الفنون الجميلة بين النصارى
ليس شيء يدلُّ على رُقِيِّ الأمم كشيوع الفنون الجميلة بينهم؛ لأن الجَمال كما لا يخفى يَسبِي قلب الإنسان ويُجرِّدُه عن الأمورِ السافلة الدَّنِيَّة ليَسْمُو به إلى عالَم العقل فيقربه إلى مصدر الجمال — سبحانه وتعالى — ولذلك قد قيل: إن الفنون الجميلة هي أثمن دُرَّة في تاج الحضارة والمدنية.
على أن العرب من هذا القبيل قد تَخلَّفوا عن بقية الشعوب المتمدنة كالكلدان والآشوريين والفُرْس والمصريين واليونان والرومان فلا تكاد تجد لهم أثرًا يُذْكَر في القرون السابقة لتاريخ الميلاد، والسَّبب في ذلك عيشتهم الفطرية البعيدة من الحضارة وانتقالهم في البوادي انتجاعًا لمراعي الإبل والمواشي، واشتغالهم بالغزوات والحروب.
أما القرون التابعة للسيد المسيح فإنها لا تخلو من بعض آثار هذه الفنون الجميلة، ولا جرم أن النصرانية بدخولها في جزيرة العرب أَدخلتْ معها عنايتها الدائمة بترقية دعائم الحضارة، ولا سيما في الأزمنة التي سبقت قليلًا عهد الإسلام، وفي أوائل ظهوره كما سترى.
وبيانًا لذلك قد عَوَّلْنا على كتابة فصل فيما نعرفه من تأثير النصرانية في ترقية الجمال ونشر أصحابها لأخص فنونه بين العرب، وأشهر هذه الفنون أربعة: هندسة البناء، والتصوير، والحفر، والموسيقى نُفرِد لكل منها بابًا.
(١) هندسة البناء
البناء أول صنائع العمران البشري؛ لأن الإنسان في حاجة إليه لاتقاء عوامل الطبيعة وأذى العدو، على أن البناء لا يُعدُّ من الفنون الجميلة إلا إذا كانت المباني شاهقة البنيان واسعة الأرجاء ذات أوضاع هندسية ونقوش فنية وفقًا لقواعد راهنة تجعلها من الأبنية المعتبرة فمنها قصور الملوك والمَعاقِل والحصون والهياكل والكنائس وغيرها من الأبنية الدينية والمدنية، وها نحن ندون هنا ما يعود فضله إلى النصرانية مباشرة بالمباني الدينية ثم المدنية.
(١-١) المباني الدينية
إن ما قدمناه من الشواهد العديدة في انتشار النصرانية في كل أنحاء جزيرة العرب في عهد الجاهلية يستلزم توفير الأبنية الدينية والكنائس والأديرة حيثما وجد النصارى، وربما صرح المؤرخون بذكرها دون وصفها فلا يَسعُنا أن نقطع بهندامها وحُسْن هندستها، ولا مراء أنه كان بينها الأبنية الفخيمة والهياكل البديعة.
فمما جاء ذكره من ذلك في اليمن ما رواه المؤرخ فليسترجيوس في مطاوي كلامه عن قنسطنسيوس بن قسطنطين الكبير حيث قال: إن تاوفيل الهندي الذي كان أوفده هذا الملك إلى الحِمْيَرِيين نحو السنة ٣٥٦م شَيَّد في اليمن ثلاث كنائس في ظَفَار حاضرة اليمن، ثم في عدن، وفي هرمز (راجع [القسم الأول، الباب الخامس]).
وقد ذكر كنائس اليمن قَزَما الرحالة الكاتب اليوناني نحو السنة ٥٣٥م فقال: «حيثما سِرتَ تَجد كنائس للنصارى وأساقفة وشهداء وسياحًا حتى بين أهل عربية السعيدة الذين يدعون بالحِمْيَرِيِّين كما في كل العرب أيضًا.» (راجع [القسم الأول، الباب الخامس]).
«كان القليس مربَّعًا مستوي التربيع جعل «أبرهة» طوله في السماء ٦٠ ذراعًا وكَبسه من داخله ١٠ أذرع في السماء وكان يصعد إليه بدرج الرُّخام وحوله سور بينه وبين القليس مائتا ذراع يطيف به من كل جانب، وجعل بين ذلك كله حجارة يسميها أهل اليمن الجروب منقوشة مطابقة لا يدخل بين أطباقها الإبرة مطبقة به، وجعل طول ما بنى به من الجروب ٢٠ ذراعًا في السماء ثم فصل ما بين حجارة الجروب بحجارة مثلثة تشبه الشُّرَف مداخلة بعضها ببعض حجرًا أخضر وحجرًا أحمر وحجرًا أبيض وحجرًا أصفر وحجرًا أسود، وفيما بين كل سافَيْن خَشبُ سَاسَم مُدوَّر الرأس غِلَظ الخشبة حضن الرجل ناتئة على البناء … ثم فصل بإفْرِيز من رخام منقوش طوله في السماء ذراعان، وكان الرخام ناتئًا على البناء ذراعًا، ثم فصل فوق الرخام بحجارة سود لها بريق من حجارة نُقُم جبل صنعاء المُشْرِف عليها، ثم وُضِع فوقها حجارة صفر ثم حجارة بيض لهما بريق فكان هذا ظاهِرَ حائط القليس، وكان عَرْض حائط القليس سِتَّة أذرع … وكان له باب من نحاس ١٠ أذرع طولًا في ٤ عرضًا، وكان المدخل منه إلى بيت في جوفه طوله ٨٠ ذراعًا في ٤٠ ذراعًا معلق (؟) العمل بالساج المنقوش ومسامير الذهب والفضلة، ثم يدخل من البيت إلى إيوان طوله ٤٠ ذراعًا عن يمينه وعن يساره وعقوده مضروبة بالفسيفساء مُشَجَّرة بين أضعافها كواكب الذهب ظاهرة، ثم يدخل من الإيوان إلى قبة ٣٠ ذراعًا في ٣٠ ذراعًا جدرها بالفسيفساء، وفيها صُلُب منقوشة بالفسيفساء والذهب والفضة وفيها رخامة مما يلي مطلع الشمس من البَلَق مربعة ١٠ أذرع في ١٠ تغشى عَينَ مَن نظر إليها من بطن القبة، تؤدِّي ضوء الشمس والقمر إلى داخل القبة، وكان تحت الرخامة مِنْبر من خشب اللَّبْخ، وهو عندهم الأَبنُوس مُفَصَّل بالعاج الأبيض ودرج المنبر من خشب الساج ملبسة ذهبًا وفضة، وكان في القبة سلاسل فضة.»
ثم ذكر ما حل بهذه الكنيسة بعد الهجرة وكيف هدمها أبو جعفر المنصور ثاني خلفاء بني عباس بإغراء أحد أبناء الوهب بن المُنَبِّه وبعض يهود صنعاء.
وقد ذكر أبو صالح الأرْمَني في تاريخه (ص١٤٠، من طبعة أوكسفورد) كنيسة أخرى في بلاد اليمن دعاها «مَرُور الدير» قال: إنه كان عليها حصن منيع وتسمى في زمانه بمقبرة الحكماء.
وقد اشتهرتْ في تاريخ النصرانية مدينة نجران التي استشهد أهلها في عهد ذي نؤاس (راجع [القسم الأول، الباب الخامس])، فلما عاد إليها السلام ورجعت النصرانية إلى رونقها بُنِي فيها كنيسة كبيرة عرفها العرب بكعبة نجران فورد ذكرها في شعر الأعشى حيث أنشد يخاطب ناقته:
فمدح الأعشى هنا بَني عبد المَدَان الحارثِيِّين سادة نجران النصارى، قال أبو الفرج الأصفهاني (الأغاني، ١٠: ١٤٢): «والكعبة التي عناها الأعشى ها هنا يقال: إنها بِيعَة بناها بنو عبد المَدَان على بناء الكعبة وعظموها مضاهاة للكعبة وسموها كعبة نجران، وكان إذا نزل بها مُستَجير أُجِير، أو خائفُ أُمِّن أو طالِب حاجة قُضِيتْ، أو مُسترفِد أُعْطِيَ ما يريده.»
•••
وإن اقتربنا في جزيرة العرب إلى بادية الشام ومملكة بني غسان وجدنا فيها من المباني الدينية ما يُقضى منه العجب، وقد أثبتنا في الصفحات السابقة (راجع [القسم الأول، الباب الثاني]) ما رواه مُؤرِّخُو العرب عن ملوك غسان الأولين وما بَنَوْه من الأديرة كدير أيوب، ودير حالي، ودير هند، ودير ضخم، ودير النبعة، ودير بُصْرى، ودير سعد، ومن هذه الأديرة ما بقي عامرًا بعد الإسلام وإلى اليوم يُطْلَق اسم الدير على بعض جهات الصفا وحوران كدير الكهف، ودير قن.
وقد اختلط بنو غسَّان في منازلهم شرقي الشام وفي جنوبها الشرقي بالرومان واليونان النصارى فجاروهم في حضارتهم وتعلموا منهم هندسة البناء فشَيَّدوا مثلهم البِيَع والكنائس التي يُرى بعضها حتى اليوم في جهات حوران والصفا واللجا وجولان وفي عبر الأردن وبلقاء (راجع [القسم الأول، الباب الثاني])، وهي من البنايات الفخيمة وعليها الرموز النصرانية والكتابات اليونانية واللاتينية، وعلى أثر منها كتابة عربية وجدت في حران سبقت الهجرة بأربع وخمسين سنة كُتبت على «مرتول» أي مشهد القديس يوحنا المعمدان الذي شيده أحد شيوخ القبائل العربية المدعو شراحيل [القسم الأول، الباب الثاني].
وترى مثل هذه الأبنية الدينية في الجزيرة وديار ربيعة وديار بكر وشمالي سورية قد أشَرْنا إليها سابقًا [القسم الأول، الباب السابع، الباب الثامن، الباب التاسع] فإن كَتَبة العرب وشعراء الجاهلية قد ذكروا نحو خمسين ديرًا منها نَعَتوا بعضها بأجمل النعوت كقول ياقوت في معجم البلدان عن دير الرصافة (٢: ٥٦٠) أنه «من عجائب الدنيا حُسنًا وعمارة.» وفي زبد شمالي سورية أقيم سنة ٥١٢ للمسيح مشهد لذكر القديس الشهيد سرجيوس عليه أول أثر من الخط العربي في تلك السنة [القسم الأول، الباب التاسع].
ولم تخل أواسط جزيرة العرب كنجد والحجاز واليمامة من الأبنية النصرانية كالأديرة والبيع والصوامع (اطلب الفصل العاشر من القسم الأول)، وهناك كانت قبائل نصرانية كطيئ وتميم التي افتخر خطباؤها لما وفدوا على نبي الإسلام بتشييدهم للكنائس فقال الزبرقان:
ثم ورد في كتاب الوفادات لابن سعد ذكر كنيسة بني حنيفة وراهبها (ص١٢٩-١٣٠)، وقد وجد أيضًا في الحجاز ونجد أديرة للنصارى في الجاهلية كدير خندف ودير غطفان وغير ذلك مما مر وصفه، وقد ذكر الطبري في تاريخه (١: ٣٠٤٧) دير سلع قرب المدينة المنورة يثرب وفيه دُفن الخليفة الثالث عثمان بن عفان.
وما قولنا بالأبنية الجليلة التي أمر ببنائها الملك يستنيان في طور سيناء ذكرًا لتَجَلِّي الرب فيه لبني إسرائيل وإكرامًا للقديسة كاترينا الشهيدة، وهذه الأبنية تشهد إلى اليوم على براعة مهندسيها.
•••
ومما يدخل في هذا الباب ما بناه النصارى من الأبنية الدينية لغير ملتهم، فمن ذلك بناء الكعبة نحو السنة ٦٠٥ للميلاد، تولَّى بناءها رومي اسمه باقوم مع رجل قبطي كما روى النهروالي في كتاب إعلام الأعلام ببيت الله الحرام (ص٤٩-٥٠) قال:
وليست هذه المرة الوحيدة التي عمَّر النصارى ما خرب من الكعبة، أخبر الأزرقي في أخبار مكة (ص٣٩٥-٣٩٦) أنه وقع سيل جَحَّاف في سنة ثمانين (٧٠٠م) في خلافة عبد الملك بن مروان دخل المسجد وأحاط بالكعبة فكُتب في ذلك إلى عبد الملك فبعث بمال عظيم وكتب إلى عامله على مكة لإصلاح ما خرب قال: «وبعث رجلًا نصرانيًّا مهندسًا في عمل ضفاير المسجد الحرام وضفاير الدور في جنبتي الوادي فأمر بالصخر العظام فنقلت على العَجَل وحفر الأرباض دون دور الناس فبناها وأحكمها من المال الذي بعث به.»
وكذلك جرى في عهد الوليد بن عبد الملك فإنه أراد توسيع المسجد الحرام وزخرفته فاستقدم لذلك مهندسين نصارى، قال ياقوت في معجم (٤: ٤٦٦): «في أيام الوليد استقدم من ملك الروم أربعين روميًّا، وأربعين قبطيًّا ليعملوا المسجد فعمروه سنة ٨٧-٨٨ﻫ (٧٠٩-٧١٠م) مائتي ذراع.» قال الأزرقي (ص٢٠٩): «وهو (أي الوليد) أول مَن نقل إلى المسجد الحرام أساطين الرخام … وسقفه بالساج المزخرف، وجعل على رءوس الأساطين الذهب على صفائح الشَّبَه من الصفر، وأزَّر المسجد بالرخام من داخله وجعل في وجه الطيقان في أعلاها الفسيفساء.» فكل هذه الأعمال قام بها عملة النصارى.
وما صنعه النصارى في الكعبة والمسجد الحرام في مكة قاموا به أيضًا في المدينة في مسجد النبي لما أراد الوليد أن يُجدِّد بناءه، قال الطبري (٢: ١١٩٤) في تاريخ سنة ٨٨ﻫ (٧٠٩م):
«بعث الوليد بن عبد الملك إلى صاحب الروم يعلمه بأنه أمر بهدم مسجد رسول الله ﷺ وأن يعينه فيه فبعث إليه بمائة ألف مثقال ذهب وبعث إليه بمائة عامل وبعث إليه من الفسيفساء بأربعين حملًا وأمر بأن يتتبع الفسيفساء في المدائن التي خربت فبعث بها إلى الوليد فبعث الوليد بذلك إلى عمر بن عبد العزيز … وفيها ابتدأ عمر بن عبد العزيز ببناء المسجد.»
ومثله أيضًا مسجد دمشق المعروف بالجامع الأموي الذي خلف كنيسة مار يوحنا بعد الفتح الإسلامي، فإن الوليد إذ أراد تجديد عمارته التجأ أيضًا إلى ملك الروم ليوجه إليه مائة صانع كما روى ابن عساكر في تاريخ دمشق (١: ٢٠٢)، فاجتهدَوا في بنيانه وتزويقه وزخرفته حتى عُدَّ مع كنيسة الرُّهَا ومنارة الإسكندرية من جملة عجائب الدنيا، وقد ذكرنا في المشرق (١٤، ١٩١١م، ٦٣٩) أعمال الفسيفساء الراقية إلى عهد بنائها التي ظهرت قبل بضع سنين في مصلب الجامع وقناطره وكواه بعد تنظيفها من سخام حريق تيمورلنك ومن الملاط والكلس فلاحت بزهو ألوانها العجيبة ومحاسنها الباهرة وتفنُّن مهندسيها النصارى في النقش وتصوير مَجالي الطبيعة من زهور وأشجار وأثمار وصروح وقصور، وكل يعلم أن ترميم الجامع الأموي وتجديد زخارفه القديمة تولاها في الحقبة الأخيرة المهندس أبيري النصراني.
ومن رأى المسجد الأقصى في بيت المَقدِس ودرس هندسته لا يلبث أن ينسب أيضًا بناءه إلى صَنَعة من الروم الذين انتدبهم إلى تشييده الخليفة عبد الملك بن مروان، وبأمره قُلِعَت قبة كانت للنصارى في كنيسة مدينة بعلبك وهي من نحاس مطلي بالذهب فنصبها على صخرة هيكل سليمان (تاريخ ابن البطريق، ٢: ٤٢)، وقال ابن خلدون في مقدمته: «إن عمر لما حضر لفتح بيت المقدس وكشف عن الصخرة بنى عليها مسجدًا على طريق البداوة، ثم احتفل الوليد بن عبد الملك في تشييد مسجده على سنن مساجد الإسلام … وألزم ملك الروم أن يبعث الفعلة والمال لبناء هذه المساجد وأن ينمقوها بالفسيفساء فأطاع لذلك وتم بناؤها على ما اقترحه.»
ولما ابتنى عمرو في جهات مَنْف جامع الفسطاط وَكَل بتشييده إلى النصارى، وروى المقريزي في الخطط (٤: ١٢٤، من الطبعة الجديدة) «أن بعض عُمُدِه أو أكثرها ورخامه من كنائس الإسكندرية وأرياف مصر.» وكذا قال عن جامع الجيزة.
فيثبت من هذه الشواهد كلها شيوع الهندسة النصرانية في كل أنحاء جزيرة العرب قبل الإسلام ونسبة كل الأبنية الإسلامية الأولى إليها.
(١-٢) الهندسة المدنية٣
قد اتَّسعْنا في ذكر الهندسة النصرانية الدينية في عهد الجاهلية وأوائل الإسلام بين العرب، وفي جزيرتهم أيضًا أبنية غيرها مدنية كالقصور والحصون وغير ذلك مما يشيده الملوك والذوات لأغراضهم الخاصة أو لشئون مملكتهم، وهذه الآثار كثيرة في كل أنحاء العرب ولا سيما في ممالكها الثلاث؛ أي التَّبابِعة في اليمن، والمَناذِرة في العراق، والغَساسنة في الشام، ورد شيء من ذكرها في الشعر الجاهلي والتقليد القديم وكشف على بعضها أصحاب الرحل إلى جزيرة العرب في الحقبة الأخيرة، فهذه المباني لا يُعْرَف لها غالبًا تاريخ ولم تذكر أسماء بُناتِها، ولا جَرَم أن للنصارى في قسم منها نصيبًا صالحًا.
وإن باشرنا بالعراق وشمالي الجزيرة وجدنا في شِعْر الأسود بن يَعْفر بعض قصور لآل مُحرِّق، ولبني إياد فقال:
فهذه القصور بُنِيَت لملوك نصارى، وقد تولَّى بناءَها مهندسون نصارى ذكروا أحدهم، وهو رجل رومي يقال له: سِنِمَّار بَنَى الخورنقَ للنعمان الكبير (ياقوت، ٢: ٤٩١).
ومما ذَكرَه ياقوت في معجم البلدان (٤: ١١٦) من الأبنية النصرانية المدنية قصر العَدَسِيِّين قال: «إنه في طرف الحيرة لبني عمَّار بن عبد المسيح نُسِبُّوا إلى جدتهم عَدَسة بنت مالك بن عوف الكلبي.»
وقد أفادنا ياقوت الرومي (٤: ٤١٣) أن قصر الخليفة المتوكل المعروف بالجعفري الجامع لكل مَحاسن البناء كان بانيه دليل بن يعقوب النصراني كاتب بغا الشرابي.
ومما وقف عليه الأثريون والسُّيَّاح في أيامنا من الأبنية الجليلة والآثار البديعة في جهات العرب في أنحاء مؤاب غربي وادي سرحان عدة قصور فخيمة ومعاقل جليلة سبق لنا ذكرها في المشرق غير مرة (١، ١٨٩٨م، ٤٨١ و٦٣١؛ ثم ٤، ١٩٠١م، ٧٦٥-٧٦٦ إلخ)، كالمُثَنَّى وقُصَيْر عَمْرَة وطوبة وفيها من الآثار الهندسية ومن التصاوير وتمثيل أحوال البادية كالصيد والغزوات والمآدب والصنائع ما انذهل العلماء لوجوده في البراري، واتَّسعَت مذ ذاك الحين مَجلَّات العلماء ولا سيما تآليف المستشرقين في وصفها والبحث عن بُناتها ومُصوِّرِيها، واليوم قد رجَّح العلماء أن هذه الأبنية من عهد الوليد بن يزيد الخليفة الأموي، وكان يُفضِّل العيش في البادية على المدن، فصرف القَناطير المقنطرة لبناء تلك الآثار لسكناه وسكنى جنوده وحاشيته، أما مُهندِسو هذه القصور فكانوا أيضًا من نصارى الشام ومصر والجزيرة، وقد نسبها العلماء أولًا إلى بعض ملوك العَجَم ثم إلى بَنِي غسان، أو إلى بَنِي لَخْم حتى رجحوا آخرًا كونها للوليد بناها له النصارى الوطنيون، وفي هندسة هذه القصور ما استدلوا به على بلادهم المختلفة، فكأن كل فريق منهم تتبع طريقته الهندسية التي اعتادها في موطنه، وقد وقف حضرة الأب هنري لامنس في تاريخ بطاركة مصر لساويروس بن المُقفَّع على ما يؤيد نسبة هذه البنايات في بَوادي العرب للوليد، قال ابن المُقفَّع ما حرفه:
ولو تَتبَّعْنا بعد هذا المآثر البنائية العربية في شمالي الشام وفي باديتها وما وراء الأردن وفي الحجاز واليمن وفي مصر لوجدنا آثار الهندسة المدنية النصرانية في كثير منها، غير أن هذه الفنون الهندسية لم يحكم العلماء درسها ليتحققوا أصلها ودقائق صنعها، وفي القليل مما ذكرناه دليلٌ كافٍ لإثبات قولنا بأن للنصارى أكبر فضل في البناء العربي الديني والمدني معًا.
(٢ و٣) التصوير والنحت
يظهر الجمال في البناء بحسن رسمه وبراعة هندسته وانتقاء مواده ووحدة أقسامه وإتقان نظامه، أما في فني التصوير والنحت فإن الجمال يلوح بتمثيلهما لمواليد الطبيعة الثلاثة جمادها ونباتها وحيوانها فيخرجها المصور بهيئاتها وألوانها وملامحها وعواطفها، فيكاد يحييها بقلمه الساحر، ويجسمها النحات فيظهرها بنتوءاتها وتداويرها الطبيعية فيحكم صورة وجدانها كأنها لا ينقصها سوى الحركة والنطق.
وكما شاع بين نصارى العرب في الجاهلية فن هندسة البناء كذلك استخدموا فني التصوير والنحت، وأول شاهد يمكن الاستدلال به ما ورد في الشعر الجاهلي من ذكر الصور والدُّمى والتماثيل في بِيَع النصارى وأديرتهم، فأعجبوا بجمالها ونقوشها البديعة حتى ضربوا بها المثل في الجمال فقالوا (الميداني، ١: ٣٠٠): «أحسن من دمية.» وقال عدي بن زيد (شعراء النصرانية، ص٤٥٥):
وقال عبد الله بن عجلان (الأغاني، ١٩: ١٠٢):
وقال الأحوص (الأغاني، ٤: ٤٩؛ والشريشي، ١: ٢٩١):
ومثله للأخطل (ديوانه، ص١٢):
وقال عمر بن أبي ربيعة (الكامل، للمبرد، ص٣٧٠):
وقال أُمَيَّة بن أبي عائذ (ديوان الهُذَيْلِيِّين، ص١٧٧):
وقال الأعشى (لسان العرب، ٦: ١٤٤) وبنَى فِعلَين من لفظ الصلبان والصُّوَر:
ومن العجب أن بعض الشعراء إذ رأوا هذه التماثيل في كنائس النصارى دعوها أصنامًا وأوثانًا، قال أبو قطيفة (معجم البلدان، لياقوت، ٣: ٦٦١):
قالوا: أراد بالوثَن الصليب، وكانوا يَنصبونه في وسط الكنائس، وقال بشر بن أبي خازم يَمْدَح بني الحدَّاء النصارى (البيان للجاحظ، ٢: ٧١):
فهذه الشواهد وغيرها مثلها تَدلُّ كلها على شيوع فن التصوير ونحت التماثيل بين نصارى العرب، قال صاحب تاج العروس (٨: ١١١): «التمثال الشيء المصنوع مُشبَّهًا بخلق من خلق الله عز وجل … والتماثيل هي صور الأنبياء، وكان التمثيل مباحًا في ذلك الوقت.»
ومما تكرر ذكره في الشعر الجاهلي نقش النصارى لكتبهم الدينية كقول رؤبة (ديوانه، ص١٤٩):
وكقول المُرقَّش يصف رسوم الدار:
وقال في المفضليات (ص٦٩٨):
وقد ورد في تواريخ العرب القديمة ذكر آثار دينية من النحت والتصوير عُنِي بها النصارى في أنحاء الجزيرة، فمن ذلك ما رويناه سابقًا [القسم الثاني، الفصل الثامن] عن نقوش وتصاوير القليس التي زان بها أبرهة تلك الكنيسة الشهيرة، وقد ذكر بعضهم تماثيلها فعدها لجهله أصنامًا (اطلب: في معجم البلدان وصف القليس وما قال هناك عن كُعَيْت، ٤: ١٧٢).
وما قيل عن كنيسة صنعاء يصح عن بِيعَة نجران المعروفة بكعبة نجران التي عُنِي ببنائها بنو عبد المَدَان، فإن قدماء الكَتَبة يشيدون بمحاسنها، ولعل صورها أتى بها الحبشة بعد محاربتهم لذي نؤاس وفتحهم نجران، فإن الحبش كانوا يحسنون التصوير، وفي الحديث الإسلامي أن بعض نساء محمد اللواتي كُنَّ هَاجرْنَ إلى أرض الحبشة ذَكَرنَ أمامه حسن كنيسة مارية هناك وتصاويرها، فقال لهن محمد وهو في مرض الموت: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قَبْرِه مسجدًا ثم صوروا فيه تلك الصور.» (اطلب: البخاري، في باب المساجد).
وقد ورد في معجم البلدان لياقوت (٢: ٧٠٣) ذكر كعبة نجران وصورها مع شهادة لعموم نصارى العرب باتخاذ الصور في كنائسهم، قال في وصف دير نجران:
«مَوضع باليمن لآل عبد المَدَان بن الديان من بني الحارث بن كعب … بنوه مربعًا مستوي الأضلاع والأقطار مرتفعًا عن الأرض يُصْعَد إليه بدرجة على مثال بناء الكعبة فكانوا يحجونه وهم طوائف من العرب ممن يحل الأشهر الحرم ولا يحج الكعبة، ويحجه خثعم قاطبة، وكان أهل ثلاث بيوتات يَتبارَوْن في البِيَع وربها أهلُ المنذر بالحيرة، وغسان بالشام، وبنو الحارث بن كعب بنجران، وبَنَوا دياراتهم في المواضع النَّزِهة الكثيرة الشجر والرياض والغُدْران، ويجعلون حيطانها الفَسافِس وفي سقوفها الذَّهَب والصور، كان بنو الحارث بن كعب على ذلك إلى أن جاء الإسلام.»
ومن التصاوير التي لا تزال آثارها إلى يومنا في جزيرة العرب ما تزدان به كنيسة طور سينا الراقية إلى القرن السادس للمسيح، فإن فيها من النقوش والفسيفساء والصور المختلفة أشياء كثيرة اتسع في وصفها زُوَّار ذلك المقام الجليل، وهي لمُصوِّرِين وصَنَعة بوزنطيين أرسلهم يوستنيانوس الملك لتشييد تلك المقامات وتزيينها بضروب النقوش.
وكذلك مكة كان للمُصوِّرِين والنَّحَّاتِين النصارى فيها آثار ذَكرَها أقدم مؤرخ لتلك المدينة، وهو أبو الوليد الأزرقي في كتاب أخبار مكة (ص١١٠-١١١، طبعة ليبسيك) قال يذكر بناء قريش للكعبة في الجاهلية:
ثم روي عن عطاء بن أبي رياح «أنه أدرك في البيت تمثال مريم مزوقًا في حِجْرِها عيسى قاعدًا مزوقًا.» وذلك «في العمود الذي يلي الباب.» وأنه «هلك في الحريق في عصر ابن الزبير.» وروي عن ابن شهاب (ص١١٣) «أن امرأة من غسان حجت في حاج العرب، فلما رأت صورة مريم في الكعبة قالت: بأبي وأمي إنك لعربية، فأمر رسول الله ﷺ أن يَمْحُوا تلك الصور إلا ما كان من صورة عيسى ومريم.» وذكر الأزرقي أيضًا (ص٤٥٠) أن في مكة «دارًا لسعد القصير غلام معاوية بناها سعد بالحجارة المنقوشة فيها التماثيل مصورة في الحجارة.» فلا شك أن هذه التماثيل والصور اصطنعها النصارى في عهد الجاهلية، كما عُهد إليهم في زمن المهدي بناء مسجد مكة وتزويقه، قال المقدسي في كتابه أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم (ص٧٣) يذكر المهدي: «المسجد اليوم من بنائه، وقد ألبست حيطان الأروقة من الظاهر بالفسيفساء حمل إليها صناع الشام ومصر ألا ترى أسماءَهم عليه.»
وإلى هؤلاء الصَّنَعَة النصارى تُعْزى أيضًا النقوش والتصاوير المختلفة بالفسيفساء التي مر لنا ذكرها في الكلام عن الجامع الأموي في دمشق، وفي الأقصى في القدس الشريف، وفي جامع النبي في المدينة، وكذلك النقوش والتصاوير التي أشرنا إليها في الهندسة المدنية في قصور المشتى، وقُصَيْر عَمْرة والأُخَيْضِر فإنها كلها أعمال صَنَعَة يُدْعَون في الغالب رُومًا، وهم نصارى الشام ومصر والعراق.
ومما وقف عليه أرباب العاديات والسياح في الحقبة الأخيرة كنائس قديمة بعضها مطمور في الأرض يرتقي عهدها إلى القرون الثلاثة قبل الإسلام في العراق وما بين النهرين وجهات الأناضول والأرمن على جدرانها تصاوير شتى يدل بعضها على براعة أصحابها في الفن ونقلت رسومها في المجلات الأثرية أو في تآليف مستقلة.
وكان صنعة الحياكة ينسجون الأقمشة ويزينونها بالصلبان والتصاوير فشاعت بين العرب، وقد ورد ذكرها غير مرة في أخبار نبي الإسلام وفي الحديث (اطلب: مجلة المنار، في مجلدها العشرين، ص٢٢٠–٢٣٠) فمن ذلك ما رواه عن مسلم أن عائشة «سترت جانب بيتها بِقِرَام؛ (أي: ستر أحمر) عليه تصاوير وتماثيل.» وأنها «اشترت نُمْرُقة عليها تصاوير.» وأنها «سَتَرت بابها بدرنوك؛ (أي: طنفسة) فيه الخيل ذات الأجنحة.» وكانت هذه الأنسجة يحيكها أهل اليمن النصارى كما سترى فيزينون نقشها بالتصاوير.
وكانوا يُصَوِّرُون على بعضها الصليب وصور القديسين ويتخذونها كألوية كما ذكرنا سابقًا (ص٣٣٤) عن راية بني تغلب الممثلة لمارسرجس، ومن هذا القبيل راية العُقَاب التي اتخذها خالد بن الوليد في أول عهد الإسلام (اطلب: ياقوت، ٣: ٦٩٠-٦٩١) دعيت بذلك لصورة عُقاب كان منسوجًا فيها.
ومما يدخل في هذا الباب نقود نصرانية عليها صور ملوك وقديسين اتخذها أولياء الأمور والخلفاء في أول الإسلام فطبعوا عليها شعارهم أو عبارة قرآنية يوجد منها شيء في المتاحف الكبرى، وقد ذكرنا في مجلة المشرق (١٨، ١٩٢٠م، ٧٩٩) نقودًا للسلجوقيين وللأرتقيين مُصَورة فيها صور ملوك الروم أو أوليائهم وبعضها يمثل شخص السيد المسيح وأمه الطاهرة.
(٤) فن الموسيقى٦ والغناء
الموسيقى من أَجلِّ الفنون الجميلة، غايتُها تأليف الألحان، وتَناسُب النغمات، وتَنظيم الأوزان المُحرِّكة للنفس تحريكًا ملذًّا، فمنها الموسيقى الطبيعية لتلحين الأصوات البشرية والآلية المتخذة من آلات الطَّرَب؛ كالعود والأرغن، وكلتاهما إما دينية لتمجيد الله وتحريك القلوب على خدمته، وإما مدنية ليسلو بها الإنسان عن أَشجانِه، وتطرب بنغماتها الصُّدُور، وتَتشنَّف بألحانها الآذان، فتُهيِّج في سامعيها مختلف العواطف اللَّيِّنَة أو الشديدة، المُحْزِنة أو المُبْهِجة على حسب إيقاعها؛ ولذلك قال بعضهم: إن الغناء غِذاء الأرواح، كما أن الشراب غِذاء الأشباح.
هذا في غناء أهل الحضر، أما عرب البادية فلم يعرفوا إلا القليل من هذا الفن كالحداء لسَوْق إبلهم وكالبسيط من التَّلاحِين يُسمُّونها بالتَّرنُّم والتهليل والسِّناد والهَزَج. قال ابن خلدون في المقدمة (٢: ٣٥٩، من طبعة باريس): «وهذا كله من أوائل التَّلاحين لا يبعد أن تَتفطَّن له الطباع من غير تعليم، شأن البسائط كلها من الصنائع، ولم يَزل هذا شأن العرب في بداوتهم وجاهليتهم.»
ولا نَشكُّ أن نصارى العرب في الجاهلية أحرَزُوا لهم فخرًا في هذا الفن كما أصابوه بالفنون الجميلة السابق ذكرها، وذلك في قسمي الموسيقى الدينية والمَدنِيَّة معًا.
(١) الموسيقى الدينية
أثبتنا فيما سبق لنا من الكلام كم كان لنصارى العرب من كنائس وأديار وصوامع ومقامات دينية شتى في كل أنحاء الجزيرة في شمالها وجنوبها وأواسطها كانت تُقام فيها الحفلات الدينية، ومن المعلوم أن الرُّتب النصرانية تُباشَر غالبًا بالغناء والترتيل، سواء أُنْشِدَت التسابيح التقوية، أو تُلِيَت المزامير والصلوات الفرضية، وذلك منذ أوائل النصرانية كما وَرَد في رسائل القديس بولس حيث قال لأهل أفسس (٥: ١٨-١٩): «امْتلِئُوا من الروح متحاورين فيما بينكم بمزامير وتسابيح وأغاني روحية ومُرنِّمِين ومُرتِّلِين في قلوبكم للرب.» ومثله قوله لأهل كولسي (٣: ١٦).
وقد ورد في كُتُب العرب أن الرهبان كانوا إذا خافوا المَلالة والفتور على أبدانهم تَرنَّمُوا بالألحان واستراحت إليه أنفسهم، وقال الأبشيهي في «المُستطرَف في كل فن مستظرف» (٢: ١٧٧): «لأهل الرهبانية نَغَمات وألحان شَجِيَّة يُمجِّدُون الله تعالى بها ويبكون على خطاياهم ويتذكرون نعيم الآخرة.» وقد قِيل في مُغَنٍّ منهم (ياقوت، ٢: ٦٩١):
وقيل في غيرهم (٢: ٦٩٥):
وفي الشعر الجاهلي ألفاظ أطلقوها على غناء القسوس والرهبان، فيقولون «هَيْنَم القس» إذا نَغَّم بخفوت الصوت، قال أيمن بن خريم يشير إلى تقديس الكأس عند النصارى (الأغاني، ١٦: ٤٥):
ومثلُه «زَمزمَ»؛ أي طرب في صَوتِه خفيًّا، قال الأعشى في المعنى (شعراء النصرانية، ص٣٧٨):
وإذا رفع صوته بالدعاء قالوا: «سَبَّح»، وأنشدوا:
وإذا تَغنَّى القس بقراءته قيل: شَمْعَل، وإذا أطْلَق صوته بالدعاء قِيل: جَأَر. قال ربيعة بن مقروم في وصفه راهبًا (الأغاني، ١٩: ٩٢):
(قال): المُتَشَمْعِل المُتَغَنِّي في تلاوة الزَّبُور، وقال عدي بن زيد النصراني يُقْسِم برئيس دينه:
وقولهم: «رجَّع الإنجيل»: إذا ردَّد نَغماتِه في حلْقِه، وقد مر، ومثله التلحين في قراءة الإنجيل، وجاء في الحديث (إرشاد الأنام، للشيخ علي سالم، ص١٩؛ وفي الجامع الأصغر): «إيَّاكم ولُحون أهل الكتابين؛ أي التوراة والإنجيل، وهم اليهود والنصارى، فإنهم يُراعُون حسن الصوت ولا يَلتَفِتُون إلى تَدبُّر المعنى.» (كذا)، فمِن هذا كله ترى ما كان من المقام السَّنِيِّ للغناء الديني بين نصارى العرب.
ولما ظهر الإسلام وشاع القرآن بين أهله أخذوا قراءته وتَلحِينَه من قراءة وتلحين نصارى العرب، روى الفاكهي في كتاب أخبار أم القرى (ص٩) عن عائشة قالت: سمع النبي ﷺ قراءة أبي موسى الأشعري فقال: «لقد أُوتِي هذا من مزامير داؤد.» وجاء في الحديث في الجامع الأصغر (اطلب: إرشاد الأنام، للشيخ علي سالم، ص١٧ و١٩): «سَيجيء بعدي قومُ يُرَجِّعُون بالقرآن تَرجيع الغناء والرهبانية والنَّوْح لا يُجاوِز حناجرهم مفتونة قلوبهم بقلوب مَن يعجبهم شأنهم.» وروي أيضًا في الحديث: «اقرءوا القرآن بلحون العرب وإياكم لحون أهل الكتابين.»
(١-٢) الموسيقى المدنية
ومنه يتضح أن الغناء والأدوات الموسيقية استعارها العرب من الأمم المجاورة لا سيما النصرانية، أما أهل البادية فبقي هذا الفن بينهم في بساطته على موجب معرفتهم الفطرية، وقد شهد على ذلك أبو الفرج في كتابه الأغاني، قال يذكر عمر بن الخطاب أول الخلفاء الراشدين ومفندًا قول ابن خرداذبه (٨: ١٣٩):
«ولا كان الغناء العربي أيضًا عُرِفَ في زمانه إلا ما كانت العرب تستعمله من النَّصب والحداء، وذلك جارٍ مَجْرى الإنشاد، إلا أنه يقع بتطريب وترجيع يسيرٍ ورفْعٍ للصوت … وأوَّلُ مَن دُوِّنَت له صَنعَتُه منهم؛ (أي من الخلفاء) عمر بن عبد العزيز فإنه ذكر عنه أنه صَنَع في أيام إمارته على الحجاز سبعة ألحان … ومن الناس من ينكر أن تكون لعمر بن عبد العزيز هذه الصَّنْعَة … ولم يوجد في وقت من الأوقات ولا حال من الحالات اشتهر بالغناء ولا عُرِف به ولا بمعاشرة أهله … ومخالفوهم قد أيدتهم أخبار رويت.»
وفي أيام بني أمية اشتهر أوَّل المُغَنِّين من العرب؛ وهم: أبو يحيى عُبَيد الله بن سُرَيج المُتوفَّى بالجذام في زمن هشام بن عبد الملك، ثم أبو الخطاب مسلم بن محرز، وكان أصله من الفُرْس، ثم سعيد بن وهب كان أبوه أسود، وكان هو خلاسيًّا، مات في أيام الوليد بن يزيد في دمشق، ثم الغريض واسمه أبو يزيد، وقيل: أبو مروان عبد الملك، وأبو الوليد مالك بن أبي السَّمْح، وسبقهم أبو عثمان سعيد بن مسحج، وكان في أيام معاوية.
ولا شك أن نصارى العراق والروم مع أهلِ فارس هم الذين عَلَّمُوا هؤلاء فنَّ الغناء. قال أبو الفرج في كتاب الأغاني (ص٣: ٨٤)، وقوله حجة في هذا الباب، في ترجمة ابن مُسْحج أنه:
وجاء له في محلٍّ آخر عن الغريض (٢: ١٤٦):
«قال هارون بن محمد الزيات: حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه أن الغريض سمع أصوات رهبان بالليل في دير لهم فاستحسنها فقال له من معه: يا أبا يزيد صغ على مثل هذا الصوت لحنًا، فصاغ مثله في لحنه: «يا أم بكر …» فما سمع بأحسن منه.»
واشتهر في الغناء في أوائل الإسلام من النصارى غير حنين، منهم عون الحيري، وكان عباديًّا أيضًا، ذكره صاحب الأغاني (٢: ١٢٥؛ و١٠: ١٣٥)، وذكر برصوما المزمر (٥: ٣٤ و٤٦ … إلخ)، وذكر أيضًا بعض الحيريين وبه يثبت قولنا: إن للنصرانية في عهد الجاهلية وأوائل الإسلام فضلًا في إشاعة الغناء والموسيقى العامية والمدنية كما أشاعوا بين العرب الغناء والموسيقى الدينية، وكانت طريقتهم في الغناء على النمط القديم المُستحسَن إلى أن اشتهر في أيام الرشيد أخوه إبراهيم بن المهدي الذي قال عنه أبو الفرج في الأغاني (٩: ٣٥): إنه «هو أول من أفسد الغناء القديم وجعل للناس طريقًا إلى الجسارة على تغييره.»
ولا شك أن العرب أخذوا الغناء من الأمم المجاورة لهم كالنبط والروم والفرس (اطلب: مروج الذهب للمسعودي، ٨: ٩١)، ولابن خلدون في مقدمته فصل حسن في صناعة الغناء وفي تأثير الأمم في غناء العرب، ومما قال:
«إن المُغَنِّين من الفُرس والروم وقَعوا إلى الحجاز وصاروا موالي للعرب وغَنَّوا جميعًا بالعيدان والطنابير والمعازف، وسمع العرب تلحينهم الأصوات فلَحَّنُوا عليها أشعارهم، وظهر بالمدينة نشيط الفارسي، وطُوَيس، وسائب خاثر مولى عبد الله بن جعفر، فسَمِعوا شعر العرب ولَحَّنُوه وأجادوا فيه وطار لهم ذِكْر ثم أخذ عنهم مَعْبَد وطبقته وابن سُرَيج وأنظاره، وما زالت صناعة الغناء تَتدرَّج إلى أن كَملتْ أيام بني العباس.»
وقد عيَّن ابن عبد ربه في العقد (٣: ٢٣٧) الأمكنة التي شاع فيها الغناء قال:
«إنما كان أصل الغناء في أمهات القرى في بلاد العرب ظاهرًا فاشيًا؛ وهي: المدينة والطائف وخيبر ووادي القرى ودَوْمة الجندل واليمامة، وهذه القرى مَجامع أسواق العرب.»