الشعر النصراني وشعراء النصرانية بين عرب الجاهلية وأول الإسلام
هذا آخِرُ فصلٍ من كتابنا «النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية» نختم به القسم الثاني منه المختص بآداب النصرانية، وقد أجَّلْنَاه إلى آخِر الكتاب لنجعل كل ما سبق كتوطئة له؛ إذ كان غرضنا أن نبين نصرانية معظم الشعراء الذين سبقوا الإسلام.
(١) أصل الشعر العربي
تلك مزاعم يضحك منها العلماء ويضرب بها عُرْضَ الحائطِ كلُّ من له أدنى إلمام بتاريخ اللغات عمومًا واللغة العربية خصوصًا.
وقد ارتأى البعض أن سِفْر أيوب المورود في التوراة عربيُّ الأصل عربيُّ اللهجة والتَّصوُّرات شِعْرِيُّ الصورة، وقد استوطن أيوبُ صاحبه غربي جزيرة العربية في البَثَنيَّة وضمَّن آياته كثيرًا من التشابيه والأوصاف الشائعة بين العرب كذِكْر النجوم ووصف الخيل وغير ذلك. نُجِيب على هؤلاء أن في هذا الرأي نظرًا لأسباب منها أن سفر أيوب لا يُعْرَف منه منذ نحو ثلاثة آلاف سنة غير ترجمته العبرانية، ثم ليس لدينا حُجَّة قاطعة يمكننا أن نستند إليها لنثبت كتابته في لغة أخرى، فإن مضامين هذا السفر والتقليد اليهودي القديم لا يذكران شيئًا من ذلك، وعلى كل حال إذا صح قول العلماء بأن سفر أيوب كُتِب بالأصل في العربية، فلا شك أن تلك العربية كانت مختلفة عن عربيتنا التي هي لهجة بعض قبائل الحجاز لهجة قريش التي لم تَشِعْ إلا بعد قرون عديدة، ولعلها النبطية أو لغة أخرى أقرب إلى الآرامية منها إلى العربية، ومن ثم ليس من الممكن الاستناد إلى هذه اللغة المزعومة لنجعلها أصل شعرنا العربي في الوقت الحاضر.
وإن تتبعنا بعد ذلك سياق الأجيال منحدرين إلى أوائل النصرانية لا نجد ذكرًا للغة العربية إلا بعض تقاليد مستحدثة رواها الرواة بعد الإسلام لا يوثق بها، ولسنا لننكر أن العرب في تلك الأثناء تكلموا بلغة خاصة لكن تلك اللغة كانت تختلف اختلافًا عظيمًا في كل قبيلة على اختلاف مواقعها في أنحاء الجزيرة وتأثير اللغات المجاورة لها، وحالة المتكلمين بها من أهل الحضر أو أهل المدر، فيطلقون على كل هذه اللهجات اسم اللغة العربية كما يطلقون اسم العرب على أهل الجزيرة مع اختلاف عناصرهم القحطانية والعدنانية والإسماعيلية.
فذكر ورَّاق أو كاتِب عربي في ذلك العصر من الأمور الغريبة التي تُثْبِت ما كان للعربية من الشأن في تلك الأيام، ولكن ما هي تلك العربية التي يشار إليها أهي عربية قريش؟ أو النبطية أو الحميرية أو لغة قبائل الشام الخاضعة للرومان؟ كل ذلك محتمل ولا يمكن بَتُّ الحكم به، وما لا شك فيه أن ذلك الكاتب لم يَخُطَّ كتاباته بالقلم العربي الذي برز للوجود في أواسط القرن السادس للمسيح فقط، وإنما كانوا يكتبون قبل ذلك بأقلام لغات أخرى أخصها في جنوبي جزيرة العرب الحِمْيَرية، والمينوية، وفي الشمال بالنبطية والثَّمُودية واللِّحْيانية والصَّفَوية، وقد وُجِدَت من كل هذه الخطوط أمثال مختلفة في جهات العرب يرقى بعضها إلى ما قبل المسيح.
وقد سبق لنا القول: إن أقدم كتابة تقرب لهجتها من عربية قريش هي الكتابة الضريحية التي وجدت في جهات الصفا على قبر ملك العرب امرئ القيس بن عمرو وتاريخها في ٧ من شهر كانون الأول سنة ٣٢٨ للمسيح، وهي مكتوبة بالحرف النبطي الجميل أوردنا سابقًا رسمها، أما لغتها فمع قربها من لغة قريش أي لغتنا الفصحى لا تزال مضطربة مشوشة مختلطة بألفاظ غربية.
وما يقوله المؤرخ سوزومان عن الأغاني الحماسية يجوز أن نُطْلِقَه على بقية أمورهم كالأفراح والأحزان والمديح والغزل والفخر؛ لأن الغناء غريزة في الإنسان، ولكن يا تُرَى ماذا كانت أوزان تلك الأغاني؟ وكم كانت أجزاؤها؟ كيف كان إيقاعها؟ وهل كانت لغتها فصيحة كلغتنا أو بالأحرى كانت لهجة خاصة لتلك القبائل؟ إننا نجهل كل ذلك.
فلكي نستطيع أن نبني كلامنا على أساس متين لا بد أن نتقرب إلى زماننا بزهاء مائتي سنة، أعني إلى أوائل القرن السادس للمسيح فإن الشعر العربي الموزون ذا الأبحر المتعددة والإيقاع الثابت لا تُرَى آثاره قبل ذلك.
ويؤيد قولنا اتفاق كتبة العرب الأقدمين. قال الجاحظ في كتاب الحيوان (١: ٢٧): «أما الشعر فحديث الميلاد صغير السن، أول من نهج سبيله وسهَّل الطُّرُق إليه امرؤ القيس بن حجر، ومهلهل بن ربيعة … فإذا استظهرنا الشعر وَجَدْنا له إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام.»
وذكر السيوطي في المزهر (٢: ٢٣٨) لعمر بن شَبَّة في طبقات الشعراء قوله:
«وهؤلاء النَّفَر المُدَّعَى لهم التَّقدُّم في الشعر متقاربون لعل أقدمهم لا يسبق الهجرة بمائة سنة أو نحوها.»
على أن هذا القول يصح في القصائد المطولة ليس في الأبيات القليلة التي لعل بَعضَها يرتقي إلى أواسط القرن الخامس، قال محمد بن سلام الجمحي في طبقات الشعراء (ص١٨): «لم يكن لأوائلِ العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حادثة، وإنما قُصِّدَت القصائدُ وطُوِّل الشعر على عهد عبد المطلب، وهاشم بن عبد مناف.»
فيبقى البحث عن تلك الأبيات المفردة والقليلة، فكيف اهتدى إلى نَظْمِها العرب؟ هل ابتكروها دون علم سابق؟ أو حذوا فيها حذو غيرهم من الأمم المجاورة لهم كالحبش والروم والسريان؟
قلنا: إن الغناء غريزة في الإنسان والغناء يحتاج إلى بعض الوزن والإيقاع، فلما أراد الناطقون بالعربية المحضة، وهي عربيتنا التي أخذت بالثبات في القرن الخامس للمسيح ابتدءوا بالتعبير عن عواطفهم وإحساساتهم في الحب والتحمس والغضب والوصف بما يقرب من الشعر الموزون، أعني بالكلام المسجع الذي روى منه الرواة الأقدمون بعض المقاطيع كان يرتجلها الكهان والعرافون وبعض القوالين، فمن أقدم ما رووا من ذلك قول ظريفة الخير الكاهنة تنذر زوجها الملك عمرًا بسيل العرم (المسعودي، في مروج الذهب، ٣: ٣٧٩):
«ما رأيت اليوم، قد ذهب عني النوم، رأيتُ غيمًا أبرَقَ، وأرعَدَ طويلًا ثم أَصعَقَ، فما وقع على شيء إلا احترق، فما بعد هذا إلا الغرق.» (وقالت ص٣٨٢): «هي داهية ركيمة، ومصيبة عظيمة، بأمور جسيمة … إن لي فيها الويل، مما يجبي به السيل … خطب جليل، وحزن طويل، وخلف قليل، وعدٌ من الله نزل، وباطلٌ بَطل، ونكالٌ بنا نكل، فبغيرك يا عمرو فليكن الثكل.»
فترى في هذه الأقوال أسجاعًا متتالية بينها شيء من الموازنة فانتقلوا منها إلى أبسط البحور، وهو الرَّجَز فلزموا التقفية كَلُزومهم الأسجاع في المنثور وراعوا فيه عدد الأجزاء والوزن مع جوازات كثيرة، وكانت أبياته قليلة، قيل: إن من أقدمِ ما ورد منه قول دُوَيد بن زيد بن نهد حين حضره الموت:
وقول امرئ القيس إذ بلغه خبر قتل أبيه بِدمُّون في نواحي اليمن:
ومثله لكليب أخي المهلهل، وتروى لطرفة ارتجز بها إذ رأى قنابر تلتقط حبًّا ينثر لها:
فإن كان السجع والرجز المذكوران هما — كما يظهر — أصْلَ الشِّعر العربي ترتقي آثارهما إلى أوائل القرن السادس أو أواخر الخامس، فيجب البحث عن أُمَّة مجاورة للعرب أمكنهم أن يتقلدوها في سَجْعِهم ورَجَزِهم السابقين، وإننا نرى أن تلك الأمة كانت الأمة الآرامية؛ أي الكَلْدان والسُّرْيَان الذين كانوا منذ أواسط القرن الرابع بعد تَنصُّرِهم زَيَّنُوا كلامهم المنثور بالسجع والفواصل ونَظَمُوا شعرًا يقرب من أراجيز العرب، ولما كان الآراميون يَسْتَوطنون حدود العرب، وكثيرًا ما امتزجوا بهم امتزاج الماء بالراح وبَنَوا في جزيرتهم العددَ العديد من الأديرة والمناسك حيث كان الرُّهبان يَتغَنَّون بالتسابيح، ويُحْيون لياليهم بالأناشيد الروحية، فيسمعهم أهل البادية ويُردِّدون نغماتهم فتبعثهم على الاقتداء بهم كما فعلوا بعد ذلك في تجويد القرآن على ما أثبتنا سابقًا، فلا نشك أن العرب أخذوا أيضًا عن نصارى السريان والكلدان تسجيع الكلام وموازينه الشعرية البسيطة كما ترى في الأراجيز العربية، ولعل القبائل القريبة من الروم وجدت أيضًا في تلحينهم وغنائهم وشِعْرِهم ما دفعهم إلى التشبه بهم في آدابهم.
ويؤيد قولنا هذا أن كثيرًا من القبائل العربية المُتَنَصِّرة كانت تحضر ما يُقِيمه في وسطها من الرتب الدينية الأساقفة والكهنة، خصوصًا في جهات الشمال والشمال الغربي حيث توفرت الكنائس النصرانية الكلدانية والسريانية، وفي جهات الشام شرقي دمشق، وفي نواحي الأردن حيث انتشرت اليونانية وأقيمت الطقوس الكنسية في تلك اللغة، أما القبائل المتنقلة فكان يرافقها أساقفة أو كهنة يدعون بأساقفة المضارب كما شرحنا ذلك كله في القسم التاريخي، فلا غرو أن العرب الذين كانوا يعاينون تلك المحافل الدينية ويسمعون ألحانها تأثروا منها فاستفزتهم قريحتهم إلى أن يجروا عليها نوعًا، سواء كان في غنائهم أو في شعرهم.
ولنا فيما رويناه عن سوزومان المؤرخ شاهِدٌ آخَر على رأينا إذ ينسب إلى بني غسان تلك الأغاني العربية التي كانوا ينشدونها بعد محاربتهم للرومان، وهو في الفصل عينه يذكر تَنصُّرَهم، وفي ذلك دليل على أصل كلامهم الموزون وعلاقته مع دينهم النصراني، سواء كانت تلك الأغاني أسجاعًا مرصوفة أو أراجيز موزونة.
(٢) في تَرقِّي الشِّعْر العربي وتَقْصيد القصائد
كان بحر الرَّجَز كأساسٍ أول للشعر العربي. على أن تفاعيله بما فيها من الجوازات الشعرية العديدة ما لَبثَتْ أن برزتْ على صورٍ شتى تَفنَّن بها الشعراء بتركيب الأسباب والأوتاد فأخرجوها على أوزان مختلفة جرَوا عليها بفطرتهم دون أن يدونوها بكتاب مكتوب، فبَقِيَت سماعية تقليدية إلى أن قام الخليل في القرن الثاني للهجرة وأمعن النظر في صورها وأوزانها واستخرج أعاريضها وأثبتها على قواعد صحيحة، وإلى ذلك أشار ابن رشيق في العمدة (ص٥) بقوله في أصل الشعر العربي: «كان الكلام كله منثورًا فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارِم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذِكْر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفُرسانها الأنجاد، وسُمَحائها الأجواد؛ لتهز نفوسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حُسْن الشِّيَم، فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلما تم لهم وزنه سَمَّوه شعرًا لأنهم قد شَعروا به؛ أي فطنوا له.»
وهنا لا نتردد في القول بأن الذين قاموا بذلك فوضعوا هذه الأوزان إنما كانوا من العرب المُتَنَصِّرين من قبائل غَلَبتْ عليها النصرانية بشهادة قدماء المؤرخين، لا سيما المسلمين كقبائل ربيعة التي منها بكر وتغلب ويشكر وحنيفة وكقبائل قُضاعة، ومنها كلب وتنوخ وكقبائل اليمن ومنها كندة ولخم وغسان وبعض قبائل قيس كَذُبيان وعبس، نحيل القراء لإثبات نصرانيتهم إلى قسمنا الأول في تاريخ النصرانية في عهد الجاهلية.
وعلى رأينا أن شعراء الجاهلية الأولين إذ اكتحلوا بنور النصرانية واحْتَكُّوا بأهلها من الأمم المجاوِرة كالسريان واليونان والحَبَش، ودخلوا على ملوكها العرب الغساسنة والمناذرة وبني الحارث، وكان تَمدُّن اليونان والروم والفرس غلب عليهم تأدَّبُوا بآدابهم وجارَوْا أولئك الطوائف في بلاغتهم وتأنَّقُوا بالنَّظْم على مثالهم.
وساعد الشعراء في تقصيد قصائدهم ما جرى في القرن السادس للمسيح من الوقائع والحروب التي اشتهر فيها العرب، سواء كانت تلك الحروب أهلية بين القبائل كحرب البسوس أو جرت لهم مع الأجانب كحرب ذي قار بين العرب والفرس، فإن الشعراء وجدوا فيها ما استفز قريحتهم وهَيَّج إحساساتهم فوصفوها بقصائدهم وللنصارى منهم فيها حظ وَفِيٌّ كما سترى.
(٣) الشعر النصراني
رأيت فيما سبق أن النهضة الشعرية كانت خصوصًا في القرن السادس للمسيح؛ أي القرن السابق لظهور الإسلام، وفي تأخُّر تلك النهضة سرٌّ غامض ارتاب في فَكِّه الباحثون عن أخبار الجاهلية، فهذه أمة عظيمة منتشرة في بلاد تكاد مساحتها تساوي مساحة أوروبة على أطرافها الممالك الوطنية ذات الجاه والشرف والسلطان سبقت الإسلام بعدة قرون لا ينقصها شيء من أسباب الحضارة والعمران بينها أرباب العقول الراجحة والأذهان المتقدة لسانها من أغنى الألسنة وأشرفها وأقدرها على التعبير عن كل العواطف البشرية، وهي مع ذلك لم تُنْتِج شاعرًا مُفلِّقًا قبل أوائل القرن السادس، وذلك بإقرار أقدم الكتبة من العرب، فكيف يا ترى يمكن تعليل ذلك الخمول؟
إننا طالما أمَعَنَّا النظر في هذا الأمر، واستقصينا البحث فيه فلم نجد له شرحًا مقبولًا إلا بأن نقول: إن النصرانية كانت أصل تلك النهضة، ولأنها لم تبلغ في جزيرة العرب نفوذها وعِزَّها إلا في القرن السادس، وإن كان دخولها إلى الجزيرة سبق ذلك ذلك العهد، فكذلك بلغت النهضة الأدبية معها إلى أوج عِزِّها في ذلك الجيل.
-
(١)
وكان من نتائج تَوغُّل النصرانية في جهات العرب أنها سَوَّلَت لهم طرقًا للكتابة التي لا تستطيع الآداب أن تنتشر وتَترقَّى دونها، فاستمد العرب فَنَّ الكتابة من نصارى العراق والنبط والحبش، تلك المصادر الثلاثة للأقلام العربية الأولى، أعني القلم النَّسْخي والمُسْنَد والكُوفي، وقد أثبتنا ذلك في باب خاص عليك بمراجعته [القسم الثاني، الفصل الأول]، وناهيك به على ما كان النصرانية من السَّهم الأفوز في حفظ المآثر الأدبية ونشرها، وقد وقع ذلك في القرن السادس.
-
(٢)
وكان للنصرانية فضل آخر على ترقية الآداب بين العرب أن أربابها مع نَشْر الكتابة نشروا أيضًا التعليم، إما بفتح المدارس للناشئة وإما بالتعليم الخاص، وقد جمعنا في فصل سابق [القسم الثاني، الفصل الحادي عشر] بعض الشواهد المثبتة لقولنا منها المدارس المتعددة المُنْشأَة في العراق في أديرة الرهبان وغيرها كان يحضرها أحداث العرب كما ذكرنا هناك عن المُرَقَّشَيْن الأكبر والأصغر، وعن عدي بن زيد، وعن ورقة بن نوفل، والبراق بن روحان، ونَوَّهْنا أيضًا بذكر معلمين نصارى في مكة والمدينة وغيرهما، فليت شعري أيحتاج إلى برهان أعظم لبيان تأثير النصرانية في آداب الجاهلية وشعرائها المبرزين في ذلك القرن السادس؟
-
(٣)
ومن الأدلة المقنعة على أن النصرانية هي التي بعثت الشعر العربي وأخرجته من مهده في القرن السادس أن ذلك الشعر كان ظهوره أولًا بين القبائل النصرانية، فإن استثنينا على ذلك أقدم الكتبة كابن قتيبة في كتابيه المعارف، وفي الشعر والشعراء، وابن سلام الجمحي في طبقات الشعراء (ص٢٢)، وابن الرشيق القيرواني في العمدة (ص٥٤) ثم السيوطي في المزهر (٢: ٢٣٨) أجابونا باتفاق الأصوات أن الشعر العربي كان أولًا في ربيعة، وقد أثبتنا شيوع النصرانية في ربيعة كما أجمع عليه الرواة كابن قُتَيبة (في المعارف، ص٣٠٥)، وابن رسته في الأعلاق النفيسة (ص٢١٧) وغيرها (راجع [القسم الأول، الفصل الثاني])، ومن ربيعة كانت تلك القبائل العظيمة التي كادت تستولي على جزيرة العرب كبكر وتغلب ابني وائل، وكبَنِي امرئ القيس وشيبان وعجل وحنيفة، وقد تحققنا نصرانيتها كلها استنادًا إلى معظم الكتبة، فالنتيجة بعد ذلك ظاهرة وهي نصرانية الشعراء المنتمين إليها الذين سبقوا غيرهم زمنًا كما سبقوهم إلى تقصيد القصائد، قال الفرزدق يذكر المهلهل التغلبي:
ومُهَلْهِل الشعراء ذاك الأول -
(٤)
ولنا بَيِّنَة أخرى على نصرانية هؤلاء الشعراء الأولين نَعْنِي بها منازلهم التي كانوا يسكنونها مع قبائلهم، فإن قبائل ربيعة كانت تحتل مَفاوِز ما بين النهرين من الفرات شرقي حلب وجنوبها إلى جهات الموصل والعراق، ولا يزال يُطْلَق على قسم كبير منها اسم ديار بكر، وديار ربيعة، وكانت هناك النصرانية راسخة القدم منذ القرن الرابع للمسيح فتنسك فيها الحبساء بعدد وافر كصعيد مصر، وتشيدت فيها أديرة ذكر منها كتبة السريان والعرب ما ينيف على المائة عدًّا، فما لبثت تلك القبائل العربية أن جحدت الشرك ودانت بدين المسيح، وقد روينا في القسم التاريخي كثيرًا من أخبارها والشواهد على تَنصُّرِها نقلناها عن أصدق الرواة من يونان ولاتين وسريان بينهم كتبةٌ كانوا معاصرين للأمور التي يخبرون بها وشهود عيانيون لما يدونونه في بطون التواريخ، فتارة يذكرون كنائسهم وتارة أساقفتهم الساكنين بينهم في الحَضَر والمَدَر وتحت الخيم، وحينًا مزاراتهم الدينية إلى غير ذلك من الدلائل الصريحة على إيمانهم.
فلما ظهر الإسلام أقرَّ كَتَبَتهم بما تحققوه من تَنصُّر تلك القبائل، وقد دَوَّنَّا ما أعلنوا به حيث قالوا: «إن من قبائل العرب المُتَنَصِّرة بكر وتغلب ولخم وبَهْراء وتنوخ وجذام.» وكلهم من ربيعة أو من القبائل اليمنية المحالفة لها.
ومما يجدر بالاعتبار أن بين هؤلاء الشعراء قرابة يستدل بها أيضًا على وحدة دينهم، فإن كليبًا والمُهَلْهِل كانَا خالي امرئ القيس بن حجر الكندي وأمه فاطمة أختهما، وكان المُرَقَّش الأكبر عوف بن سعد عم المُرَقَّش الأصغر عمرو بن حرملة، وكان هذا عم طرفة بن العبد، وكانت أم طرفة وردة، وهي أخت المتلمس جرير بن عبد المسيح.
-
(٥)
ويؤيد قولَنا في نصرانية هؤلاء الشعراء أن مَن يراجع دواوينهم أو ما رُوي عنهم من القصائد لا تجد فيها أثرًا للشِّرْك وعبادة الأصنام، اللهم إلا في بعض الأقسام التي بَيَّنَّا أنها كانت ألفاظًا جارية على ألسنتهم كما ترى من أشكالها في ألسنة كل الشعوب دون إشارة إلى مُعتقَد الْبَتَّة (اطلب [القسم الثاني، الفصل الثاني عشر]).
-
(٦)
وعلى خلاف ذلك تجد في شعرهم آثارًا بينة لاعتقادهم بالإله الواحد وبخلود النفس مع اقتباسات وإشارات واضحة إلى الأسفار المُقدَّسة وإلى الأنبياء وإلى العادات النصرانية، وقد جمعنا منها فصولًا واسعة مَرَّ ذِكرُها في كتابنا هذا فلتراجع، وهذا يصح أيضًا في معظم الشعراء الذين جمعنا قصائدهم في كتاب شعراء النصرانية، سواء كانوا من إيادٍ أو مُضَر أو قُضاعة أو طيئ أو من القبائل اليمنية.
ولا شك أننا كنا وجَدْنا في منظوماتهم ما هو أدلُّ على دينهم لو لم يُفْقَد كثير منها، وزد على ذلك أن أهل اللغة الذين حاوَلوا جَمْع تلك الآثار لم يباشروا بتدوينها إلا في أواسط القرن الثاني للهجرة إذ كان قسم كبير منها قد أخذته يد الضياع أو تَلِفَ بالنسيان، وكان هؤلاء الرواة مسلمين لا يهمهم غير الفرائد الأدبية والنوادر اللغوية فيضربون الصفح عَمَّا يُعَزِّز دينًا غير الدين الإسلامي، ويثبت ذلك ما تجد في المعاجم من أبيات متفرقة دُوِّنَت في مظانها يستفاد منها أشياء كثيرة من نصرانية أهل الجاهلية رويناها فيما سبق كلآلئ فريدة من قلائد منفرطة.
- «السبب الأول»: لذلك كما قلنا إن الرواة السابق ذِكْرُهم قَلَّما سَعَوا في البحث عن أديان أولئك الشعراء، وإذا تَصفَّحتَ ما نقلوه من أخبار شعراء الجاهلية لا تكاد تجد تنويهًا بأحوالهم الدينية، وإن ذكروا شيئًا من ذلك رَوَوه استطرادًا لا تعمدًا، ولولا إشاراتٍ خفيفة عن البعض الذين لا شبهة في نصرانيتهم لما تحققنا دينهم كقس بن ساعدة، وعدي بن زيد، وجابر بن حُنَي، والبرَّاق بن روحان، وبسطام بن قيس.
- «السبب الثاني»: لسكوتِ الرواة عن نصرانية أولئك الشعراء أنهم كانوا من قبائل عِصامِيَّة صحيحة النسب، فما كانوا يرون داعيًا إلى ذكر دينها وكلها متساوية في شرف جنسها العربي من قحطان أو من عدنان على خلاف القبائل اليهودية، فإن الكتبة الأقدمين يُميِّزُونها عن القبائل العربية ويصرحون بيهوديتها نسبًا ودينًا كقريظة والنضير.
- «والسبب الثالث»: الذي قضى على الرواة المذكورين الإضراب عن ذكر أديان الشعراء ما وجدوه من الاختلاف في نصرانيتهم، فإن دعاة النصرانية الذين دخلوا في جهات العربية لم يكونوا على معتقَد واحد، فكان بينهم الصحيح الإيمان كالقديس بنتانوس (St Panténe) وأوريجانوس، وموسى رسول الغسانيين، والقديسيين هيلاريون ونيلوس وأفتيموس، ثم عقبهم النساطرة في العراق وفي سواحل البحرين وعمان واليمن، واليعاقبة في جهات الفرات وما بين النهرين وبادية الشام، وكان فر إلى جزيرة العرب كثيرون من المبتدعين لينجوا من نقمة ملوك الروم وغيرهم كاللاأدريين، والمندائيين، ومُتَنصِّرِي اليهود المدعوين بالإبيونيين والكسائيين وهلم جرًّا، حتى إن القديس أبيفانيوس منذ القرن الرابع كان يصف جزيرة العرب بكثرة بدعها وأضاليلها.
ومن ثم إذا تكلمنا عن شيوع النصرانية في جزيرة العرب لسنا نقصد بها الديانة الكاثوليكية الخالية من كل ضلال بل الدين المسيحي عمومًا مع ما اختلط به من آراء الهراطقة الباطلة، والحق يُقال: إن تَوَفُّر هذه الشِّيَع وتعاليمها المتناقضة هي التي سَوَّلَت للإسلام الفوز بالنصرانية في جزيرة العرب وفي البلاد الخارجة عنها، وقد ظهر بعد ذلك في نفس الإسلام شيء كثير من تلك البِدَع كما ترى في كتاب المِلَل والنِّحَل للشهرستاني، ولابن حزم وغيرهما، فكانت كَنارٍ تحت رماد شَبَّت بمساعي الخوارج والملحدين في أيام الخلفاء.
(٤) شعراء النصرانية
إذا ما تخطَّيْنا الآن من هذه البينات والأدلة العمومية عن الشعر النصراني ونفوذه بين عرب الجاهلية واعتبرنا أفراد الشعراء الذين أثبتنا أسماءهم وقصائدهم في كتابنا «شعراء النصرانية» تَمهَّد لنا الطريق للحكم بنصرانيتهم إما بتاتًا وإما ترجيحًا، فها نحن نستقري ذكرهم على سياق قبائلهم التي انتسبوا إليها.
(٤-١) أولًا: قبائل ربيعة
قبائل ربيعة كثيرة العدد كانت تسكن في الجهات الممتدة بين الفرات والخابور إلى أنحاء العراق، وبنو ربيعة على اختلاف قبائلهم يتصلون بربيعة بن نزار جدهم الأعلى، وفي ربيعة خصوصًا انتشر الدين النصراني كما روى كثيرون من كتبة المسلمين؛ كابن قتيبة، وابن رسته، والقاضي صاعد الأندلسي، والفيروزآبادي (راجع أقوالهم في [مقدمة المؤلف: عرب الجاهلية])، ولا تجد فيما يُرْوَى من شعرهم أثرًا للشرك وعبادة الأصنام وفيه على خلاف ذلك من الأقوال في التوحيد وتُقَى الله ومَدْح الفضيلة ما يدل على تأثير التعاليم النصرانية في قلوبهم، إذ كانوا محاطين في أنحائهم بالسياح وأديرة الرهبان والكنائس، ويتردد أكثرهم على ملوك الحيرة المُتَنَصِّرين ويمدحونهم، وثبتت النصرانية في ربيعة مدة بعد الإسلام، وقد ذكر في الأغاني (٢٠: ١٢٧): «نصارى بعض أحياء ربيعة في عهد بني أمية.»
(أ) شعراء تغلب
لا نظن أن أحدًا ينكر علينا نصرانية تَغْلِب مع اتفاق الكتبة القدماء على اعتصامها بالدين المسيحي، وذلك قبل الهجرة بزمن طويل يمكن ترقيته إلى ما وراء القرن الخامس للميلاد إلى عهد السُّيَّاح والرُّهْبان الذين أزهروا في الجزيرة في القرن الرابع للمسيح، وقد مرَّت لنا الشواهد على ذلك في القسم الأول، ومن ثَمَّ لا حاجة إلى إثبات نصرانية شعراء تغلب الذين نظمناهم في سلك كتابنا شعراء النصرانية وهم ثمانية هذه أسماؤهم على ترتيب ذكرهم في الكتاب مع الإشارة إلى الصفحات التي وردت فيها أخبارهم:
١ | كليب وائل | شعراء النصرانية | ص١٥١–١٥٩ |
٢ | المهلهل أخو كليب | شعراء النصرانية | ص١٦٠–١٨١ |
٣ | السفاح التغلبي | شعراء النصرانية | ص١٨٢-١٨٣ |
٤ | الأخنس بن شهاب | شعراء النصرانية | ص١٨٤–١٨٧ |
٥ | جابر بن حُنَي | شعراء النصرانية | ص١٨٨–١٩١ |
٦ | أفنون بن صريم بن معشر | شعراء النصرانية | ص١٩٢–١٩٤ |
٧ | عُمَيْرَة بن جُعَيْل | شعراء النصرانية | ص١٩٥-١٩٦ |
٨ | عمرو بن كلثوم | شعراء النصرانية | ص١٩٧–٢٠٤ |
فهؤلاء كلهم سواء صرَّحوا بدينهم النصراني كما ترى في ترجمة جابر بن حُنَي أم سكتوا عنها فلا شك بنصرانيتهم.
(ب) شعراء بكر
إن نصرانية بني بكر ثابتة كنصرانية تَغْلِب، وكانت كلتا القبيلتين ساكنة في الجزيرة مُتجاورة في ديار بكر وديار ربيعة، وهما تَرتَقِيان إلى أصل واحد إلى وائل، ومنه إلى ربيعة بن نزار، وتَدِينَان بدين واحد، وكل مَن ذكر نصرانية تغلب أضاف إليها بَكرًا كما روينا سابقًا، هذا مع ما حصل بين القبيلتين من النزاعات والحروب أَخصُّها حرب البسوس كما يجري غالبًا من المنافسات والضغائن بين الأقارب، وبكر قبيلة كبيرة كتغلب تتفرع إلى فروع عديدة؛ كضبيعة، وشيبان، ومُرَّة، ويَشْكُر، وعِجْل، وقد أتينا في باب القبائل المُتَنَصِّرة بذكر هذه الفروع.
(١) «بنو ضبيعة بن قيس بن ثعلبة» ذكرنا منهم في شعراء النصرانية هؤلاء الثمانية الآتِين:
١ | سعد بن مالك بن ضبيعة | شعراء النصرانية | ص٢٦٤–٢٦٧ |
٢ | جحدر بن ضبيعة | شعراء النصرانية | ص٢٦٨-٢٦٩ |
٣ | عمرو بن سعد بن مالك (المرقَّش الأكبر) | شعراء النصرانية | ص٢٨٢–٢٩٢ |
٤ | ربيعة بن سفيان بن سعد (المرقش الأصغر) | شعراء النصرانية | ص٣٢٨-٣٢٩ |
٥ | طَرَفة بن العبد بن سفيان بن حرملة بن سعد | شعراء النصرانية | ص٢٩٨–٣٢٠ |
٦ | الخرنق أخت طرفة | شعراء النصرانية | ص٣٢١–٣٢٧ |
٧ | عمرو بن قميئة بن ذريح بن سعد | شعراء النصرانية | ص٢٩٣–٢٩٧ |
٨ | المُسَيِّب بن عَلَس … بن مالك بن ضبيعة | شعراء النصرانية | ص٣٥٠–٣٥٦ |
فكل هؤلاء مُتقارِبو العهدِ بينهم واشجة رحَمٍ من سلالة واحدة، وقد صرح في كتاب الأغاني (٥: ١٩١) تَخرُّج المُرَقَّش الأكبر على نصارى الحيرة، وذكرنا في شعراء النصرانية استشهاده بزَبُور داود:
وطَرَفة بن العبد كان ابن حفيد المُرَقَّش الأكبر، وابن أخي المُرَقَّش الأصغر، ووردة أم طَرَفة كانت أخت جرير بن عبد المسيح المعروف بالمُتَلمِّس فكفى بهذه القرابة دليلًا على نصرانية طرفة، وعيشة طرفة والمتلمس في الحيرة بين النصارى ودخولهما على ملكها النصراني عمرو بن هند، مما يؤيد ذلك، وفي شعر طَرَفة تَنويه بخُلود النَّفْس والحساب كقوله:
وتصريح بحكم الله المطلق على الأنام:
وبكمال أعماله تعالى:
وهو القائل في الحض على الخير والحياد عن الشر:
وله في مودته لأهل الدين:
وكان عمرو بن قميئة من قَرابة المُرَقَّشَين الأكبر والأصغر، وطَرَفة، وهو الذي رافَق امرأ القيس في سفره إلى القيصر ملك القسطنطينية، وفي أخباره ما يدل على ابتعاده عن الدَّناءة والإثم كيوسف الحسن والتجائه إلى نصارى الحيرة فرارًا من التهمة الباطلة، وهذا كله مما لا يدع شبهة في نصرانيته.
وكذلك المُسيِّب بن عَلَس من ندماء ملك الحيرة عمرو بن هند كطرفة والمُتلَمِّس، وكان خالَ الأعشى الكبير، وهو القائل يَدعو بني عامر إلى تُقَى الله:
١ | جسَّاس بن مُرَّة بن ذُهْل بن شيبان | شعراء النصرانية | ص٢٤٦–٢٥١ |
٢ | جليلة أختُه | شعراء النصرانية | ص٢٥٢-٢٥٣ |
٣ | عبد المسيح بن عسلة | شعراء النصرانية | ص٢٥٤-٢٥٥ |
٤ | بسطام بن قيس … بن ذهل بن شيبان | شعراء النصرانية | ص٢٥٦–٢٦٣ |
جسَّاس هو قاتِل كليبِ وائل صهره زوج جليلة، وكان طليعة قومه في حرب البسوس، ونصرانيته ثابتة من عدة وجوه: (١) من انتسابه إلى شيبان. (٢) من قرابته إلى بني تغلب. (٣) من اعترافه بالإله الحق وبالبعث في حلفه حيث يقول:
أما بسطام بن قيس بن مسعود فهو أحد فرسان بني شيبان المعدودين في الجاهلية، قال ابن قيم الجوزية في أخبار النساء (ص٩٨): كان بسطام فارسًا جوادًا عفيفًا، وقال ابن عبد ربه في العقد الفريد (٢: ٦٧): قد رَبَّع الذُّهْلِيِّين واللَّهازم اثني عشر مرباعًا، أما نصرانية بسطام بن قيس فقد جاهَر بها ابن دريد في الكامل (ص١٣٠)، وابن عبد ربه أيضًا في العقد الفريد (٣: ٨٨) في أخبار يوم الغبيط، وقد ورد هنالك اسم الحنيف مع اسم النصراني حيث قال: «ونادَى القوم نجادًا أخا بسطام كُرَّ على أخيك وهم يرجون أن يأسروه فناداه بِسطام: إن كَررتَ فأنا حنيف، وكان بسطام نصرانيًّا فلحق نجاد بقومه.» وقد جاء في الأغاني (١٩: ١٨) ذكر زِيقُ بن بسطام فقال عنه: إنه كان نصرانيًّا وذكر ابنته حدراء (١٩: ١٢) قال: «تزوَّجَها الفرزدق وكانت نصرانية.»
(٣) «قيس بن ثعلبة» أخو شيبان بن ثعلبة، إليه ينتسب الحارث بن عَبَّاد بن ضبيعة رئيس بني بكر في حرب البسوس بعد اعتزاله الحرب مُدَّة إلى أن قُتِل ابنُه بجير، ونصرانيته تثبت بنصرانية شيبان لأن شيبان وقيسًا كليهما ابنا ثعلبة بن عكابة.
(راجع: أخبار الحارث في شعراء النصرانية، ص٢٧٠–٢٨١).
(٤) «يشكر بن بكر» حي كبير من بكر بن وائل يدين بدينها، ذكرنا منه ثلاثة شعراء مجيدين:
١ | الحارث بن حِلِّزَة | شعراء النصرانية | ٤١٦–٤٢٠ |
٢ | المُنَخَّل اليَشْكُري | شعراء النصرانية | ٤٢١–٤٢٤ |
٣ | سويد بن أبي كاهل | شعراء النصرانية | ٤٢٥–٤٣٦ |
الحارث بن حِلِّزَة هو الذي دافَع عن قومه عند عمرو بن هند ملك الحيرة بمعلقته الهمزية المشهورة مناقضًا لمعلقة عمرو بن كلثوم، وبهما وقع الصلح بين بكر وتغلب.
وكان المُنَخَّل اليشكري من ندماء ملك الحيرة النصراني النعمان بن منذر، أما سُوَيد بن أبي كاهل فأدرك الإسلام ولم يذكر أحد إسلامه، ومن شعره الدال على دينه قوله من عينيته الشهيرة:
(٥) «علي بن بكر» ذكرنا شاعرين من بني علي بن بكر بن وائل وهما:
١ | فِنْد الزِّمَّاني | شعراء النصرانية | ص٢٤١–٢٤٥ |
٢ | أعشى قيس بن ثعلبة | شعراء النصرانية | ص٢٥٧–٣٩٩ |
كان فِنْد الزِّمَّاني سيد بكر في زمانه وشهد حرب البسوس، وحارَب مع بني بكر ورئيسهم الحارث بن عباد، وهو من نصارى اليمامة، وقد روينا شعره في تلك الأيام.
وأشهرُ منه ميمون بن قيس، وهو الأعشى الكبير، وقد نظمناه بين الشعراء النصارى ليس فقط لانتمائه إلى بني بكر النصارى بل لأسباب أخرى منها: (١) تَخَرُّجه على العباديين ورأيه بآرائهم، قال في الأغاني (٨: ٧٩): «كان الأعشى قدريًّا (أي يقول بحرية الإنسان في أعماله) … أخذ مذهبه من قبل العباديين نصارى الحيرة كان يأتيهم يشتري منهم الخمر فلقنوه ذلك.» (٢) وكان راوية الأعشى يحيى بن متَّى النصراني العبادي. (٣) زيارة الأعشى لنجران وكنيستها المعروفة بكعبة نجران ولأساقفتها وأمرائها النصارى. قال يكلم ناقته:
(٤) تَجوُّله في البلاد النصرانية كحمص وأورشليم قال:
(٥) إيمانه بالبعث والحساب كقوله:
(٦) اقتباساتُه الشعرية من العادات النصرانية كحَلِفِه بأسكيم الرهبان:
قال البكري في معجم ما استعجم (٤٨٩): اللُّجُّ غديرٌ عند دير هند، وقيل: إنه أراد المسيح — عليه السلام — ويُرْوى: «وثوبَي راهب الطور.» والتي بناها قصي، يعني مكة، وهذا كما حلف عدي بن زيد «برب مكة والصليب» وحلف الأعشى بمثل ذلك فقال:
وللأعشى في وصْف هياكل النصارى وصلبانها وصورها:
(٧) ذكره للأنبياء وأحداث الأسفار المقدَّسَة كقوله في نوح وفلكه:
وقد روينا له أبياتًا في داود النبي وفي سليمان الحكيم وفي المَنِّ والسلوى وغير ذلك مما يدل على معرفته للأسفار الكريمة.
(٨) ويؤيد ذلك ذكره لفِصْح النصارى ومدحه لهوذة بن علي الذي فك أسرى تميم في ذلك العيد فقال:
(ﺟ) ربيعيون آخرون
أربعة شعراء من رَبيعة من غير قبائل بكر وتغلب روينا شعرهم وهم:
١ | البرَّاق بن روحان | شعراء النصرانية | ص١٤١–١٤٧ |
٢ | ليلى العفيفة زوجتُه | شعراء النصرانية | ص١٤٨–١٥٠ |
٣ | جرير بن عبد المسيح (المُتلَمِّس) | شعراء النصرانية | ص٣٢٠–٣٤٩ |
٤ | المُثقب العبدي | شعراء النصرانية | ص٤٠٠–٤١٥ |
هم من أحياء مختلفة لا شك في نصرانيتهم، فالبرَّاق كما ورد في جمهرة أنساب العرب للكلبي كان من قرابة المهلهل التغلبي، وتخَرَّج على راهب فتعلم منه تلاوة الإنجيل، ولعل دَيْر ابن برَّاق الذي ذكره ياقوت في معجم البلدان إليه ينتسب، والمُتلَمِّس ينتمي إلى ضُبَيعة بن ربيعة بن نزار، وكفى باسمه «جرير بن عبد المسيح» دليلًا على دينه، نادَمَ مُدَّة عمرو بن الهند، ثم هرب منه إلى الشام، واجتمع بأهلها النصارى، وفي ذلك يقول:
وهو القائل عن تُقَى الله:
أما المثقب العبدي فكان من أسد بن ربيعة يرتقي إليها بعبد القيس بن أَفْصَى التي سبق لنا ذكر شيوع النصرانية بينها، كان أبوه محصن بن ثعلبة سيدًا خطيرًا وأحد السعاة بالصلح بين بكر وتغلب كما قال المثقب:
والمثقب دخل على ملوك الحيرة فمدح منهم عمرو بن هند والنعمان بن قابوس.
(٤-٢) ثانيا: شعراء إياد
إياد بن نزار أخو ربيعة، تَشعَّبَت منه أحياء وفروع متعددة شارَكوا ربيعة في نصرانيتهم كما شهد على ذلك كتَبة مسلمون فضلاء كأبي نصر الفارابي، والبكري، وابن دريد (اطلب نصوصهم في [القسم الأول، الفصل الأول])، وقد ذكر ياقوت في معجم البلدان أديرة بناها بنو إياد كدير السوا، ودير قرة، وفي أخبار البلد الحرام للفاسي (ص١٣٧) أن كاهنًا من إياد اسمه وكيع بن سلمة ابْتَنَى صرحًا ليناجي فيه الله، قال بشر بن الحجر (البيان والتبيين، للجاحظ، ١: ١٩٠):
وأشهر مَن عُرِف من شعرائهم شاعران ذكرناهما في كتابنا:
١ | قس بن ساعدة | شعراء النصرانية | ص٢١١–٢١٨ |
٢ | أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت | شعراء النصرانية | ص٢١٩–٢٣٧ |
قس بن ساعدة هو خطيب العرب الشهير وأسقف نجران، لا حاجة إلى إثبات نصرانيته، وصفَه الجارودُ النصراني العبقسي لمحمَّدٍ بما رويناه هناك [القسم الثاني، مفردات نصارى الجاهلية الخاصة بمساكن الرهبان]، هذا مع ما دخل في أخباره من الأقاصيص الفَرِيَّة التي رويناها على عِلَّاتها.
أما أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت وهو من ثقيف بها يرتقي إلى إياد، فيُمْكنَّا بيان نصرانيته بالأدلة الآتية: (١) كونه من إياد التي أثبتنا نصرانيتها وافتخاره بمعارف قومه، لا سيما الكتابة وفن الكتابة كما سبق تَعَلَّمَه العربُ من النصارى:
(٢) كان أمية من الحنفاء، وقد سبق (ص١١٨-١١٩) أن الحَنِيفية في الجاهلية يراد بها النصرانية أو شيعة من شيعها وأتينا على ذلك بشواهد إسلامية. (٣) اطلاعه على الأسفار المُقدَّسة والإنجيل ودرسه لها (الأغاني، ٣: ١٨٧). (٤) دخوله كنائس النصارى واجتماعه برهبانها (ص١٨٨). (٥) معرفته للغة السريانية لغة نصارى العراق، قال ابن دريد في تاج العروس (٣: ٢٨٦): «كان أُمَيَّة يستعمل السريانية كثيرًا لأنه كان قد قرأ الكتب.» (٦) في شعره من مُقتبَسات الكُتُب المقدَّسة ما تفرد به كعدي بن زيد، فإن له أوصافًا عديدة للأحداث الكتابية وللعقائد الدينية كوصفه الجميل للعِزَّة الإلهية والملائكة والدَّيْنُونة والجحيم والنعيم وبشارة العذراء ومولد المسيح العجيب ما يدل صريحًا على تَنَصُّره، على أننا نُقِرُّ بأن في أخباره اضطرابًا لبُعْد عهد الرواة عن زمانه.
(٤-٣) ثالثًا: شعراء مُضَر
لم تنتشر النصرانية في مُضَر بن نِزار وقبائله انتشارها في قبائل أخويه ربيعة وإياد، على أننا وَجَدْنا أيضًا عدة آثار تُنبِئ بدخول النصرانية في أحياء كثيرة منها؛ كبني عقيل الذين غَلَبتْ عليهم النصرانية، وبني تميم، وعبس، وذبيان، وقيس عيلان، وناجية، وقد أوردنا على ذلك شواهد فيما سبق في باب القبائل المُتَنَصِّرة وذكرنا بعض الأديرة المُشَيَّدة بينها.
(أ) بنو تميم
روينا أخبار وأشعار خمسة منهم أعني:
١ | عدي بن زيد | شعراء النصرانية | ص٤٣٩–٤٧٤ |
٢ | الأسود بن يعفر | شعراء النصرانية | ص٤٧٥–٤٨٥ |
٣ | سلامة بن جندل | شعراء النصرانية | ص٤٨٦–٤٩١ |
٤ | أوس بن حجر | شعراء النصرانية | ص٤٩٢–٤٩٧ |
٥ | علقمة الفحل | شعراء النصرانية | ص٤٩٨–٥٠٩ |
عديُّ بن زيد بإقرار كل الكتبة كان نصرانيًّا من أسرة نصرانية في خدمة ملك نصراني من ملوك الحيرة، وفي شعره من الآثار الدينية ما لم يرو عن غيره إلا عن أمية بن أبي الصَّلْت، ففيه روايات من الأسفار المُقدَّسة … وقد حلف بالشَّبَر؛ أي القربان وبالصليب، وفي أخباره ذكر دخوله الكنائس إلى غير ذلك.
وكان الأسود بن يعفر التميمي من سادة قومه ونادَم النعمان كعدي بن زيد، وعاش بين نصارى الحيرة، وكانت بنو عِجْل النصارى أخواله.
وكذلك سلامة بن جندل الذي نشرنا ديوانه سنة ١٩١٠م فإنه كالأسود بن يعفر عاش في جهات الحيرة التي عَمَّت النصرانية كل أنحائها وعاشرَ قومًا من النصارى كتغلب والعباديين وفي شعره تلميح إليهم، ولا أثر لكليهما في قصائدهما إلى شيء من الشرك وعلى خلاف ذلك، وردت في شعر سلامة تشابيه وإشارات نصرانية كذكره لداود النبي وتنويه بمخطوطات النصارى المُنَمَّقة وبملابس العباديين.
وقد جعَلْنا أيضًا أوس بن حجر في جملة النصارى، وهو أحد الذين أطلقهم من الأسر بِسطام بن قيس رئيس شيبان النصراني بعد ظَفَره بتميم؛ فمَدَحه أوس لكرمه، ومن تشابيهه النصرانية قوله يشبه لميع رمحه بمصباح رئيس النصارى يوم عيد الفصح:
وعلقمة بن عبدة التميمي كان مداحًا لملوك غسَّانَ النصارى، وله محاضَرات مع امرئ القيس، والزِّبْرقان بن بدر الشاعرين النصرانيين، وفي شعره إشارة إلى كأس قربان النصارى ومفعولها الصالح دون الأذى بشاربها قال في وصفها:
قال الشارح: «العزيز كبير النصارى وقوله: «لبعض أحيانها»؛ أي أعدها لفِصْح أو لعيد.»
(ب) عبس وذبيان
عبس وذبيان أبوهما بَغِيض بن غَطَفان يتصلان به إلى إلياس بن مُضَر بن نزار، وقد وقعتْ بينهما حروب كما جرت بين بكر وتغلب، وقد نوهنا بولوج النصرانية في أحيائهما (ص١٣٤)، وقد ذكرنا من عبس أربعة شعراء:
١ | الرَّبِيع بن زياد | شعراء النصرانية | ص٧٨٧–٧٩٣ |
٢ | عنترةُ بن شَدَّاد | شعراء النصرانية | ص٧٩٤–٨٨٢ |
٣ | عُرْوَة بن الوَرْد | شعراء النصرانية | ص٨٨٣–٩١٦ |
٤ | قيس بن زُهَيْر | شعراء النصرانية | ص٩١٧–٩٣٢ |
ومن ذبيان أوردنا تَرْجَمَتَي وقصائد شاعرين وهما:
١ | النابغة الذبياني | شعراء النصرانية | ص٦٤٠–٧٣٢ |
٢ | الحصين بن الحمام | شعراء النصرانية | ص٧٣٣–٧٤٥ |
الربيع بن زياد أحد أعيان بني عبس، كان من نُدَماء النعمان بن المنذر ملك الحيرة مع سرجون بن توفيل وغيره من النصارى كما روى صاحب الأغاني، وفي ذلك دليل على أنه يدين بدينهم، وفي أخباره أدلة على توحيده وكرم أخلاقه.
أما عنترةُ فكانت أمه حَبَشية والحَبَش نصارى كما هو معلوم، وفي شعره الصحيح والمصنوع آثار عديدة دالَّة على توحيده وآدابه ودينه، وفي ذلك ما يدل على نصرانيته لأن التوحيد قبل محمد لم يَشع في جزيرة العرب إلا بفضل النصرانية، وزد على ذلك أنه كان في خدمة المَلِك زهير وابنه قيس النصرانيين.
وكذلك عروة بن الوَرْد مُوحِّد في شعره، وله في أخباره من أعمال الرحمة على الفقراء والمبئوسين ما لا يُعْهَد مثله إلا عند من رُبُّوا على التعاليم النصرانية فَدُعِي لذلك عروة الصعاليك وشِعْرُه أيضًا خالٍ من كل شرك.
أما قيس بن زهير فكان أبوه حليف ملوك الحيرة، صاهَرَه النعمان فتزوَّج ابنته لشَرَفه وسُؤْدَده، وقد روى ابن الأثير في تاريخه (١: ٢٤٢) أنه بعد حرب داحس والغبراء «تاب إلى ربه وساح في الأرض حتى انتهى إلى عُمَان فترهب.»
وفي شعر النابغة عدة آثار منبئة بتوحيده وتدينه وتقاه، وقد مدح ملوك غسان والمناذرة النصارى وفي ملوك غسان يقول:
وهو مديح لا يقوله شاعر ما لم يدن بدينهم، وقد ذكر صليب الزوراء في مدحه للنعمان ملك الحيرة النصراني:
وقال يذكر المصلين من الرهبان الذين شيعوا جنازة الملك الغساني النعمان بن الحارث بن أبي شمر:
ومن آثار عِفَّتِه الشاهدة له على دينه النصراني وإيمانه بالآخرة قوله:
وفي اعتقاده لعزة الله وجلاله يقول:
وقد ذكر في شعره الأنبياء كداود وسليمان، كقوله في داليته التي مدح بها النعمان:
وكان الحُصَين بن الحمام ذبيانيًّا أيضًا، وفي ترجمته أنه كان يُؤمِن بالله ويُقِر بالبعث وبعواقب الإنسان من نَعيمٍ وجَحيم فقال من أبيات وهو نعم القول (أغاني، ١٢: ١٢٨):
ومن بني قيس عيلان من غير عبس وذبيان ذو الإصبع العدواني ينتمي إلى عَدْوان بن عمرو بن سعد بن عيلان، وقد أَنِسْنَا في شعره من الآداب والحِكَم ما حملنا على الترجيح بنصرانِيَّته مع خُلُوِّه من كل أثر للشِّرْك، فهو يذكر الله وقُدرَته على كل ما يشاء، وفي قومِه عَدْوان قد أُحْصِي سبعون ألفَ غلامٍ أغرلٍ كما روى صاحب الأغاني عن الأصمعي (٣: ٢)، وقد رأينا في إهمالهم للختانة أثرًا لنصرانيتهم.
(ﺟ) شعراء هوازن
هوازنُ يرتقي نَسبُها إلى خصَفة بن قيس عيلان بن إلياس بن مُضَر أدَرَجْنا اثنين من شعرائها في جملة شعراء النصرانية وهما:
١ | كعب بن سعد الغنوي | شعراء النصرانية | ص٧٤٦–٧٥١ |
٢ | دريد بن الصِّمَّة | شعراء النصرانية | ص٧٥٢–٧٨٣ |
في شعر كعبِ بن سعد مِنَ الحِكَم والعواطف اللينة والحنان ما دفعنا إلى ضَمِّه إلى شعراء النصرانية، ثم إن أخاه أبا المِغْوَار قُتِل في حرب ذي قار التي كان أكثر محاريبها من القبائل النصرانية.
أما دُرَيدُ بن الصِّمَّة فإنه كان سيد قومه بني جشم وفارسهم أدرك الإسلام وحارَب محمدًا وأنصاره يوم حنين، وفي شِعْرِه من الإيمان بالله وذِكْرِ الأنبياء ما ينفي عنه الشِّرْك ويدل على أنه أخذ ذلك عن النصارى، وكان أخوه يُدْعَى عبد الله وفي اسمه شاهد على دينه، وقد مدح في شعره بني الديَّان نصارى نجران.
(د) مُضَرِيُّون آخرون
هم أربعة نظمناهم في سلك كتابنا يرتقي نسبهم إلى إلياس بن مضر بن نزار:
١ | زُهَيْر بن أبي سُلْمَى | شعراء النصرانية | ص٥١٠–٥٩٥ |
٢ | عبيد بن الأبرص | شعراء النصرانية | ص٥٩٦–٦١٥ |
٣ | ورقة بن نوفل | شعراء النصرانية | ص٦١٦–٦١٨ |
٤ | زيد بن عمرو بن نفيل | شعراء النصرانية | ص٦١٩–٦٢٢ |
زهير صاحب المُعلَّقة الميمية الشهيرة ومادح السيدين الحارث بن عوف، وهرم بن سنان اللذين سعيَا بإصلاح قبيلتي عبس وذبيان بعد حرب داحس والغبراء، كان مؤمنًا بالله وبيوم الدين والحساب ومن أقواله في ذلك قوله للمتحاربين ليتركوا كل ضغينة:
وقال أيضًا:
وهو القائل:
وقدمنا أن الإيمان بالله وبالحساب قبل الإسلام يشعر بنصرانية قائله، وهو ينسب إلى الله في شعره الحُكْم في خلائقه مع وجوده إلى الأبد، وكذلك أشار في قصائده إلى أمور من الكتاب المُقدَّس كذكره لفرعون وداود.
عَبيد بن الأبرص أحد الشعراء الوافدين على ملوك غسان وكندة النصارى، وقد مدحهم بشعره، وفي ديوانه ما ينبئ بتوحيده وتقاه واعتقاده للآخرة، كقوله في بائيته الشهيرة:
وكثيرًا ما ينسب إليه تعالى القدرة والبقاء والعلم، فمن قوله:
وذكر أيضًا في شعره النبي داود.
أما ورقة بن نوفل فلا خلاف في نصرانيته فإن عامة الكَتَبة المسلمين يُقِرُّون بذلك كابن قتيبة في المعارف، وابن هشام في سيرة الرسول، وقد روينا ما قاله أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني، ومثله ابن الأثير في أسد الغابة (٥: ٤٣٦) قال: «إن ورقة كان امرأً تَنصَّر في الجاهلية يكتب الكتاب العبراني، ويكتب من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب.» وكان ورقةُ ابنَ عم خديجة زوجة رسول الإسلام، وفي شعره ما يثبت صحة دينه.
أما زيد بن عمرو بن نُفَيل فيقال عنه: إنه خلَع عبادة الأوثان واجتمع بالأحبار والرهبان وضَرَب في البلاد يطلب الحنيفية دين إبراهيم، وعندنا أن هذه الحنيفية هي إحدى شِيَع النصارى، ولو قابلتَ بين شعره وشعر ورقة وجدت بينهما شبهًا تامًّا في كل معانيهما وزُهْدِهما وإيمانهما بالإله الواحد وبالبعث والخلود للأبرار في دار النعيم، وللكُفَّار في نار الجحيم.
(٤-٤) رابعًا: شعراءُ اليمن من بني كهلان
في القسم الأول من كتابنا خصصنا عدة صفحات لبيان نفوذ النصرانية في اليمن منذ القرون الأولى للنصرانية، ولا سيما بعد انفجار سد مأرب بين القبائل المنتقلة إلى شمالي جزيرة العرب وغربيها وجنوبها الشرقي فلا حاجة إلى تكرار ما أثبتناه عن تَنصُّر كندة وقُضاعة وغَسَّان والمَناذرة، وقد روينا أخبار بعض الشعراء من قبائل يمنية؛ أعني كندة ومَذْحِجًا وطيئًا.
(أ) شعراء كندة
أشعر شعراء كندة بل رأسهم وزعيمهم امرؤ القيس الكندي، روينا أخباره بعد أن قدمنا عليها أخبار أعمامه:
١ | أعمام امرئ القيس. | شعراء النصرانية | ص١–٥ |
٢ | امرؤ القيس بن حجر | شعراء النصرانية | ص٦–٦٧ |
(ب) شعراء مَذْحِج
مَذْحِج قبيلة يمنية كبيرة كانت تسكن جنوبي العرب في جهات نجران، وفيها انتشرت النصرانية على يد أحد دعاتها الذي يدعوه العرب فيمون، ومنها كان شهداء نجران في عهد ذي نؤاس، وإليها ينتمي بنو الحارث بن كعب سادة نجران النصارى بناة الكنائس وكعبة نجران (راجع [القسم الأول، الفصل الثاني])، وقد اخترنا من شعراء مَذْحِج ثلاثة وهم:
١ | الأَفْوَه الأَوْدِي | شعراء النصرانية | ص٧٠–٧٤ |
٢ | عبد يغوث | شعراء النصرانية | ص٧٥–٧٩ |
٣ | يزيد بن عبد المَدَان | شعراء النصرانية | ص٨٠–٨٨ |
كان الأَفْوَه الأَوْدِي سَيِّد قومه وفي شِعْره من الحِكَم ما يدلُّ على حصافة رأيه وحسن نظره وآدابه، ومثله عبد يغوث كان فارسًا مغوارًا، أما يزيد بن عبد المَدَان فكان من أشراف اليمن، وسيد مَذْحِج من بني الديان الذين مَدَحَهم الأعشى لجُودِهم وعِزِّهم، ولا حاجة لإثبات نصرانيتهم مع شهرتها.
(ﺟ) شعراء بني طيئ
طيئ إحدى القبائل اليمنية التي صرَّح كَتَبةُ العربِ بنصرانيتها، قال ابن واضح اليعقوبي في تاريخه (١: ٢٩٨): «تَنصَّر من أحياء العرب من اليمن طيئ ومَذْحِج.» راجع أدلة أخرى أثبتناها فيما سبق (راجع [القسم الأول، الفصل الثاني])، وقد اخترنا من شعراء طيئ الأربعة الآتي ذكرهم:
١ | حنظلة الطائي | شعراء النصرانية | ص٨٩–٩٢ |
٢ | قَبيصة بن النصراني | شعراء النصرانية | ص٩٣–٩٧ |
٣ | حاتم الطائي | شعراء النصرانية | ص٩٨–١٣٤ |
٤ | إياس بين قبيصة | شعراء النصرانية | ص١٣٥–١٣٨ |
حنظلةُ الطائي هو ذاك الوافد على النعمان يوم بُؤْسِه وفاءً بوعده؛ إذ رجع ليُقْتَل بعد غَيْبتِه، وكان قيامه بوعده لأَجْل دينه النصراني داعيًا لتَنَصُّر النعمان، ومات بعد أن ترَهَّب في الدير الذي ابتناه على نفقته.
قبيصة بن النصراني أحد بني جَرْم المشهورِين بنصرانيتهم في طيئ، ذكَرَه مرارًا أبو تمام في حماسته، ويدل اسمه على دينه.
أما إياس بن قبيصة فهو ابن أخي حنظلة الذي كان وفاؤه داعيًا لتَنَصُّر النعمان، وكانت أمه أخت هانئ بن مسعود رئيس بني شيبان النصارى، وكان إياس من أشراف الحيرة، ولم يعدلوا عن دينهم لما ظهر الإسلام، فإن الطبري يخبر في تاريخه (١: ٢٠١٨) أنهم فَضَّلوا دفع الجزية مع البقاء على دين المسيح.
(د) شعراء كَلْب
إن نصرانية كَلْب المُنتَمِية إلى قُضاعة مما لا يختلف في اثنان (راجع [القسم الأول، الفصل الثاني] من كتابنا)، ولم نذكر من هذه القبيلة غير زهير بن جناب الكلبي القضاعي (ص٢٠٥–٢١٠، من شعراء النصرانية)، ولَّاه أبرهةُ على بَكْر وتغلب (ص٢٠٦)، وذلك بسبب نصرانيته ونصرانية بكر وتغلب، وكذا يقال عن دخوله على ملوك غسان وبني لَخْم، وجاء في تذكرة ابن حمدون (نسخة برلين، ص٢١٥): «إن زهير بن جناب كان سيدًا مطاعًا شريفًا في قومه، ويقال: كانت فيه عشر خصال لم تجتمع في غيره من أهل زمانه، كان سيد قومه، وشريفهم، وخطيبهم، وشاعرهم، وقائدهم، ووافدهم إلى الملوك، وطبيبهم (والطب في ذلك الزمان شَرَف)، وجارى قومه إلى كاهنهم، وكان فارس قومه، وله البيت فيهم والعدد منهم.» ثم يورد وصاته لبنيه يحرضهم فيها على الثقة بالله.
وبزهير بن جناب ختام فصلنا هذا الذي قدمنا فيه الدلائل على نصرانية الشعراء المذكورين في كتابنا، وبه أيضًا نَجَازُ كتاب «تاريخ النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية»، ونُكرِّر ما قلنا سابقًا أننا؛ أولًا: ذكرنا من شعراء الجاهلية الذين صرَّح الكتبةُ بدينهم النصراني. ثانيًا: حقَّقنا نصرانية كثيرين منهم بنصرانية قبائلهم وبِخُلُوِّ شعرهم من آثار الشِّرْك وبتوحيدهم لله واعتقادهم بخلود النفس والثواب والعقاب، وبإشاراتهم إلى دين النصارى، وكل ذلك لا يمكن تعليله بين عرب الجاهلية إلى بنفوذ النصرانية. ثالثًا: أخَذْنَا اسم النصرانية بمعناه الواسع سواء كان الشعراء من تبعته المستقيمي الإيمان أو من شِيَعِه الضالة كالآريوسية والنسطورية واليعقوبية. رابعًا: لسنا لندعي أن هؤلاء النصارى جروا في سيرتهم بكل حرص على نواميس النصرانية لا سيما في أمر الطلاق وفي غزواتهم وأخذهم بالثأر على خلاف التعاليم النصرانية، وإنما تبعوا في ذلك سنن عرب البادية واقتفوا آثارهم، وتقلدوا عاداتهم، والعادة كما يعرف طبيعة ثانية يصعب استئصالها وقهرها. خامسًا: وإن وجد أحد في بعض أقوالنا شططًا فمعاذ الله أن نكابر الحق إن بينه لنا أرباب الفضل والعلم، وليس الكمال إلا لله.