العلوم والصنائع بين نصارى العرب
(١) العلوم بين عرب الجاهلية
ذكرنا منها في فصل الفنون الجميلة «علم الهندسة»، وما كان للنصارى من الفضل في الآثار البنائية الدينية والمدنية قبل الهجرة وفي أول الإسلام فليُراجَع، ونضيف إلى قولنا هناك أن النصارى أوَّل مَن نقل إلى العربية كتب أوقليدوس في الهندسة، وذلك في صدر الدولة العباسية نقله أولًا الحجاج بن يوسف بن مطر، ثم ثابت بن قُرَّة، فبقي علينا أن نثبت ما أداه النصارى للعرب من الخدم في علوم الطب والنبات والنجوم والفقه، أما الشعر والعلوم اللُّغَوِيَّة فسنفرد لها بابًا آخر.
(١-١) الطب
قال صاعد (ص٤٧): «إن صناعة الطب كانت موجودة عند جماهير العرب لحاجة الناس طرًّا إليها.» لكن هذا العلم قد اقتبسوه من الأمم النصرانية المُجاوِرة، ولا سيما من الكلدان والسريان واليونان، وكان للسريان مدارس طبية ومستشفيات في العراق وفارس في جنديسابور، وكذلك اليونان اشتهرت مدرستهم الطبية في الإسكندرية، فإن تَصَفَّحْنَا التواريخ القديمة وجَدْنَا أن الطب شاع بين العرب بواسطة حكماء نصارى أو متطببين من تلامذتهم.
فَمِمَّن سبقوا الإسلام وجاء ذكرهم في تواريخ الأطباء تِيادُروس، قال ابن النديم في الفهرست (ص٣٠٣)، ونقله عنه ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء في طبقات الأطباء (١: ٣٠٧): «تِيادروس كان نصرانيًّا وله معرفة جيدة بصناعة الطب ومحاولة لإعمالها وبنَى له سابور ذو الأكتاف البِيَع في بلده ويقال: إن الذي بَنَى له البِيَع بهرام جور، ولتيادروس من الكتب كُنَّاش (أي مجموع طبي).»
وقد سبق عهد الإسلام أيضًا أطباء سريان أو رُوم شاعُوا عند العرب كأَهْرَن بن أَعين المعروف بالقس الذي وضع كناشًا بالسريانية في ٣٠ مقالة، قال ابن جلجل: إن عمر بن عبد العزيز وجده في خزائن الكتب فأمر ماسرجويه اليهودي بإخراجه فوَضَعه في مُصلَّاه واستَخَار الله في إخراجه إلى المسلمين للانتفاع به. (ابن أبي أصيبعة، ١: ١٦٣)، وكشَمْعُون الراهب المعروف بطيبويه (١: ١٠٩)، وكسرجيس الراسعيني أول ناقل كتب اليونان إلى السريانية، وكسرابيون ويوحنا ابنه من أهل بَاجَرمَى، فليوحنا كتاب كُنَّاش كبير في سبع مقالات، وذكر ابن بختيشوع في تاريخه من الأطباء الروميين إصطفن الحراني وأقرن الرومي (تاريخ الحكماء، للقفطي، ص٥٦)، وذكروا طبيبًا آخر روميًّا يدعونه أنسطاس، ولم يعرفوا زمانه ضربوا به المثل في الحذق بالطب، وقيل: من اسمه اشتقوا اللفظة العربية النطس أو النطاسي (تاج العروس، ٤: ٢٥٨).
قال أوس بن حجر يذكر رجلًا من تيم الرباب اسمه حذيم، ضُرِب المثلُ بحذقه في الطب:
وأشهر من هؤلاء الحارث بن كَلَدة الثقفي المعروف بطبيب العرب، كان من نصارى النساطرة، وقد اتسع في ترجمته وذكر مآثره الطبية كثيرون من كتبة العرب، كالقفطي في تاريخ الحكماء (ص١٦١)، وابن أبي أصيبعة (١: ١٠٩)، وابن قتيبة في المعارف (ص٩٨)، وذكر له ابن عبد ربه شعرًا (في العقد الفريد، ٣: ١١٤) قالوا: إنه كان من الطائف وسافر إلى بلاد فارس وأخذ الطب من نصارى جنديسابور وغيرها، وبرز في صناعة الطب وطبب في فارس وعالج بعض أجلَّائهم فبرئوا وحصل له بذلك مال كثير، ثم رجع إلى بلده الطائف وأدرك الإسلام فاتخذه صاحبه كطبيب، وكان محمد يأمر مَن به علة أن يأتيه، وبقي إلى أيام معاوية، قال أبو زيد: «وكانت للحارث مُعالجات كثيرة ومعرفة بما كانت العرب تعتاده وتحتاج إليه.» وقد ذكروا له حكمًا وأقاويل عديدة تدل على ثقوب عقله وكثرة علمه، وقالوا: إنه أسلم لكن إسلامه لم يصح.
وتَبِع الحارثَ ابنُه النَّضرُ بن الحارث بن كَلَدة، وهو ابنُ خالة نبي المسلمين، قال ابن أبي أصيبعة (١: ١١٣): «وكان النَّضر قد سافر البلاد أيضًا كأبيه واجتمع مع الأفاضل والعلماء بمكة وغيرها وعاشَر الأحبار والكهنة واشتغل وحصل من العلوم القديمة أشياء جليلة القدر واطلع على علوم الفلسفة وأجزاء الحكمة، وتعلم من أبيه أيضًا ما كان يعلمه من الطب وغيره.» ثم ذَكَر مُعاداته لمحمد وسعيه بأذاه إلى أن كان يوم بدر فانتصر محمد وأنصاره على أعدائهم، وكان النَّضر من جملة المأسورين فأمَرَ بقتله (سنة ٦٢٤م)، وقد روينا سابقًا رثاء أخته قتيلة له (اطلب: الأغاني، ١: ١٠)، وقول محمد عندما سمع أبياتها: «لو سمعت هذا قبل أن أقتله ما قَتلتُه.»
وقد ذُكر من الأطباء النصارى في صدر الإسلام عبد الملك بن أبجر الكناني، قال فيه ابن أبي أصيبعة (١: ١١٦): «كان طبيبًا عالمًا ماهرًا، وكان مقيمًا في أول أمره في الإسكندرية؛ لأنه كان متولي التدريس بها من بعد الإسكندرانيين، وذلك عندما كانت البلاد في ذلك الوقت لملوك النصارى، ثم إن المسلمين لما استولوا على البلاد وملكوا الإسكندرية أسلم ابن أبجر على يد عمر بن عبد العزيز، وكان حينئذٍ أميرًا قبل أن تصل إليه الخلافة وصحبه، فلما أفضت الخلافة إلى عمر وذلك في صفر سنة ٩٩ للهجرة، نقل التدريس إلى أنطاكية وحَرَّان وتَفرَّق في البلاد، وكان عمر بن عبد لعزيز يَستطِبُّ ابن بجير ويعتمد عليه في صناعة الطب.»
واشتهر في الطب غير هؤلاء من نصارى العرب في أوائل الإسلام، ذكر منهم القفطي وابن أبي أصيبعة الطبيب ابن الأثال، قال في طبقات الأطباء (١: ١١٦): «كان طبيبًا متقدمًا من الأطباء المتميزين في دمشق نصراني المذهب، ولما ملك معاوية بن أبي سفيان دمشق اصطفاه لنفسه وأحسن إليه، وكان كثير الافتقاد له والاعتقاد فيه، والمحادَثة معه ليلًا ونهارًا، وكان خبيرًا بالأدوية المفردة والمركبة.» وقد روي في الأغاني (١٥: ١٣) كيف قتله خالد بن المهاجر؛ لأنه سقى بأمر معاوية سُمًّا عَمَّه عبد الرحمن بن خالد.
واشتهر أيضًا في أيام معاوية الطبيب النصراني أبو الحكم الدمشقي، قال ابن أبي أصيبعة (١: ١١٩): «كان طبيبًا نصرانيًّا عالمًا بأنواع العلاج والأدوية، وله أعمال مذكورة وصفات مشهورة، وكان يستطبه معاوية ويعتمد عليه في تركيبات أدوية لأغراض قصدها منه، وعُمِّر أبو الحكم عُمْرًا طويلًا حتى تجاوز المائة سنة.» ثم ذكر ابنه الحكم وحفيده عيسى بن الحكم، وجرى كلاهما على خطته متطببين وماتَا في عهد الدولة العباسية.
ومن مشاهير الأطباء المسيحيين في أوائل الدولة الأموية تياذوق وثاودون «كان تياذوق طبيبًا فاضلًا، وله نوادر وألفاظ مستحسنة في صناعة الطب، وكان في أول دولة بني أمية ومشهورًا عندهم بالطب، وصحب أيضًا الحجاج بن يوسف الثقفي المتولي من جهة عبد الملك بن مروان وخدمه بصناعة الطب، وكان يعتمد عليه ويثق بمداواته، وكان له منه الجامكية الوافرة والافتقاد الكثير … ومات تياذوق بعدما أسن وكبر، وكانت وفاته في واسط في نحو سنة ٩٠ للهجرة، وله من الكتب كُنَّاش كبير ألَّفه لابنه، وكتاب إبدال الأدوية وكيفية دقها وإيقاعها وإذابتها.» (ابن أبي أصيبعة، ١: ١٢١). أما ثاودون فذكره ابن العبري في تاريخه (ص١٩٤) وذكر له أيضًا كُنَّاشًا، ولم نجد له ذكرًا في غيره.
ومن مشاهير أطباء العرب ما رواه صاحب نقائض جرير والأخطل (ص٢٣٠) «أن في يوم ماكسين قُتل رجلان تغلبيان من بني الطبيب يقال لهما: الآسيان يدعى أحدهما الأحمر.»
فترى صدق قولنا في فضل النصارى العرب في فن الطب والمعالجات، أما فن الجراحة فزَاوَلها رجل نصراني من تميم على عهد رسول الإسلام اسمه ابن أبي رمثة، ذكره ابن أبي أصيبعة (١: ١١٦) قال: إنه كان مزاولًا لأعمال اليد وصناعة الجراحة، وقد صحفه المرحوم جرجي زيدان في كتاب التمدن الإسلامي (٣: ٢١) بابن أبي رومية.
(١-٢) علم النبات
يلحق العرب علم النبات بعلم الطب الذي يستمد منه مواده وأدويته، وذلك ما يَدْعُونه بالمفردات ومنها يستحضر الأطباء أدويتهم فيُعِدُّون المُركَّبَات، ولا جَرَم أن العرب في الجاهلية عرفوا كثيرًا من النباتات التي تنمو في جزيرتهم وعَلِمُوا بالتجربة فوائدها الغذائية والعلاجية، والدليل عليه ما ورد في معاجمهم من أسماء النباتات التي جمع منها الأصمعي كتابًا دعاه كتاب النبات والشجر، نشره الدكتور هفنر في مجموعنا الموسوم بالبلغة في شذور اللغة (ص١٧–٦٢)، ونشر أيضًا للأصمعي كتاب النخل والكرم (٦٣–٩٨).
غير أن هذه اللغويات لا يحصل منها علم مفيد إلا بمعرفة خواص تلك المفردات ومنافع كل صنف من النبات، وقد أصبح النصارى في هذا العلم كما في علم الطب قومًا وسطًا بين القدماء والعرب، فإن الأطباء الذين مر ذكرهم إذ درسوا في مدارس الإسكندرية وجنديسابور اقتبسوا منها أيضًا علم النبات الصالح للطب والغذاء، والدليل عليه فصول أوردها ابن أبي أصيبعة وغيره من الكتبة للحارث بن كلدة فيها عدة أوصاف للأدوية النباتية وللأشجار والأثمار والحشائش، ذكرها في محاورة جرت له بينه وبين كسرى أنوشروان.
وكذلك تآليفهم التي دعوها بالكناشات، وهي لفظة سريانية يراد بها المجاميع الطبية وأوصاف الأدوية المتخذة عمومًا من النبات.
ولعل هؤلاء الأطباء درسوا كتاب ديسقوريدس العين زربي اليوناني في النبات والحشائش والأدوية المفردة في أصله اليوناني وعليه كان المعول في الطب القديم، أما ترجمته العربية فكان النصارى أيضًا أول المقدمين عليها، قال ابن جلجل (في طبقات الأطباء، ٢: ٤٦–٤٨): «إن كتاب ديسقوريدس ترجم بمدينة السلام في الدولة العباسية في أيام جعفر المتوكل، وكان المترجم له إصطفن بن بسيل الترجمان من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي، وتصفح ذلك حنين بن إسحاق المترجم فصحح الترجمة وأجازها.» ثم قال ما خلاصته: إن إصطفن كان أبقى أسماء كثيرة من النباتات على لفظها اليوناني لجهله ما يوافقها في اللسان العربي، وبقي الأمر كذلك إلى أن أرسل ملك الروم إلى صاحب الأندلس الملك الناصر عبد الرحمن نسخة من كتاب ديقوريدس مع صور الحشائش بألوانها ثم أرسل إليه راهبًا يدعى نيقولا جاء إلى قرطبة سنة ٣٤٠ﻫ/ ٩٥١م، وأعاد النظر في ترجمة إصطفن فصححها ووضع للنباتات أسماءً عربية موافقة لها، وذلك بصحبة أطباء وجدهم هناك ذوي معرفة بالنباتات والعقاقير فصارت هذه الترجمة هي المعول عليها واستفاد منها ابن جلجل وابن البيطار في تآليفهما عن المفردات، ثم كان لجالينوس أيضًا تأليف في النبات عَرَّبه حنين بن إسحاق.
(١-٣) علم النجوم
إن صفاء أَديم السماء في أنحاء جزيرة العرب في معظم ليالي السنة لَمِمَّا أَلْفتَ أنظار أهلها إلى ما زَيَّن به الله الأفلاك من النجوم والكواكب والسيارات فعرفوها منذ سالف الأعصار ودَلُّوا إليها بأسماء شاعتْ بعدئذٍ بين الأمم الغربية، وهي لا تزال إلى اليوم جارية على لفظها العربي بين أرباب الفَلَك، وكان مما يبعث هِمَّتَهم إلى رصد الفلك ومراقبة النجوم حاجتهم إليها ليهتدوا بها في أسفارهم، وهم قوم رُحَّل يقطعون البراري والأقفار، ومنهم القوافل التي كان عليها المُعتمَد في المواصلات بين الهند وفارس وسواحل الشام، وكانوا استفادوا شيئًا كثيرًا من ذلك بمجاورتهم للكلدان الذين سبقوا جميع الأمم في علم الفلك، فأخذوا عنهم الأنواء الجَوِّيَّة وحركات السيارات ومنازل القمر ومنطقة البروج، وفي الشعر القديم آثار من ذلك.
ولنا شاهد في سِفْر أيوب على معرفة العرب لأسماء النجوم وحركاتها في الفلك، إذ كان أيوب النبي عربيَّ الأصل عاش في غربي الجزيرة حيث امتحن الله صبره، وكذلك في المجوس الذين اهتدوا بالنجم إلى مذود السيد المسيح شاهِد آخَرُ على قولنا، والمجوس على رأي كثيرين من الآباء من شيوخ العرب، على أن هذا العلم كبقية العلوم كان عند العرب عمليًّا ليس نظريًّا. ريثما قام بينهم وفي جيرتهم من يبحث فيه بحثًا مدققًا، وكان السريان أول من فعلوا ذلك منهم برديصان المبتدع (راجع ترجمته في: المشرق، ١٨: ٩٧٧)، ومنهم سرجيوس الراس عيني، ويعقوب الرُّهَاوي، وجرجس المعروف بأسقف العرب، وساويرس سِبوكت وغيرهم، وتآليفهم باقية إلى يومنا في خزائن كتب أوروبة الكبرى، منها ترجمتهم لعدة مصنفات يونانية لجالينوس، ولا سيما لبطليموس القلوذي، فإنهم نَقَلوا كتابه المجسطي، وهو أفضل وأمتع كتاب وضعه اليونان في علم الهيئة، ثم تولَّى بعدهم تعريبه وتفسيره علماء النصارى؛ أولهم حُنَين بن إسحاق، ثم الحجاج بن يوسف بن مطر الكوفي، وثابت بن قُرَّة في عهد المأمون، ثم عبد المسيح بن ناعمة الحِمْصي فأصبح مذ ذاك علم النجوم زاهرًا في الإسلام.
(١-٤) الفقه
هو علم الأحكام الشرعية العملية، ولم يكن للعرب أن يستغنوا عنه، وهو إما ديني وإما مدني، وللنصارى في كليهما بعض الآثار بين عرب الجاهلية.
فأما الفِقْه الديني فكان نصارى العرب يتبعون أحكامه المنصوصة في المَجامِع العمومية والخصوصية التي كان يعلن بها أساقفتهم في أنحاء الجزيرة، وكانت هذه الأحكام مكتوبة إما باللغة السريانية كما ترى في المجامع النسطورية التي نُشِرَت بالطبع (راجع القسم الأول، [الباب السادس]) وإما باللغة اليونانية كالحقوق القانونية التي وضعها القديس جرجنسيوس رسول الحِمْيَرِيين بعد موت شهداء نجران (القسم الأول، [الباب الخامس]).
وأما الفقه المدني فغلب على المُتَنَصِّرين من بني غسان والقبائل المجاورة للفرات وما بين النهرين الفقه الروماني كما نظمه الملك يوستنيان، ولما جاء الإسلام أدخلوا كثيرًا من أحكامه في الفقه الإسلامي كما بين ذلك العلماء الأوروبيون.
وكان لقبائل العرب قضاةٌ نَجِدُ بينهم بعضًا من الدائنين بالنصرانية نخص منهم بالذِّكْر قس بن ساعدة أسقف نجران المدعو بحكيم العرب وحكمهم، وزهير بن جناب القضاعي، وذو الإصبع العدواني (راجع تراجمهم في: شعراء النصرانية).
وقد اشتهر في الجاهلية قضاة بني تميم وأغلبهم نصارى بينهم أسقف نصراني مَرَّ لنا ذكره [القسم الأول، الفصل الثاني والأعلام النصرانية الجغرافية]، وهو محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم (نقائض جرير والفرزدق، ص٤٥٣)، وقد ورَدَ هناك عن حكام تميم ما حرفه [القسم الأول، الفصل الثاني]: «كان حُكَّام بني تميم في الجاهلية ستة: ربيعة بن محاسن أحد بني أسيد بن عمرو بن تميم، وزرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم، وضمرة بن ضمرة النَّهْشَلي، وأكثم بن صيفي، وأبوه صيفي من بني أسيد بن عمرو، والأقرع بن حابس، حتى بعث الله نبيه محمدًا ﷺ، وهو الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفين بن مجاشع.» وقال في تفسير قول جرير (ص٤٣٨): «ونحن الحاكمون في عكاظ.»: إن الحكام والأئمة في الموسم (أي عكاظ) كانوا بعد عامر بن ظَرِب في بني تميم، فكان الرجل يلي الموسم منهم ويلي غيره القضاء، فكان مَن اجتمع له الموسم والقضاء جميعًا سعد بن زيد مناة بن تميم، ثم وَلِي ذلك حنظلة بن مالك بن زيد مناة، ووليه ذُؤَيب بن كعب بن عمرو بن تميم، ثم وليه مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، ثم الأضبط بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد، ثم صلصل بن أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة، وكان آخِرَ تميمي اجتمع له القضاء والموسم سفيان بن مجاشع فمات حتى جاء الإسلام، وكان محمد بن سُفَيْن بن مجاشع يقضي بعكاظ فصار ميراثًا لهم، فكان آخر من قضى منهم الذي وصل إلى الإسلام الأقرع بن حابس.
(٢) الصنائع بين عرب الجاهلية
إن كان العرب في الجاهلية قد استغنوا عن كثير من العلوم لعدم حاجتهم إليها ليس الأمر كذلك في الصنائع، فإنهم كانوا مع سذاجة عيشهم يحتاجون إلى كثير من المصنوعات التي لا تُنال إلا بالحِرَف والصناعات كالمأكول والملبوس والأسلحة والمعاملات التجارية، وقد كان للنصارى من العرب اليد الطولى في كل ذلك كما سترى.
(٢-١) صناعة النسيج والحياكة
هذه الصناعة من مَذاهب الحضارة، فكان عرب البادية يجهلونها، وإنما شاعت بين عرب الحضر، وأكثر ما نرى شيوعها بين نصارى العرب في جهات اليمن والبحرين والشام وفي بلاد قُضاعة، وكانوا يبيعون بعضها من أقباط مصر، وهذه بعض الشواهد على إثبات قولنا.
قال الثعالبي في لطائف المعارف (طبعة ليدن، ص٢٨): إن أهل اليمن «كانوا يُعَيَّرُون بالحياكة»، وكان المَثَل يُضْرَب برياط اليمن وببُرود اليمن، وربما كانوا يخططونها، قال أوس بن حجر:
وكانت البرود اليمانية غالية الثمن (التاج، ٢: ٣٠٠)، ومنها ما كان يصطنع في نجران. جاء في صحيح البخاري في باب البرود أن صاحب الإسلام كان يلبس «بردًا نجرانيًّا غليظ الحاشية.» وقد وصفوا أنواعًا من برود اليمن ذكرها ابن سيده في المخصص (٤: ٧٢) كالعَصْب قال: «هو ضرب من الثياب يُعْصَب غزله، ويُدرَج ثم يُصْبَغ ويُحاكُ، يقال بُرْد عَصْب»، وكالمراجل يقال ثوب مُمَرْجَل؛ أي على صنعة المِرْجَل وهو ضرب من الوشي، وكالخالِ وهو الثوب الناعم، وكالحِبْرَة والحَبَرَة، وكلها من برود اليمن.
ومما نُسِب من الثياب إلى مخاليف اليمن؛ الوشيُ العبقريُّ المنسوب إلى عَبْقَر من أرض اليمن والطَّنَافس العبقرية، قال ياقوت (في مادة عبقر): «بَنُو يزيد ينسجون الصوف فعملوا منه الزَّرَابِي العبقرية وعملوا البُرُود اليزيدية.» ومما نُسِب إلى شَرْعَب المخلاف باليمن البرود الشَّرْعَبْية، ونُسِب إلى مخلاف جيشان الخمر الجيشانية، وإلى سَحول وريدة قريتين في اليمن الثياب السَّحُولية المصنوعة من القطن الأبيض، قال طرفة (ديوانه، ٧٦):
وإلى السدير من أرض اليمن نسبوا البرود السديرية، قال الأعشى:
وكان اليمنيون يعملون الرحال وينقشونها ويحسنون صنعها، قال جرير (نقائض، ٧٥٦) يصف رحالًا:
ومن ثياب اليمن الرقم والعقل وهما أحمران كانوا يسدلونهما على هوادج النساء (المفضليات، ص٥٧٨)، ومثلهما الغزل اليماني ذكره أبو الفرج في الأغاني (١: ٣٢)، وما يدل على أن هذه المنسوجات كانت من صنع النصارى ما ذكره ابن سعد في طبقاته في باب الوفود، قال عن وفد نجران، وكلهم من النصارى: إن رسول الإسلام صالحهم «على ألف حُلَّة في رجب، وألف في صفر، أوقية كل حلة من الأواق وعلى عارية ثلاثين درعًا وثلاثين رمحًا وثلاثين بعيرًا وثلاثين فرسًا.» وقد تكرر في كتب الحديث ذكر الحلل والأنسجة والحرائر النجرانية.
وكان العرب قبل الهجرة وفي أوائل الإسلام يقتنون أيضًا ملابسهم عند نصارى مَنْبِج وإليها نسبوا الأكسية المَنْبِجانية ويقال: الأنبجانية.
وقد اشتهرت بين العرب المنسوجات القبطية، فإن بعض مدنها كالإسكندرية ودمياط وتنيس والفرما كانت تحتوي على معامل شائعة الذكر، قال ياقوت (٢: ٦٠٣): «إن دمياط كان يعمل فيها القصب البلخي من كل فن والثياب البيض الغالية الثمن والفرش القلموني من كل لون المعلم والمطرز.» وإلى القبط نسبت القباطيات، وكانت ثيابًا معروفة بالرِّقَّة والدِّقَّة والبياض، قال الكميت يصف ثورًا:
وفي الحديث أن محمدًا كان يُجَلِّل بُدْنَه القَباطِي والأَنْماط، والنَّمَط ضَرْب من الثياب المصبغة، وقد ذكر المقريزي في الخطط (١: ١٨١) أنهم في الإسلام كانوا يأخذون كسوة الكعبة من تنيس، وذُكِر عن الفاكهي أنه رأى لهارون الرشيد كسوة من قَباطِيٍّ تاريخها سنة ١٩٠ﻫ/ ٨٦٠م، وذكر أيضًا الثياب القيسية والثياب الدبيقية المنسوبة إلى دبيق مدينة بين الفَرَما وتِنِّيس، وكانت من أدَقِّ الثياب المنسوجة بالذهب.
وكان أكثر الحرير يأتي به العرب من بلاد الروم، قال الأخطل (راجع: ديوانه، ص٣٨٧):
والسَّرَق واحدته سَرَقة وهي شقائق الحرير أو أجوده وقال في ذلك:
ومثلها السيراء من برود اليمن المُوشَّاة المخططة التي يخالطها الحرير كالسيور كان يحيكها نصارى نجران ودَوْمة الجندل، وفي الحديث أن أُكَيدر بن عبد الملك النصراني صاحب دَوْمة أهدى إلى محمد حُلَّة سيراء (التاج، ٣: ٢٨٧)، وكذلك عرف أهل مكة الأرجوان من مصنوعات سواحل الشام، ورد ذِكْرُه في تاريخ اليعقوبي (٢: ٢٣) في وصف زينة نبي الإسلام، وفي حديث الخليفة عثمان بن عفان (النهاية، لابن الأثير، ٢: ٧١)، وقد ورد في صحيح مسلم (٢: ١٥٢)، وصحيح الترمذي (١: ٣٣١)، وفي أنساب البلاذري (٣٣٢)، وغيرها ذكر حُلَل الديباج والثياب المُعَصْفَرة، والحِبَر المُفَوَّفة؛ أي الرقيقة المُوَشَّاة والطيالسة التي كان يهديها الوفود من أهل اليمن ومن الرُّهبان إلى صاحب الشريعة الإسلامية، وأكثرُها من صنع نصارى اليمن أو الشام، قال ابن الأثير في أُسْد الغابة في أخبار الصحابة (٢: ٤١١): إن عُطَارد بن حاجب الذي وفَد على نبي الإسلام مع وجوه تميم النصارى، وكان سيدًا في قومه أهدى محمدًا ثوب ديباج، وروى المسعودي في مروج الذهب (٤: ١٧٨) أن ملوك اليمن قدموا إلى أبي بكر وعليهم الحُلَل والحِبَر وبُرود الوَشْي، وذكر أيضًا (١: ٢٢١) السَّاجَ والطَّيْلَسان فيما فرضه خالد بن الوليد على النصارى العباديين وزعيمهم عبد المسيح بن بقيلة من أهل الحيرة، وكذلك صاحب بانقيا بصبهر بن صلوبا، ذكر البلاذري في «فتح البلدان» (ص٢٤٤) أنه «صُولِح على ألف درهم وطيلسان.»
وكان اليمنيون يحسنون عَمَل الرِّحَال وينقشونها، قال جرير (النقائض، ص٧٥٦):
(٢-٢) النجارة
هي أيضًا إحدى الصنائع التي شاعت بين النصارى فاستفاد منها العرب في الجاهلية وأوائل الإسلام، وذلك لندورة الخشب في أنحاء كثيرة من جزيرة العرب إلا أطرافها ولبعد العرب عن العمران الحضري، قال ابن خلدون في المقدمة (٢: ٣١٣، طبعة باريس): «إن العرب أبعد الناس من الصنائع والسبب في ذلك أنهم أعرق في البدو وأبعد من العمران الحضري، والعجم من أهل الشرق وأمم النصرانية عدوة البحر الرومي أقوم الناس عليها؛ لأنهم أعرق في العمران الحضري وأبعد عن البدو.» ثم ذكر كيف أن العرب استجلبوا صنائعهم من عند تلك الأمم.
وقد مر لنا شيء من أعمال النصارى الخشبية في جزيرة العرب منها ما سبق في ذكر القليس (المشرق، ١٨، ١٩٢٠م، ٥٢٥) وما دخل فيه من الأخشاب الثمينة كالساسم والساج والأبنوس اشتغلها النصارى فزينوا بها كنائسهم قبل الإسلام.
ومثل ذلك ما رواه أبو الوليد محمد الأزرقي في كتاب أخبار مكة (ص١٠٥، ١٠٧، ١١٤) عن باقوم الرومي النجار والبناء الذي وكلت إليه قريش بناء الكعبة بعد حريقها وتَصدُّع جدرانها، فبناها بما اشتراه القريشيون من الخشب الذي أقبلت به سفينة للروم إلى جدة، وهم نصارى الأقباط، والروم أيضًا الذين سقفوا بالساج المزخرف المسجد الحرام في مكة في أيام الوليد بن عبد الملك (الأزرقي، ص٢٠٩).
ومما صنعه النصارى في أول الإسلام لخدمة نبيه وخلفائه الراشدين المِنْبَر اصطنعه أولًا رومي نجار كما روى أبو سعيد، وقيل: «إن اسمه باقوم أو ياقول الرومي غلام سعيد بن العاص.» وقيل: إن اسمه إبراهيم النجار (أُسْد الغابة في معرفة الصحابة، لابن الأثير، ١: ٤٣) كان يجلس عليه محمد للجمعة.
ثم أضافوا إلى المنبر عرشًا كان يجلس عليه محمد إذا خطب كما جاء في طبقات ابن سعد (ج٢، ق٢، ص١١)، وكان أيضًا من عمل النصارى، وبعد موت نبي المسلمين تردد الخلفاء الراشدون في رقي المنبر، وقد أخبر المقريزي (الخطط، ٢: ٢٤٧) أن عمرو بن العاص اتخذ منبرًا فكتب إليه عمر بن الخطاب يعزم عليه في كسره ويقول: «أما حسبك أن تقوم قائمًا والمسلمون جلوس تحت عقبيك.» فكسره، لكنهم ما لبثوا أن أقاموا المنابر في المساجد، روى المقريزي (٢: ٢٤٨) عن والي مصر قرة بن شريك العبسي أنه نصب منبرًا جديدًا في السنة ٩٤ﻫ/ ٧١٣م. (قال): «وذكر أنه حمل إليه من بعض كنائس مصر، وقيل: إن زكريا بن برقنى ملك النوبة النصراني أهداه إلى عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، وبعث معه نجارًا حتى ركبه واسم هذا النجار بُقْطُر من أهل دَنْدَرة، ولم يَزَل هذا المنبر في المسجد حتى زاد قرة بن شريك في الجامع فنصب منبرًا سواه.»
وكان العرب يلتجئون أيضًا إلى أهل الأرياف من الشام واليمن والعراق فيتخذون من نجاريهم العمد والأوتاد لخيامهم، والحدوج لظعائنهم، والرِّماح والقِسِيِّ والسِّهام لسلاحهم؛ لأن الخشب مادة لكل هذه كما بين ابن خلدون في مقدمته (٢: ٣٢٤)، ولا تصير إلى الصورة الخاصة بها إلا بالصناعة، والقائم على هذه الصناعة هو النجار، وقد بقي من أعمال النصارى الدالة على براعتهم في هذه الحرفة عدة آثار ترى في كنائس وأديرة أقباط الصعيد وطور سينا والجزيرة، ومنها ما تَحوَّل إلى جوامع، ومنها المقاصير القديمة، والشعاري والمشارب كان النصارى يهندسونها قديمًا وصبر بعضها على آفات الدهر.
(٢-٣) الحدادة
كما النِّجَارة كذلك الحِدَادة خدم بها نصارى اليمن والشام والبحرين قبائل عرب البادية، وكان الحَدَّاد يدعى في الجاهلية قَيْنًا، والقُيُون عند العرب بنو أسد قيل: إن أول من عمل الحديد منهم كان الهالك بن عمرو بن أسد بن خزيمة فدعي أيضًا الحداد هالكيًّا، وممن ورد ذكرهم في أوائل الإسلام من أرباب الحِدَادة خبَّاب بن الأرت من نصارى بني تميم سُبِيَ من وطنه وبِيعَ في مكة فحصل في خدمة نبي المسلمين والخلفاء الراشدين من بعده، توفي سنة ٣٧ﻫ/ ٦٥٨م.
وكان أكثر اتخاذ العرب للحديد لتهيئة آلات حربهم، أعني السيوف والدروع ونصال الرماح والسهام والخوذ، أما السيوف فمن أكرمها وأشهرها المشرفيات المنسوبة إلى المشارف من قرى الشام، ومنها السيوف الحارِيَّة، وهي التي كان يصنعها نصارى الحيرة في العراق، ومنها السُّريجِيَّات وكانت سيوفًا منسوبة إلى قين يدعى سُرَيْجًا مصغر سرجيس، وفيها يقول العجاج:
وقد ذكروا سبعة من مشاهير السيوف زعموا أن بلقيس ملكة سبأ أهدتها إلى سليمان الحكيم، وفي ذلك دلالة على أهلها اليمن؛ وهي ذو الفقار كان لمنبه بن حجاج، فصار إلى نبي الإسلام، ثم ذو النون، والصمصامة كانَا لعمرو بن معدي كرب، ثم مِخْذم ورَسُوب كانا للحارث بن جبَلَة ملك غسان النصراني، ثم ضرس الحمار، وقيل: ضرس العير أو ضرس البعير كان لعلقمة بن ذي قيفان الحِمْيَري، ثم الكشوح ولم يذكروا صاحبه.
واتخذوا أيضًا من الحديد الجواشن ومثلها الخوذ يقنعون بها رءوسهم تعلموها من الروم والفرس وهي البيض، ثم انتشر استعمالها في بلاد الإسلام حتى إنهم أحصوا ما في خزانة السفاح أول خلفاء بني العباس فوجدوا خمسين ألف درع وخمسين ألف سيف وثَلاثين ألف جوشن، ومائة ألف رمح، وزادت على ذلك في أيام هارون الرشيد فأحصاها الفضل بن الربيع فوجد عشرة آلاف سيف محلاة بالذهب وخمسين ألفًا للشاكرية والغلمان ومائة وخمسين ألف رمح ومائة ألف قوس، وألف درع خاصة محلاة، وألف درع عامة، وعشرين ألف بيضة، وعشرين ألف جوشن، ومائة وخمسين ألف ترس، وأربعة آلاف سرج محلاة خاصة، وثلاثين ألف سرج عامة (مطالع البدور، للغزولي، ٢: ١٦٢).
ومما يدل على اتساع فن الحدادة بين نصارى العرب وفرة أسلحة ملوك الحيرة، فقد ذكر أبو الفرج في الأغاني (٢٠: ١٣٢) أن النعمان بن المنذر لما خاف كسرى وحاوَل الفرار من وجهه استودع ماله هانئ بن مسعود الشيباني، وكان في جملة وديعته «ألف شِكَّة ويقال: أربعة آلاف شِكَّة، والشِّكَّة السلاح كله»، وكان للنعمان بن المنذر كتائب مُدجَّجة بالأسلحة الحِيرِيَّة أخصها كتيبتاه الشهباء والدوسر، وقد ذكر ابن خلدون في تاريخه (٢: ١٨٠): «الباهوت مسلحة كسرى في الحيرة.»
وكانوا يَطبَعون أسلحتهم ويرسمون عليها النقوش والتماثيل فكان على سيف الحارث بن ظالم صورة حَيَّتَيْن، وأنشد (شرح المفضليات، ص٦١٦):
أراد بذي الحِيَّات سَيفَه لما كان عليه من تمثال الحيَّات، وذكر الآخَرُ سيفًا عليه صورة سمكة فعرف بذي النون، ومَرَّ ذكره:
(٢-٤) التجارة
قد اشتهر العرب منذ القديم بالتجارة كما ورد ذلك في سفر التكوين (٣٧: ٢٥) في قصة يوسف الحسن الذي باعه إخوته للإسماعيليين المُنحدِرِين بتجارتهم إلى مصر، على أن هذه التجارة راجت أسواقُها بعد المسيح بهمة الأمم النصرانية المجاورة للعرب، لا سيما الرومان والحبش، وقد سبق لنا (ص٥٧) ذكر الوفد الذي أرسله إلى الحِمْيَريِّين الملكُ قنسطنسيوس بن قسطنطين الكبير لعَقْد معاهدة تجارية مع ملكهم، وذكرنا هناك أيضًا ما ورد في الدستور التيودوسي لثاودوسيوس الكبير بخصوص متاجَرة الرومان والحبشة مع العرب.
وقد اشتهر نصارى الحيرة بالتجارة، وقد ذكر أبو الفرج الأصبهاني (الأغاني، ٢٠: ١٣٤) لَطِيمتَهم قال: «وهي عِير كانت تخرج من العراق فيها البَزُّ والعطر والألطاف يرسلونها إلى اليمن.» وقال في التاج (٩: ٦٠): «اللطيمة وعاء المِسْك أو سُوقه، وقيل: كل سوق يُجْلَب إليها غير ما يُؤْكَل من حُرِّ الطِّيب والمتاع غير الميرة.»
وقال الثعالبي في ثمار القلوب (ص٩): «إن قريشًا زهدوا في الغصوب فلم يبقَ لهم مَكْسَبة سوى التجارة، فضربوا في البلاد إلى قيصر بالروم والنجاشي بالحبشة والمُقَوقِس بمصر، وصاروا بأجمعهم تجارًا خُلَطاء.» وقال في الأغاني (٨: ٥٢): «وكانت أرض الحبشة لقريش متجرًا.» وذكر هناك عمارة بن الوليد المخزومي، وعمرو بن العاصي بن وائل السهمي، وخروجهما إلى النجاشي في الجاهلية للاتجار.
وكان للعرب عِدَّة أسواق يجتمعون فيها للمقايضات وضُروب المبايعات قد ذكرها في المشرق (١، ١٨٩٨م، ٨٦٧) جناب الأديب محمود شُكْري أفندي الآلوسي، وكان معظم هذه الأسواق في جهات الجزيرة العربية التي يغلب فيها عدد النصارى في الجاهلية وأكثرهم من الحضر يرتزقون بالتجارة كأسواق البحرين في عُمان وهَجَر والمشقَّر وصُحار، وكأسواق حضرموت والشِّحْر، وكأسواق اليمن مثل سوق صنعاء، وكسوق دَوْمة الجندل، وكسوق عُكَاظ في الحجاز التي كان يقوم فيها قس بن ساعدة واعظًا وخطيبًا مصقعًا.
ومما لم يذكره هناك من الأسواق العربية النصرانية سوق الحيرة، وقد ذكره أبو الفرج في الأغاني، قال (١٦: ٩٩) قال: «وكان بالحيرة سوق يجتمع إليه الناس كل سنة.» وروى هناك خروج الحكم بن أبي العاصي إليه ومعه عطر يريد بيعه، وأخذ حسان بن جبلة الخير على نفسه أن يقدم للقوم «كل خمر أو لحم أو طعام ما أقاموا في سوق الحيرة.» وقصد حاتم الطائي هذه السوق أيضًا وأظهر فيها شيئًا من كرمه الذي ضرب به المثل بنحره الجزور وإطعام الناس.
وما لا ينكر أن أهل اليمن وعمان والبحرين وهجر والحيرة كانت تجارتهم واسعة رابحة ومعائشهم رغدة، والخصب والرخاء غالبين على أطرافهم مع ما فيها من وفرة الغلات والذخائر وصنوف المعادن والأرفاق، بخلاف عرب نجد والحجاز فكانت بلادهم مُجدِبة قاحلة كثيرة الرمال والصحاري، وقد جاء في سيرة نبي الإسلام أنه تعاطى التجارة في شبابه استأجرته خديجة بنت خويلد في مالها، فكان يخرج به إلى الشام تاجرًا، فرأى أهلها النصارى ودخل صوامع رهبانها، وكان محظوظًا في تجارته فدعا ذلك خديجة إلى أن تقترن به.
وكما كان العرب يخرجون إلى بلاد النصارى المجاوِرة لبلادهم كذلك كان النصارى يقدمون إلى الحجاز ويبيعون أهلها محصولات أوطانهم، ولنا على ذلك عدة شواهد، منها «موقف النصارى» في مكة، قال في التاج في مادة حسر (٣: ١٤٠): «بطن مُحَسِّر وادٍ قُرْب مزدلفة بين عرفات ومنى، وفي كتب المناسك هو وادي النار لأنه موقف النصارى، وأنشد عمر رضي الله عنه حين أفاض من عرفة إلى مزدلفة، وكان في بطن محسر»:
وكذلك «مقبرة النصارى» في مكة أيضًا، ذكرها الأزرقي في أخبار مكة (ص٥٠١)، وقال: إنها دُبر المِقْلع؛ أي الجبل الذي بأسفل مكة على يمين الخارج إلى المدينة على طريق بئر عنبسة.
وكان بعض هؤلاء التجار ينشرون النصرانية في مكة، جاء في أُسْد الغابة لابن الأثير (٥: ١٧٢) أن ولدين لأبي حُصَين الأنصاري تَنصَّرا على يد تُجَّار من الشام أَتَوا إلى مكة، وأنهما لَحِقَا معهم بالشام.
ومن سِلَع تجَّار النصارى في الجاهلية وبعدها الخمر كانوا يعصرونها ويبيعونها ويشربونها في مجالس الأُنس، وقد وصفها شاعرهم الأعشى بقوله:
وقد اعتادوا عَصْر المُدامَة لدخولها في مشاعرهم الدينية في القربان، كما مر سابقًا، وتَغَنَّوا في معانيها الرمزية كما فعل ابن الفارِض في ميميته.
وقد ذكر في الأغاني (١١: ١٦٣) درجًا لطلحة الطلحات كان فيه حجارة ياقوت يُساوي ثمن كل حجر منها أربعين ألف درهم.
وروى البكري في معجم ما استعجم يصف رُكوب ملك الحيرة إلى دير اللج (ص٣٦٦): «وكان النعمان يركب في كل أحواله وفي كل عيدٍ ومعه أهل بيته خاصة من آل المنذر من يُنادِمُه عليهم حُلَل الديباج المُذهَّبة، وعلى رءوسهم أكاليل الذهب، وفي أوساطهم الزنانير المُفضَّضة بالجوهر، وبين أيديهم أعلام فوقها صلبان الذَّهب، فإذا قضوا صلاتهم انصرفوا إلى مستشرفة على النجف.»
أما اللآلئ والدُّرر الثمينة فكان يغوص عليها أهل البحرين منذ زمن الجاهلية، قال النابغة الذبياني:
وقد أحسن المُسيِّب بن عَلَس في وصفه الغائص على اللآلئ وانتخابه الثمين بينها واستخراجها من البحر، قال (شعراء النصرانية، ٣٥٦؛ وخزانة الأدب، ١: ٥٤٤):
(٢-٥) المِلَاحة
كما اشتهر نصارى العرب بالتجارة البرية كذلك أصابوا في التجارة البحرية سهمًا فائزًا، وقد بيَّنَّا سابقًا انتشار النصرانية في سواحل جزيرة العرب في اليمن وعُمَان والبحرين فوجدوا في مُجاوَرة البحار وسائل جديدة لتنمية ثروتهم وزيادة أرباحهم، فكان الحميريون وأهل البحرين يحسنون اصطناع السفن وعمارتها فيقطعون بها خليج العرب إلى الحبشة وبحر عمان إلى الهند وخليج فارس إلى جهات العجم، وقد أشاروا إلى ذلك في شعرهم، قال عمرو بن كلثوم التغلبي في معلقته يفتخر بكثرة سفن قبيلته تغلب النصرانية:
وقد أحسن طرفة في وصفه لسفن قومه في البحرين فذكر بعض أشكالها العظيمة، وهي الخلايا والعدولية من سفن البحرين، وذكر أحد رؤساء البحر المدعو ابن يامن ومَخْرَ سفينته غمر المياه فقال:
وذكر الأعشى النُّوتيَّ السائر بسفنه على الفرات عند طغيانه:
وأشار امرؤ القيس إلى طَلْي السفن بالقير:
وقال الشَّمَّاخ يذكر سُفُن البحرين وغواربها الكبيرة:
وكانوا يدعون النُّوتِيَّ ملَّاحًا وصراريًّا جَمْعُه صَراري أيضًا وصُرَّاء، قال ربيعة بن مقروم:
وقال المُمزَّق العبدي:
على أن فنَّ المِلاحة الذي كان يعرفه ويزاوله عربُ الحَضَر في سواحل الجزيرة، كان في الغالب مجهولًا لدى عرب الحجاز ونَجْد، بل كانوا يَعُدُّون ركوب البحر كالطامَّة العظمى، فبعد انتشار الإسلام وثُبوت قدمه إذ رأوا في سواحل الشام ومصر سُفَن الروم أرادوا أن يَعْبُروا البحر ليغزوا الجزائر كقُبرس أو سواحل اليونان وآسية الصغرى، فالتجئوا إلى مَن كان في حوزتهم من الروم في الشام والأقباط في مصر ومن نصارى العرب في جهات البحرين، فتعلموا منهم صناعة السُّفُن كما أخذوا صناعة التجارة لأن إنشاء السُّفن يحتاج إليها لما يدخلها من الألواح والدُّسُر والصَّواري والمَجاذيف مع هندسة أجزائها فعَمَّروا لهم السُّفُن وجهزوا لحروبهم في أيام معاوية ودولة بني أمية.
(٢-٦) النقود
إن التجارة والمقايَضات في البيع والشراء لا تَجْرِي عادة إلا بمسكوكات ونقود تُدْفَع بدلًا من السلع والبضائع، وكان للدول النبطية ولملوك ميشان وخراسان في العراق ولملوك الجزيرة في جهات الرُّهَا وحضر، ولملوك تَدمُر نقود ضربوها باسمهم ذهبية وفضية ونحاسية، منها أمثال حسنة في متاحف أوروبة وعند بعض الخاصة فوصفوها ورسموا صورها وفَنَّدوا بذلك ما كتبه المقريزي في كتابه النقود القديمة الإسلامية حيث قال:
«كانت نقودُ العرب في الجاهلية التي تَدُور بينها الذَّهَب والفضة لا غير، تَرِد إليها من الممالك دنانير الذهب قيصرية من قِبَل الروم، ودراهم فضة على نوعين، سوداء وافية وطبرية عتقًا، وكان وزن الدراهم والدنانير في الجاهلية مثل وزنها في الإسلام مَرَّتَين، ويُسمَّى المثقال من الفضة درهمًا، ومن الذهب دينارًا ولم يكن شيء من ذلك يتعامل به أهل مكة في الجاهلية، وكانوا يتعاملون بأوزان اصطلحوا عليها فيما بينهم.»
وما لا يُنْكَر أن العرب قبل الإسلام تداولوا في بلادهم ومع الأمم المجاورة لهم النقود النصرانية فراجت بينهم أيَّ رواج على اختلافها ذهبية كانت أم فضية أو نحاسية، وأغلب ما عرفه العرب من النقود مما كانوا يتعاملون به نقود قيصرية رومية ذات رسوم دينية. وقد اشتهرت بينهم نقودُ هِرَقْل، قال المسعودي في مروج الذهب (٢: ٣٣٣): «وهو الذي ضرَب الدنانير والدراهم الهرقلية.» وقال البلاذري في فتح البلدان (ص٤٩٦): «وكانت دنانير هرقل ترد على أهل مكة في الجاهلية.» وروي في الأغاني (١١: ٥٢) لكثير عزة قوله:
أراد الدنانير الجلية المُعْلَمة الموسومة بالكتابة. وقد ذكر أُحَيحة بن الجلاح دنانير مَدينة أَيْلة التي كان صاحبها الأمير النصراني يُوحَنَّا بن رُؤْبة قال يرثي ابنه (ياقوت، معجم البلدان، ١: ٤٢٢):
(قال): «يَتأكَّل؛ أي يأكل بعضه بعضًا لحسنه، والوشاة الضرابون.» وقد وصفوا كذلك الدراهم الرومية. قال عنترة يصف روضة أصابها المطر الجود فأنعشها:
ومثله الأسود بن يعفر (شعراء النصرانية، ص٤٨٢):
وقال جرير يهجو الأخطل (الأغاني، ٧: ١٧٨):
ثم ظهر الإسلام والمسلمون لم يعهدوا ضرب النقود فتعاملوا بمسكوكات الروم التي كانوا يربحونها بمتاجرتهم مع بلاد الشام ومصر والعراق أو وجدوها في فتح البلدان فأخذوها غنيمة واقتسمها جنودهم، ولجهلهم لغة البلاد التي استولوا عليها أقاموا لهم عمالًا من نصارى الوطنيين وَلَّوْهم على دواوينهم المالية لجباية الخراج والضرائب المختلفة، وكان من جملتهم في دمشق سرجيوس أو سرجون جد القديس يوحنا الدمشقي المعروف بابن منصور.
ومن هذا ترى غَلَط معظم مُؤرِّخِي العرب الذين زعموا أن أول من كتب على النقود الإسلامية بالعربية هو الخليفة عبد الملك بن مروان، قال الثعالبي في لطائف المعارف (ص١٣): «أول من نقش على الدراهم والدنانير بالعربية عبد الملك بن مروان، فإنه عُنِي بذلك وكتب إلى الحجاج في إقامة رسمه.»
وقد أخبر المقريزي في كتاب النقود الإسلامية (ص٥، طبعة الجوائب) أن معاوية بن أبي سفيان كان قبل ذلك ضرب دنانير عليها تمثاله متقلدًا سيفًا، ومثل هذه الدنانير لم يجدها بعدُ الأثريون، لكنهم وجدوا فلوسًا تمثل معاوية واقفًا وشعر رأسه مفروق على جبهته وفي يمناه السيف وفي ظهر الفلس اسم إيليا وفلسطين مع صليب على هذه الهيئة «+»، فلما ملك الخليفة عبد الملك جرى أولًا على مثال أسلافه وأبقى الصليب مع صورته واسمه في الدنانير والفلوس إلى السنة العاشرة من ملكه، ويوجد من هذه النقود بعض الأمثلة في المتاحف، وهي مضروبة في حمص ودمشق وعمان وقنسرين ومَنْبِج وسرمين وغيرها.
وها نحن ننقل هنا صورة ثلاثة نقود عربية ترتقي إلى أوائل الإسلام وعليها صور ملوك الروم ورموزهم المسيحية.
وهذه النقود في متحف باريس.
ففي السنة العاشرة من خلافته عدل عن النقود السابقة، واتخذ نقودًا جديدة خالية من الرسوم النصرانية؛ ولذلك عده كتبة العرب كأول خليفة نقش الدنانير، قال الطبري في تاريخه (٢: ٩٣٩-٩٤٠): «أول نقش الدنانير والدراهم على عهد عبد الملك بن مروان سنة ٧٦ﻫ»، والصواب أنه ضرب أولًا النقود القديمة ونقش فيها صورًا أنكرها عليه بقايا من الصحابة كما يُقِر بذلك المقريزي في كتاب النقود الإسلامية (ص٦)، وفي السنة ٧٦ﻫ/ ٦٩٦م ضرب نقودًا إسلامية مَحْضَة وأزال منها الصور والرسوم النصرانية، لكنه بقي شيء منها لعله ضُرِب بدون علمه، ففي متحف باريس دينار ضرب سنة ٧٧ﻫ عليه صورة عبد الملك مع سارية نصرانية، وفيه أيضًا نقود نحاسية ضربت في السنة ٨٠ﻫ عليها رسم صليب.
أما سبب اتخاذه السكة الإسلامية فنفوره مما كانت الروم ترسمه على سكتهم من تعظيم الصليب والإعلان بلاهوت المسيح، وهذا أيضًا ما دفعه إلى أن يحدث كتابات الطوامير والقراطيس التي كان في صدرها مثل هذه الأشعرة النصرانية، وقد أخبر بذلك البلاذري في فتح البلدان (ص٢٤٠):
«قالوا: كانت القراطيس تدخل بلاد الروم من أرض مصر ويأتي العرب من قبل الروم الدنانير، فكان عبد الملك بن مروان أول من أحدث الكتاب الذي يكتب في رءوس الطوامير من «قل هو الله أحد» وغيرها من ذكر الله، فكتب إليه ملك الروم: إنكم أحدثتم في قراطيسكم كتابًا ننكره، فإن تركتموه وإلا أتاكم في الدنانير من ذكر نبيكم ما تكرهونه، (قال) فكبر ذلك في صدر عبد الملك فكره أن يدع سنة حسنة سنها فأرسل إلى خالد بن يزيد بن معاوية فقال له: «يا أبا هشام إحدى بنات طبق.» وأخبره الخبر فقال: «أَفْرخ رَوْعك يا أمير المؤمنين حَرِّم دنانيرهم فلا يُتعامَل بها واضرب للناس سككًا ولا تَعْفُ هؤلاء الكفرة مما كرهوا في الطوامير.»» فقال عبد الملك: «فَرَّجْتَها عني فرَّج الله عنك.» وضرب الدنانير، قال عوانة بن الحكم وكانت الأقباط تذكر المسيح في رءوس الطوامير وتنسبه إلى الربوبية تعالى علوًّا كبيرًا، وتجعل الصليب مكان بسم الله الرحمن الرحيم، فلذلك كره ملك الروم ما كره واشتد عليه تغيير عبد الملك ما غيره.
ثم أخبر استياء ملك الروم من هذه الكتابة وتهديده بنقش شَتْم نبي الإسلام، وكيف استقدم عبد الملك من المدينة محمدَ بن علي بن الحسين ليستشيره في ذلك، فدله على ضَرْب سكك الدراهم والدنانير كما روى البلاذري عن خالد بن يزيد بن معاوية، فأُبْطِلتْ مذ ذاك السكك الرومية والطراز الرومي.
وقد ضرب أمراء المسلمين في إفريقية والأندلس بعد فتحهما نقودًا عليها أيضًا شارات النصرانية كالصليب واسم السيد المسيح باللاتينية مع أسماء الأمراء المسلمين.
وقد سبق لنا القول: إن السلجوقيين في بلاد الروم والأرتقيين فيما وراء النهرين ضربوا أيضًا نقودًا عليها صور ملوك النصارى مع علامات النصرانية بينها صورة السيد المسيح، والبتول مريم والدته الطاهرة (اطلب: ١٨، ١٩٢٠م، ٧٩٩).
(٢-٧) التعليم
ومما يُؤيِّد الأمر أخبار بعض شعراء العرب، فمن ذلك ما ورد في كتاب الأغاني (٥: ١٩١) عن المُرقَّش الأكبر حيث قال: «وكان مُرقَّش يكتب، وكان أبوه دفعه وأخاه حرملة وكانَا أحب ولده إليه، إلى نصراني من أهل الحيرة فعلمهما الخط.» وروي عن عدي بن زيد (الأغاني، ٢: ٢٠) أن أباه طرحه في الكتَّاب مذ نشأ ثم أرسله مع شاهان مرد إلى كُتَّاب الفارسية حيث «تعلم الكتابة والكلام بالفارسية حتى خرج من أفهم الناس بها وأفصحهم بالعربية.» إلى أن صار كاتبًا للملك النعمان، وجاء أيضًا في أخبار طرَفَة والمُتلَمِّس (الأغاني، ٢١: ١٩٣–١٩٥) أن المتلمس لما أراد أن يطلع على ما كتبه في حقهما عمرو بن هند إلى المُكَعْبر عاملِه في البحرين عدل إلى غلام عبادي من غلمان الحيرة فأعطاه الصحيفة ليقرأها له ففعل ووقف على مضمونها، إذ أوصى بقتلهما فألقى المتلمس الصحيفة في النهر وفَرَّ سالمًا بنفسه وقُتِل طرفة، فيتضح من ذلك أن العباديين وكانوا نصارى العرب كانوا يواظبون على المدارس، وقد ذكر في محل آخر (أغاني، ١٨: ٧٨) فضل معلم نصراني على سواه في البصرة في عهد بني أمية وولاية الحجاج، وفي طبقات ابن سعد (٣: ٢٥٨) أن في عهد عمر بن الخطاب كان جُفَينة النصراني من أهل الحيرة يُعلِّم الكتاب في المدينة، وذلك بعد أن أمر عمر بخروج النصارى من جزيرة العرب، وفيه دليل على حاجة المسلمين في أوائل الإسلام إلى المعلمين، وفي قائمة المعلمين التي سردها قدماء الكتبة كالجاحظ في البيان والتبيين (١: ١٠١)، وابن قتيبة في كتاب المعارف (ص١٨٥)، وابن رسته في الأعلاق النفيسة (ص٢١٦) أسماء ذِمِّيين وموالٍ من نصارى ويهود كانوا يَتعاطَون مهنة التعليم.
هذا فضلًا عمن كانوا يختلفون إلى الرهبان والكهنة النصارى في صوامعهم وأديرتهم ليتعلموا القراءة والكتابة، كما ذكر عن أبي نصر البراق بن روحان (شعراء النصرانية، ص١٤١) أنه كان يتردد إلى راهب فيتعلم منه تلاوة الإنجيل، وكما قال في الأغاني (٣: ١٤) عن ورقة بن نوفل أنه «كان يكتب بالعبرانية (يريد السريانية) من الإنجيل ما شاء أن يكتب.» ولعل الراهب الذي أشار القريشيون إليه بقولهم عن محمد (سورة النحل): إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ كان أحد معلمي النصارى في مكة، كما تعلم أهلها الكتابة من بشر بن عبد الملك النصراني أخي أُكَيدر الكندي صاحب دَوْمة الجندل (السيوطي، في المزهر، ١: ٣٩٠)، وكانوا يسمون هذه الكتابة بالجَزْم؛ أي الفصل، سواء فصلوها عن خَطِّ حِمْيَر المعروف المُسْنَد كما ارتأى أبو حاتم (التاج، ٨: ٢٢٨)، أو بالحَرِي لفصلها عن الحروف الكلدانية، وهي أقرب إليها، وفي فضل بشر على قريش قال أحد شعراء كندة منشدًا:
ومما نسبوه إلى قس بن ساعدة أسقف نجران في كتاباته أنه أول من كتب في رسائله «من فلان إلى فلان بن فلان.» ونسبوا إليه فَصْل الخطاب بأن قال بعد حمد الله والدعاء: «أما بعد.» افتتاحًا للخطاب، ومثلها قولهم: «باسمك اللهم.» زعموا أن أول من كتبها الشاعر النصراني أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت الثقفي.
فكل هذه الشواهد تدل على شيوع صناعة التعليم بين نصارى العرب واجتهادهم في تعميمها، وقد سبق لنا بين القبائل المُتَنَصِّرة (ص١٢٤) ذكر قبيلة إياد، وقد روينا أنهم اشتهروا بمعرفة الكتابة فقال فيهم أمية شاعرهم (سيرة ابن هشام، ص٣٢):
ومثلهم الحِمْيَريون ولا سيما نصارى نجران، وإنما كانوا يكتبون الخط المعروف بالمُسْنَد، قال ابن خلدون في مقدمته: «ومن حِمْيَر تعلمت مُضَر الكتابةَ العربية.» وإلى حَذاقَة حِمْيَر في الكتابة يُشير أبو ذؤيب بقوله (لسان العرب، ١٨: ٣٠٦):
وممن سعى في نشر التعليم من أساقفة النصارى في عهد بني أمية فثيون أحد جثالقة الكلدان، قال عنه ابن ماري في تاريخ بطاركة كرسي المشرق من كتابه المجدل (ص٦٦): إنه «نصب في كرسيه أسكولًا فتَشبَّه به الأساقفة في عمارة البِيَع والأسكولات، أما المسلمون فإنهم لم يُنْشِئوا المدارس إلا بعد هذا العهد بزمن طويل.» قال المقريزي في الخطط (٢: ٣٦٣) «المدارس مما حدَث في الإسلام ولم تكن تُعْرَف في زمن الصحابة ولا التابعين، وإنما حدث عملها بعد الأربعمائة من سني الهجرة (كذا) وأول من حفظ عنه أنه بنى مدرسة في الإسلام أهل نيسابور فبنيت بها المدرسة البيهقية … وأول مدرسة أُحْدِثَت في ديار مصر المدرسة الناصرية نسبة إلى السلطان الناصر صلاح الدين يوسف.»