ظهر من الفصول السابقة ما استمده عرب الجاهلية من
النصارى في مُفرداتهم اللغوية وأعلامهم الشخصية،
وفي هذا الفصل الجديد نبين ما أخذوه عنهم من
معارفهم التاريخية، سواء جرت في العهد القديم من
أول العالَم إلى السيد المسيح أو من ميلاد المسيح
إلى الهجرة، فنُقَسِّم الفصل قسمين وفقًا لهذين
الطَّوْرين:
(١) أحداث العهد العتيق
أَمكنَ العربُ أن ينقلوا أخبار العهد العتيق
عن اليهود أو عن المسيحيين إلا أنَّنا نروي هنا
ما قاله الشعراء النصارى أو مَن عاشوا في جِهات
الجزيرة التي ازْدهرَت فيها النصرانية، واليهود
كما لا يخفى قَلَّما يختلطون بأُمم غريبة عنهم،
وزِدْ عليه أن الأسفار الإلهية والأناجيل
المُقدَّسة كما يظهر من عدة شواهد تُؤيِّد ذلك
كانت مُعرَّبة وإن كانت تلك الترجمة القديمة هي
اليوم مفقودة، وها نحن نَتتبَّع تلك الأحداث مع
ما يُنوَّه بها من أقوال العرب.
(١-١) التكوين
هو أول ما تُفتَتح به توراة موسى، حيث
يذكر أولًا خلق الله عز وجل للسماء، ثم
الأرض مباشرةً بالجماد ثم النبات ثم
الحيوان، أما تكوين السماء فقد مَرَّ
ذِكرُه فيما أوردناه من الألفاظ الدالَّة
على الخالق — سبحانه وتعالى — ثم السماء
وزينتها وعلى الأرواح الساكنة فيها
(المشرق، ١٦، ١٩١٣م، ٢٢٩ و٢٩٢)، فبقي تكوين
الأرض في سبعة أيام الخليقة. فمِمَّا جاء
من ذلك ما رواه المَقْدِسي (كتاب البدء، ١:
١٥٠-١٥١)، فقال: «وقد ذكَرَتْ حكماء العرب
ومن كان يدين الله (كذا)، منهم بدين
الأنبياء في أشعارها وخُطَبِها كيف كان
مبدأ الخلق» فمنه قول عدي بن زيد،
١ وكان نصرانيًّا يقرأ
الكتب:
اسمعْ حديثًا لكي يَومًا
تُجاوِبُه
عن ظَهْرِ غيبٍ إذا ما
سائلٌ سألَا
أنْ كيف أبدى إله
الخَلْقِ نِعمته
فينا وعرَفْنا آياتِه
الأُولَا
كانتْ رياحًا وماءً ذا
عُرانِيَةٍ
وظلمةً لم يَدعْ فَتقًا
ولا خَلَلا
فآمر الظُّلمةَ السوداءَ
فانكشفَتْ
وعزَّل الماءَ عمَّا كان
قد شغلا
وبَسطَ الأرضَ بسطًا ثم
قَدَّرها
تحتَ السماء سواء مثل ما فعلَا
٢
وجعَل الشمسَ مصرًا
٣ لا خفاءَ به
بين النهار وبين الليل قد فَصلَا
٤
قَضى لِستَّةِ أيامٍ
خلائقَه
وكان آخِرُ شيء صَوَّر
الرَّجُلَا
روى في تاج العروس (٣: ٥٤٣) البيتين الخامس
والسادس لأُمَيَّة بن أبي الصَّلْت، وكذلك
ابن سيده في المخصص (١٣: ١٦٤)، روى البيت
السادس لأمية إلا أن شهادة كتاب البدء،
وكتاب الحيوان للجاحظ (٤: ٦٥) أقدمُ
وأصحُّ، وكلاهما يروي الأبيات لعدي بن
زيد.
وروى في كتاب البدء (١: ٦٥)، وفي سيرة
الرسول (ابن هشام، ص١٤٨) لزيد بن عمرو بن
نوفل في تكوين الأرض قوله:
وأسلمتُ وجهي لمن
أسلمتْ
له الأرضُ تَحمِلُ صخرًا
ثِقالا
دَحاها فلمَّا رآها
اسْتَوَت
على الماء أَرْسى عليها
الجبالَا
وأسلمتُ وجهي لمن
أَسلمَتْ
له المزنُ تَحملُ عذبًا
زُلالَا
أطاعَتْ فصَبَّتْ عليها
سِجالَا
ومثلهما لأُمَيَّة بن أبي الصَّلْت
(شعراء النصرانية، ص٢٢٦):
وشقَّ الأرضَ فانبَجَستْ
عيونًا
وأنهارًا من العذب
الزُّلالِ
وبارَك في نواحيها
وزكَّى
بها ما كان من حرثٍ
ومالِ
وقال يذكر خلق الله للنَّيِّرَين الكبيرين
(شعراء النصرانية، ٢٢٩؛ وسيرة الرسول،
٤٠):
إنَّ آياتِ ربِّنا
باقياتٌ
ما يُماري فيهن إلا
الكفورُ
خلقَ الليلَ والنهارَ
فكُلٌّ
ثم يَجلو النَّهار
٧ ربٌّ كريمُ
بمَهاة شُعاعُها
منشورُ
وله أيضًا (شعراء النصرانية،
٢٢٨):
هو الله باري الخلقِ
والخلقُ كلهم
إماء له طوعًا جميعًا
وأَعْبُدُ
تُسبِّحُه الطير
الجوانحُ في الخِفَى
وإذ هي في جو السماء
تَصعَّدُ
ومن خوفِ ربي سبَّحَ
الرعدُ فوقنا
وسبَّحَه الأشجار والوحشُ
أُبَّدُ
وسبَّحَه النِّينانُ
والبحرُ زاخرًا
وما ضَمَّ من شيء وما هو مُقْلِدُ
٨
وقال أُمَيَّة يصف تكوين الحيوانات (كتاب
الحيوان، للجاحظ Ms de
Vienne, ff. 397، طبعة
مصر، ٢: ١١٨):
هو أَبْدأَ
٩ كلَّ ما يأثِرُ
النَّا
سُ أماثيلَ باقياتٍ
سفورَا
خلَق النَّحْل مُعصراتٍ
تَراها
تقصفُ اليابساتِ والمَخضورَا
١٠
والتماسيحَ والسَّنادِلَ
١١ والـ
أيلَ شتى والرئمَ
واليعفورا
وصوارًا من النواشط
عينًا
ونعامًا صواحِيا
١٢
وحَميرَا
وأُسودًا عواديًا
وفيولا
وسباعًا والنمل
١٣
والخنزيرَا
وديوكًا تدعو الغراب
لصُلْح
وإِوَزَّينَ أخرجت
وصُقورَا
ثم ذكروا تكوين جسم الإنسان من طين الأرض
ونفسه من نفخة خالقه، قال الجاحظ في كتاب
الحيوان (Ms de Vienne, ff.
213 وطبعة مصر ٣: ٦٥):
«سأنشدك لعدي بن زيد، وكان نصرانيًّا
ديانًا وترجمانًا وصاحب كتاب، ومن دُهاة
ذلك الدهر قال يذكر شأن آدم»:
قَضى لستَّةِ أيامٍ خلائِقَه
١٤
وكان آخِرَها أن صَوَّر
الرجلَا
دَعاهُ آدمَ صوتًا فاستجاب
١٥ له
بنفخةِ الرُّوح في الجسم
الذي جَبلَا
وقال أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت (حياة
الحيوان، ٢: ١١٣):
والأرضُ مَعقلُنا وكانت
أمَّنَا فيها
مقابرنا وفيها
نُوأَدُ
وقال أيضًا في الأرض وخلقة الإنسان
(فيه):
منها خُلِقْنَا وكانت
أُمَّنَا خُلِقَت
ونحن أبناؤها لو أننا
شُكُرُ
والطُّوطُ
١٦ نَزرَعه فيها
فنلبسه
والصوفُ نَجتَرُّه ما أدفأ
الوبرُ
هي القرار فما نَبْغِي
لها بَدَلا
ما أرحمَ الأرضَ إلا أننا
كُفُرُ
وقال أيضًا (جمهرة شعراء العرب،
ص١٨):
كيفَ الجُحودُ وإنما
خُلِقَ الفتى
من طينِ صَلصالٍ له
فخَّارُ
(١-٢) سكنى آدم في الفردوس وخطيئته
لعدي بن زيد وصف حلول آدم في الجنة
وتكوين حواء من ضلعه وتجربة الشيطان لهما
على صورة الحية ثم عقاب الأبوين الأولين
وطردهما من الفردوس فقال عن آدم (طبعة مصر،
٤: ٦٦، Ms de Vienne, ff.
213):
ثُمَّتَ أَورَثَه
١٧ الفِرْدوسَ
يَعْمُرُها
وزوجةً صنعةً من ضلعِهِ
جَعَلَا
لم يَنْهَه ربُّه عن غير
واحدة
من شجرٍ طَيِّبٍ إن شَمَّ
أو أَكلَا
تَعَمَّدَا
١٨ للتي مِن أَكْلِها
نُهْيَا
بأمْرِ حوَّاءَ لم تَأخُذْ
له الدَّغَلا
كلاهما خاطَ إذ برٌّ
١٩ لُبوسُهما
من ورق التين ثوبًا لم يكن
غُزِلَا
فكانت الحيةُ
الرَّقْشاءُ إذ خُلْقَتْ
كما ترى ناقة في الخلق أو جَملا
٢٠
فلاطَها اللهُ إذ أغوت خَليقتَهُ
٢١
طول اللَّياليَ لم يجعل
لها أَجلَا
تمشي على بطنها في
الدَّهْر ما عَمرتْ
والتربُ تَأكُلُه حَزنًا
وإن سَهُلَا
فأُتْعِبَا
٢٢ أَبوانَا في
حياتهما
ووَجَدَا
٢٣ الجوعَ والأوصابَ
والعِللَا
ولعَديٍّ وصْفٌ آخَر لتجربة إبليس لحواء
وعِقَاب الحية رواه العصامي في تاريخه «بسط
النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي»
(نسخة مكتبتنا الشرقية، ص١٩) قال:
سعى الرجيمُ إلى حوَّا
بوسوسةٍ
غَوتْ بها وغوى معها أبو
البَشرِ
خَلقانِ من مارجٍ أنشا
خليقتَه
وآخَرَ من تراب الأرض
والمَدَرِ
أنشاهما ليطيعاه
فخالَفَه
إبليسُ عن أمره للحَيْنِ
والقَدرِ
فأبلس الله إبليسًا وأسكنَه
٢٤
دارًا من الخُلْدِ بين
الروض والشَّجرِ
فاغتاظ إبليس من بَغيٍ
ومن حَسدٍ
فاحتال لِلحَيَّة
الرَّقْطاءِ والطَّيرِ
٢٥
فأَدْخلاه بأيمانٍ
مُؤكَّدَة
أعطاهما بيمين كاذب
غَدِرِ
هناك سارَ إلى حوَّا
بوسوسةٍ
أَردَتْ بِغرَّاتها مَعها
أبا البشر
فأُهْبِطوا من معاصيهم
وكلُّهم
نائي المَحل فقيدُ العينِ
والأثَرِ
وأهبطَ الله إبليسًا
وأَوعدَه
نارًا تَلهَّب بالإسعار
والشرر
وأنزل الله للطاووس
رَخمتَه
من صَوتِه ورمَى رجليه
بالنُّكرِ
وأَعقبَ الحية الحسناء
حين عَفتْ
مَسْحَ القوائم بعد السعي
كالبقرِ
وأَعقبَ اللهُ حوَّا
بالذي فَعلتْ
بالطَّمثِ والطَّلْقِ
والأحزانِ
والفِكَرِ
ورُوِي في كتاب البدء (١: ٦١)؛ وفي
اللسان (١٣: ٤٥٧)؛ والتاج (٦: ٦٥) عن الحية
قول أُمَيَّة:
والحيَّةُ الحَتْفةُ
الرَّقْشاء أَخرَجَها
من بَيْنِها أَمِناتُ
اللهِ والَكلِمُ
إذا دعا باسمه الإنسانُ
أو سَمِعَتْ
ذاتَ الإلهِ يُرَى في
سعيها زَرَمُ
ورواها الزمخشري في الأساس: «أخرجها من
جُحْرِها أيمنات الله والقَسَم.» (قال):
«ويقال: حية حتفة؛ أي قاتلة كما يقال امرأة
عدلة.»
ونروي هنا أبياتًا من أرجوزة نقلها صاحب
كتاب البدء (٢: ٨٥)؛ والمسعودي في مروج
الذهب لعلي بن جَهْم عن بدء الخليقة كما
رواها له النصارى وإن تأخَّر زمانه عن
الجاهلية:
يا سَائِلي عن ابتداءِ
الخلقِ
مسألةَ القاصد قَصْدَ
الحقِّ
أخبَرني قوم من
الثقات
أُولُو علوم وأُولُو
هيئاتِ
تَضَرَّعوا في طَلبِ
الآثار
وعَرفُوا موارد
الأخبارِ
ودَرَسوا التوراةَ
والإنجيلا
وأحْكَمُوا التأويلَ
والتنزيلا
إن الذي يفعلُ ما
يشاءُ
ومن له القدرةُ
والبقاءُ
أنشأ خَلْق آدم
إنشاءً
وقَدَّ مِنْه زَوْجَه
حواءَ
مُبتديًا وذاك يوم
الجمعهْ
حتى إذا أكملَ فِيه
الصُّنْعَهْ
أسكَنَه وزوجَه
الجنانَا
فكان من أمرهما ما
كانَا
غَرَّهما الشيطانُ
واغتَرَّا به
كما أبانَ اللهُ في
كتابِه
غَرَّهَما الشيطانُ فيما
صَنعَا
فأُهبِطَا منها إلى الأرض
معا
فوقع الشيخُ أبونَا
آدمُ
بِجَبَل الهند ويْدَعى
واسمُ
لبئس ما اعتاض من
الجِنَانِ
والضَّعفُ من جِبِلَّةِ
الإنسانِ
فشَقِيَا ووَرثَا
الشقاءَ
نَسلهما والكَدَّ
والعَناءَ
ولم يَزلْ مُفتقرًا
٢٦ من ذنبه
حتى تَلقَّى كلماتِ
رَبِّه
فأَمِنَ السُّخْطَة
والعذابَا
واللهُ توابٌ على مَن
تابَا
والعرب يضربون المثل بآدم في القِدَم،
قال الأخطل بن ربيعة (الأغاني، ١٢: ١٦٥)
يَهْجُو بني منقر:
يا مِنقرَ بنَ عُبَيدٍ
إن لؤمكم
مذ عهد آدم في الديوانِ
مكتوبُ
للضَّيفِ حق على مَن كان
ذا كرم
والضيفُ في منقر عريانُ
مسلوبُ
(١-٣) بنو آدم
وقد عرف شعراءُ العرب في الجاهلية نَسْل
آدم وقصة ولديه كما ورَد في قصيدة ابن
جَهْم حيث قال عن آدم وحوَّا:
ثم تَنسَّلا أحَبَّا
٢٧ النَّسلا
فحَبَلتْ حواءُ منه
٢٨
حَملًا
واقتَنيَا الابنَ
فسُمِّي قاينًا
وعايَنَا من نَشْئِه
٢٩ ما
عايَنَا
فشَبَّ هابيلُ وشبَّ
قايِنُ
ولم يكن بَينهُما
تبايُنُ
ومن الشَّر المتضمن لأخبارِ بني آدم رثاء
يرويه العرب على لسان آدم وحواء عند قَتل
قاين (ويقولون قابيل) لأخيه هابيل، وهو لا
محالة مصنوع إلا أنه قديم يُروَى في أقدم
كُتب المسلمين كتاريخ الطبري (١: ١٤٦)؛
ومروج الذهب للمسعودي؛ (طبعة باريس، ١: ٦٥)
وغيرهما كثيرون (راجع: المشرق، ٦، ١٩٠٣م،
٤٩٢)، وهم يَنسبون إنشاده إلى علي بن أبي
طالب، ما يدل على أنَّ الشعر سبق الإسلام،
قال آدم:
تَغيَّرتِ البلادُ ومَن
عليها
فوجهُ الأرض مُغَبرٌّ
قبيحُ
تَغيَّر كل ذِي حُسنٍ
ولونِ
وقلَّ بشاشةً وجهٌ صبيحُ
٣٠
وجاوَرَنا عدوٌّ ليس
يَفنَى
لِعينٌ لا يَموتُ
فنَستريحُ
وقابيلٌ أذاق الموتَ
هابيـ
ـلَ وا حُزنا لقد فُقِدَ المليحُ
٣١
فما لي لا أجودُ بَسكبِ
دَمْعي
وهابيلُ تَضمَّنَه
الضريحُ
أرى طول الحياةِ عليَّ
غمًّا
وما أنا من حياتي
مُستَرِيحُ
ونسبوا إلى حواء قولها كجواب على قول
آدم:
دَعِ الشكوى فقد هلكَا
جميعًا
بَهَلْكٍ ليس بالثَّمن الرَّبيحِ
٣٢
وما يُغنِي البكاءَ عن
البَواكي
إذا ما المرءُ غُيِّبَ في
الضَّريحِ
فَبكِّ النَّفْسَ منك
ودَعْ هواها
فلستَ مُخلَّدًا بعدَ
الذَّبيحِ
وأضافوا إلى هذه الأبيات قولًا على لسان
إبليس لآدم:
تَنحَّ عن البلادِ
وساكِنِيها
ففي الجَنَّاتِ ضاقَ بكَ
الفسيحُ
وكنتَ بها وزوجُكَ في
رَخاءٍ
وقلبُكَ من أذى الدنيا
مُريحُ
فما زالتْ مُكايَدتِي
ومَكْرِي
إلى أن فاتَكَ الثَّمنُ
الرَّبيحُ
فلولا رحمةُ الجَبَّار
أَضْحَى
بِكفِّكَ في جنان الخُلدِ
ريحُ
وممن أشاروا في الجاهلية إلى ولد آدم
أفنونُ الشاعر التغلبي (المفضليات، ص٥٢٤،
ed.
Lyall) قال:
قد كنتُ أَسبِقُ مَن
جارُوا على مَهَلٍ
مِن ولدِ آدمَ ما لم
يَخلَعوا رَسَنِي
(١-٤) نوح والطوفان٣٣
ليس
في الكتاب الكريم بعد ذكر التكوين واقعٌ
أخطر من الطوفان في عهد نوح، ولا شك أن عرب
الجاهلية نَقَلُوا الخبر عن أهل الكِتَاب
ولا سيما النصارى، منهم الأعشى الكبير حيث
قال يمدحُ إياسًا ويُشبِّهه بنوح في صنع
سفينته (شعراء النصرانية، ص٣٨٩):
جزى الإله إياسًا خَيرَ
نِعمَتِه
كما جزَى المرءَ نوحًا
بعدما شابَا
في فُلْكِه إذ تَبدَّاها
لِيصنَعَها
وظلَّ يجمع ألواحًا
وأبوابَا
ومنهم أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت، روى له
الجاحظُ في كتاب الحيوان (طبعة مصر، ٢: ١١٨
= Ms de Vienne,
212v)،
والمَقْدِسي في كتاب البدء (٣: ٢٤) أبياتًا
منها قوله يذكر نجاة نوح وأهله وحلوله على
جبل الجُودِيِّ الذي فوقَه نزلت سفينته على
زعم العرب:
إلى أن يَفوتَ المرءُ
رحمةَ ربِّه
وإن كان تحت الأرض سَبعون
٣٤
وادِيا
كَرحمة نوحٍ يوم حل سَفِينة
٣٥
لِشيعَتِه كانوا جميعًا
ثمانِيا
فلما استنار
٣٦ اللهُ تَنُّورَ
أرضه
ففار وكان الماء في الأرض
سَاحِيا
تَرَفَّع في جَريٍ كأن
أَطِيطَه
صَريفُ مُحال يَستعيدُ
الدواليا
على ظهر جون لم يُعَدَّ
لراكبٍ
سَراهُ وغَيمٍ أُلْبِس
الماء داجيا
٣٧
فَصارتْ بها أيَّامُها
ثم سَبعةٌ
وستٌّ ليالٍ دائباتٍ
عَواطِيَا
تَشقُّ بهم تَهوِي
بأحسنِ إمرة
٣٨
كأنَّ عليها هاديًا
وَنواتِيَا
وكان لها الجُودِيُّ
نَهيًا وغاية
وأصبحَ عنها مَوجُهُ
متراخِيا
ومثلها قوله (كتاب البدء، ٣: ٢٤):
مُنجِي ذي الخَبْر مِن سفينة
٣٩ نوحٍ
يومَ بادَتْ لبنان مِن
أُخراها
فار تَنُّوره وجاشَ
بماءٍ
طَمٍّ فوق الجبال حتى
عَلاهَا
قيلَ للعبد سِرْ فسار
وباللهِ
على الهول سَيْرُها
وسُراها
قيلَ فاهبط فَقْد
تَناهَتْ بك الفُلـ
ـكُ على رأس شاهقٍ
مُرساهَا
وله أيضًا (رواه صاحب خزانة الأدب ولب
لباب لسان العرب، ٤: ٤):
عرفتُ أنْ لن يفوتَ الله
ذو قِدَمٍ
وأنَّه من أمير السوء
يَنتَقِمُ
المُسْبَح الخُشْب فوق
الماءِ سَخَّرَها
خلال جِرْيَتِها كأنها عوم
٤٠
تَجْرِي سفينةُ نوحٍ في
جَوانِبِه
بكلِّ موجٍ مع الأرواح تَقتحِمُ
٤١
مَشحونةٌ ودخان الموجِ
يَرفعُها
مَلأى، وقد صُرِعَت من
حَولِها الأمم
٤٢
حتى تَسوَّت على
الجُودِي راسيةً
بكلِّ ما استُودِعَت كأنها أُطُمُ
٤٣
ورُوِي له أيضًا في كتاب الحيوان للجاحظ
(Ms de Vienne, ff.
396v)
بيتان في البهائم التي كانت في سفينة
نوح:
تَصرُخ الطَّيرُ والبرية
فيها
مع قَوِي السِّبَاع
والأفيالِ
مَرَّ فيها مِن كل ما
عاش زوجٌ
بين ظَهْرَي غوارب
كالجبالِ
ويحسن بنا أن نروي هنا ما قال القطامي
الشاعر النصراني في عهد بني أمية عن نوح
وسفينته (ديوانه، ص٨٤ ed.
Barth؛ ولسان العرب،
٦: ٣٣٤):
وأُنذِرُكم مَصاير قومِ
نوحٍ
وكانت أُمَّةً فيها
انتشارُ
وكان يُسبِّح الرحمنَ
شكرًا
وللهِ المحامدُ
والوقارُ
فلما أن أراد اللهُ
أمرًا
مَضى والمشركون لهم جُؤَارُ
٤٤
ونادَى صاحبُ
التَّنُّورِ نوحًا
وصُبَّ عليهمُ منهُ البوارُ
٤٥
وضَجُّوا عند جِيئَته وفَرُّوا
٤٦
ولا يُنَجِّي من القَدَرِ
الحِذارُ
وجاشَ الماء منهمرًا
إليهم
كأن غُثاءَه خِرَقٌ نِشَارُ
٤٧
وعامَتْ وَهْي قاصدةٌ
بإذنٍ
ولولا اللهُ جارَ بها الجَوارُ
٤٨
إلى الجُودِيِّ
٤٩ حتى صار
حجرًا
وحان لتَالك الغَمْر انحسارُ
٥٠
فهذا فيه موعظةٌ
وحُكمٌ
ولكنِّي امرؤ فيَّ
افْتِخارُ
وذكر أمية الجُودِي في محلٍّ آخر مشيرًا
إلى حلول سفينة نوح عليه (كتاب سيبويه، ١:
١٣٦، ed.
Derenbourg)، والبيت
يُروَى لورقة بن نوفل في جملة أبيات (شعراء
النصرانية، ص٦١٧):
سبحانَه ثم سبحانًا
يَعود له
ومِثْلَنا سبَّح الجُوديُّ
والجُمُدُ
ولأمية يذكر أمر الغراب والحمامة اللذين
أرسلهما نوح ففر الغراب وعادت الحمامة بغصن
الزيتون فقال (كتاب الحيوان، للجاحظ، طبعة
مصر، ٤: ٦٥؛ ثم Ms de
Vienne, ff.
212v؛
ثم كتاب البدء، ٣: ٢٥):
وإذ هم لا لُبوسَ لهم
تَقِيهم
وإذْ صُمُّ السِّلامِ
٥١ لَهُم رِطابُ
٥٢
عَشيَّة أُرْسِل
الطوفانُ يجري
وطاف الماء ليس له
جرابُ
على أمواجِ أخضرَ ذي
حَبيكٍ
كأنَّ سُعارَ زاخرِه
الهضابُ
بآية قام يَنطقُ كلُّ
شيءٍ
وخانَ أمانةَ الدِّيكِ الغرابُ
٥٣
وأُرْسِلَت الحمامةُ بعد
سبعٍ
تدل
٥٤ على المَهالِك لا
تَهابُ
تَلَمَّسُ هل ترى في
الأرض عينًا
وعائنةً بها الماءُ العُبابُ
٥٥
فجاءت بعدما رَكضَتْ
بِقْطفٍ
عليه الثَّأْطُ والطينُ الكُبابُ
٥٦
فلما فرَّسوا الآيات
صاغوا
لها طوقًا كما عُقِد السِّخاب
٥٧
إذا ماتت تُورثُه
بنيها
وإن تقتل فليس لها استلاب
٥٨
جزى
٥٩ اللهُ الأجلُّ المرءَ
نوحًا
جزاء البِرِّ ليس له
كِذَابُ
بما حَملتْ سفينتُه
وأَنْجتْ
غداةَ أتاهمُ الموتُ
القُلابُ
وفيها من أُرومَتِه
عِيالٌ
لديه لا الظَّمَاءُ ولا
السَّغَابُ
وقال
أيضًا في حمامة نوح
٦٠ وطوقها (حياة الحيوان، للجاحظ،
٢: ١١٩):
وما كان أصحاب الحمامة
جِيفةً
غداة غدت منهم تضم
الخوافيا
رسولًا لهم والله
يُحْكِم أمره
يبين لهم هل يُؤْنِس
الثوبُ باديَا
فجاءت بقِطْفٍ آيةً
مُستبينَةً
فأصبحَ منها موضع الطين
جاريا
على خَطْمِها
واستَوْهبَتْ ثَمَّ
طَوْقَها
وقالت ألا لا تَجْعَلِ
الطوق حاليا
ولا ذهبًا إني أخاف
نِبالَهم
يَخالُونه مالي وليس
بِمالِيَا
وزِدْنِي على طوقي من
الحَلْي زينةً
تُصِيبُ إذا أَتْبعتُ طوقي
خِضَابيَا
وزِدْني لطَرْفِ العينِ
منك بنعمةٍ
ووَرِّثْ
٦١ إذا ما متُ طَوقِي
حَمامِيَا
يكون لأولادي جمالًا
وزينة
ويَهْوَينَ زَيني زينةً أن يَرانِيَا
٦٢
وروى البحتري في حماسته (راجع: طبعتنا،
ص١٢٤) لرجل الكندي في نوح وسفينته فقال في
تَصرُّف الأيام:
وأَصبْنَ نوحًا بعدما
بلغَتْ به
أُفْقَ البلادِ سفينةٌ لم
تغرَقِ
وممن
ذكروا نوحًا وسفينته في الجاهلية النابغة
الجعدي في مِيميَّته التي أولها:
الحمدُ لله لا شريكَ
له
من لم يَقُلْها فنَفْسَه
ظَلَمَا
ثم قال يذكر بأمر الله إلى نوح لِيُعِدَّ
له فُلكًا (خزانة الأدب، ٤: ٤):
نُودِي قُمْ وارْكَبَنْ
بِأهلكَ
إن الله مُوفٍ للناسِ ما زَعمَا
٦٣
وفيها زعم الجَعديُّ أن سفينة نوح كانت
من خشب الجوز لصلابته وجودته قال (لسان
العرب، ٧: ١٩٥):
يَرفعُ بالقَار
٦٤ والحديدِ من
الْجَوْ
زِ طِوالًا جُذوعُها عُمُما
٦٥
ويضربون المثلَ في نوحٍ بطول العمر،
٦٦ وروَوا لرؤبة (ديوانه،
ص١٢٨):
فقلتُ لو عُمِّرتُ سِنَّ
الحِسْلِ
أو عُمرَ نوحٍ زَمنَ الفِطَحْلِ
٦٧
والصَّخرُ مَبتلٌّ كطين
الوحلِ
صرتُ رَهينَ هَرمٍ أو
قَتْلِ
ومثله لأبي العتاهية (ديوانه،
ص٦٧):
نُحْ على نفسِك يا
مِسْـ
ـكينُ إن كنتَ
تنوحُ
لستَ بالباقي ولو
عُمِّـ
ـرتَ ما عُمِّرَ
نُوحُ
(١-٥) ابنا نوح
لم نجد في شعر عرب الجاهلية ذِكرًا
لأبناء نوح إلا في قصيدة لصلاءَة بن عمرو
الشهير بالأفوه الأودي (راجع: شعراء
النصرانية، ص٧٠) ذَكَر فيها ملوك التبابعةِ
والمَثامِنة، وقد ورد منها أبيات في كتاب
وصايا ملوك العرب (ص٢٠) فقال:
فلو دامَ البقاءُ إذن
جُدودي
وأَسلافي بنو قَحْطان
دَامُوا
ودامَ لهم تَبابِعُهم
ملوكًا
ولم تَمُتِ المَثامنةُ
الكرامُ
وعاش المَلْكُ ذو
الأذعار عمرو
وعمرو حوله اللَّجِبُ
اللُّهامُ
ملوكُ أدَّتِ الدنيا
إليها
إتاوَتها ودانَ لها
الأنامُ
ولمَّا يَعْصِها سامٌ
وحامٌ
ويافثُ حيثما حلَّتْ ولامُ
٦٨
(١-٦) ذِكر إبرهيمَ الخليل وابنه
إسحاق
ورد اسم إبرهيم في الشعر الجاهلي، ويقال:
إبراهِم وإبراهَم، قال عبد المطلب (المعرب،
للجواليقي، ص٩؛ واللسان، ١٤: ٣١٤) ينسب
ابتناء الكعبة إلى إبراهيم:
عُذتُ بما عاذ به
إبراهَمُ
مُستقْبِلَ القِبلةَ وَهْو
قائمُ
إنِّي لك اللهُمَّ عانٍ
راغمُ
وله:
نحنُ آلُ الله في
كَعبتِه
لم يَزلْ ذاك على عهد إبراهَمِ
٦٩
ودعاه ورقة بن نوفل باسم الخليل فقال
(شعراء النصرانية، ٦١٨) يخاطب زيد بن
عمرو:
فأصبحتَ في دارٍ كريمٍ
مُقامُها
تُعَلَّلُ فيها بالكرامةِ
لاهِيا
تُلاقِي خليلَ الله فيها
ولم تَكُن
من الناس جبَّارًا إلى
النار هَاويا
وكذلك قال جرير (الطبري، ١: ٤٣٣):
أَبونَا خليلُ اللهِ
واللهُ ربُّنا
رَضينا بما أعطى الإله
وقَدَّرَا
وفي
شِعرهم إشارة إلى إسحاق ويدعونه الذَّبيح
٧٠ لِمَا وَرَد في التوراة من
طاعة إبراهيم لما امتحنه الله وأمره بتقدمة
ابنه، قال الأعشى يشبه لون الخمر بلون دم
الذبيح:
ومُدامَةٍ مما تُعتِّقُ
بابلٌ
كَدمِ الذَّبيح سَلَبْتُها
جِرْيَالَها
وقد وصف أُميَّة بن أبَي الصَّلْت تقدمة
إبراهيم كما رُوِيَت في التوراة فقال
(تاريخ الطبري، ١: ٣٠٨؛ وكتاب البدء، ٣:
٦٥؛ وقصص الأنبياء، ٩٣؛ وخزانة الأدب، ٢:
٥٤٣):
سَبِّحُوا لِلمليكِ كلَّ
صباحٍ
طلعَتْ شمسُه وكلَّ هِلالِ
٧١
ولإبراهيمَ المُوَفِّي
بالنَّذْ
رِ
٧٢ احتسابًا وحاملِ الأجذالِ
٧٣
بِكْرِه لم يَكُنْ
لِيَصبِرَ عنه
لو رآه في مَعشرٍ أَقتالِ
٧٤
وله مُدْيةٌ تُخايلُ في
اللَّحْـ
ـمِ حُذامٌ حَنِيَّةٌ كالهلالِ
٧٥
أَبُنَيَّ إني نَذرتُك
لله
شحيطًا فاصبر فدًى لك حالي
٧٦
فأجابَ الغلامُ أن قال
فيه
كل شيء للهِ غير انتحالِ
٧٧
أَبَتِي إِنَّني
جَزَيتُكَ بالله
فاقضِ ما قد نَذرتُك
للهِ واكْفُف
عن دَمِي أن يَمَسَّه
سِربَالي
واشْدُد الصَّفدَ لا
أَحيدُ عن السِّكِّيـ
ـنِ حَيْدَ الأسيرِ ذي الأغلالِ
٧٩
إنَّنِي آلَمُ المحزَّ
وإنِّي
لا أَمسُّ الأذقان ذات السِّبالِ
٨٠
جعلَ الله جِيدَه من
نحاس
إذ رآه زَولًا من الأزْوالِ
٨١
بينما يَخلعُ
السَّرابيلَ عنه
فكَّه ربُّه بِكبشٍ جُلالِ
٨٢
قال خُذْه وأَرسلِ
ابنَكَ إني
للذي قد فَعَلتُما غيرُ قالِ
٨٣
والدٌ يَتَّقي وآخرُ
مَولُو
دٌ فطارَا عنه بسمعٍ مُعالِ
٨٤
ربَّما تَجزَع النُّفوس
من الأمـ
ـر له فُرْجَة كحَلِّ العِقالِ
٨٥
وقد اختصر ذلك السموءل في ديوانه (راجع،
طبعتنا، ص٣٠) فقال:
فهذا خليلٌ صَيَّر
الناسَ حولَه
رياحينَ جَنَّاتِ الغصونِ
الذَّوابلِ
وهذا ذبيحٌ قد فَداه
بِكَبْشِه
براهُ بَديهًا لا نِتاجَ
الثَّياتلِ
(١-٧) ذِكْر لوط وعِقاب سَدُوم
لوط أخو إبراهيم، ذكره العرب ورووا ما
جرى لسدوم من العقاب في عهده، ورد في
المعاجم (الصحاح؛ والتاج؛ واللسان، في
مادة: سدم) لشاعر لم يذكروا اسمه، ولعله هو
الشاعر الآتي ذكره:
كذلك قومُ لوطٍ حينَ أَمْسَوا
٨٦
كَعصفٍ في سَدُومِهم
الرَّمَيمِ
وجاء في التاج، واللسان لعمرو بن دراك
العبدي يشير إلى مَثَل العرب: «أَجْوَر من
قاضي سدوم» فقال:
وإني وإن قطعتُ حِبالَ
قيسٍ
وخالفتُ المُرونَ على
تَميمِ
لأعظمُ فَجرةً منَ أبي
رغالٍ
وأَجْوَرُ في الحكومة من
سَدومِ
وقال أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت يذكر قصة
سدوم وفجور أهلها وعقابهم (سفر التكوين،
ف١٩؛ ثم معجم البلدان، لياقوت، ٣: ٥٩؛
وكتاب البدء، ٣: ٥٨؛ وآثار البلاد
للقزويني):
ثم لوطٌ أَخُو
٨٧ سدومٍ أتاهَا
إذ أتاها برشدها
وهداها
رَاودُوه عن ضَيفِه ثم
قالُوا
قد نَهَينَاكَ أن تُقِيمَ
قُراها
عَرضَ الشيخُ عندَ ذاك
بناتٍ
كظِباءٍ بأجْرَعٍ تَرعاهَا
٨٨
غَضبَ القومُ عند ذاك
وقالوا
أيُّها الشيخُ خطبةٌ
نَأبَاها
أجمعَ القومُ أَمْرهمُ
وعجوزٌ
خيَّبَ اللهُ سَعْيَها ولَحاهَا
٨٩
أرسلَ اللهُ عند ذاك
عذابًا
جعلَ الأرضَ سُفْلَها
أَعْلاها
ورَماها بحاصبٍ ثم
طينٍ
ذِي جُروف مُسَوَّمٍ إذ رماها
٩٠
(١-٨) يعقوب وبنو إسرائيل
يعقوب أبو الأسباط الاثني عشر الذي
دُعِيَ إسرائيل ويقول العرب إسرائين، قال
بعض القدماء (اللسان، ١٧: ٣٥١):
قد جَرَت الطَّير
أيامنينا
قالتْ وكنتُ رجلًا
فطينا
هذا لَعَمْرُ اللهِ
إسرائينا
رواه في
القلب والإبدال لابن سِكِّيت (ص٩،
ed.
Haffner): «هذا ورب
البيت إسرائينا»، وسماه أُمَيَّة بن أبي
الصَّلْت إسرال (نقد الشعر، لقُدامة،
ص٨٣):
ما أرى من يُغِيثُني في
حَياتي
غير نَفْسي إلا بَنِي
إسرالِ
وروى الجاحظ (في البيان والتبيان، ١:
١٩٠) لبعض بني إياد النصارى قوله وفيه
إشارة إلى رُؤيا يعقوب عند مَسيره إلى ما
بين النهرين إذ رأى سُلَّمًا تَصْعَد عليه
ملائكة الله وتنحدر (تكوين، ٢٨: ١٢)
فقال:
ونحنُ إيادٌ عبيدُ
الإله
ورهطُ مُناجيه في
السُّلَّم
ونَسبوا الأسباط إلى يعقوب، قال السموءل
(اطلب: طبعتنا لديوانه، ص١٢):
وبقايا الأسباطِ أسباطَ
يَعقو
بَ دراسِ التوراةِ
والتابوتِ
وذكَره في محلٍّ آخرَ وخَصَّ بالذِّكر يوسفَ
٩١ ابنه وقِصَّته في مصر
(ص٣١):
وهذا رئيسٌ مُجتبًى ثم
صَفْوُه
وسمَّاه إسرائيلَ بكر
الأوائلِ
ومِنْ نَسْلِه السامي
أبو الفُضل يُو
سفُ الذي أشبع الأسباط
قَمْحَ السنابلِ
وصار بمصر بعد فرعونَ
أَمْرُه
بتَعبيرِ أحلامٍ لحلِّ
المشاكلِ
ومِن بعدِ أحقابٍ نَسوا
ما أتى لَهم
من الخير والنَّصْرِ
العظيم الفواضلِ
(١-٩) موسى الكليم
قد أكثر شعراء الجاهلية من ذكر موسى كليم الله،
٩٢ ورَووا ما جرى له
مع
فرعون ونجاة بني إسرائيل على يده من رِقِّ
المصريين، فمن ذلك ما ورد في كتاب البدء
(١: ٧٥)؛ وفي سيرة الرسول (ابن هشام،
ص١٤٥-١٤٦)؛ وفي خزانة الأدب (١: ١١٩؛ و٤:
٢٤٣ في الهامش) لزيد بن عمرو، ورُوِيَت
أيضًا لأُمَيَّة:
رضيتُ بكَ اللهم ربًّا
فَلن أُرَى
أَدينُ إلهًا غَيركَ الله ثانِيا
٩٣
وأنتَ الذي من فِضْلِ مَنٍّ
٩٤ ورحمةٍ
بعثتَ إلى موسى رسولًا
مناديا
وقلتَ له فاذهب وهارون
فادْعُوَا
إلى الله فرعونَ الذي كان طاغِيَا
٩٥
وقُولَا له أأنتَ
سَوَّيتَ هذه
بلا وتدٍ حتى اطمأَنَّتْ
٩٦ كما
هِيَا؟
وقُولَا له أأنت رفعتَ
هذه
بلا عمد أَرْفِقْ إذًا بكَ بانيا
٩٧
وقُولا له أأنتَ
سَوَّيتَ وَسْطَها
منيرًا إذا ما جَنَّه
الليلُ ساريا؟
وقُولا له مَن يرسلُ
الشمس غدوةً
فيصبح
٩٨ ما مَسَّتْ من الأرض
صاحيا؟
وقُولا له مَن أنبتَ
الحَبَّ في الثرى
فأصبحَ منه البقلُ يَهتزُّ رابيا؟
٩٩
ويُخرجُ منه حَبَّةً
١٠٠ في رُءوسه
وفي ذاكَ آياتٌ لمن كان
واعيا
وروَى المَقدِسيُّ في كتاب البدء (٣: ٨٢)
لأُمَيَّة بن أبي الصَّلْت يَذكُر صَلَف
فرعون وعقابه:
ولِفرعونَ إذ تُساق له
المَاءُ
فَهلَّا للهِ كان
شَكورا
قال إني أنَا المُجِيرُ
على النا
سِ ولا رَبَّ لي عَليَّ
مُجِيرا
فمحاه الإلهُ من
درجاتٍ
نامياتٍ ولم يكن مَقهورا
١٠١
سُلِبَ الذِّكرَ في
الحياة جَزاءً
وأراه العذابَ
والتَّغييرا
وتَداعَى عَليهمُ البحرُ
حتَّى
صار موجًا وراءَهُ
مُستطيرا
فدعا الله دعوة لا
تُهَنَّأ
بعد طُغيانه فصارَ مُشيرا
١٠٢
وممن ذكروا موسى وفرعون السموءل حيثُ قال
(راجع: ديوانه، ص٣١):
أَلسنَا بني مصر
المُنَكَّلَة التي
لنا ضُرِبتْ مِصرٌ بِعَشر
مَناكلِ؟
ألسنا بني البَحرِ
المُغرِّقِ والتي
لنا غُرِّق الفرعونُ يومَ
التَّحامُلِ؟
ومثله للقطامي في غَرَق فرعون (ديوانه،
ص٨٤، ed.
Barth):
وشُقَّ البحرُ عن أصحابِ
موسى
وغُرِّقَتِ الفراعنةُ
الكِفَارُ
وقال الأعشى مشيرًا إلى أكل بني إسرائيل
المَن والسَّلوى في البرية (سيرة الرسول،
لابن هشام، ٣٦٨؛ ولسان العرب، ١٩:
١١):
لو أُطْعِموا المَنَّ
والسَّلوى مَكانَهم
ما أَبْصَر الناسُ طُعْمًا
فِيهمُ نَجَعا
وللسموءل يصف ما جرى في البرية لبني
إسرائيل (ديوانه، ص٣١):
وأَخرجَه الباري إلى
الشَّعْب كي يرى
أعاجيبَه مع جُودِه
المتواصلِ
وكيما يَفوزُوا
بالغنيمةِ أهلُها
من الذَّهبِ الإبريزِ فوق
الحَمائلِ
ألَسْنا بني القُدْس
الذي نُصب لهم
غمامٌ يَقيهم في جميع
المراحلِ؟
من الشمس والأمطارِ
كانتْ صيانةً
تُجِير نَوادِهيم نُزولَ
الغوائلِ
ألَسْنَا بني السلوى مع
المَنِّ والذي
لهم فَجَرَ الصَّوَّانُ
عَذبَ المناهلِ؟
على عددِ الأسباطِ تَجري
عيونُها
فُراتًا زُلالًا طعمه غيرُ
حائلِ
وقد مكثوا في البَرِّ
عمرًا مُحدَّدًا
١٠٣
يغذيهم العالي
١٠٤ بخيرِ
المآكلِ
فَلَم يَبْلُ ثوبٌ مِن
لباسٍ عليهمُ
ولم يُحْوَجُوا النَّعْلَ
كلَّ المنازلِ
وأرسلَ نورًا
١٠٥ كالعمودِ
أمامهم
يُنيرُ الدُّجى كالصبح غير
مُزايِلِ
أَلَسْنَا بني الطُّورِ
المُقدَّسِ والذي
تَدَخْدَخ
١٠٦ لِلجبَّارِ يومَ
الزلازلِ؟
ومِن هَيْبةِ الرحمنِ
دُكَّ تذللًا
١٠٧
فَشرَّفَه الباري على كل
طائلِ
وناجَى عليه عَبْدَه
وكَلِيمَه
فقَدَّسَنا لِلربِّ يَومَ
التَّباهُلِ
(١-١٠) القُضاة إلى داؤد
كان خلَفَ موسى في قِيادة شَعب إسرائيل
يشوعُ بن نون، ولم نجد اسْمَه في الشعر
الجاهلي، وإنما ذَكَر الشَّريشي في شرح
مقامات الحريري (١: ٨٠) بَيتين للرُّصَافي
الشاعر يخاطب وجيهًا اسمه موسى فيهما إشارة
إيقاف يشوع للشمس فقال:
وعَشيَّ أُنسِئَ للسرور،
وقد بدَا
من دون قُرْص الشمس ما
يتوقَّعُ
سقطتْ ولم تَملكْ
يَمينُك رَدَّها
فَودِدتُ يا موسى لو
انَّكَ يُوشعُ
وقد ذكر المسعودي في مروج الذهب (طبعة
باريس، ١: ٩٨) أبياتًا لشاعر جاهلي اسمه
عوف بن سعد الجُرْهُمي يذكر فيها حرب يشوع
للعمالقة وقَتْلَه لملكهم مَلِك أَيْلة
الذي دعاه السَّمَيدَع بن هوبر
فقال:
أَلمْ تَرَ أن
العِمْلقِيَّ بنَ هُوبرٍ
بأَيْلةَ أمسى لَحمُه قد
تَمزَّعَا
تَداعتْ عليه من يهودٍ
جحافلٌ
ثَمانينَ ألفًا حَاسرينَ
ودُرَّعا
فَأمسَتْ عدادُ
للعَماليقِ بَعدَه
على الأرض مشيًا مُصْعدِين وفُرَّعَا
١٠٨
كأنْ لم يكونوا بين
أجبالِ مكة
ولم يَرَ راءٍ قَبْلَ ذاك
سَمَيْدَعا
ثم ذكروا أول ملك بني إسرائيل المُسمَّى
شاؤل وهم يَدْعُونه طالوت، قال السموءل
(ديوانه، ص١٢):
وانفلاقُ الأمواجِ
طُورَينِ عَن مو
سى وبَعدُ المُملَّكُ
الطالوتُ
وذكره
صاحب القرآن في سورة البقرة (٤: ٢٤٨):
إِنَّ اللهَ قَدْ
بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ
مَلِكًا.
(١-١١) داؤود الملك
تكرَّر اسمه في الشعر الجاهلي، ولم يكد
الشعراء يذكرون من أمره غير وَضْعِه للزبور
وسَرْدِه للدروع، إلا أن السموءل أشار إلى
قَتْله جُلْيَات وهو يدعوه جالوت، قال
(ديوانه، ص١٣):
ومُصاب الأفْريس حِين
عَصى اللهَ
وإذ صابَ حَيْنَه
الجالوتُ
وفي القرآن (٢: ٢٥٢): وَقَتَلَ دَاوُودُ
جَالُوتَ.
وقد ذكره عبيد بن الأبرص (خزانة الأدب،
١: ٣٢٣) بيانًا لطول عمره:
وطلبتُ ذا القرنينِ حتى
فاتَنِي
ركْضًا وكدتُ أن أرَى
دَاؤُودا
وقال الأعشى يذكر حوادث الدهر (حماسة
البحتري، ص٩٠):
ومَرُّ الليالي كلَّ
وقتٍ وساعةٍ
يُزَعزِعْن مُلكًا أو
يُباعِدْنَ دانِيا
وَرَدْنَ على دَاؤُودَ
حتى أَبَدْنَه
وكان ينادي العيشَ أخضَرَ
صافيا
وقد أكْثَروا من ذِكر داوُد ونَسْجِه
للدروع ولا نَعلم على أي نص استَنَدوا في
إثبات ذلك، قال طرفة (شعراء النصرانية،
٣٠٩؛ وديوانه، ص٥٨، ed.
Seligson):
وهُمُ ما هُمْ إذا ما
لَبِسوا
نَسْجَ دَاؤودَ لبأسٍ
مُحْتَضِرْ
وقال حصين بن الحمام المُرِّي (حماسة أبي
تمام، ص١٨٩) يصف كتائب كان يقودها عمرو بن
هند ملك الحيرة الملَقَّب
بالمُحَرِّق:
عليهنَّ فِتيانٌ كساهم
مُحرِّقٌ
وكان إذا يَكسو أجادَ
وأكْرَما
صَفائِح بُصْرَى
أَخْلَصَتْها قُيونُها
ومُطْردًا من نَسْجِ
دَاؤُودَ مُبْهَما
١٠٩
وكذلك جاء في حماسة أبي تمام (ص٢٨٤)
لحُسَيل بن سُجَيع الضَّبِّي في وصف
الدرع:
وبيضاءُ من نسجِ ابن
دَاؤودَ نَثْرَة
تَخيَّرتُها يومَ اللقاء
مَلابِسا
ومثله للبيد (حماسة البحتري، ص٨٤؛ وديوانه،
طبعة الخالدي، ٨٣) في كوارث الزمان:
ونَزَعْن من دَاوودَ
أَحسنَ صُنْعِه
ولقد يكونُ بقوَّةٍ
ونَعيمِ
صنَعَ الحديدَ لحِفْظِه
إسْرادُه
لينالَ طُولَ العيشِ
غَيْرَ مَرُومِ
ومثلهم قال الأعشى (شعراء النصرانية،
٣٨٨):
وأَعددتُ للحربِ
أوزارَها
رماحًا طوالًا وخيلًا
ذُكُورا
ومِنْ نَسْجِ دَاوودَ
يُحْدَى بها
على أَثَر العِيس عِيرًا
فَعِيرا
وكذا لسلامة بن جَنْدَل (الأصمعيات، ص٥١)
في وصف درع:
مداخَلةٍ مِن نسجِ
دَاوودَ شكُّها
كَحبِّ الجَنا مِن
أَبْلَمٍ
مُتفرِّقِ
وله أيضًا (راجع: طبعتنا لديوانه،
ص١٤):
لَبِسوا من المَاذيِّ
كلَّ مَفاضةٍ
كالنَّهْيِ يومَ رِياحهِ
الرَّقْراقِ
مِن نَسجِ دَاوودَ وآلِ
مُحرِّقٍ
غالٍ غَرائبُهُنَّ في
الآفاقِ
أما زَبُور داود فقد مرَّ لنا ما ورد فيه
من شِعْر العرب (راجع ما سبق [القسم
الثاني، الجزء الأول، الوحي وكُتُبه
وأئمته]).
(١-١٢) سُليمان الحكيم
أطنبَ شعراء الجاهلية في حكمة سليمان
وسَمُّو سلطانه وأبنيته العجيبة التي ذكرها
الكتاب الكريم في سفر الملوك الثالث وأخبار
الأيام الثاني، ويزيد العرب أن سليمان كان
يَقْهَر الحيوان ويُسخِّر الجن للقيام
بأعماله الجبارية، فمن ذلك قول النابغة من
قصيدة مدَح فيها النعمان فجعله مقتفيًا
لآثار سليمان في تسخيره الجن لبناء تَدمر
(ديوانه في العقد الثمين، ص٧؛ وشعراء
النصرانية، ٦٦٣):
ولا أرى فاعلًا في الناس
يُشبِهُه
ولا أُحاشي من الأقوامِ من أحدِ
١١٠
إلا سليمانَ إذ قال
الإلهُ له
قُم في البَرِيَّة
فاحدُدْها عن الفَنَدِ
١١١
وخَيِّس الجنَّ إني قد
أذنتُ لهم
يَبنُون تَدمُر بالصفاح والعَمَدِ
١١٢
فمَنْ أطاعكَ فانفعه بطاعته
١١٣
كما أطاعكَ وَادْلُلْهُ
على الرَّشَدِ
ومن عصاكَ فعاقِبْه
مُعاقبةً
تَنهى الظَّلُوم ولا
تَقعدْ على ضَمدِ
١١٤
وكذلك قد نَسب أعشى قيس بِناء قصر
الأبْلَق الفَرْد إلى سليمان بن داؤود حيث
قال (معجم البلدان، ١: ٩٣؛ وشعراء
النصرانية ص٣٧٥):
ولا عاديًا لم يمنع
الموتَ مالُه
ووِرْدٌ بتيماء اليهودي
أَبلقُ
بَناه سليمانُ بنُ
دَاوودَ حقبةً
له أَزجٌ عالٍ وطيٌّ
مُوثَّقُ
يُوازِي كُبَيْداءِ
السماءَ ودونَه
بلاطٌ ودَاراتٌ وكأسٌ
وخَندقُ
وللأعشى أيضًا في سليمان وسعة ملكه
وتَسخيره للجن (كتاب البدء، ٣:
١٠٨):
فلو كان حيًّا خالدًا
ومُعمَّرًا
لكان سليمانُ البريءُ مِن
الدَّهرِ
بَراهُ إلهي واصطفاه
عِبارةً
ومَلَّكَه ما بين سَرفَى
إلى مِصرِ
١١٥
وسَخَّر من جِنِّ
الملائكِ شِيعةً
١١٦
قيامًا لديه يعملون بلا أَجرِ
١١٧
وقال
الأعشى (حماسة البحتري، ص٩٠) في تسخير الجن
لسليمان:
فذاك سليمانُ الذي
سَخَّرت له
مع الإنسِ والجنِّ الرياح
المَراخِيَا
ولأُمَيَّة بن أبي الصَّلْت في قهر
سليمان للجن (اللسان، ١٩: ٢١٥):
أَيُّما شاطنٍ عَصاه
عكاهُ
ثم يُلْقى في السجن
والأغلالِ
ومثله لشاعر حميري (حماسة البحتري، ص٨٧)
في صروف الدهر:
خَطفنَ سليمانَ الذي
سُخِّرَتْ له
شياطينُ جِنٍّ من بريء وذي
جُرْمِ
وكذا قال عدي بن زيد (حماسة البحتري،
ص٨٦):
ومُلكَ سليمانَ بنِ
دَاؤودَ زَلزلَتْ
ورَيْدانَ قد أَلحقْنَه
بالصَّعائدِ
وقد مر سابقًا أن اسم سليمان ورَد على
صور أخرى كسالم وسلَّام وسُلَيْم (راجع
[القسم الثاني، الفصل الثالث، الأعلام
النصرانية المستعارة من الأسفار
المقدسة]):
(١-١٣) يونان النبي
لم نجد في الشعر الجاهلي ذكرًا لأحد ملوك
بني إسرائيل بعد سليمان، وكذلك الأنبياء
إلا يونان النبي فإنهم يَدعُونه يونس
ويشيرون إلى قصته وبعثته إلى أهل نينوى
فيذكرون ابتلاع الحوت له، قال أُمَيَّة بن
أبي الصَّلْت (شعراء النصرانية، ص٢٣١؛
وسيرة الرسول، لابن هشام، ص١٤٦):
وأنتَ بفضلٍ منكَ
نَجَّيتَ يُونسًا
وقد باتَ في أضعافِ حوتٍ
لَياليا
رسولًا لهم واللهُ
يُحكِم أمْرَه
يبين لهم هل يُؤْنِسُ
التربُ بادِيا
وقد ضربوا المثل في حوته فقالوا: «آكَلُ
مِن حوتِ يونس.» و«أَنْهَمُ مِن حوت يونُس»
وكذلك ورد ذكره في القرآن في سورة الصافات
حيث قال (ع١٣٩–١٤٨): وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ * إِذْ
أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
* فَسَاهَمَ
فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ
الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ
كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي
بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
* فَنَبَذْنَاهُ
بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا
عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ
إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ
* فَآمَنُوا
فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ،
وقد ورد للفرزدق أبيات في نجاة يونان من
بطن الحوت فقال في ابن هبيرة حين ثَقَب
سجنَ خالدِ بن عبد الله القَسْرِي وعَبَر
الفرات (محاضرات الأدباء، ٢: ١١٤؛ والفَرَج
بعد الشدة للتنوخي، ١: ١٢٨):
ولما رأيتَ الأرضَ قد
سُدَّ ظَهرُها
ولم تَرَ إلا بطنها لك
مَخرجا
دعوتَ الذي ناداه يونسُ
بعدَما
ثَوَى في ثلاثٍ مُظلِماتٍ
فَفُرِّجَا
وروى في كتاب البدء (١: ٧٦) بيتًا لصرمة
بن أنس المعروف بالراهب فيه إشارة إلى قصة
يونس، ولعل البيت مُصَحَّف:
وله الراهبُ الحَبيسُ
تراه
رَهْنَ يُونَسَ
١١٨ وكان نَاعمَ
بالِ
وقد وجدنا في بعض مخطوطات باريس العربية
«كتاب تاريخ الحيوان والنبات والجماد»
(Ms 687 de Paris, ff.
65) بيتًا لأمية يذكر
فيه اليقطينة التي أَنْبتَها الله ليستظل
تحتها وأيبستها الشمس (سفر يونان، ٤:
٣–٧):
فأنبتَ يقطينًا عليه
برحمة
من الله لولا اللهُ أَبَقِي
١١٩
صاحِيا؟
ونُضيفُ إلى ما سبق بيتًا رواه الجاحظ
لأمية (كتاب الحيوان، ٧: ١٧) ذكر فيه
نُبوَّة حِزْقِيال التي رآها حيث ظهر له
رجل ثم أسد ثم ثور ونسر، وهي الحيوانات
الرمزية المشار بها إلى الأربعة
الإنجيليين؛ أعني مَتَّى الذي بدأ إنجيله
بذكر ناسوت السيد المسيح ونَسبه، ثم مرقس
الذي افتتح إنجيله ببشارة يُوحَنَّا
المعمدان كزئير الأسد في البرية، ثم لوقا
الذي ذَكَر في بدء إنجيله ضحية زكريا في
الهيكل، وأخيرًا يُوحَنَّا الذي ارتفع
كالنسر بوصف مَولِد ابن الله الكلمة
الأزلية، وهذا هو البيت:
رجل
١٢٠ وثور تحتَ رِجْلِ
يَمينه
والنَّسرُ للأخرى ولَيثٌ مُوصَدُ
١٢١
وكذلك ورد في الشعر الجاهلي اسم حَيقار أو
حَيْقر المذكور في الترجمة اليونانية من
سفر طوبيا (١: ٢٣)، وله قصة طويلة عند
العرب نشرها حضرة الأب أنطون صالحاني في
ملحقات ألف ليلة وليلة، قال عدي بن زيد
(حماسة البحتري، ص٨٦) في بلايا
الدهر:
عَصَفْنَ على الحَيْقارِ
وَسْطَ جُنودِه
وبَيَّتْنَ في لذَّاته
رَبَّ ماردِ
هذا ما وقفنا عليه في الشعر الجاهلي من
منقولاتهم عن العهد القديم إلا أن في
رواياتهم النثرية ما كان أوسع وأدل لولا أن
معظمها قد فُقِد وإنما حُفِظ منها قسم في
تاريخ المُؤرِّخِين الأقدمين كتاريخ الطبري
أو كتبهم الأدبية ككتب الجاحظ، وكثير منها
مُدوَّن في القرآن، ومن هذه الروايات ما هو
موافق لنصوص الكُتب المُقدَّسة منقول عنها
بحرفها أو بمعناها، ومنها ما تَجِدُه في
كتب مصنوعة نُسِبَت زورًا إلى أنبياء أو
رسل أو صالِحِين كبعض كتب الرؤى
Apocalypses
أو الوحي المَزعوم كوَصِيَّة آدمَ، وكتاب
أحنوخ، وصعود أشعيا، ومناجاة موسى، وكتاب
مغارة الكنوز المنسوب إلى مار أفرام، وكتب
أخرى عديدة دخلتْ في بلاد العرب بواسطة
النصارى، لا سيما الرهبان أو بواسطة أهل
البدع واليهود، فشاعت مَضامينها
الفَرِيَّة، ولم يُميِّزُوا بين صحيحها
وكاذبها، وربما استند إليها بعض أعداء
النصرانية في عهدنا لتخطئة الكُتب المنزلة،
لكن سهامهم طائشة لا تصيب هدفًا.
(٢) أحداث العهد الجديد
كما عرف العرب في الجاهلية الأخبار
المُدوَّنة في أسفار العهد العتيق كذلك عرفوا
أحداث العهد الجديد وأشاروا إليها نظمًا
ونثرًا.
ومعلوم أن مدار أخبار هذا العهد على ما رواه
الإنجيليون الأربعة عن السيد المسيح وسيرة
حياته وتعليمه وموته وقيامته، يُضاف إليها أمور
ورَد ذِكرُها في التقليد الراقي إلى قرون
النصرانية الأولى ودونت في تآليف عديدة بعضها
صحيحة صادقة كمصنفات الآباء والكتبة القدماء،
وبعضها امتزج فيها الغثُّ بالسَّمين، واختلط
الباطل باليقين كبعض أناجيل الزُّور التي سبق
لنا وصْفُها في المشرق سنة ١٩٠٨م (١١: ١٦٤–٢٠٥)
وانتشر قسم منها في بلاد العرب بين أهل
الجاهلية.
فمِمَّا عرفوه أن عيسى؛ أي يسوع الناصري هو
المسيح، قال السموءل (راجع: طبعتنا لديوانه،
ص٣٢):
وفي آخِرِ الأيام جاء
مَسيحُنا
فأهدى بني الدنيا سلامَ
التكامُلِ
والعرب لم يطلقوا هذا الاسم على غيره، بل
صَرَّحوا أنه هو اسمه الخاص به، وكذلك نسبوه
إلى أمه مريم
١٢٢ كما مر لعمرو بن عبد الحق:
وما سَبَّح الرُّهبانُ في كل
هيكلٍ
أَبيلَ الأَبِيلِينَ المسيحَ
ابنَ مريما
يؤيده قول القرآن في سورة آل عمران (ع٤٠):
إِذْ قَالَتِ
الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ
يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ
الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ.
وقد عرفوا من التقليد أن مريم العذراء
مبارَكة بين النساء تَفُوق شرفًا على نساء
العالمين فطهرها الله منذ حُبل بها بالبطن،
وذلك بنعمة خاصة منه تعالى حتى إن الثعلبي روى
في كتاب قصص الأنبياء المسمى بالعرائس (ص٣٣٧،
من طبعة مصر) حديثًا رفعه بإسناده إلى أبي
هريرة عن نبي المسلمين وهو قوله: «ما من مولود
إلا والشيطان يمسه حين يُولَد فَيستهلُّ صارخًا
من مس الشيطان إلا مريم وابنها.»
١٢٣ ولعل القرآن أشار إلى هذه النعمة
الجلية حيث يقول (سورة آل عمران، ع٣٧):
يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ
اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى
نِسَاءِ الْعَالَمِينَ.
وذكر الثعلبي أيضًا (ص٣٣٥–٣٣٨)، وروى قبله
المقدسي ابن طاهر في كتاب البدء والتاريخ (ج٣:
١١٨–١٢٠، ed.
Huart) خبر مولد مريم
العجيب من حَنَّة العاقر بعد نذر والدتها ثم
اعتزالها في هيكل أورشليم لخدمة الكهنة، ثم
كفالة زكريا
لها في الهيكل إلى حين اقترانها بالقديس يوسف
وكل ذلك منقول عن التقليد المسيحي القديم وهو
مروي في سورة آل عمران (ع٣١–٣٣):
إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ
عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا
فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي
إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا
قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى
وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ
الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي
سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا
بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ *
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ
وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا
وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ
عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ
عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ
أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ
يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب.
ولم يُفْتَهم ذِكر يوحنا المعمدان السابق
أمام وجْه المسيح
١٢٤ فرووا ما ورد مسطرًا في إنجيلَي
لوقا ومرقس عنه أعني ميلاده العجيب على كِبَر
سن والديه وبيَّنُوا مقامه بين الأنبياء وتقدمه
أمام وجه المسيح وموته على يد هيرودوس أنتيباس
إذ نَهاه عن الزواج بامرأة أَخِيه كما ورد في
تاريخ الطبري (ج١، ص٧١١–٧٢٠)، وفي كتاب البدء
والتاريخ (٣: ١١٦–١١٨).
ومما رووه بتفصيله بشارة الملاك للعذراء مريم
بالمسيح وحَبَلها من الروح القُدُس وإن دخل في
روايتهم منقولات ضعيفة عن كتب غير قانونية كما
رأيتَ في القصيدة التي أثبتناها سابقًا
(ص١٨٧-١٨٨) عن أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت التي
أولها:
وفي دِينكم من رَبِّ مريمَ
آيةٌ
مُنبِّئَة بالعبدِ عيسى ابن
مَريما
ومثلها ما رَووهُ من المعجزات عن يسوع الطفل
كتَكلُّمه في المهد، وكآياته في هربه إلى مصر
من وجه هيرودوس، وفي حياته في الناصرة كانحناء
أغصان النخل أمام أمه لتجني من تمرها، وكنَبات
البلسان في المَطريَّة لما سقتْ أرضها بماء
غُسْلِه وكإفحام يسوع لأستاذه في الناصرة بما
كان يعرضه عليه من المشاكل، وكنفخه في طير
يصطنعه من طين فيحيا ويطير، وأخبار كثيرة مثلها
رُوِيَت في الأناجيل الموضوعة التي شاعت في
جزيرة العرب أخصها إنجيل الطفولية فتناقلها أهل
الجاهلية، وروي بعضها في القرآن في السور
الموسومة بآل عمران والنساء والمائدة
ومريم.
وذكروا من حياة المسيح العَلنية جمعه لرسله
وأنصاره الحواريين فنوَّهوا بهم في شعرهم (راجع
[القسم الثاني، الجزء الأول، الوحي وكُتُبه
وأئمته]) وكُرِّر ذكرهم في القرآن، وذكروا
أيضًا الآيات التي اجترحها ورويت في الأناجيل
كتطهير البَرَص، وفتح عيون العميان، ورَدِّ
النطق للبكم والسمع للصم، وإحياء الموتى حتى
ضُرِبَ المثلُ بطب عيسى، وشفاء عيسى، قال
الثعالبي في كتاب «ثمار القلوب في المضاف
والمنسوب» (طبعة مصر، ص٤٧):
طب عيسى يُضْرَب به المثل لأنه كان يبرئ
الأكمه والأبرص ويُحيي الموتى بإذن الله، ومن
أمثال العرب: فلان يَتطبَّب على عيسى ابن مريم،
قال المتنبي:
فآجرَكَ الإلهُ على
عَليل
بَعثتَ إلى المسيح به
طَبيبَا
وكثيرًا ما ذَكَروا الإنجيل الذي بَشَّر به
السيد المسيح فأشاروا إلى ما فيه من الهدى
والنور والموعظة للمتقين (سورة المائدة، العدد
٥٠)، قال عدي بن زيد (كتاب الحيوان، للجاحظ، ٤:
٦٦):
وأُوتِيا المُلكَ والإنجيل
نقرؤُه
نَشفِي بحكمته أحلامنا
علَلا
من غير ما حاجةٍ إلا
لِيجعلَنا
فوقَ البَريَّة أربابًا كما
فَعلَا
ومثله قول النابغة في بني غسَّان، وقد دعا
الإنجيل بالمَجَلَّة:
مَجَلَّتُهم ذاتُ الإله
ودينُهم
قويمٌ فما يَرجُون غيرَ
العواقبِ
وأَدرَكوا أسرارَ حياة المسيح في ختامها
كدُخوله أورشليم يوم الشعانين (راجع [القسم
الثاني، الفصل الأول، مفردات لنصارى الجاهلية
في أعيادهم ومواسمهم السنوية]) وكعَشائه
السِّرِّي في خميسِ العهد ورسمه لسِرِّ القربان
الأقدس وآلامه وصليبه وموته، وإن اختلطت في
أقوالهم شُبهات نقلوها عن الكتب المُزوَّرة
التي رذَّلَتْها الكنيسة منذ ظهورها، وقد سبق
لنا [القسم الثاني، الفصل الأول، مُفرَدات
نصارى الجاهلية الخاصة بكنائسهم وأقداسها]
إيراد أقوالهم في القربان، وتَسميتهم له
بالشَّبَر، وقلنا هناك: إنه ليس بمُستبعدٍ أن
القرآن في سورة المائدة (ع١١٢–١١٦) بذكره
للمائدة التي أنزلها السيد المسيح على
الحواريين إنما أشار إلى المائدة السماويَّة؛
أي القربان الأقدس (راجع: تاريخ الطبري، ج١،
ص٧٣٥)، وكذلك عرفوا في عهد الجاهلية أن النصارى
يَعبدون المصلوب (راجع [القسم الثاني، الفصل
الأول، مُفرَدات نصارى الجاهلية الخاصة
بكنائسهم وأقداسها]) كقول حجَّار بن أبجر في
بني عِجْلٍ النصارى:
يُهدِّدُني عِجلٌ وما خِلتُ
أنني
خلاةٌ لعِجْلٍ والصليبُ لها
بَعْلُ
وكقول الأقيشر:
في فتيةٍ جعلوا الصليبَ
إلَهَهُم
ومما ألْمَعُوا إليه ذِكْر قيامة المسيح يوم
الفِصح وابتهاج النصارى فيه بعد الصوم
الأربعيني (راجع [القسم الثاني، الفصل الأول،
مفردات لنصارى الجاهلية في أعيادهم ومواسمهم
السنوية])، كما قال الأعشى في هوذة بن علي لما
فكَّ أسارى تميم:
ففكَّ عن مائةٍ منهم
إسارَهمُ
وأصْبَحوا كلُّهم من غُلِّهِ
خُلُعا
بِهم تَقرَّب يومَ الفِصح
ضاحيةً
يرجو الإلهَ بما أسدى وما
صَنعَا
وآخِرُ ما رَوَوا من أعمال المسيح صعوده إلى
السماء وهو عيد السُّلَّاق (راجع: ص٢١٧)، وقد
دعا القرآن ذلك برفع عيسى (سورة آل عمران، ع٢٨)
حيث قال: قَالَ اللهُ يَا
عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ
إِلَيَّ.
ويضيفون إلى ذلك أن السيد المسيح هو الذي
يدين البشر في آخِر العالم بعد انتصاره على
المسيح الدجال كقول القائل: «إذ المسيحُ يَقتُل
المسيحا» (لسان العرب، ٣: ٤٣٠)، وكما قال
أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت (راجع [القسم الثاني،
الفصل الأول، الدين ومقاماته ومناسكه]):
أيَّام يَلْقى نَصاراهم
مَسيحَهُمُ
والكائِنينَ له ودًّا
وقُربانَا
وهذا بلا شك
أخذوه من قول السيد المسيح في إنجيل يوحنا (٥:
٢٢): «إن الآب لا يَدينُ أحدًا، بل أعطى الحكم
كله للابن ليكرم الابن جميع الناس.» أو من قوله
في إنجيل متَّى (١٦: ٢٧): «إن ابنَ البشر
مُزمِع أن يأتي في مَجْد أبيه مع ملائكته
ليجازي كل أحد بحسب أعماله.»
وكما
وقَف العرب في الجاهلية على كثير من أخبار
السيد المسيح المُدوَّنة في أسفار العهد الجديد
اطلعوا أيضًا على بعض الأحداث التي جرت للنصارى
في الفترة التي كانت بين السيد المسيح وظهور
الإسلام، من ذلك بَعْثَة رسل المسيح إلى أقطار
العالم ليدعوا الأمم إلى دينه، كما روَى ذلك
أقدم كتبة العرب كالطبري في تاريخه (ج١،
ص٧٣٧–٧٣٩)؛ وابن طاهر المقدسي في كتاب البدء
والتاريخ (ج٣، ص١٢٧)، ويقول مُفسِّرُو القرآن:
إن ما ورد في سورة يس عن مُرْسَلَين أُرْسِلا
إلى قرية لَيدعُوَا أهلها إلى نَفْي عبادة
الأصنام والإيمان بالله إنما يُشير إلى
حوارِيَّيْن وهما شَمعون الصفا هامة الرسل،
وبولس الرسول قَدِمَا إلى أنطاكية ليَرُدَّا
أهلها فقَبِل دعوتهم رجلٌ يدعونه حبيبًا النجار
قُتِل شهيدًا عن إيمانه وعاقب الله قاتليه
(اطلب: تاريخ الطبري، ج١، ص٧٨٩–٧٩٣).
ومما رَوَوه من أخبار النصارى نقلًا عن
كتبتهم قصة شهداء أفسس السبعة الذين أراد الملك
دقيوس في أواسط القرن الثالث للمسيح أن يضطرهم
على عبادة الأصنام، فهربوا من وجه الحكام
واختفوا في مغارة حيث قيل: إن الله ضرب على
آذانهم فناموا ولم يستيقظوا إلا بعد سنين طويلة
مَرَّت عليهم كليلة فبعثهم الله ليكونوا آية
لقيامة الموتى، فهذه القصة التي شاعت في عدة
بلاد وروتها مجاميع أخبار القِدِّيسين تحت اسم
«السبعة النوام» Les Sept
Dormants بلغت عرب
الجاهلية فدَعَوْهم أصحاب الكهف إشارة إلى
الكهف الذي رَقَدوا فيه، وقد ذكرهم أُمَيَّة بن
أبي الصَّلْت في أبياتٍ لم يعرف منها غير بيت
استشهد به البيضاوي في تفسير القرآن (طبعة
ليدن، ص٥٥٥):
وليس بها إلا الرقيمُ
مجاورًا
وصَيدُهم والقومُ في الكهفِ
هُجَّدُ
وكذلك ورَدتْ أخبارهم في القرآن في سورة
الكهف، وقد اتسع كتَبة العرب في تفاصيلها كما
نقَلْناها في كتابنا «مجاني الأدب» (٢: ٢٣٦)
ملخصة عن الدميري وتجدها أيضًا مُفصَّلة في
تاريخ الطبري (ج١: ٧٧٥–٧٨٢).
وقد عرفَ العرب في الجاهلية شهيدًا آخر
للنصرانية وهو القديس جرجس المستشهد في عهد
ديوقلسيانوس في أوائل القرن الرابع للمسيح نحو
السنة ٣٠٢، وهم يدعونه بالخضر جعلوه من
الأنبياء، وزعم الطبري (ج٧، ص٧٩٥) «أنه أدركَ
بقايا من حواريي عيسى ابن مريم» ورووا في
استشهاده العجائب الغرائب.
١٢٥ وقد وجدوا بين الكنائس المشيدة
لإكرامه كنيسة تَرْقَى إلى القرن الرابع للمسيح
في جهات العرب، وهي أقدم الكنائس على اسم ذاك
الشهيد العظيم بُنِيَت سنة ٣٦٧م في مدينة شقة
من أعمال حوران.
١٢٦
وقد سبق لنا (اطلب [الجزء الأول، الباب
التاسع]) أن عرب الجاهلية عرفوا أيضًا القديسين
الشهيدين سرجيوس وباخوس، وأن أقدم أثر كُتِب
بالعربية إنما كان لتذكارهما، وقد رسمنا هناك
صورة ذاك الأثر الراقي إلى سنة ٥١٢ للمسيح،
وروينا ما أثبته أحد مشاهير السريان عن تَعبُّد
العرب في الجاهلية للقديس سرجيوس، كما أننا
ذَكرْنا أقوال الشعراء في خروجهم إلى الحرب تحت
راية ذاك الشهيد [الجزء الأول، الباب
التاسع].
واشتهر بينهم شهداءُ نجران الذين ماتوا في
سبيل دينهم في وسط العرب فعَرفُوهم بأصحاب
الأخدود؛ لأن ذا نؤاس الطاغية الحميري اليهودي
ألقاهم في أخاديد أضرم فيها النار فاستشهدوا
لكرامة دين المسيح وإليهم أشار القرآن في سورة
البروج حيث قال (ع١–٩):
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ
الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ
وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ
أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ *
النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ *
إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ
بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ *
وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ
يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ
* الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
أما ذو نؤاس فحاربَه الحبش وغلبوه وانتزعوا
بلاد اليمن من يده وفيه يقول عمرو بن معدي كرب
(كتاب العرائس، للثعلبي، ص٣٨٦؛ وكتاب البدء
والتاريخ، ٣: ١٨٣):
أَتُوعدُني كأنَّك ذو
رُعينٍ
بأنعمِ عيشةٍ أو ذو
نُؤاسِ
وقدمًا كان قَبلَك في نعيمٍ
١٢٧
وملكٍ ثابتٍ في الناس
راسي
فقدتُم عهده
١٢٨ من عَهدِ
عادٍ
عظيم قاهر الجبروت
قاسي
فأمسى أهْلُه بادُوا
وأمسى
ينقل
١٢٩ في أُناسٍ من
أُناسِ
ومما درَى به أيضًا عربُ الجاهلية من أمور
النصارى نظام كنيستهم من رئيس ومرءوس؛
كالبطاركة والمطارنة والكهنة والمؤمنين مع ما
لهم من الطقوس الدينية والأسرار المُقدَّسة
والعادات التقوية، وقد أثبتنا ذلك في الفصول
السابقة بيانًا لانتشار النصرانية في جزيرة
العرب فَلْيُراجع.