في التاريخ النصراني بين عَرَب الجاهلية
إن ما قيل في آثار الخطابة بين نصارى العرب في عهد الجاهلية يَصح في آثارهم التاريخية، فإنها قليلة جدًّا كأن العرب ظَلُّوا في جزيرتهم معتزلين عن بقية الشعوب المسيحية لم يعرفوا منها شيئًا، وليس الأمر كذلك كما سترى وإنما سبب ندرة هذه المآثر أن أهل الجاهلية لم يُدوِّنوا مَعارفهم في بطون الدَّفاتر لقلة انتشار علم الخط بينهم فصح فيهم قول المثل: «كل علم ليس في القرطاس ضاع.»
ويُضاف إلى هذا السبب سبب آخر، وهو قلة اكتراث الرواة المسلمين لتدوينها حين باشروا بجمع آثار الجاهلية في القرن الثاني للهجرة، فكان حينئذٍ معظم هِمَّتهم أن يَرْوُوا ما يسمعونه من عرَب الحضر والمَدَر من الشعر الجاهلي، والمفردات اللغوية، والأمثال، والحِكَم وما أشبه ذلك، أما ما عرفه أجدادهم من تاريخ النصرانية فلم يعيروه بالًا.
على أننا لو نَقَّبْنا في الأمر ودقَّقْنا النظر في تلك المرويات السالمة من تيار الحروب الإسلامية لوجدنا أن عرب الجاهلية عرفوا أشياء كثيرة من تاريخ النصرانية وأثبتوا بذلك شيوعها في ظهرانيهم.
-
(١)
وأول دليل إلى قولنا مَعرفتُهم بالأسفار المُقدَّسة من العهد القديم ليست الأولية فقط الشائعة عند اليهود بل الثانوية أيضًا التي وردت في النسخة السبعينية، وكان النصارى يعتبرونها كمنزلة بالوحي الإلهي مثل الأولية، فمَن راجع ما نقلناه سابقًا في الفصلين الثاني والرابع من هذا الجزء وما ورد فيهما من أخبار العهد العتيق في شعر أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت، وعدي بن زيد بن عمرو بن نوفل وغيرهم تَحقَّقَ أن عرب الجاهلية اطلعوا بفضل النصرانية على كل أخبار التاريخ المقدس قبل المسيح.
-
(٢)
وفي ذَينِك الفصلين بابٌ آخَر يثبت معرفة أهل الجاهلية بتاريخ العهد الجديد أيضًا، أعني أخبار السيد المسيح وأعماله وإنجيله ومجيئه في آخِر الأزمان لِيَدِين العالم، وورَد مثل ذلك في القرآن والحديث كما روينا سابقًا، وكلُّه يشهد على معرفة العرب بزبدة تاريخَي العهد القديم والعهد الجديد معًا.
-
(٣)
ومما يُستفاد من فصولنا السابقة ولا سيما ما أوردناه من الشعر الجاهلي أن العرب قبل الإسلام عَرَفوا أيضًا حق المعرفة: (١) رُسُلَ المسيح وحوارييه وأمه مريم البتول الطاهرة ويُوحَنَّا المعمدان السابق أمام وجهه وبعض المُبشِّرِين به في بلادهم من تلاميذه. (٢) كنيسةَ المسيح ونظامَها من بطاركة وأساقفة وكهنة وشمامسة. (٣) رهبانَ النصارى وأديرتَهم وصوامعَهم وقلالِيَّهم ومناسكَهم في أعلى الجبال وسُرُجَهم المتقدة ليلًا وعيشتهم الشظفة. (٤) بِيَعَ النصارى ومعابدَهم وما تمتاز به من هياكل ومحاريب ومنابر ومنارات ومصابيح وصُلبان وصور ودُمًى ونواقيس. (٥) أسرار النصارى وخصوصًا المعمودية والقربان الأقدس والذبيحة الإلهية المُقدَّسة تحت شكلي الخبز والخمر. (٦) أعياد النصارى كالدنح (الغُطاس) والسَّباسب (الشعانين) وخميس العهد والفِصح والسُّلَّاق (الصعود). (٧) عادات النصارى في صومهم وصلواتهم وطوافهم حول الكنائس وحجهم إلى القدس الشريف وملابسهم الخاصة. (٨) امتياز أحبارهم وعلمائهم بعلم الكتابة وبنقل المصاحف الدينية من توراة وزبور وإنجيل مع تنميقها ووشيها بالرسوم وضروب النقوش الملونة، فكل هذه المعلومات تقوم مقام سفر جليل ينبئنا بشيوع التاريخ المسيحي بين عرب الجاهلية.
-
(٤)
وقد أورثنا نصارى العرب فوائد تاريخية جمة، منها ما نُقل عنهم بالتقليد في أقدم التواريخ الإسلامية كالطبري يُؤخَذ منها خبر دخول النصرانية بين عرب العراق والشام، وانتشار الدين المسيحي في جهات اليمن قبل وبعد استيلاء الحَبَش عليها، ومنها كتابات حجرية رقمت على الصخور بالقلم المُسْنَد الحِمْيَري فاكتشفها السياح في أيامنا، وأشرنا إليها في مقالاتنا السابقة، ومما ورد في مضامينها ذكر سد مأرب، والسيل العرم، ومنها عاديات خلفتها الأمم السالفة كبعض القصور التي ينسبها العرب إلى قدماء النصارى وبعض البِيَع؛ مثل كنيسة صنعاء المعروفة قديمًا بالقليس التي صبرت بعض آثارها على آفات الدهر، أو كمِثْل كعبة نجران وغير ذلك مما يتخذ حجة لنسبة المعارف التاريخية وغيرها إليهم.
-
(٥)
ومما وقف عليه العرب من أخبار الكنيسة ذكر بعض شهدائها كالقديس جرجس الشهيد الذي شاع بين العرب اسمه ومنهم من دعاه بالخضر، ويشهد على انتشار إكرامه في جهاتهم أن أقدم الكنائس النصرانية التي بنيت على اسمه إنما شُيِّدت سنة ٣٦٧م في مدينة شقة من أعمال حوران (راجع: المشرق، ٦، ١٩٠٣م، ٣٨٧)، وقد تكرر اسمه في الكتابات اليونانية المكتشفة هناك، ومثله القديسان الشهيدان سرجيوس وباخوس المكرمان بين العرب في الرصافة والرَّقَّة وجهات الفرات، وكان بَنُو تغلب اتَّخذُوا صورة الأول كراية تتقدمهم في الحرب (ديوان الأخطل، ص٣٠٩) قال:
لما رَأَونا والصليبُ طالعاومارسرجيس وسُمًّا ناقِعَاوأبصَرُونا راياتُنا لوامعاخَلَّوْا لنا راذان والمزارعاوقد ذكرنا سابقًا أن أول أثر من الخط العربي قد كتب سنة ٥١٢ للمسيح؛ أي ١١٠ سنوات قبل الهجرة على مَشْهد القديس سرجيوس في زَبَد، وصورنا هناك صورته (الجزء الأول، [مفردات نصارى الجاهلية الخاصة بكنائسهم وأقداسها]). والأثر الثاني من الخط العربي يرقى إلى السنة ٥٦٨م، وُجِد في حَرَّان من أعمال حُوران، كُتِب على مشهد أقيم تذكارًا للقديس يوحَنَّا المعمدان المكرم هناك.
وكذلك أصحاب الكهف، وهم شهداء أفسس الذين رُوِي عنهم أنهم هربوا من وجه المغتصب في عهد دقيوس قيصر فالتجَئُوا إلى كهف؛ أي مغارة، وظَلُّوا فيها نائمين السنين الطوال حتى أفاقوا من سباتهم بإذن الله وصاروا آية للقيامة، وقد وَرَد ذِكرُهم في القرآن وفي شعر أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت، كما ورد ذكر أصحاب الأخدود؛ أي شهداء نجران الذين ألقاهم ملك اليمن اليهودي ذو نؤاس في أتون النار (راجع: سورة البروج في القرآن)، وذكروا تاريخ حبيب النجار زعموا أنه رافَق تلاميذ المسيح إلى أنطاكية وساعدهم في نَشْر دينه بين أهلها.
-
(٦)
أما التاريخ المَدَني فقد عرف منه نصارى العرب نُتفًا لا سيما تاريخ الأمم المجاورة للعرب من فُرْس وحَبَش ورومان، فمن ذلك ما أنشده أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت في مُحاربة سيف بن ذي يزن للحَبَش بمساعدة الفُرْس وطردهم من جزيرة العرب (راجع: في شعراء النصرانية لاميته، ص٢٣١) التي أولها:
لِيَطلبِ الوِتْرَ أمثالُ ابن ذي يَزنٍفي البحرِ خَيَّمَ للأعداءِ أحوالاوربما ذكروا ملوك الروم باسمهم العام (قيصر) كقول امرئ القيس عند رحلته إلى حاضرة ملوك الروم يستنجدهم على قَتلَةِ أبيه:
بكى صاحِبِي لما رأى الدَّرْبَ دونهوأَيْقنَ أنَّا لاحقانِ بقيصرافقلتُ له لا تَبكِ عَينُك إنمانُحاولُ مُلكًا أو نموتُ فنُعْذَراوخصُّوا بالذِّكْر بعضهم كمُورِق؛ أي موريقيوس قيصر، قال الكندي يذكر بَعْضَ مَن فَتَك بهم الدهر بهم (حماسة البحتري، ع ٣٨٣):
وأَصَبْن أبرهةَ الذي سَجدَتْ لهصُمُّ الغيولِ صوامتًا لم تَنطِقِوأَجَبْن كِسرى وابنَ كسرى بعدهوالمرءَ قَيْصَر وانْتَحَبْنَ لِمُورِقوكذلك ذكروا منهم هِرَقْل أو هِرْقَل، قال لبيد (ديوانه، ص٣٥):
غَلَب الليالي مُلْكَ آلِ مُحرِّقٍوكَمَا فَعَلْنَ بِتُبَّعٍ وبهِرْقَلِأما ملوك العَجم، فقد ذكروا معظم أسماء ملوك سلالتهم الساسانية؛ مثل: كِسرى، وسابور، وأزدشير، وهرمز.
-
(٧)
ومن المرويات العديدة التي نقلها أول كتبة الإسلام على عِلَّاتها فأثبتوها بأسانيدها إلى بعض أهل الكتاب من نصارى ويهود مما لا يخلو منه تأليف واحد من تآليفهم القديمة، وربما أشار إليها القرآن أو نقل عنها الحديث يظهر أنه شاعت في جزيرة العرب مصنفات شتى معظمها لبعض المبتدعين أو لكتبة مجهولين لا صفة لهم رسمية في الكنيسة، وفد بقي منها أشياء في قصص الأنبياء للثعلبي وغيره، وفيها الغث والسمين، ومن هذا التآليف ما ورد ذكره في الشعر القديم ولا نعلم من أمره شيئًا كقول بشر بن أبي خازم، وقيل: الطِّرمَّاح، في كتاب بني تميم (المفضليات، ص٦٧٦):
وَجَدْنا في كتابِ بني تميمٍأحقُّ الخيلِ بالرَّكْضِ المُعارُوكانت بعض هذه التآليف مكتوبة بالسريانية أو الحبشية فوقَف على مضامينها العربُ ونَقَلُوا أشياء منها، خصوصًا من كتاب «مَغارة الكنوز» المنسوب زورًا إلى القديس أفرام، وكان في هذه الكتب الصحيح والسَّخِيف فلم يُفْرِز العربُ العليلَ من السالم.
هذا ما استطعنا استخلاصه من الآثار الباقية، فهو مع قِلَّتِه شاهدٌ صادق على ما توخينا إثباته عن شيوع التاريخ المسيحي عند قدماء العرب.