخليج العجمي عَدَلوا
إلى الدين المسيحي قبل السنة ٣٢٠ للمسيح بهمة
أساقفة الرُّهَا والمدائن والرُّهْبان
المنتشرين بينهم.
وممن شهد على تَنصُّر العرب المؤرِّخ
اليوناني سوزومان، فقال في تاريخه (ك٦، ف٣٤) عن
الرهبان: «إن هؤلاء النُّسَّاك قد جذبوا إلى
دين المسيح كل السُّرْيان تقريبًا وعددًا
عظيمًا جدًّا من الفُرْس والعرب بعد أن أنقذوهم
من عبادة الأصنام.»
وقد مر بك ما رواه تاودوريطس عن القديس سمعان
العمودي وقبائل العرب التي تنصَّرت على يده،
وكان كثير منها تَقاطَرَت إليه من العراق
واليمن، فما قولك بالقبائل التي كانت قريبة منه
كقبائل الجزيرة؟
سادسًا: وكما شهد كَتَبة السريان واليونان
على نصرانية قبائل الجزيرة، كذلك وافقهم كَتَبة
العرب على هذا الأمر كما سترى.
اعلم أن مُؤرِّخي الإسلام مع قلة ما كتبوا عن
عرب الجزيرة في الجاهلية ذكروا غير مرة
نصرانيتهم، وصرحوا كما بَيَّنَّا سابقًا
بنصرانية بني إياد بن نزار (المشرق، ١٤: ٨٨٩)
سواء قيل: إنهم تنصَّروا قبل دخولهم في حكم
الرومان أو بعد خروجهم من بلاد فارس إذ لحقوا
بالجزيرة، وكذلك أثبتوا نصرانية ربيعة
المُحَتَلِّين في ديار ربيعة وديار بكر، قال
ابن قتيبة في كتاب المعارف (طبعة مصر، ص٣٠٥):
«وكانت النصرانية في ربيعة.» وقال صاحب السيرة
الحلبية (ج٣، ص٩٥): «ومن قبائل العرب
المُتنَصِّرة بكر وتغلب ولخم وبَهْراء وجذام.»
وبقيت بعض هذه القبائل على نصرانيتها زمنًا
طويلًا بعد الإسلام كما ترى في الآثار الباقية
وفي كُتُب العرب والسريان، بل ربما ذكروا
أساقفة لبني مَعد وتَنُوخ وعقيل،
١٧٤ وجاء في ترجمة مَارُوثا أسقف تكريت
أنه جعل تحت حكمه ثلاثة أساقفة كانوا يُدبِّرون
قبائل العرب؛ وهم أسقف بيت رامان أو بيت رزيق،
ثم أسقف بني جرم، وأسقف بني ثعلبة.
١٧٥
وكان نصارى غَربِيِّ الجزيرة يترددون إلى
مشهد القديس سرجيوس
١٧٦ أو سرجيس الشهيد في الرُّصَافة
١٧٧ (Sergiopolis) ويعظمونه،
وكانت صورته مع الصليب على راياتهم الحربية،
قال الأخطل (اطلب ديوانه، ٣٠٩):
لمَّا رَأَونا والصليب
طالعا
ومار سرجيسٍ وموتًا
ناقعا
وأبْصَروا راياتنا
لوامعا
خَلَّوا لنا راذان
والمزارعا
وقال جرير:
أفبالصَّليب ومار سرجس
تتقي
شهباءُ ذات مناكبٍ
جمهورا
وقال أيضًا:
يستنصرون بمار سرجسَ
وابنهِ
بعد الصليب وما لهم من
ناصرِ
ثامنًا: ويؤيد شهادة العرب عن النصرانية في
الجزيرة ما رَوَوْه عن أديرتها هناك، فمما ذكره
ياقوت (في معجم البلدان، ٢: ٦٤١–٧١٠) دير
الأبيض قرب الرُّهَا، وهو مُشْرِف على حرَّان،
ودير أَحويشا بسعرت (قال: فيه ٤٠٠ راهب)، ودير
باثاوا بقرب جزيرة ابن عُمَر، ودير باعربا بين
الموصل والحديثة، ودير باغوث بين الموصل وجزيرة
ابن عُمَر، ودير باطَّا بين الموصل وتكريت،
ودير بانخايال (أو مخائيل) في أعلى الموصل،
ودير الرُّصافة قرب الرَّقَّة، ودير الرمَّان
بين الرَّقَّة والخابور، ودير الزُّرْنُوق على
فرسخين من جزيرة ابن عُمَر، ودير الزَّعْفَران
(مرَّ ذكره)، ودير زَكَّى على باب الرُّهَا،
ودير صَلُوبا من قرى الموصل، ودير عَبْدُون قرب
جزيرة ابن عمر، ودير العذارى من أعمال
الرَّقَّة بين الموصل وبَاجَرمَى، ودير
قِنِّسْري على شاطي الفرات في نواحي ديار مُضَر
على أربعة فراسخ من مَنْبِج، كان يسكنه ٣٧٠
راهبًا، ودير الكلب بين الموصل وجزيرة ابن عمر
كان الناس يلتجئون إلى رهبانه إذا أُصِيبوا
بداء الكَلَب فيبرَءُون، ودير لُبَّى على
الفرات من منازل بني تغلب، ودير مار سَرْجِيس
على الفرات، ودير مَتَّى بشرقي الموصل شهير،
ودير مَرْتُوما بمَيَّافارِقِين، ودير مر جرجيس
فوق بلدَ بينها وبين جزيرة ابن عمر، ودير
مَرْماعُوث على شاطئ الفرات، ودير مر يُوحَنَّا
إلى جانب تكريت على دجلة، ودير منصور مُطل على
نهر الخابور، ودير يونس في جانب دجلة مقابل
الموصل.
غير أن النصرانية في الجزيرة منذ أواسط القرن
الخامس تشوَّهت بأضاليل البدع، ولا سيما البدعة
اليعقوبية التي انتشرت في تلك الجهات انتشار
العدوى القاتلة، ففصلتها عن مركز الوحدة
وأوقعتها في لُجَّة الضلال.
قال يوحنا الأفسسي في تاريخه السرياني: إن ما
جرى بين قبائل العرب المُتنصِّرة من الجدال
بسبب المجمع الخلقيدوني شَتَّت شمل كثيرين منهم
حتى أصبحوا خمس عشرة فرقة، ومثله قال ميخائيل
الكبير وابن العبري في تاريخهما الكنسي.
١٧٨ على أن الكَتَبة اليعاقبة يلقون
التَّبِعَة على الكاثوليك، وكان الأحرى بهم أن
يلقوها على سوء تصرُّفهم وعصيانهم على المجمع
المسكوني.
وكان رهبان النَّساطرة واليَعَاقبة يتسابقون
إلى عرب البادية ليبثُّوا بينهم زؤان أضاليلهم.
كأحُودمه (٥٥٩–٥٧٥م) تلميذ يعقوب البردعي الذي
أخبر عنه ابن العبري في تاريخه الكنسي:
١٧٩ «أنه لمَّا صار مفريانًا على
المشرق ذهب ليدعو إلى النصرانية القبائل
العربية الساكنة في الخِيَم، ورَدَّ منهم
كثيرين وجعل عليهم كَهنَة ورهبانًا، وابتنى لهم
ديرين يُدعى الواحد دير عين قنَّا، والآخر دير
جثان بقرب تكريت.»
واشتهر بين اليعاقبة بعد ذلك «جرجس أسقف
العرب» فإن هذا كان من علماء عصره نقل إلى
السريانية عدة تآليف لليونان منها كتاب
الأورغانون لأرسطو، وألف التآليف العديدة في
شرح الكتاب المقدس وأسرار الكنيسة وغير ذلك،
وكان كرسيه في عاقولاء بين قبائل العرب،
ومَيامِرُه بالسريانية شهيرة، كانت وفاته سنة
٧٢٤م.
وفي أخبار الأخطل وقومه وحروبهم مع زُفَر بن
الحارث وقبائله القيسية شواهد لامعة تبين أن
النصرانية بقيت بين عرب الفرات زمنًا طويلًا
بعد الإسلام في عهد بني أمية.
(٩) الباب التاسع: النصرانية بين عرب شمالي
سورية
إن في شمالي سوريَّا مَفاوز متسعة تمتد من
نواحي دمشق إلى تَدمُر شرقي جبل الشيخ، ثم حمص
وحماة وتبلغ إلى جهات حلب وتتناول البوادي
الفسيحة التي تنبسط في تلك الأنحاء شرقًا حتى
نهر الفرات، فهذه الصحاري الرحبة كانت أيضًا من
قديم الزمان محطًّا لقبائل العرب تجول في
بسطتها دون أن يضايقها سكان المدن، وهناك تسرح
مواشيها وترعى إبلها في أيام الربيع، فإذا اشتد
عليها القيظ تقرَّبت من الأرياف أو جاورت ضفاف
الفرات.
فتلك البلاد الواسعة كانت في القرون السابقة
للإسلام ديارًا قبائل عربية جليلة، أَخصُّها
بنو كلب كانوا يسكنون منها القسم المتصل
بالفرات شرقًا في البيداء المعروفة بالسماوة،
١٨٠ قال الهمداني في صفة جزيرة العرب
(ص١٢٩): «أما كلب فمساكنها السماوة، ولا يخالط
بطونها في السماوة أحد، ومن كلب بأرض الغوطة
عامر بن الحصين وابن رباب المعقلي.»
وقال في موضع آخر عن قبائل الجهات التي نحن
في صددها:
«وإن جُزْتَ جَبَل عاملة تريد قَصْد دمشق
وحمص وما يليها فهي ديار غسَّان من آل جَفْنَة
وغيرهم، فإن تَياسَرتَ من حمص عن البحر الكبير
وهو بحر الروم وقعتَ في أرض بَهْراء … ثم من
أيسرهم مما يصل البحر تَنُوخ … ثم تقع في نصارى
وغير ذلك إلى حد الفرات إلى بالس في برية خُساف
فهي من الدَّهْناء، ومنها مخرج إلى تدمر ذات
اليمين وهي تَدْمُر القديمة وهي جانب
السماوة.
وما وقع في ديار كلب من القرى تَدْمُر
وسلميَّة والعاصميَّة وحمص، وهي حميرية وخلفها
مما يلي العراق حَمَاة وشَيْزَر وكَفَرْطاب
لِكِنَانة من كلب، ثم ترجع بكنانة كلب من
ديارها هذه إلى ناحية السماوة والفرات من المدن
تل منَّس وحَرَص وزعرايا ومَنْبِج، ومَنْبِج
بينهم وبين بني كلاب إلى حدِّ وادي
بُطْنان.»
لا شك أن كل هذه النواحي التي كان عرب
البادية يقيمون فيها لم تُحرَم من الدعوة
النصرانية، ولو لم يكن لنا حجة لتأييد قولنا
غير موقع ديارها لكفى به دليلًا؛ لأنها واقعة
كما ترى بين فلسطين والشام وجهات أنطاكية وحلب
وأنحاء الرُّهَا، وكلها بلاد أصابت سهمًا
معلًّى من الدعوة المسيحية لقربها من ينابيع
الخلاص فلا غَروَ أن تكون جرت إليها منها جداول
قبل بقية الأقطار بعد صعود الرَّب بزمن
قليل.
وفي هذه الأنحاء، «بل في القرى أيضًا،
تَعدَّدَت في القرون النصرانية الأولى الكراسي
الأسقفية ليس في المدن فقط» بل في القرى أيضًا
حتى الصغيرة (
μιϰροϰομίαι)، كما يشهد
على ذلك القديس باسيليوس في رسالته ١٩٠ إلى أمفيلوخيوس.
١٨١
وورد في الآثار الكتابية أو التواريخ القديمة
أسماء عدة أساقفة كانوا يَسُوسون الرعايا
المتفرقة في المقاطعات التي نحن في صددها، وقد
وقَّع كثيرون منهم على أعمال المجامع النيقاوي
والقسطنطيني والأفسسي والخلقيدوني.
وقد أثبت حضرة الأب سبستيان رنزفال في
مَقالته عن زينب (المشرق، السنة الأولى،
ص٩٨٧–٩٩٠) ما كان للنصرانية من النفوذ في تَدْمُر
١٨٢ والبلاد المجاورة لها في القرن
الثالث للمسيح بفضل السلام السائد على تلك
الأنحاء. كما ظهر ذلك النفوذ أيضًا في المجمع
المنعقد سنة ٢٦٩م في أنطاكية للحكم على بولس
السميساطي فحضره ثمانون أسقفًا وحرموه.
وقد صرح في ذلك القرن ديونيسيوس الإسكندري
بنصرانية تلك الأصقاع، حيث كتب للبابا القديس إسطفانس:
١٨٣ «إن أقاليم سوريَّا كلها مع بلاد
العرب التي تمدُّها بصدقاتك وبلاد ما بين
النهرين تصادق على تعاليمك.»
ويؤيد ذلك أخبار السُّيَّاح الذين سكنوا في
تلك الأقفار فاجتذبوا إليهم القبائل المُجاوِرة
لهم كالقديس ملكوس أو مالك الذي روى قِصَّته
العجيبة القديس إيرونيموس،
١٨٤ وكالقديس إليان الواسع الشهرة في
القريتين (المشرق، ٩: ٦٥٨)، والقديس سمعان
العمودي الذي مر ذكره وكان مقامه في شمالي
سوريا في الجبل المنسوب إليه، وقد أفاد تاودوريطس
١٨٥ في تاريخه أن الإسماعيليين؛ أي
العرب كانوا يتقاطرون إلى عموده، وأنه نصَّر
منهم ألوفًا مؤلفة
(
Ismaelitarum millia
innumerabilia)، وفي حياة
القديس نونُّوس أنه لما كان في بعلبك عمَّد
ثلاثين ألفًا من العرب.
١٨٦
ويُضاف إلى ما تَقدَّم ما وجده الأثريون في
شمالي سوريَّا من الآثار النصرانية العديدة
كبقايا أديرة، وأخربة كنائس ونقوش نصرانية
بديعة غنيت بها متاحف أوربا، وقد رأينا بعض تلك
الأبنية في سياحتنا إلى بادية تدمر (في المشرق،
٩: ٩٥٣).
ومن ذلك أثر فريد اكتشفه رحالة أوربي قبل ١٢
سنة في زبَد
١٨٧ ليس بعيدًا عن حلب فيه كتابة بثلاث
لغات يونانية وسريانية وعربية، تاريخه
باليونانية سنة ٨٢٣ للإسكندر الموافِقة لسنة
٥١٢ للمسيح، وهو أول أثر يُعْرَف بالقلم العربي
كُتب ١١٠ سنوات قبل الهجرة، وهذا الأثر نصراني
مَحْض نُقِرَ في حجر ليوضع على مشهد أُقيم هناك
لتذكار الشهيد القديس سرجيوس، وهذا يثبت ما
قلناه سابقًا عن تعبُّد العرب لذلك الشهيد،
وأخبر ساويرس البطريرك الدخيل وزعيم البدعة
اليعقوبية أن عرب البادية كانوا إذا تنصَّروا
يطلبون المعمودية في كنيسة القديس سرجيوس في
الرُّصَافة، حيث قتل شهيدًا (روى ذلك في ميمره
السابع والخمسين الذي قاله في ٧ تشرين الأول
سنة ٥١٤م، أعني سنتين بعد تاريخ الأثر المذكور).
١٨٨
ومن الشواهد التاريخية المثبتة تنصُّر العرب
في شمالي سوريَّا ما رواه ميخائيل الكبير وابن
العبري عن يوحنَّا أسقف أفسس من كتبة القرن
السادس أنه لمَّا حصل الانقسام بين الملكيين
وأعداء المجمع الخلقيدوني تَفرَّق العرب
النصارى وسَكَن منهم قسم في بادية تدمر في
النبك والقريتين وحُوَّارين، وبقي هؤلاء العرب
على نصرانيتهم زمنًا طويلًا بعد الفتح
الإسلامي، كما يشهد عليه ياقوت الحموي (٤: ٧٧)
حيث قال عن القريتين في زمانه: «إن أهلها كلهم
نصارى.»
ولنا في كتب العرب ما يزيل كل ريب عن القبائل
المُتَنَصِّرة في شمالي سوريَّة، وقد رأيت فيما
نقلناه عن وصف الجزيرة للهَمْداني أن السهول
الواقعة بين الشام وحلب والفرات كان معظم
سكانها من غَسَّان وتَغْلِب وتَنُوخ، وعلى
الأخص من بني كلب الذين تَفرَّدوا بسكنى
السماوة الممتدة من الشام إلى نواحي الموصل،
وكانوا يسكنون خصوصًا في جهات تدمر وسلمية حتى
سُمِّيت تلك الجهات بادية كَلْب، فهذه القبائل
كلها كانت نصرانية، فأما غسَّان وتغلب وتنوخ
فقد مرت الشواهد على نصرانيتها، فبقيت قبيل بني
كلب، ودونك الأدلة على تديُّنها بالدين
المسيحي.
إن بني كلب بطن من قُضاعة، وهي القبيلة
اليمنية الأصل التي أجمع الكتبة على تنصُّرها
عمومًا كابن قتيبة واليعقوبي والنويري، وخصُّوا
بالذكر بعض بطونها كبني سليح وبني جرم، ثم ليس
في كتب المؤرخين إشارة إلى شرك كلب، بل كثيرًا
ما يصرِّحون بنصرانية أعيانهم كبحدل بن عُنَيف
من سادتهم، وهو أبو ميسون زوجة معاوية،
وكفرافصة الكلبي أبي نائلة زوجة الخليفة عثمان
بن عفان.
وذُكر في المقتضب لياقوت (ص٣٦) وفي تاريخ ابن
عساكر في ترجمة نائلة «أن بني كلب كانوا
نصارى»، وكذلك ذكر ابن خلدون في تاريخه (٢:
٢١٩) أنهم دخلوا في دين النصرانية.
ولمَّا ظهر الإسلام كان بنو كندة وبنو كلب من
جملة الذين لم يُنكِروا دينهم، كما أخبر بذلك
ابن هشام في سيرة الرسول (éd.
Wüstenfeld, p. 282) وكذا
روى ياقوت في المُقتَضَب عن مُدَر كلب أي أهل
البادية فقال: «أسلمت كَلْب غير مُدَرها كانوا
نصارى.» وبقي الذين أسلموا منهم على عاداتهم
النصرانية كما روى في كتاب البلدان لابن الفقيه
(ص٣١٥) فقال عنهم: «إنهم مسلمون في أخلاق
النصارى.» وأخبر ابن قتيبة في عيون الأخبار
(ص١٧٤) والجاحظ في البيان والتبيين (٢: ٦٢) أن
بعض من أسلم منهم كانوا يضربون الناقوس
ويترددون إلى الكنيسة التي تَعمَّدوا
فيها.
وكان من جملة أمرائهم الذين يتولَّون تدبيرهم
أبو كرب الذي عُرف بنصرانيته فمنحه يستنيانوس
الملك تدبير قبائل السماوة كما روى المؤرخ بروكوبيوس.
١٨٩
وربما دعا المؤرخون هذه القبائل المتنصِّرة
بالمستعربة وإليهم التجأ الروم عند ظهور
الإسلام لمحاربة خالد بن الوليد، قال ابن
البطريق في تاريخه عن هرقل: إنه «استجلب
المُستعْرِبة من غسان وجذام وكلب ولخم، وكل من
قدر عليه من الأعراب وأمر عليهم قائدًا من
قوَّاده يقال له: ماهان.»
١٩٠
فترى من هذه النصوص أن كتبة العرب أيضًا
يوافقون اليونان والسريان في نسبة النصرانية
إلى القبائل المتفرقة في شمالي سوريَّة.
ونختم
هذا الفصل بأثر جميل وُجد في بعض مخطوطات لندن
السريانية التي وصفها العلَّامة رَيْت في قائمة
المتحف البريطاني تحت العدد ٧٥٤، وهو مجموع
رسائل قديمة راقية إلى أواخر القرن السادس
للمسيح، من جملتها رسالة مضمونها دستور الإيمان
كتبها رؤساء أديرة إقليم البلاد العربية
ووجهوها إلى يعقوب البرادعي لِيُرَذِّلُوا فيها
بدعة يحيى النحوي في تثليث الجوهر الإلهي
(
Trithéisme)
وذلك بين السنتين ٥٧٠ و٥٧٨م، وهذه الرسالة قد
نشرها المنسنيور لامي
Mgr
Lamy رئيس كلية لوفان في
مؤتمر المستشرقين في باريس سنة ١٨٩٨م
(ص١١٨–١٣٨)، وهي موقعة بإمضاء ١٣٧ رئيسًا على
١٣٧ ديرًا موقعها كلُّها في إقليم العربية
الممتد شرقي بلاد الشام إلى جهات الفرات.
١٩١ فناهيك بهذا العدد العديد شاهدًا
جليلًا على انتشار النصرانية بين عرب الشام
وسوريَّة، على أن هؤلاء العرب كانوا جنحوا إلى
البدعة اليعقوبية كما ترى. وأيَّد ذلك ابن
العبري في تاريخه الكنسي، حيث قال (ج١، ص٢١٧):
«إن كل قبائل العرب التي كانت في البادية (يريد
بادية الشام والفرات) كانوا مُعارِضِين للجمع
الخلقيدوني ولا يرضون بمشاركة الخلقيدونيين.»
فهذا القول مع ما فيه من المبالغة لا يخلو من
الصحة، وعلى كل حال يثبت قولنا في شمول
النصرانية لعرب بلاد الشام والفرات إلى حدود
العراق.
والمستشرقون في عهدنا يرتَئُون هذا الرأي، قال
الهولندي دوزي (B. Dozy) في مقدمات كتابه عن
الإسلام (الترجمة الفرنسوية لشوفان
V. Chauvin, p.
13): «كان عرب سورية
يدينون بالنصرانية» (Les Arabes
de Syrie professaient le
Christianisme)، ويشاركه
في هذا الرأي غيره من العلماء كنولدك،
وغولدتسير J. Goldziher، ولونرمان Lenormand بل
كل من له بعض إلمام بتاريخ العرب في
الجاهلية.
(١٠) الباب العاشر: النصرانية في الحجاز
ونجد
تتبعنا كما رأيت آثار النصرانية في أطراف
بلاد العرب على كل جوانبها، فلم يبقَ علينا إلا
ذِكْر أواسطها لنرى ما كان للدين المسيحي من
التأثير في القبائل الساكنة في الحجاز ونَجْد،
وبذلك تتم أبحاثنا عن تاريخ النصرانية في كل
أنحاء جزيرة العرب.
الحجاز على مقتضى تعريف العرب ممتد من تخوم
صنعاء في اليمن إلى تخوم الشام، من جنوب جزيرة
العرب الشرقي إلى شمالها الغربي، وقد دُعِي
حجازًا؛ لأنه يحجز غَوْر تِهامة على سواحل خليج
العرب عن بلاد نَجْد في أواسط الجزيرة،
ويُدْعَى الحجاز أيضًا بجبل السَّراة وهو أعظم
جبال العرب وفيه أشهر مدنهم؛ أي مكة والمدينة،
وتدخل فيه دَوْمة الجندل حتى أَيْلة على بحر
القلزم التي نعتها ياقوت بآخر بلاد
الحجاز.
فتلك البلاد كانت قديمًا عريقة في الوثنية،
ولا سيما في عبادة قُوَّات الطبيعة وأخصها
النَّيِّران العظيمان الشمس والقمر ثم
الزُّهَرة، على أن دعاة الدين المسيحي لم
يحجموا عن دعوة أهلها إلى النصرانية، كما تشهد
عليه شواهد ثابتة نقَلها قدماء الكتبة من يونان
وسريان وعرب، وقد أثبتنا سابقًا شهادة ابن
خلدون (ج٢، ص١٥٠، من تاريخه) في بعثة الرسول
برتلماوس «إلى أرض العرب والحجاز»، وسبقه إلى
مثل ذلك الطبري في تاريخه (طبعة ليدن، ج١،
ص٧٣٨) حيث قال: «وكان مِمَّن تَوجَّه من
الحواريين … ابن تلما (أي برتلماوس) إلى
العربية، وهي أرض الحجاز.» وكذلك ورد في سيرة
الرسول لابن هشام (ص١٧٢، ed.
Wüstenfeld,): «وبُعث من
الحواريين … ابن تلما إلى الأعرابية وهي أرض
الحجاز.» وجاء في ترجمة القديس يعقوب أسقف
أورشليم (ص١٧) أنه «نَصَّر أرض فلسطين وما
يليها من ناحية حِمْص وقَيْسارِيَّة والسامرة
وبادية الحجاز.»
ثم في تاريخ الطبري قصة ظريفة عن رسول السيد
المسيح إلى العرب نرويها بحرفها دون القطع
بصحتها قال (١: ٧٣٨-٧٣٩):
«حدثنا ابن حميد … عن أبي سليم الأنصاري ثم
الزُّرقي قال: كان على امرأة مِنَّا نَذْر
لتظهرنَّ على رأس الجمَّاء جبل بالعقيق من
ناحية المدينة (قال) فظهرتُ معها حتى إذا
استوينا على رأس الجبل إذا قبر عظيم عليه
حَجَران عظيمان، حجر عند رأسه وحجر عند رجليه،
فيهما كتاب بالمُسْنَد لا أدري ما هو، فاحتملتُ
الحجرين معي حتى إذا كنتُ ببعض الجبل منهبطًا
ثَقلَا عليَّ، فألقيتُ أحدهما وهَبطت بالآخر،
فعرضتُه على أهل السريانية هل يعرفون كتابته
فلم يعرفوه، وعرضته على من يكتب بالزبور (أي
العبرانية) من أهل اليمن ومن يكتب بالمُسْنَد
فلم يعرفوه، فلمَّا لم أجد أحدًا ممن يعرفهُ
ألقيته تحت تابوت لنا فمكث سنين، ثم دخل علينا
ناس من أهل ماه من الفرس يبتغون (ويروى:
يبيعون) الخرز، فقلت لهم: هل لكم من كتاب؟
فقالوا: نعم، فأخرجتُ إليهم الحجر فإذا هم
يقرءونه فإذا هو بكتابهم: «هذا قبر رسول الله
عيسى بن مريم — عليه السلام — إلى أهل هذه
البلاد.» فإذا هم كانوا أهلها في ذلك الزمان
مات عندهم فدفنوه على رأس الجبل.»
فهذه شهادة جليلة تشير إلى مجيء أحد رسل
السيد المسيح إلى الحجاز قريبًا من المدينة،
ومن عجيب أمر كاتبها أنه يَعتَبِر كالنصارى
«عيسى بن مريم» إلهًا إذ قرينة الكتابة
تُبَيِّن أن الرسول المذكور ليس هو عيسى، بل هو
مُرْسَل من «الله عيسى».
(١٠-١) أَيْلة
كما مَرَّ في طرف الحجاز من جهة الغرب
كان أهلها قبل الإسلام نصارى ويهودًا، ولا
يبعد أن النصرانية دخلت فيها بعد المسيح
بزمن قليل لقربها من بلاد الشام وفلسطين،
وما لا يُنْكَر أن صاحبها كان نصرانيًّا
لمَّا ظهر رسول العرب واسمه يُوحَنَّا بن رَؤْبة
١٩٢ صالَحه نبي الإسلام على جزية
كانت تبلغ ٣٠٠ دينار، وفي كتاب وفادات
العرب على محمَّد، لابن سعد
(
éd. Wellhausen,
Skizze. IV,
27) ما حرفه:
«قال: وقدم يُحَنَّه بن رؤبة على النبي
وكان ملك أَيْلَة … وأقبل ومعه أهل جَرْباء
وأَذْرَح، فأَتَوه فصالَحَهم وقَطَع عليهم
جزية معلومة … أخبر عبد الرحمن بن جابر عن
أبيه قال: رأيتُ على يُحَنَّه بن رؤبة يوم
أتى النبي صليبًا من ذَهَب وهو معقود
الناصية، فلمَّا رأى رسول الله كفَّر وأومأ
برأسه، فأومأ إليه النبي أن ارفع رأسك،
وصالَحه يومئذٍ وكساه رسول الله بُرْد يمنة
…»
وجاء في كتاب التنبيه والإشراف للمسعودي
(طبعة ليدن، ص٢٧٣) أن «يحنَّة بن رؤبة كان
أسقف أَيْلة، وأنه قدم على محمد سنة ٩
للهجرة وهو في تَبوكَ فصالَحه على أن لكل
حالمٍ بها دينارًا في السنة.»
(١٠-٢) دَوْمة الجندل
حِصْن يقع بين المدينة ودمشق على سبع
مراحل من دمشق، وقيل: على خمس ليالٍ
ويَبعُد عن المدينة ١٥ ليلة، وقيل: ١٣، كان
مبنيًّا بالجندل أي الصخر، وكان حوله مدينة
واسعة يحيط بها سُور، وكان صاحب دَوْمة
الجندل أُكَيدر الملك ابن عبد الملك السكوني،
١٩٣ وكانت دَوْمة الجندل عند ظهور
نبي الإسلام كلها نصرانية عليها أسقف تابع
لمدينة دمشق، كما ورد في كتاب «مدينة الله
أنطاكية» من مخطوطات مكتبتنا الشرقية. وكان
ملكها أُكَيدر نصرانيًّا فبعث إليه محمدٌ
رسول الإسلام خالدَ بن الوليد في ربيع
الأول من السنة الخامسة للهجرة (٦٢٦م)
فأَسَره.
والعرب يذكرون عدة غزوات لدَوْمة الجندل
عند ظهور الإسلام، قال في تاريخ الخميس (٢:
١١): «إن دَوْمة الجندل كان عليها قبل
الأُكيدر المسمَّى أصبع بن عمرو الكلبي
وكان نصرانيًّا، وأن عبد الرحمن بن عوف غزا
دَوْمة الجندل ففتحها وتزوَّج ابنة الأصبع
تماضر.» وكان الروم عادوا فملكوها، قال
المسعودي في كتابه التنبيه والإشراف (ص٦٤٨)
يذكر غزوة غزاها رسول الإسلام
لدَوْمة:
«وفيها (أي السنة الخامسة للهجرة) كانت
غزوة دَوْمة الجندل، وهي أول غزوة النبي
للروم، وكان صاحبها؛ أي دَوْمة أُكَيدر بن
عبد الملك الكندي يدين بالنصرانية، وهو في
طاعة هرقل ملك الروم، وكان يعترض سفر
المدينة وتجارهم، (قال) فبلغ أُكَيدرًا
سَيْرُه فهرب وتفرق أهل دَوْمة وصار إليها
فلم يجد بها أحدًا، فأقام أيامًا وعاد إلى
المدينة، ثم بعث إليه خالدًا السنة التاسعة
للهجرة فأخذه أسيرًا وفتح الله عليه
دَوْمة.»»
وقال ابن سعد في كتاب وفادات العرب (ص٢٧)
بعد ذكره يُحَنَّه بن رؤبة صاحب أَيْلة:
«قال: ورأيت أُكيدر حين قَدِم به خالد
وعليه صليب من ذهب وعليه الديباج ظاهرًا.»
وفي معجم البلدان لياقوت (٢: ٦٢٦) أن
خالدًا حارَبه سنة تسع للهجرة، وافتتح
دَوْمة الجندل عُنْوة وقَتَل أخاه حسان.
قال: «ثم إن النبي صالَح أُكَيدر على
دَوْمة وأمَّنه وقرَّر عليه وعلى أهله
الجزية وكان نصرانيًّا.» وفي فتوح البلدان
للبلاذري (ص٦١–٦٣) أنه أسْلَم ثم ارْتَدَّ
بعد وفاة محمد فأجلاه عمر من دَوْمة الجندل
فيمن أَجْلَى من مُخالِفِي دين الإسلام إلى
الحيرة، فنزل في موضع منها قرب عين التمر،
وبنى به منازل سماها دَوْمة باسم حصنه،
فغزاها خالد سنة ١٢ للهجرة وقَتَل
أُكَيدر.
أما أهل دَوْمة الجندل فكانوا من بني
السكون، وهم فرع من بني كندة وكانوا نصارى
كما ورد في سيرة الرسول، لابن هشام، وكذلك
كان يسكن دَوْمة الجندل قوم من بني كلب
الذين سبق بيان نصرانِيَّتهم.
١٩٤
(١٠-٣) وادي القرى
هو وادٍ بين الشام والمدينة يُعَد من
الحجاز ومنه كانت دَوْمة الجندل ودُعِي هذا
الوادي بوادي القرى لكثرة القرى الواقعة
فيه لوفرة مياهه وخصبه منها الحِجْر، وكان
اليهود يسكنون هذا الوادي ثم نزلته قُضاعة
وهي من أثبت القبائل في النصرانية، ومنهم
بنو سليح الذين ذكر المؤرخون تَنصُّرَهم في الشام،
١٩٥ وفي وادي القرى كان يسكن قوم
من الرهبان ذَكرَهم شعراء العرب، قال جعفر
بن سراقة (الأغاني، ٧: ١٦١):
ونحن مَنَعْنَا ذا القرى
من عدوِّنا
وعُذرةَ إذ نَلْقى يهودًا
وبَعثرا
مَنَعْنَاه من عُليا
مَعَدٍّ وأنتمُ
سفاسيفُ روح بين قُرْحٍ
وخيبرا
فريقان رهبانٌ بأسفل ذي
القرى
وبالشام عرَّافون فيمن
تنصَّرا
(١٠-٤) تيماء
هي بلدة في الحجاز بين الشام ووادي
القرى، وفيها كان الأبلق حِصْن
السَّمَوْأل، والشائع أن السَّمَوْأل كان
يهوديًّا إلا أننا لمَّا طبعنا لأول مرة
ديوانه أتينا في المقدمة ببعض الشواهد
المثبتة نصرانيته.
١٩٦ كأصله الغساني، وكذكره في شعره
لبعض تلامذة المسيح، بل تصريحه باسم السيد
المسيح في قصيدة لامية وجدت في الموصل حيث
يقول:
وفي آخِر الأزمان جاء
مَسيحُنا
فأهدى بني الدنيا سلام
التكاملِ
ولعل الصواب أنه كان من إحدى الشِّيَع
اليهودية المُتَنَصِّرة
(
Judéo–chrétien)،
وقد ذكر العرب أن قومًا من نصارى طيئ كانوا
أيضًا يسكنون تيماء.
١٩٧
(١٠-٥) تبوك
مكان حصين بين وادي القُرى والشام على
أربع مراحل من الحِجر كان به عَيْن ونخلٌ،
ملكه المسلمون سنة ٩ للهجرة بعد أن حاربوا
فيه الروم ومعهم نصارى العرب من عامِلةَ
ولَخْم وجذام. وكان أهل تبوك من نصارى
قُضاعة، قال ابن خلدون نقلًا عن ابن سعيد
(٢: ٢٤٩): «وكان لقُضاعة ملكٌ آخر في كلب
ابن وَبَرة بن تغلب يتداولونه مع السَّكون
من كندة فكانت لكلب دَوْمة الجندل وتَبُوك
ودخلوا في دين النصرانية.» ثم ذكر مُهاجرة
كلب بعد الإسلام فقال: «وبقيت بنو كلب في
خلق عظيم على خليج القسطنطينية منهم مسلمون
ومنهم مُتَنَصِّرون.»
(١٠-٦) مَعَان
قال
ياقوت (٤: ٥٧١): «هي مدينة في طرف بادية
الشام تلقاء الحجاز من نواحي البلقاء.»
وكان أهلها نصارى تحت حكم الروم والمالك
عليها عند ظهور الإسلام فروة بن أبي عامر
شيخ بني جذام النصارى، وبقُرْب مَعَان عند
مؤتة التي دعاها تاوفانوس المؤرخ
(
Théophane. I. 515.
éd. Bonn) باسم
MoϴoƲϛ حدثت
وقعة سنة ٨ للهجرة بين جيوش المسلمين تحت
إمرة زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب،
وعبد الله بن رواحة و(بين) جيوش الروم تحت
قيادة تاودورس المعروف بالنائب، وقد روى
مُؤرِّخو العرب أن عدد الروم كان مائة ألف
ومعهم من عرب النصارى مائة ألف آخرون.
١٩٨ فكان الانتصار للروم وهُزم
المسلمون وقُتل قادتهم، لكنهم عادوا بعد
ذلك بسنة فغلبوا الروم وفتحوا مَعَان
واسْتَولَوا على جهات البلقاء، وقيل: إن
فروة صاحب مَعَان أسلم.
(١٠-٧) المدينة
كان اسمها في الجاهلية يَثْرِب
١٩٩ دُعِيَت بذلك على ما قيل باسم
بانيها أحد أبناء آرام، وفي تقاليد العرب
أن أول من سكنها العمالقة، ثم هاجر إليها
اليهود في أزمنة مختلفة قبل المسيح على عهد
موسى ويشوع بن نون وداود، ثم في زمن خراب
أورشليم وهيكلها على يد الآشوريين ثم بعد
المسيح عند فتح الرومان للقدس الشريف، فخرج
منهم إلى يثرب بنو قريظة والنَّضير وبَهدل
ونزلوا واديين اسمهما بطحان ومهزور.
٢٠٠ وبَنَوا هناك الآطام؛ أي
المنازل المحصَّنة.
وكانت ديانة هذه القبائل اليهودية كما هو
بديهي، غير أنهم اختلطوا بقبائل أخرى عربية
كان البعض يسكن في جوار يثرب والبعض الآخر
هاجر إليها من اليمن بعد تفرُّق أهله سواء
كان بسبب سيل العرم كما روى العرب أو لعلل
أخرى.
وما لا سبيل إلى إنكاره أن النصرانية
دخلت يثرب بعد السيد المسيح بقليل، كما
رأيت فيما نقلناه عن دعوة الرسل في الحجاز
ووجود قبر واحد منهم في جبل العقيق من
ناحية المدينة على ما نقله الطبري
(ص١٠٧).
وليس من المستبعد أن بين القبائل
اليهودية المهاجرة من أورشليم قوم عرفوا
النصرانية ودانوا بها، ولا سيما أولئك
المتنصِّرين الذين سبق خروجهم فتح حاضرة
بلادهم فالتجَئُوا إلى المُدن الواقعة ما
وراء الأردن، فإنهم إذ رأوا ما حلَّ
بالمدينة المقدَّسة من الدمار توغلوا في
بلاد العرب، وسكنوا في جهاتها
الداخلية.
والظاهر أن بعض تلك البدع المعروفة
بالبدع اليهودية
النصرانية
sectes
judéo-chrétiennes شاعت خصوصًا في
نواحي العرب كشيع الناصريين
(Nazaréens)، والإبيونيين
Ebionites،
والكسائيين
(Elkésaïtes)، وقد ذكرهم
الكتبة الكنسيون في القرون الأولى
كأوسابيوس المؤرخ،
٢٠١ وأوريجانس المعلم،
٢٠٢ ويوستينوس الشهيد،
٢٠٣ والقديس إبيفانيوس
٢٠٤ في تاريخ الهرطقات، والقديس
هيرونيموس في كتاب الأعلام،
٢٠٥ وتاودوريطس،
٢٠٦ وصاحب الفلسفيات
٢٠٧ وذكروا علاقاتهم مع
المسيحيين.
واستشهدوا بما كان لديهم من الآثار
النصرانية، وقد وجد الأثريون في زماننا بعض
تلك الآثار المكتوبة بالحرف السرياني
الفلسطيني ونشروها بينها فصول إنجليلية
وطقوس ورُتَب بِيعيَّة.
وبعض هذه البدع التي انتشرت في جهات
العرب بالَغ أصحابها في أضاليلهم فنَبَذ
النصارى مزاعمهم وقَبَّحُوها «كالفطائريين
Collyridiens» الذين
كانوا يبالغون في عبادة مريم العذراء
فيقدمون لها نوعًا من القرابين أخصها أقراص
العجين والفطائر، وقد ذكرهم القديس
إبيفانيوس في كتاب الهرطقات.
٢٠٨ ولعلَّ هؤلاء المبتدعين هم
الذين دعاهم ابن بطريق
٢٠٩ بالمريمية والبربرانية،
فأفادنا أنهم كانوا يقولون: «إن المسيح
وأمه إلهان من دون الله»، وقد وصفهم بذلك
ابن تيمية في كتابه الجواب الصحيح، ودعاهم
بالمريمانيين أو المريمانية، وعلى هذا
البناء شرح مفسرو القرآن قوله في سورة
المائدة:
اتَّخِذُونِي
وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ وقالوا
في شرح قوله في سورة النساء:
وَلَا تَقُولُوا
ثَلَاثَةٌ؛ أي لا تقولوا
الآلهة ثلاثة: الله والمسيح ومريم (كذا ورد
في شرح البيضاوي والزمخشري
وغيرهما).
وقام غيرهم في أنحاء العرب وتَطرَّفوا
على عكس ذلك، فأنكروا على العذراء مريم
دوامَها في البتولية فسمَّوهم لذلك
بالمُعادين لمريم
(
Antidicomarianites)
وذكرهم القديس إبيفانيوس في كتاب البدع.
٢١٠
وروى القديس إيلاريوس في رسالته إلى
قسطنطين الملك
٢١١ أن فرعًا من أشياع آريوس ظهروا
في جهات العرب وهو يدعوهم أقاقيين باسم
أقاقيوس زعيمهم كانوا يذهبون إلى أن السيد
المسيح ليس هو ابن الله لزعمهم أن مَن قال
ذلك جعل لله زوجة فخَلَطوا بين الولادة
الجسدية والولادة الإلهية الروحية الأزلية
المثبتة في الكتب المنزلة.
وقد ذكر حضرة الأب أنستاس الكرملي في
إحدى المقالات المنشورة في المشرق (٦: ٦٠)
بدعة أخرى وجد منها بقايا في العراق تُعرف
بالداؤدة أو الداوُدِيِّين يعظِّم أصحابها
داود النبي، ويُكَرِّمون السيد المسيح
لكنهم يجعلونه دُون رُتبة داود.
فكل هذه البدع وغيرها التي شاعت خصوصًا
بين القبائل اليهودية المُتَنَصِّرة
الساكنة في حدود الشام والحجاز شوَّهت
المعتقدات النصرانية الصحيحة في تلك
البلاد.
وبقي الأمر على ذلك حتى قدمت إلى يثرب
بطون من عرب اليمن كبني الحرث بن بهثة،
وبني شَظِيَّة من غسان، ولا سيما بني الأوس
والخزرج من الأزد الذين لحقوا بها بعد
سَيْل العَرِم، لكنهم أقاموا فيها كما روى
صاحب الأغاني (١٩: ٩٥) في جهد وضيق المعاش
يرتزقون من الزراعة، وكانت الأموال لليهود
حتى قام بينهم في أواسط القرن السادس
للمسيح أحد شيوخهم وهو مالك بن عجلان،
فأوفد إلى ملك في الشام من ملوك غسان يُدعى
أبا جُبَيْلة، فاستنجده على يهود يثرب
فأنجده، وأوقعَا بأشراف اليهود حتى ذلوا
وصار الأمر إلى الأوس والخزرج مذ ذاك الحين
إلى ظهور الإسلام، ومنهم كان الأنصار، وقد
وقعت بين الأوس والخزرج حروب رواها صاحب
الأغاني (٢: ١٦٧–١٧٠) لا حاجة إلى
ذكرها.
أما دين الأوس والخزرج وبقية القبائل غير
اليهودية التي كانت في يثرب وجهاتها، فيظهر
أنه كان في أول أمرها الشرك، وأنها كانت
تعبد المناة كما روى الشهرستاني في كتاب
المِلَل والنِّحَل (ص٤٣٤، من طبعة لندن)
لكنها عدلت بعد ذلك إلى النصرانية، ولنا
على الأمر أدلة نرويها هنا عن مصادر موثوق
بها.
قد رأيت في أول هذا الباب أن دعاة الدين
المسيحي دخلوا بلاد الحجاز منذ قرون
النصرانية الأولى، بل روى أول مؤرخي
الإسلام أبو جرير الطبري تقليدًا عن أهل
المدينة ذكروا فيه وجود قبر لأحد رسل السيد
المسيح في جبل العقيق المجاور لبلدهم
(راجع: ص١٠٧).
ومن الأدلة على نصرانية عرب المدينة أن
الأوس والخزرج ينتسبون إلى الحارث بن
ثعلبة، فيرتقي نسبهم إلى بني غَسَّان،
ونصرانية غَسَّان ثابتة لا يشك فيها إلا من
كابَر الحق كما رأيت، أفليس من الصواب أن
يقال: إن الأوس والخزرج دانوا بديانة
غسَّان، وزد على ذلك أن أبا جُبَيْلة
الغساني ملك الشام المعروف بنصرانيته ما
كان لينصر الأوس والخزرج على يهود المدينة
كما مر بك لولا علمه أنهم يدينون
بدينه.
ولنا على ذلك برهان آخر أقرب وأدل وهو
الاسم المُطلق على أهل مدينة يثرب الذين
كانوا يُدعون بأهل الكتاب. قال الشهرستاني
في المِلَل والنِّحَل (ص١٦٢، من طبعة
لندن): «الفرقتان المتقابلتان قبل المبعث
هم أهل الكتاب والأميون والأمي من لا يعرف
الكتابة، فكانت اليهود والنصارى بالمدينة
والأميون بمكة.» فينتج عن قوله هذا أن أهل
المدينة كانوا منقسمين قسمين قسم يهودي
كقريظة والنضير وقسم نصراني، وهم عرب الأوس
والخزرج وقُضَاعة الذين كانوا يسكنون
المدينة، بل ربما غلب اسم أهل الكتاب على
النصارى كما أفاد القسطلاني، ويؤيد ذلك أن
أحد زعماء الأوس يوم مُهاجَرة محمد إلى
المدينة كان يُدعى «أبا عامر الرَّاهب»
٢١٢ وفي اسمه دليل على دينه، فهذا
حارَب محمدًا وأنصاره
٢١٣ في أُحُد ثم خرج مع آله إلى
ثقيف وهو الذي سماه رسول الإسلام بالفاسق.
٢١٤
وجاء في التقويم القديم للكنيسة
الكلدانية الذي نشره الخوري بطرس عزيز سنة
١٩٠٩م (ص٨) أن النساطرة «أقاموا
مطروبوليطًا في يثرب، وأنه كان فيها ثلاث
كنائس على اسم إبراهيم الخليل، وأيوب
الصِّدِّيق، وموسى الكليم.» وهي رواية
وجدناها في تقويم آخر مخطوط لأحد أهل
الموصل والله أعلم بصحتها.
على أن وجود النصارى في المدينة قبل الإسلام
٢١٥ وفي أوائل ظهوره لمن الأمور
التي لا يمكن نكرانها؛ لأن النصارى كانوا
بلغوا أقاصي تخوم العرب، فما قولك بالبلاد
المجاورة لممالك الروم، وهذا ما أقر به
المستشرقون في كتبهم الحديثة. قال أحد
أئمتهم العلَّامة فِلْهاوزن:
٢١٦ «إن محمدًا وجد الطريق ممهدة
في المدينة بواسطة اليهودية والنصرانية؛
لأن هناك كان يهود كثيرون ثم لوقوع المدينة
على حدود الرومان واليونان وتحت نفوذ
النصارى الآراميين.» ومثله قال هرتويغ
درنبورغ الموسوي من أساتذة اللغات الشرقية
في باريس المتوفي سنة ١٩١٠و: «كان
للنصرانية تبعة متعددون في جزيرة العرب،
فكانت مالكة على شمالها بدولتي الحيرة
وغسان وعلى وسطها في المدينة وعلى جنوبها
بأسقفيات اليمن.»
٢١٧
وبقي النصارى في يثرب حتى بعد وفاة نبي
الإسلام كما يدل عليه قول حسان بن ثابت في
داليته التي رثى بها محمدًا (طبعة ليدن،
Hirschfeld, p.
59):
فَرِحتْ نصارى يثربٍ
ويهودُها
لمَّا توارى في الضريح
المُلْحَدِ
ولعل النصارى واليهود بقوا في المدينة
إلى عهد عمر بن الخطاب الذي أخرج الفريقين
من جزيرة العرب استنادًا إلى ما رُوي في
الحديث: «لأُخْرِجَن النصارى واليهود من
جزيرة العرب.»
٢١٨
ولما أراد الوليد بن عبد الملك سنة ٨٨ﻫ
(٧٠٧م) أن يجدِّد عمارة المسجد الكبير
المعروف بمسجد النبي في المدينة كان بُناته
من نصارى الروم والقبط كما روى
المُؤرِّخون، وأخبر الطبري (٢: ١١٧) «أن
ملك الروم بعث إليه بمائة عامل ومائة ألف
مثقال ذهب وأربعين حملًا من الفسيفساء
فبنوا المسجد وجعلوا طوله مائَتَيْ ذراع في
مثلها.» وقيل: إن بعض المَدَنِيِّين لم
يستحسنوا العمل؛ إذ رأوه شبيهًا
بكنيسة.
(١٠-٨) مكة
كما عُرفت النصرانية في يثرب في عهد
الجاهلية كذلك نالت مكة نصيبًا من ذلك
الدين، وها نحن ننقل ما رواه قدماء الكتبة
إثباتًا لهذا الرأي.
قدَّمْنا في أول هذا الفصل ما أثبته
المؤرخون اليونان والسريان والعرب عن
الدعوة النصرانية في الحجاز إجمالًا، ومكة
في الحجاز بل حاضرة الحجاز، فبديهي أن
يقال: إن الدين المسيحي دخل أيضًا مكة
كسواها من الجهات الحجازية، وإن قيل: إن
مكة واقعة في أقاصي الحجاز، أجَبْنا أن
كلام الكتبة يشمل كل جهات العرب حتى
أقصاها. قال تاودوريطوس المؤرخ الكنسي
٢١٩ في القرن الخامس للمسيح عن
القيصر فالنس: إنه لما اضطهد الكاثوليك
فرَّقهم في كل البلاد حتى نَفَى منهم
كثيرين في أقاصي تخوم العرب
(
per ultimos fines
Arabiæ).
وأقدم ما رواه كتبة العرب صريحًا عن
النصرانية في مكة ما ورد في أثناء تاريخ
جُرْهم الثانية قالوا: إن جُرْهم استولوا
بعد بني إسماعيل على الحجاز، وصارت إليهم
سدانة بيت الحرم في مكة ومفاتيح الكعبة،
أما زمن دولة بني جُرْهم فلم يتفق الكتبة
في تعريفه، والعلماء الأوربيون مجمعون على
أن جُرْهُم الثانية قامت قبل تاريخ الميلاد
بقليل، ومن عجيب ما رواه مُؤرِّخو العرب
كابن الأثير، وابن خلدون، وأبي الفداء
٢٢٠ وغيرهم أن سادس ملوك جُرْهُم
يُدْعى بِاسم نصراني وهو عبد المسيح بن
باقية بن جُرْهُم.
٢٢١ فمنه يَتعيَّن أن النصرانية
دخلت مكة قبل بني الأزد وتَغلُّب بني خزاعة
أعني بعد موت السيد المسيح بزمن قليل، وهذا
يوافق نصوص الكتبة المروية سابقًا عن تبشير
رسل المسيح في الحجاز.
وفي كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني
(١٣: ١٠٩) أن بيت الحرام كان له في عهد بني
جرهم «خزانة، وهي بئر في بطنه فيه الحُلِي
والمتاع الذي يُهدَى له، وهو يومئذ لأسقف
عليه.» فقوله: «أسقف» يريد به حَبْر
النصارى المعروف، وهو إثبات لما روى
مُؤرِّخُو العرب عن نصرانية الملك
الجُرْهُمي عبد المسيح بن باقية.
ولنا في كتب العرب دليل أعظم يثبت انتشار
النصرانية في مكة قبل الإسلام وذلك في أقدم
تواريخ مكة الذي عنوانه «كتاب أخبار مكة
شرَّفها الله تعالى وما جاء فيها من الآثار
تأليف «ابن الوليد محمد بن عبد الله بن
أحمد الأزرقي» المطبوع في ليبسيك
(éd. Wüstenfeld,
110–112) أنه كانت في
دعائم الكعبة «صور الأنبياء وصور الشَّجَر
وصور الملائكة، وصورة إبراهيم خليل الرحمن،
وصورة عيسى ابن مريم.» ثم قال ما حرفه
(ص١١١):
«فلما كان يوم فتح مكة دخل رسول الله
ﷺ البيت فأرسل الفضلَ بن العباس بن
عبد المطلب، فجاء بماء زمزم ثم أمر بثوب
فبُلَّ بالماء وأمر بطمس تلك الصور فطُمست،
قال: ووَضَع كفيه على صورة عيسى بن مريم
وأمه عليهما السلام، وقال: امحوا جميع
الصور إلا ما تحت يديَّ، فرفع يديه عن عيسى
بن مريم وأُمِّه … وحدَّثَني جدي قال:
حدثنا دواد بن عبد الرحمن عن ابن جريج قال:
سأل سليمان بن موسى الشامي عطاءَ بن أبي
رباح وأنا أسمع: أدركتَ في البيت تمثال
مريم وعيسى؟ قال: نعم أدركتُ فيها (كذا)
تمثال (ص١١٢) مريم مزوَّقًا في حِجْرِها
عيسى ابنها قاعدًا مزوَّقًا. وكانت في
البيت أعمدة ست سواري وصَفَها كما نقطت في
هذا التربيع.»
«قال: وكان تمثال عيسى بن مريم، ومريم
عليهما السلام في العمود الذي يلي الباب.
قال ابن جُرَيج فقلتُ لعطاء: متى هلك؟ قال:
في الحريق في عصر ابن الزُّبَير … قال ابن
جريج: ثم عاودتُ عطاء بعد حين فخطَّ لي ست
سَوارٍ كما خططتُ ثم قال: تمثال عيسى وأمه
عليهما السلام في الوسطى من اللاتي تلين
الباب الذي يلينا إذا دخلنا … (ص١١٣).
أخبرني محمد بن يحيى عن الثقة عنده عن ابن
إسحاق عن حكيم بن عَبَّاد بن حنيف وغيره من
أهل العلم أن قريشًا كانت قد جعلَتْ في
الكعبة صورًا فيها عيسى بن مريم ومريم
عليهما السلام، قال ابن شهاب قالت أسماء
بنت شقر: إن امرأة من غسان حجَّت في حاج
العرب، فلمَّا رأت صورة مريم في الكعبة
قالت: بأبي أنتِ وأمي إنك لعربية، فأمر
رسول الله
ﷺ أن يَمحُوا تلك الصور
إلا ما كان من صورة عيسى ومريم.»
وما رواه هنا الأزرقي ذكره كَتبَة آخرون
كالهَرَوي والبيهقي وابن العربي، وفيه شاهد
جليل على تنصُّر قسم من قريش
٢٢٢ في مكة، ويؤيد ذلك أحمد بن
واضح المعروف باليعقوبي في تاريخه (طبعة
ليدن، ١: ٢٩٨) حيث قال: «أما من تنصَّر من
أحياء العرب فقوم من قُرَيْش من بني أسد بن
عبد العزى؛ منهم: عثمان بن الحويرث بن أسد،
وورقة بن نوفل بن أسد.»
ولذلك ترى الشعراء النصارى في الجاهلية
لم يأنفوا إذا حلفوا أن يجمعوا بين الصليب
والكعبة قال عدي بن زيد (الأغاني، ٢:
٢٤):
سعى الأعداءُ لا
يَأْلُون شرًّا
عليك وربِّ مكةَ
والصَّليبِ
وقال
الأعشى:
حلفتُ بثوبَيْ راهب
الدير والتي
بناها قُصَيٌّ والمضاضُ بن
جُرهمِ
ولعلك ذلك أيضًا ما حمل نصارى العرب على
أن يعظموا الكعبة في الجاهلية لما كانوا
يَرَوْن فيها من الآثار النصرانية، فضلًا
عن ذِكْر إبراهيم الخليل الذي كان يُكْرَم
هناك مع ابنه إسماعيل، حيث جعل التقليد
العربي ظهور ملاك الرَّب لأمه هاجر (تكوين،
٢١: ١٧) في هذا المكان، قال ياقوت في معجم
البلدان (٤: ٦٢٢) «وليست أمَّة في الأرض
إلا وهم يعظمون البيت … وإنه من بناء
إبراهيم حتى اليهود والنصارى.»
٢٢٣
وممَّا يَدلُّ على آثار النصرانية في مكة
أو قربها المكان المعروف بموقف النصراني
٢٢٤ ذكره في تاج العروس، وكذلك
مقبرة النصارى، قال الأزرقي في أخبار مكة
(ص٥٠١): «مقبرة النصارى دُبر المقلع على
طريق بئر عنبسة بذي طُوى.» والمقلع «الجبل
الذي بأسفل مكة على يمين الخارج إلى
المدينة». ونظن أن «مسجد مريم» الذي ذكره
المقدسي في جغرافيته (ص٧٧) بجوار مكة دعي
باسم مريم العذراء لأثر ديني كان هناك في
عهد الجاهلية.
ومما يثبت نفوذ النصرانية في مكة على عهد
الجاهلية نهضة الحنيفية هناك، فإن العلماء
الذين درسوا تعاليم تلك الشيعة وما بقي من
أخبار أصحابها في تواريخ العرب ﮐ
«سبرنغر
Sprenger»،
٢٢٥ و«وِلْهَوْزن
(Wellhausen)»،
٢٢٦ و«كوسان دي
برسفال
(C. de Perceval)»،
٢٢٧ وغيرهم، فكانت نتيجة أبحاثهم
أن الحنيفية في الجاهلية كانت شيعة نصرانية
٢٢٨ خالطتها بعض تعاليم من غيرها،
وربما أراد بها شعراء الجاهلية والكتبة
القدماء النصرانية بعينها، قال شاعر هذيل
(
Hudheil 18:
11):
كأن تَواليَه
بالملا
نصارى يُساقُون لاقَوا
حنيفا
أراد بالحنيف
٢٢٩ الرَّاهب يذهب النصارى
لملاقاته، وروى صاحب الأغاني (ك١٦، ص٤٥)
وياقوت في معجم البلدان (٢: ٥١) لأيمن بن خريم
٢٣٠ قوله في وصف الخمرة:
وصَهْباءَ جرجانيةٍ لم
يَطُفْ بها
حنيفٌ ولم تَنغر
٢٣١ بها ساعةً
قِدْرُ
ولم يشهد القسُّ
المُهَيْمن نارَها
طَرُوفًا ولا صلَّى
٢٣٢ على طَبْخها
حَبرُ
أراد بالخمر قُرْبان النصارى، والحَنيف
هنا بلا شك الراهب بدليل ذِكْره في البيت
الثاني القس والحَبْر، ولعلَّ أبا ذؤيب قصد
أيضًا الراهب حيث قال مشيرًا إلى أصوام
الرُّهْبان (تاج العروس، ٣: ٣٣٩):
أقامَتْ به كمُقَام
الحَنيـ
ـفِ شهرَي جُمادى وشهرَي
صَفَرْ
ويُؤيِّد رأي هؤلاء الكتبة في نصرانية
الحُنَفاء أن معظم الذين ورد ذكرهم في
التاريخ يقال عنهم: إنهم تنصَّروا، وأشهرهم
ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزَّى، وكان
ابن عم خديجة زوجة رسول الإسلام الأولى،
وقيل: بل كان عمَّها أخا أبيها، قال ابن
هشام في سيرة الرسول (
éd.
Wüstenfeld, p. 153):
«وكان ورقة قد تنصَّر، وقرأ الكتب وسمع من
أهل التوراة والإنجيل.»
٢٣٣ وقال الإسحاقي في تاريخه الأكبر:
٢٣٤ «كان ورقة امرأ قد تنصَّر في
الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي فكتب
بالعربية من الإنجيل ما شاء أن
يكتب.»
ومنهم عُبَيد الله بن جَحش بن رئاب،
٢٣٥ قال ابن هشام (ص١٤٣-١٤٤):
«هاجَر عُبَيد الله مع المسلمين إلى الحبشة
ومعه امرأته أم حبيبة ابنة أبي سفيان.»
مسلمة فلمَّا قَدِمَاها تنصرَّ وفارَق
الإسلام حتى هلك هنالك نصرانيًّا، قال ابن
إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال:
كان عبيد الله بن جحش حين تَنصَّر يمرُّ
بأصحاب رسول الله
ﷺ وهم هنالك في
أرض الحبشة فيقول: فقَّحْنَا وصَأْصَأْتُم؛
أي أَبْصَرْنَا وأنتم تَلتمسون البصر ولم
تُبْصِروا بعدُ.»
ومنهم عثمان بن الحويرث
٢٣٦ الذي ذكر نصرانيته اليعقوبي،
وروى ابن هشام (ص١٤٤) عن ابن إسحاق قوله:
٢٣٧ «وأما عثمان بن الحويرث فقدم
على قيصر وتنصَّر وحَسُنَت منزلته عنده.»
كانت وفاته في الشام.
ومنهم زيد بن عمرو بن نُفَيْل الذي ذَكر
ابن هشام (ص١٤٨) وصاحب الأغاني تَردُّدَه
في دينه واجتماعه بأحبار النصارى ورهبانهم
بعد اعتزاله الأوثان.
ومنهم أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت الذي ترى
ديوانه مشحونًا بتعاليم النصارى مع منقولات
متعددة عن الأسفار المُقدَّسَة كسِفْر
الخليقة، وخلقة آدم، وسقوط الأبوين الأولين
بإغراء الحَيَّة والطوفان، وذِكْر الأنبياء
والملائكة والسيد المسيح ومريم العذراء.
٢٣٨
وكان في مكة من النصارى غير هؤلاء
الحُنَفاء منهم أبو قيس صرمة بن أبي أنس
٢٣٩ الذي روى عنه ابن الأثير في
أُسْد الغابة (٣: ١٨) أنه «كان ترَّهب في
الجاهلية ولَبِس المسوح.»
ومنهم زيد بن حارثة
٢٤٠ مولى رسول المسلمين كان
نصرانيًّا ثم أسلم.
وكذلك ذكر صاحب الأغاني (١٥: ٢) نصرانية
عُتْبَة بن أبي لهب صهر نبي الإسلام.
٢٤١
وكان أبو سفيان زعيم مكة صهرًا لبِشْر
أخي أُكَيْدر صاحب دَوْمة الجندل، وكان
كِلاهما نصرانيًّا، وبِشْر هو الذي علَّم
أهل مكة الخط العربي.
وممَّا يفيد تاريخ النصرانية في مكة ذكر
المُعامَلات التجارية التي كانت متواصلة
بين أهلها ونصارى قبائل العرب الوَاردِين
إليها، ونصارى الحبشة وغيرهم، فإن اختلاط
أولئك النصارى بأهل مكة أثَّر فيهم تأثيرًا
عظيمًا واجتذب كثيرين منهم إلى الدين
المسيحي، ومما يُؤيِّد ذلك أن أبا عامر
الراهب الذي حارَب رسول الإسلام في مكة
وأُحُد قد لَقي المسلمين «في الأحابيش
وعُبْدان أهل مكة» كما روى ابن هشام في
سيرة الرسول (ص٥٦١-٥٦٢).
وفي كتاب
٢٤٢ الخراج (
ed.
Th. Juynboll, 1896, p.
53) ما نقله الكاتب عن
أبي الحويرث قال: «ضرب الرسول
ﷺ على
نصرانِي بمكة دينارًا كل سنة.» وفي هذا
دليل على بقاء النصرانية في مكة في أيام
نبي الإسلام.
ولم تَخْلُ بقية مدن الحجاز من آثار
النصرانية كالطائف على مسيرة يوم من مكة،
٢٤٣ ومنها كان أُمَيَّة بن أبي
الصَّلْت الشاعر النصراني ينتسب إلى ثقيف
أهل الطائف.
٢٤٤ وكعكاظ التي كان يجتمع في
سُوقها العرب فيتناشدون ويَتفاخرون، وهناك
خَطَب قس بن ساعدة أسقف نجران كما رَوَوْا،
وفي التقويم النسطوري (ص٨) الذي أَشرْنَا
إليه سابقًا فطبعه حضرة الخوري بطرس عزيز
سنة ١٩٠٩م أن النساطرة كان لهم كنيسة في
عكاظ مع جماعة من أهل دينهم والله
أعلم.
•••
وإن تَوغَّلتَ في قلب جزيرة العرب
ورَقَيتَ ما يرتفع في أوساطها من التلال
والمشارف لقيتَ بلاد نجد التي أفاض شعراء
العرب في مدحها لطيب هوائها وجودة تربتها
كقول بعضهم:
فيا حبَّذا نجدٌ وطِيب
ترابه
إذا هَضَبَتْه بالعشيِّ
هواضبُهْ
وريحُ صَبا نجدٍ إذا ما
تنسَّمت
ضُحًى أو سَرَتْ جنْحَ
الظلام جنائبُهْ
بأَجْرعَ ممراعٍ كأنَّ
رياحَهُ
سحابٌ من الكافور، والمسكُ
شائبُهْ
وأشهد لا أنساه ما عشتُ
ساعةً
وما انجاب ليلٌ عن نهار
يعاقِبُهْ
ففي نجد وجِهَاته وَجَدَت النصرانية
لدعوتها قلوبًا تَقبَّلَتْها بالترحاب،
فهناك كانت عدة قبائل عُرفت بتَدَيُّنها
بدين السيد المسيح كطيِّئ والسكون والسكاسك
وكندة.
وقد مرَّ بك أن ثمَّ كانت أديرة لرهبان
النصارى كدَيْر سَعْد في بلاد غَطَفان،
ودَيْر عمرو في جبال طيئ قرب جو من
ديارهم.
أما نصرانية قبائل نَجْد فلنا عليها عدة
شواهد، قال السائح الإنجليزي بَلْغراف في
كتاب رحلته إلى جزيرة العرب (ج١، ص٦١) عن
بلاد الجَوْف: «إن أهل الجَوْف لا يعرفون
عن أصلهم وتاريخهم إلا القليل لكن التقاليد
المحلية تزعم أن تلك البلاد كانت قبلًا
تَدِين بالنصرانية، وأن أنصار النبي؛
كعَلِي وخالد بن الوليد اضطرُّوا إلى
استعمال أقطع الأدلة أي السيف لِيُدْخِلوا
أهلها في الإسلام.»
٢٤٥
وقال في محل آخر (ص١١١): «قبل الإسلام
كانت قبائل العرب في وسط الجزيرة راتعة في
بحبوحة السلام الذي فقدته بعد بذلك، وكان
أكثرُها يدين بالنصرانية، بل يرجح أنها
حَفِظَت دينها بعد الإسلام إلى خروج بني
أمية عليها.»
٢٤٦
وخصَّ بالذكر تلك القبائل المُتنَصِّرة
فقال (ص٨٤): إن عرب نجد قبل الإسلام كانوا
من تغلب وتنوخ وكندة وطيئ، وقد لقي ذاك
السائح هناك عدة آثار وأبنية سمع الأهلين
ينسبونها إلى قدماء النصارى من جملتها بِير
شقيق الذي نزل بقربه.
وليس كلام هذا الرَّحَّالة حديث خرافة،
بل تؤيد روايته الآثار القديمة وتاريخ
قبائل نَجْد، وكانت أعظم تلك القبائل كندة
ومنها السكون والسكاسك الذين ذكر
تَنصُّرَهم ابن خلدون في تاريخه (٢: ٢٤٩)،
وكان لكندة بيت ملك فتولَّوا على بني معد
في أنحاء نجد وأوَّلُهم حُجر آكل المُرار
ثم خلف حُجرًا بَنُوه من بعده ومنهم كان
امرؤ القيس الشاعر.
أما نصرانية كندة فلا شك فيها، وقد
أثبتنا ذلك في مقالة خصوصية، حيث رَدَدْنا
على مزاعم حضرة الأب أنستاس الكرملي في
مُزْدِكِيَّة امرئ القيس (راجع: المشرق، ٨،
١٩٠٥م، ص٩٩٨–١٠٠٦)، وقد ذكرنا الكتابة التي
وضعتها على صدر ديرها هند الكبرى بنت
الحارث الكندية حيث تفتخر بكونها «أَمَة
المسيح وأم عبده (أي عمرو بن هند) وبنت
عبَيده» (أي الحارث بن عمرو بن حجر ملوك
كندة)، وروينا أيضًا النصوص اليونانية التي
نقلها فوتيوس في مكتبته
(Migne, P. G. III,
46-47) عن المعاهدات
التي أبرمها ملوك الروم مع ملوك كندة في
أيام أنسطاس، ويوستينوس، ويستنيان ولولا
نصرانية كندة لما تسامحوا بذلك على
الإطلاق، ويؤيد قولنا في دين كندة عبد
المسيح الكندي في رسالته إلى الهاشمي في
أيام المأمون، وقد ذكر هذه الرسالة أبو
الريحان البيروني في الآثار الباقية (ص٢٠٥،
من طبعة ليبسيك)، قال الكندي (ص١٢٤، من
طبعة لندن، سنة ١٨٨٠م):
«ولسنا نحب أن نفتخر بما لنا من السبق
والنسق في العربية وشرف الآباء فيها إذ كان
ذلك معروفًا غير مجهول لآبائنا وأجدادنا،
فقد علم كل ذي علم ولب كيف كانت ملوك كندة
الذين هم ولدونا، وما كان لهم من الشرف على
سائر العرب لكننا نقول ما قاله رسول الحق
بولس: ألا من يفتخر فليفتخر بالله والعمل
الصالح فإنه غاية الفخر والشرف، فليس لنا
اليوم فخر نفتخر به إلا دين النصرانية الذي
هو المعرفة بالله وبه نهتدي إلى العمل
الصالح، ونعرف الله حق معرفته ونتقرب إليه
وهو الباب المؤدي إلى الحياة والنجاة من
نار جهنم.»
وقال في محل آخر (ص١٠٣)
يشير إلى دين كندة أجداده:
«ولولا أن الديانة عندي أشرف من الحسب
الجسداني الزائل لكان يسعني السكوت … لكني
رجل نصراني ولي في هذه الديانة سابقة هي
حسبي ونسبي وشرفي الذي أتشرف به وأفتخر
بمكاني منه، وأرغب إلى الله في إماتتي على
هذه الديانة وحشري عليها، فإنه غاية أملي
ورجائي الذي أرجو به الخلاص من العذاب في
نار جهنم والدخول إلى ملكوت السماء والخلود
فيها بفضله وإحسانه وسعة رحمته.»
فصحَّ إذن أن بلاد نجد لم تَشذَّ عن
سواها في قبول الدين النصراني فشاع فيها
كما شاع في بقية أنحاء العرب، وبه نختم هذا
الفصل الذي تَحرَّيْنا فيه تاريخ النصرانية
في جميع جهات العرب.