التعاليم الفلسفية واللاهوتية بين نصارى الجاهلية
أثبتنا في مقدمة أبحاثنا عن النصرانية وآدابها في عهد الجاهلية أن العرب كانوا مشركين كبقية الأمم ما خلا الشعب الإسرائيلي، وأنهم عبدوا الأصنام قبل التاريخ المسيحي وفي القرون الأولى بعده، وإن اختلف شِرْكُهم بعض الاختلاف في جنوب جزيرتهم وشمالها وغربها.
أما الآثارُ المتأخرة الباقية من القرن السادس وأوائل السابع للمسيح فعلى خلاف ذلك، فإنها إلى التوحيد أقربُ منها إلى الشرك، بل لا تكاد تجد في الشعر الجاهلي المجموع في ذلك العهد أثرًا للشرك اللهم إلا بقايا قليلة لا يُعْبأ بها.
وعندنا أن هذا الانقلاب إنما كان سببه شيوع النصرانية في ظهراني العرب كما بَيَّنَّا ذلك بالشواهد المتعددة في القسم الأول من كتابنا، وإن تَقصَّيْنا البحث فيما خَلَّفوه من الآثار وجدنا فيها من المبادئ الفلسفية والتعاليم اللاهوتية ما هو دليل لامع على قولنا.
(١) الفلسفة النصرانية في عرب الجاهلية
ليس أحد من قرائنا ينتظر منا أن نعدد له ما وضعه نصارى العرب في الجاهلية من التآليف الفلسفية، فإن أهل الجزيرة قبل الإسلام وبعده لم يشتهروا مطلقًا في النظريات؛ إذ كان همهم الأعظم أن يَعيشوا في مَواطنهم عيشة فطرية لا يزعجها ضَنْك الفكر ولا يخالطها التعمق في غوامِض الكون، وإن قيل لنا ألا تُحْصِي بين كبار فلاسفة العرب الرئيس ابن سينا، والفارابي، وابن رشد أجبنا أنهم أعاجم لَيْسُوا عربًا، وإن وجد بينهم أفراد أحرزوا لهم ذكرًا في ذلك كالكِنْدي فإنه من باب الشذوذ.
لكنَّ الفلسفة لا تظهر فقط في المؤلَّفات النظرية بل ربما ظهرت في مَطاوي الكلام نثره ونظمه، حيث تلوح المبادئ التي يجري المرء بموجبها ويَرْتَشد بنورها، وذلك خصوصًا في فروعها الثلاثة، أعني بها علم الإله، ثم علم النفس، ثم علم الآداب والحقوق، وكل ذلك مُتوفِّر في آثار الجاهلية كما سترى.
(١-١) علم الإله الحق
يُثبتُ الفيلسوف بالبراهين العقلية وجود الله ووحدانيته وخَلْقَه للعالَم وصفاته الحسنى من قداسة وحِكمة وعلم وقدرة وعدل وعناية بالمخلوقات، وهذا كله تجده في شعراء الجاهلية الذين روينا أقوالهم في القسم الثاني [الفصل الأول] كقول زيد بن عمرو:
وكقول قس بن ساعدة خطيب العرب:
وكقول ورقة بن نوفل:
وكقول طَرَفة (شعراء النصرانية، ٣١٩):
وكقول سُوَيد بن أبي كاهل:
وكقول حاتم الطائي:
وأقوال كثيرة لأُمَيَّة بن أبي الصَّلْت ولا سيما داليته العجيبة التي أولها:
وفيها يقول:
أُعْجِبَ بها نبي الإسلام فقال لما سمعها من الشريد بن سويد: لقد كاد أُمَيَّة أن يسلم بشعره (اطلب: حياة الحيوان، للدميري، ٢: ١٩٥).
فهذه وأقوالٌ غيرها كثيرة تُثْبِتُ أن العرب في الجاهلية عرفوا الإله الحقيقي، ولا شك بأن هذه المعرفة أتتهم من مُبشِّرِين نصارى سبق لنا ذكرهم في تاريخ النصرانية بين العرب (اطلب القسم الأول).
(١-٢) علم النفس
كان لقدماء العرب قبل أن يستنيروا بنور الإنجيل آراء باطِلَة في النَّفْس وأصلها ومصيرها، فيهيمون بمزاعمهم في كل وادٍ، فلما هداهم الله إلى الحق عدلوا إلى ما هو أقرب إلى الصواب فأقروا بخلود النفس وحَرَّضُوا على تُقى الله وممارسة الأعمال الصالحة، وأشاروا إلى ما ينتظر النفس من الحساب يوم الدين فتجازى عن أعمالها ثوابًا أو عقابًا، وهذا كله مُجمل ما يستفاد من التعاليم الفلسفية، فدونك بعض الشواهد على قولنا، أوردنا في شعر عدي بن زيد [القسم الثاني، الأعلام النصرانية الجغرافية] ما قال في تصوير الله للإنسان ونفخه فيه من روحه، ولطرفة قوله في عقل الإنسان (شعراء النصرانية، ص٣١٧) وما خُصَّ به من الإدراك:
وقد مَيَّزوا بين الروح الخالدة والجسد الفاني كقول ذي الرمة مستغيثًا:
وأشاروا إلى وقوف النفس أمام الدَّيَّان وأدائها الحساب عن أعمالها وإلى جزائها خيرًا أو شرًّا على موجب سلوكها، قال الحارث بن عَبَّاد (شعراء النصرانية، ٣٧٠):
وقال مُرَّة بن ذُهْل في مراقبة الله لأعمال البشر (فيه، ص٢٤٨):
وقال طرفة (فيه، ٣١٧):
وقال أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت [القسم الأول، السماء والجحيم وما فيهما]:
وقال عدي بن زيد:
ومثله لزهير في معلقته:
وللبيد أيضًا:
وكأن حاتمًا الطائي (شعراء النصرانية، ١٢١) نظم آية الكتاب «مَن يُعطِ الفقيرَ يُقرِض الرَّبَّ.» بقوله:
وأقوال عديدة مثلها تنطق بمعرفتهم لأحوال النَّفْس والمعاد، وقد ذكرنا سابقًا [القسم الأول، الباب الثاني] كيف رد العلامة أوريجانس بعض المبتدعين من العرب عن ضلالٍ سَقَطوا به في أمر النفس إذ زعموا أنها تفنى كالجسد ثم تبعث معه في الدَّيْنُونة.
(١-٣) علم الآداب والحقوق
مرجع هذا العلم أن يُعطَى كلُّ ذي حق حَقَّه مع مراعاة الأحوال والمَقامات من رؤساء ومرءوسين وأفراد وجماعات … إلخ، وبديهي أن أحوال أهل البادية تختلف عن أحوال سُكَّان المُدُن وسُنَنِهم عن سُنَنِهم، ولشعراء الجاهلية تأييدًا لهذه المبادئ الصحيحة أقوال لا تُحْصَى جمعها القدماء فنُحِيل إليها، منها حماسة البحتري الذي نشرناه منذ عهد قريب، قسَّمَه جامعه على ١٧٤ بابًا تتناول معظم الآداب والأخلاق التي يَتباحث بها الفلاسفة فيثبتون وجوبها وقوانينها وفقًا لتعاليم العقل وأحكامه المصيبة، انظر مثلًا ما يقوله الأَفْوَه الأَوْدِي في النظام السياسي وحُكْم أرباب الأمر (شعراء النصرانية، ص٧٠):
وهذا النابغة الذبياني يَعزو إلى الله سُلطة الملوك حيث يقول للملك النعمان (شعراء النصرانية، ٦٥٦):
وكل أديب يعرف خاتمة معلقة زهير وما في أبياتها الأخيرة من الحكم المبنية على علم الأخلاق والآداب الاجتماعية، ومثلها في معلقة الحارث بن الحلزة، ولطرفة يطالب بحقوق أمه وردةَ (شعراء النصرانية، ٢٩٨):
فهذه كلها أقوال من الفلسفة العقلية أبرزها عرب الجاهلية في صورة شعرية.
(٢) التعاليم اللاهوتية بين نصارى الجاهلية
اللاهوت كما هو معلوم أساسه الوحي، سواء كان مدونًا في الأسفار المُقدَّسة أم شائعًا بتعليم الكنيسة، وقد عرف نصارى العرب الوحي وكتبه وأئمته الأنبياء والرسل كما أثبتنا ذلك في الفصول السابقة (ص١٧٩–١٩٠)، مثل قول الراهب ورقة بن نوفل:
وقد ورد هناك ذكر التوراة والزبور والإنجيل وبعض الأنبياء والرسل كموسى وداود وسليمان ويونان، ومما أخذوه عن الوحي معلومات عديدة عن الله — جل جلاله — كتوحيده وصفاته العلوية، فإن منها ما يُسْتدَلُّ عليه بالوحي أكثر من القياس النظري والبرهان العقلي، فأي فيلسوف مثلًا وصفه تعالى كما فعل أمية بن أبي الصلت حيث قال:
إلخ.
وهو الوحي قد أنبأهم بوجود الملائكة وأوقفهم على مقامهم وجوهرهم وخدمتهم أمام الله وطبقاتهم، فذكروا منهم بأسمائهم جبرائيل وميكائيل، ومن طبقاتهم السرافيل (الساروفيم)، والكَرُوبيَّة (الكروبيم)، والملائكة الحُرَّاس (راجع [القسم الثاني، السماء والجحيم وما فيهما]).
وقد أفادهم الوحيُ تكوينَ الله للعالَم من العدم وإبداعه للكائنات جمادها ونباتها وحيوانها، ثم خلقه للأبوين الأولين ووضعه لهما في جنة عدن ثم سقوطهما بتجربة إبليس ونفيهما من الفردوس، ثم ما جَرى لهما ولنسلهما ولا سيما بوقوع الطوفان، فكل هذه الأمور التي أثبتناها بالنصوص المتعددة لم يعرفها العرب إلا بواسطة الوحي (راجع [القسم الثاني، الفصل الرابع]).
ومن الوحي استفاد العرب أيضًا معرفة أمور الآخرة كالنَّعيم في السماء للأبرار والجحيم في جهنم للأشرار وبعث الأجساد في آخر العالم، وقد أتينا على كل ذلك بشواهد مُتعدِّدة لا تبقي في الأمر ريبًا (اطلب [القسم الثاني، السماء والجحيم وما فيهما]).
ومما توفَّق العرب إلى معرفته بفضل الوحي سِرُّ بشارة الملاك جبرئيل لمريم العذراء وبقاء مريم على بتوليتها مع ولادة ابنها، وعرَفُوا السيد المسيح ورسالته إلى العالم وما أتاه من المعجزات واختياره لرسله الحواريين ودعوه «بأَبِيل الأَبِيلِينَ المسيح ابن مريما»، وأنه هو الذي سَيَدِين الأحياء والأموات [القسم الثاني، الوحي وكُتُبه وأئمته]، وذكروا السابق أمام وجهه يوحنا المعمدان ودَعَوْه يحيى.
وقد عظم عرب الجاهلية تعليم المسيح ونَعَتُوا دينه بالدين القويم كما قال النابغة عن نصارى غسان:
وقد عرف العرب كنيسة المسيح وما فيها من رؤساء كالبطاركة والأساقفة والقسوس والشمامسة ولا سيما الرهبان والنُّسَّاك [القسم الثاني، مفردات نصارى العرب الدالة على رؤسائهم ورهبانهم].
وكذلك اطَّلَعوا على أسرار الكنيسة كالمعمودية والقُرْبان والقُدَّاس، وعلى أعيادها كالسبار (البشارة)، والدنح (الغطاس)، والسباسب (الشعانين)، والفِصح، والسُّلَّاق (الصعود) [القسم الثاني، مُفرَدات نصارى الجاهلية الخاصة بكنائسهم وأقداسها، ثم مفردات لنصارى الجاهلية في أعيادهم ومواسمهم السنوية].
وعرفوا مناسك النصرانية وكنائسها وهياكلها وما تُزانُ به من النقوش والصور، وخصوصًا الصليب فحلفوا به كقول عدي بن زيد.
وقد حلف الآخَرُ بالقربان ودعاه الشَّبَر:
ومثله عدي:
وحلف الأعشى بالرهبان الساجدين وبالناقوس فقال:
فهذه كلها أدِلَّة أوضح من النور تُبيِّنُ ما كان للتعاليم اللاهوتية من النُّفوذ بين نصارى العرب استخلصناها من الشعر الجاهلي فقط، وهي أحسن برهان على نفوذ الآداب النصرانية بينهم.