النصارى والكتابة العربية
أول خدمة أدَّاها نصارى العرب لقومهم تعليمهم الكتابة، وهي قضية يشهد عليها تاريخ الكتابة العربية وأصولها.
وكان في جزيرة العرب كِتابة أخرى شاعَت في شمالي بلاد العرب وفي غربيها وهي الكتابة النَّبطية، وقد ظَهرَت على صورتين صورة منها مَربَّعة الحروف مُحْكَمة الصُّنْع مع صلابة في شكلها شاعت خصوصًا في شمالي العرب واستعمَلُوها في النقود والأبنية لها علاقة مع الخط الآرامي المعروف بالإسطرنجلي وصورة أخرى مُستديرة الشكل خشبية الصُّنْع، جرى استعمالها غالبًا في نُسَخ المعاملات والصكوك وما شاكلها.
فهذه الكتابة النَّبطية على صورتيها هي أصل الكتابة العربية، ويدعوها العرب بالجزم، أخذوها عن الأمم المجاورة لهم، وكان النصارى هم الذين علَّموها العرب سواء قيل: إنهم وضعوها أو إنهم نَقلُوها كقوم وسط، ولنا على ذلك شواهد تثبت قولنا، فإن العرب الذين بَحثُوا عن أصل الكتابة العربية نسبوها إلى رجال من بولان من قبيلة طيئ كانوا على دين المسيح يسكنون الأنبار فقاسوها على شكل السريانية، قال السيوطي في المزهر (١: ٣٩٠).
وكذلك نقل صاحب الفهرست (ص٤) عن ابن عباس قوله:
«أول مَن كتب بالعربية ثلاثة رجال من بَولان وهي قبيلة سكنوا الأنبار وأنهم اجتمعوا فوضعوا حروفًا مُقطَّعة وموصولة وهم مُرامِر بن مرة (ويقال: مروة)، وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة (ويقال: جدلة)، فأما مُرامِر فوضَع الصور وأمَا أسلم ففَصَل ووصَل، وأما عامر فوضع الإعجام، وسُئِل أهل الحيرة: ممن أخذتم الخط العربي؟ فقالوا: من أهل الأنبار.»
ومثلهما ابن عبد ربه في العقد الفريد (٢: ٢٠٥):
«وحَكَوا أن ثلاثة نَفَر من طيئ اجتمعوا ببقعة؛ وهم: مُرامِر بن مرة، وأسلم بن سِدرة، وعامر بن جدرة، فوضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية فتعلَّمه قوم من الأنبار، وجاء الإسلام وليس أحد يكتب بالعربية غير بضعة عشر إنسانًا.»
وروى البلاذري في فتوح البلدان (ص٤٧١) مثل هذا القول لكنه روى «ببقَّة» بدلًا من «البقعة» وبقة مدينة قرب الأنبار، ثم زاد إيضاحًا بقوله عن بشر:
«وكان بِشْرُ بن عبد الملك أخو أكَيْدر بن عبد الملك بن عبد الجن الكندي ثم السَّكوني صاحب دَوْمة الجندل يأتي الحيرة فيقيم بها الحين وكان نصرانيًّا فتعلم بشر الخط العربي من أهل الحيرة، ثم أتى مكة في بعض شأنه فرآه سفين بن أمية بن عبد شمس، وأبو قيس بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب يكتب فسألاه أن يُعلِّمَهما الخط فعَلَّمَهما الهجاء، ثم أراهما الخط، فكتبَا، ثم إن بشرًا وسفينًا وأبا قيس أتوا الطائف في تجارة فصحبهم غيلان بن سَلَمة الثقفي، فتعلم الخط منهم وفارَقَهم بشر ومضى إلى ديار مُضَر فتعلم الخط منه عمرو بن زُرارة بن عُدَس فسُمِّي عمرو الكاتب، ثم أتى بِشْر الشام، فتعلم الخط منه أناس هناك، وتعلم الخط من الثلاثة الطائيين أيضًا رجل من طانجة كلب، فعلَّمه رجلًا من أهل وادي القرى، فأتى الوادي يتردَّد فأقام بها وعلَّم الخط قومًا من أهلها.»
قال الشاعر كندي من أصل دَوْمة الجندل يخاطب بني قريش:
فهذا الخط هو الذي بعدئذٍ نُسِب إلى الكوفة لمَّا عُنِيَ أساتذة الكوفة بتحسينه في أوائل الإسلام، أمَّا الخط الثاني النَّسْخي، فالظاهر أن العرب أخذوه من نصارى النَّبَط المجاورين لجهات الحجاز، ومن رهبان مَدْيَن ووادي القرى الذين ذكرهم شعراء العرب، ويؤيد ذلك قول بعض الكتبة إن واضعي الكتابة العربية كانوا من طسم وجَديس، وقال ابن النديم في الفهرست (ص٤)، والحاج خليفة في كشف الظنون (٣: ١٤٥): «كانوا من ملوك مدين»، وذكرَا رأي من ادعى أنهم وضعوا الخط العربي على أسمائهم وهي «أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت»، فذِكْرُهما لمَدْين وذِكْر البلاذري لوادي القُرى يُؤيِّد قولنا (راجع ما ورد في القسم الأول عن النصرانية فيهما).
وقد وجَد العلماء من هذا الخط النسخي أمثلة عديدة يرتقي عهدها إلى عهد الخط الآخر، ومن ثم لم يَعُد يجوز القول كما ورد في كتاب القلقشندي عن الخط (المشرق، ٤: ٢٨٠) بأن «الخط الكوفي هو العربي، وأن الخط النسخي وضعه ابن مُقْلَة في القرن الثالث للهجرة.» وعلى كل حال لا بد من الاعتراف بفضل النصارى لتشييع الخط في جهات العرب.
ولنا دليل آخر في المُعلَّقات التي زعموا أنها كُتِبَت على الحرير وعُلِّقَت على أستار الكعبة وأخص المُعلَّقات لشعراء من قبائل نصرانية كتغلب وبكر وكندة، ففي كتابتها برهان على شيوع فن الخط بين النصارى.
ومن الأدلة على ذلك ما جاء في شعراء النصرانية من الإشارة إلى الكتابة كقول حاتم الطائي (الأغاني، ٧: ١٣٢):
وقال المُرار بن منقذ يصف أخربة دار:
ومثلهما لبيد حيث قال:
وسبقهم امرؤ القيس، فشبه طلل الدَّار بوحي الزَّبُور في عسيب يماني:
وقال أيضًا مُخصِّصًا زبور الرهبان:
وقد افتخر أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت بقومه إياد لعلمهم بالكتابة، فقال:
أنا شرحبل بر «بن» طلمو «ظالم» بَنَيتُ ذا المرطول سنة ٤٦٣م.
جدول أقدم الكِتَابات العربية.
(١) كتابة عربية بخط نَبَطي تاريخها سنة ٢٢٣ لبُصرى ٣٢٨ للمسيح وجدَها في نمارة من أعمال حوران المستشرق دوسو.
(٢) كتابة زَبَد في ثلاث لغات يونانية وسريانية وعربية.
على مشهد أقيم ذكرًا لمارسرجيوس تاريخها ٨٢٣ للإسكندر ٥١٢ للمسيح اطلب صورها فى القسم الاول صفحه ١٠٤.
(٣) كتابة عربية يونانية وُجِدَت في حَرَّان من أعمال حُورَان.
تاريخها سنة ٤٦٣ لبُصرى و٥٦٨ للمسيح.
(٤) مثال خَطِّ عربي نَسْخِي على البَرْدِي تاريخه السنة ٢٤ للهجرة (٦٤٦م).
(٥) قطعة من سورة البقرة عن رَقِّ من القرن الثالث للهجرة في مكتبتنا الشرقية.
فهذه الشواهد كافيه لتثبت حقيقة قولنا بأن الفضل الكبير في تعليم الكتابة العربية للمسلمين يرجع لنصارى العرب وإن لم ننكر أن لليهود أيضًا حِصَّة في ذلك، لا سيما في المدينة كما ذكر البلاذري، وكذلك رووا أن بعض العرب كتبوا في الجاهلية بالعبرانية، إلا أن عبرانية ذلك العهد هي الآرامية أو السريانية كقول صاحب الأغاني (٣: ١٤) عن ورقة بن نوفل «إنه كان يكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء.» والله أعلم.
وقال في كتاب لطائف المعارف للثعالبي (Ms de Leide p. 39): كتاب الإسلام: جاء الإسلام وفيهم (أي العرب) بضعة عشر رجلًا يكتبون بالعربية: عمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، وعثمان وأبَان ابنا سعيد، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وابناه يزيد ومعاوية، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس، والعلاء بن الحضرمي، وأبو سلمة بن عبد الأشهل، وعبد الله بن أبي سرح، وحُويطِب بن عبد العزى، «وكان عبد الله بن أبي سَرْح يكتب للنبي ﷺ ثم ارتدَّ ولحق بالمشركين، وقال: إن محمدًا يكتب ما شئتُ، فلما كان يوم فتح مكة جاء به عثمان وكان بينهما رضاع فاستوهبه النبي فوهبه له.»
ومما يدخل في هذا الباب ما رواه ياقوت في باب نُقَيْرة (٤: ٨٠٧): «قال إن خالد بن الوليد لما خرج إلى عين تَمْر وجدوا في كنيسة صبيانًا يتعلمون الكتابة في قرية يقال: عنها عين تمر، وكان فيهم حُمْران مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه.»