مقدمة

لقد «استنتج «كولنجوود» أن التاريخ ليس له تفسير واحد، بل إن كلًّا منَّا يفهمه ويفسِّره على قدر ما يستطيع ذهنه. وهذا التفسير لا يمكن أن يتحلل من شخصية المؤرخ وثقافته، وهذا يفسر لنا كيف أن كل مؤرِّخ يرى في نفس الحوادث شيئًا آخر. وعلى هذا، فإنه لا يمكن القضاء على العنصر الشخصي، وإن التاريخ الموضوعي الصرف يكاد أن يكون لا وجود له.»١

وهذا القول يتحقق أيضًا بالنسبة للكاتب المسرحي كتحقيقه بالنسبة للمؤرخ، وسيتضح ذلك في مسرحية «العباسة» لعزيز أباظة، ومسرحية «لعبة السلطان» للدكتور فوزي فهمي أحمد، عندما حاول كلٌّ منهما إيجاد تفسير لنكبة البرامكة. هذا بالإضافة إلى وضوح القول السابق في مسرحيات أخرى، مثل: «التوراة الضائعة» لعلي أحمد باكثير، و«باب الفتوح» لمحمود دياب، عندما قاما بتوظيف شخصية صلاح الدين الأيوبي التراثية التاريخية في هاتين المسرحيتين.

والمسرحية التاريخية تقترب من التاريخ وتبتعد عنه في آنٍ واحدٍ، فهي تقترب منه في الأحداث والمواقف الهامة والشخصيات الرئيسية، وتبتعد عنه في الأحداث والمواقف والشخصيات الثانوية. ومن خلال هذا الابتعاد يستطيع الكاتب المسرحي أن يخلق تفسيرًا جديدًا للتاريخ، أو أن يخلق بناء التاريخ من خلال وجهة النظر الفنية؛ فالمسرحية التاريخية ليست مقصودة لأحداثها، أو لسرد شخصياتها المعروفة، ولكن لبيان رموزها والقصد من كتابتها، ويقول الدكتور عبد القادر القط: «إن كثيرًا من أحداث المسرحيات العالمية الكبيرة يكون معروفًا لدى المشاهدين من قبل، ومع ذلك يُقبلون على مشاهدتها وهم يعرفون ماذا سيحدث بعدُ؛ لأن وقائع الحدث المادية لا تهمهم في المقام الأول بقدر ما يهمهم متابعة الحدث في صورته الفنية، من حيث هو خلق فني جديد لذلك الحدث من أحداث الحياة، وعرض لدلالات جديدة فيه، أو كشفٍ لدلالات كانت له، ولكنها تظل خافية حتى يجلوها فن الكاتب المبدع.»٢ لذلك يجب أن نسأل دائمًا — ونحن أمام المسرحية التاريخية — ما رمز هذه المسرحية؟ ولماذا كُتِبت في هذا التاريخ بالنسبة للكاتب، أو بالنسبة إلى العصر الذي كُتِبت فيه؟

ويجب أن ننوِّه إلى أن الكاتب المسرحي عندما يوظِّف التراث التاريخي في مسرحيته يجب أن يقوم هذا التوظيف على الاختيار، فيجب أن يختار الشخصية التاريخية أو يقتطع فترة زمنية محدَّدة، بشرط أن تكون هذه الشخصية مكتملة؛ أي منذ تولِّيها الحكم إلى موتها أو سقوطها مثلًا. وعندما يختار الفترة الزمنية، يجب أن تكون مكتملة أيضًا من حيث الحدث الواحد والزمن الواحد، ثمَّ لا يتعرض لِما قبل الشخصية أو ما بعدها، وكذلك بالنسبة للفترة الزمنية؛ أي يفصل الكاتب الشخصية أو الفترة الزمنية تمامًا عن كل الارتباطات السابقة واللاحقة لها. وهذا المعنى سيظهر لنا بوضوح من حيث اختيار الفترة الزمنية في مسرحيات «طارق الأندلس» لمحمود تيمور؛ حيث اختار فترة فتح العرب للأندلس، وكذلك مسرحية «أميرة الأندلس» لأحمد شوقي، عندما اختار فترة سقوط وأسر المعتمد بن عباد، وكذلك مسرحيتا «الناصر» و«غروب الأندلس» لعزيز أباظة، عندما اختار فترة نهاية حكم العرب للأندلس وسقوطها. أمَّا من حيث اختيار الشخصية التاريخية، فسيظهر لنا هذا الاختيار بوضوح من خلال مسرحية «العباسة» لعزيز أباظة، عندما اختار شخصية العباسة أخت هارون الرشيد ليوظِّف من خلالها نكبة البرامكة، وكذلك مسرحية «لعبة السلطان» للدكتور فوزي فهمي أحمد، عندما اختار أيضًا شخصية العباسة ليوظِّف من خلالها نكبة البرامكة، ولكن بصورة نفسية.

ومن الملاحظ أن هناك مسرحيات عديدة قامت بالاختيارين معًا؛ أي قامت باختيار الشخصية المحددة ممتزجة بالفترة الزمنية المحددة، مثل ثلاثية علي أحمد باكثير، والمكوَّنة من «الدودة والثعبان» و«أحلام نابليون» و«مأساة زينب»، وفيها اختار باكثير شخصية الشيخ سليمان الجوسقي في الجزء الأول، ثمَّ شخصية زينب البكرية في الجزء الثاني والثالث، ثمَّ مزج هاتين الشخصيتين بفترة احتلال الحملة الفرنسية لمصر، وكذلك فعل ألفريد فرج في مسرحيته «سليمان الحلبي».

والكاتب المسرحي لا يؤرخ للشخصية التاريخية أو للفترة الزمنية؛ أي لا يرتبط بالأحداث أو الشخصيات الثانوية، بل يغير فيها ويُبدع من عنده الكثير، بشرط عدم التغيير في الأحداث أو الشخصيات الرئيسية. ومهمة النقد لهذه المسرحيات التاريخية هي الاهتمام بما قام به المؤلف من تغييرات، ولماذا غيَّر فيها؟ وأيضًا الاهتمام بما يوافق التاريخ من الأحداث أو الشخصيات الثانوية، ولماذا وافَق الكاتب فيها التاريخ؟ ونخرج من ذلك التغيير أو الاتفاق برؤية الكاتب للشخصية أو للفترة الزمنية.

والأحداث التاريخية والشخصيات التاريخية ليست مجرد ظواهر ثابتة تنتهي بانتهاء واقعها التاريخي، بل لها دلالات عديدة باقية وقابلة للتجدد؛ فمثلًا انتصار «صلاح الدين الأيوبي» على الصليبيين في موقعة «حطين»؛ هذا الحدث التاريخي الهام قد حدث وانتهى، ولكن دلالته باقية في نفوس الناس، ومن الممكن أن تتكرر من خلال مواقف جديدة وأحداث جديدة، وهي في نفس الوقت قابلة لتحمل تأويلات وتفسيرات جديدة؛ لأن التاريخ ليس وصفًا جامدًا لفترة زمنية محددة، بل هو متجدد دائمًا حسب نظرة الكاتب المسرحي له أو المبدع عمومًا. ودلالة الشخصية التاريخية — بما تحمله من قابلية للتأويل والتفسير — هي التي يستغلُّها الكاتب المسرحي للتعبير عن واقعه وواقع عصره. وهذا ما فعله «علي أحمد باكثير» في مسرحيته «التوراة الضائعة»، عندما قام بتوظيف شخصية «صلاح الدين الأيوبي» بصورة عصرية مزج فيها الماضي بالحاضر؛ أي قام بخلق الأصالة والمعاصرة في مسرحيته، وكذلك فعل «محمود دياب» في مسرحيته «باب الفتوح» بالنسبة لنفس الشخصية.

يقول الدكتور عبد القادر القط:
والمسرحية تشتمل عادةً على حدث رئيسي تنبع منه مواقفها وشخصياتها الهامة، ويعرض المؤلف من خلاله ما يريد أن ينقل إلى المشاهدين من مشاعر وأفكار، ولكن الاكتفاء بهذا الحدث الرئيسي قد يجعل مجال الإبداع والعرض ضيِّقًا أمام المؤلف في بعض الأحيان، وقد يُشعر المشاهد بأن المسرحية تمضي في خط ضيِّق مستقيم يبعد كثيرًا عن طبيعة الحياة؛ لذلك يرى الكاتب المسرحي أنه من الخير أحيانًا أن يكون هناك إلى جانب الحدث الرئيسي حدث ثانوي أو أكثر يقرِّب المسرحية من الحياة، ويضفي على مشاهدها بعض المرونة والرحابة، كما يكون ذلك الحدث الثانوي في ذاته معبِّرًا عن دلالات خاصة، ووسيلة لرسم بعض الشخصيات الثانوية اللازمة لبناء المسرحية. وكثيرًا ما يستطيع الكاتب المسرحي أن يضمن عمله من الأحداث الفرعية ما يمكن أن يخلق مواقف وشخصيات لا تقل أصالةً وتعبيرًا عن تلك التي يخلقها الحدث الرئيسي.٣

وسنجد هذا القول يتحقق من خلال مسرحية «طارق الأندلس»، عندما خلق محمود تيمور شخصية «فلورندة»، وكذلك خلق قصة حبها لطارق بن زياد وزواجها منه. وقد فعل ذلك أيضًا أحمد شوقي في مسرحيته «أميرة الأندلس»، عندما خلق شخصية «حسون»، وكذلك قصة حبِّه وزواجِه من «بثينة» ابنة المعتمد بن عباد، وكذلك فعل عزيز أباظة في مسرحيتيه «الناصر» و«غروب الأندلس» عندما خلق شخصيات الجواري، وحب الشخصيات الرئيسية لهن.

وفي هذا الباب من البحث، سنجد للتراث التاريخي أكبر الأثر في نفوس كتَّاب المسرح المصري، والمتمثل في اختلاف التوظيف من كاتب إلى آخر، وصور التوظيف سنجدها عديدة ومتداخلة في نفس الوقت، فمثلًا سنجد محمود تيمور وظَّف التراث التاريخي من خلال شخصية طارق بن زياد للتعبير عن ذاته، وكذلك أحمد شوقي في مسرحيته «أميرة الأندلس» عندما رمز لذاته بشخصية المعتمد بن عباد، ثمَّ نجد عزيز أباظة وظَّف التراث التاريخي بصورة تعليمية كي تكون عبرة للأمة العربية، عندما أبان عن أمراض الحكم، ثمَّ سقوط الدولة من خلال مسرحيتيه «الناصر» و«غروب الأندلس»، ثمَّ يقوم بعد ذلك بتوظيف اجتماعي للتراث التاريخي من خلال مسرحيته «العباسة»؛ ليُبين عن التفرقة العنصرية في عهد هارون الرشيد، ثمَّ نجد الدكتور فوزي فهمي أحمد يوظِّف التاريخ بصورة نفسية، وذلك في مسرحيته «لعبة السلطان»، عندما فسَّر علاقة هارون الرشيد بأخته العباسة على أنها علاقة أوديبية. وأخيرًا يأتي التوظيف السياسي للتراث التاريخي؛ ذلك التوظيف الهام والمنتشر في جميع المسرحيات بصورة أو بأخرى؛ لذلك سنجد أن هناك صورًا عديدةً لهذا التوظيف؛ منها التمسك بالقومية العربية والاهتمام بتكوين جيش الشعب، وذلك في ثلاثية علي أحمد باكثير: «الدودة والثعبان» و«أحلام نابليون» و«مأساة زينب»، ثمَّ سنجد التوظيف الفكري السياسي للتراث التاريخي، وذلك من خلال مسرحية «السلطان الحائر» لتوفيق الحكيم، عندما وظَّف ثنائيته المشهورة في الصراع بين الحقيقة والواقع، ثمَّ إحياء الشخصية التاريخية، وذلك في مسرحية «التوراة الضائعة» لعلي أحمد باكثير، ومسرحية «باب الفتوح» لمحمود دياب، ثمَّ التوظيف الاجتماعي السياسي للتراث التاريخي، وذلك في مسرحية «سليمان الحلبي» لألفريد فرج. وأخيرًا توظيف التراث التاريخي للدفاع عن الحكَّام سياسيًّا، وذلك من خلال مسرحية «علي بك الكبير» لأحمد شوقي، ومسرحية «شجرة الدر» لعزيز أباظة.

وكما قلنا، سنجد أن صور التوظيف للتراث عديدة ومتداخلة، ولعل ذلك راجع إلى ثراء التراث ودلالاته العديدة، وكثرة ما يعطيه للمبدع من مادة خصبة كي يشكِّلها لتصبح صورة من صور ارتباطه بالموروث. وهذا التداخل بين صور التوظيف — كما سنجدها — يُصعِّب الفصلَ بينها ووضعَ حدودٍ فاصلة لتأثير صورة على أخرى؛ لأن هذه الصور تتبادل فيما بينها التأثير والتأثر، بحيث تقوِّي صورة معيِّنة صورة أخرى أو تُضعفها؛ ومن هنا ستظل كل محاولة لوضع حدود محددة لصورة من صور توظيف التراث محاولة غير تامة، أو هي من قبيل النظريات القابلة للتغيير من ناقد إلى آخر، ومن مبدع لآخر … وهكذا.

ومن هذا المنطلق سنجد أن مسرحية مثل «طارق الأندلس» تندرج تحت فصل توظيف التاريخ للتعبير عن الذات، رغم ما فيها من ملامح للتوظيف السياسي للتاريخ، وذلك من خلال موقف محمود تيمور من ثورة ٢٣ يوليو، وكذلك مسرحية «أميرة الأندلس» لشوقي؛ لِما فيها من موقف شوقي أمام نفيه من مصر إلى الأندلس.

ومن هذا المنطلق أيضًا سنجد مسرحيتي «الناصر» و«غروب الأندلس»، رغم اندراجهما تحت فصل التوظيف التعليمي للتاريخ، إلا أننا نجد فيهما ملامح من التوظيف السياسي، وكذلك التوظيف الاجتماعي للتاريخ، وذلك من خلال إبراز أمراض الحُكم، وكذلك علاقة الحكَّام بأبنائهم وجواريهم.

ومسرحية «العباسة» رغم أنها تندرج تحت فصل التوظيف الاجتماعي للتراث التاريخي، إلا أننا نجد فيها ملامح من التوظيف السياسي متمثِّلًا في إعطاء البرامكة صلاحيات أكبر من صلاحيات الحاكم نفسه، كما نجد ملامح من التوظيف التفسيري للتراث التاريخي متمثِّلًا في تفسير نكبة البرامكة على يد هارون الرشيد.

ومسرحية «لعبة السلطان» رغم أنها تندرج تحت فصل التوظيف النفسي للتراث التاريخي، إلا أنها تحمل ملامح من التوظيف السياسي متمثِّلًا في بثِّ أفكار المعتزلة في مسألة الحكم وصلاح الحاكم.

ومسرحيات فصل «التوظيف السياسي للتراث التاريخي»، نجد بعضها يحمل ملامح عديدة للتوظيف بجانب التوظيف السياسي؛ فمسرحية «السلطان الحائر» تحمل التوظيف الاجتماعي متمثِّلًا في إبراز العلاقة الاجتماعية بين الحاكم والمحكوم، ومسرحية «التوراة الضائعة» تحمل الدعوة للتمسك بالأماكن المقدسة في فلسطين، ومسرحية «باب الفتوح» تحمل الدعوة للنظر إلى التاريخ بصورة تفسيرية عصرية، ومسرحية «سليمان الحلبي» تحمل الدعوة إلى البحث عن العدل الاجتماعي بين الشعوب. وهكذا نجد أن صور التوظيف متداخلة ومتشعبة، ومحاولتنا للفصل بينها ووضعِ صورٍ معينة كعناوين للفصول هي من قبيل إبراز أقوى صورة من صور هذا التوظيف.

١  د. حسين مؤنس، «التاريخ والمؤرخون»، دار المعارف، ١٩٨٤، ص١٦٨.
٢  د. عبد القادر القط، «من فنون الأدب: المسرحية»، دار النهضة العربية، بيروت، ١٩٧٨، ص١٧.
٣  السابق، ص١٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤