الفصل الثاني

التوظيف السياسي للتراث الشعبي

يقول الدكتور أحمد علي مرسي:

أمَّا الأغنية الشعبية، فهي إنتاج المجتمع كله من خلال أفراده المبدعين الذين يعبِّرون عنه، وهي تعكس شعور الجماعة وذوقها أكثر مما تعكس شعور مُغنِّيها وذوقه، وهي تتسم بأنها غير مكتملة الخلق مطلقًا؛ ففي كل لحظة من تاريخها يمكن أن يُعاد خلقها من جديد، وأن تُضاف إليها أشياء، وأن تُحذف منها أشياء، كما أنها لا توجد في شكل واحد فقط، ولكن في عدة أشكال … فالكلمة سواء كانت مدوَّنة أو غير مدوَّنة ما هي إلا انعكاسات الفكر. ومن هنا تصبح القضية هي ما تعبِّر عنه الكلمة، لا كيف تبدو الكلمة … وتتميز الأغنية … بأن عدد الشخصيات فيها محدود للغاية، ولا يظهر في المشهد الواحد أكثر من شخصيتين عادة، كما تتميز بأنها اقتصادية من ناحية التعبير … [كما أنها لا تهتم] بوصف المكان أو الزمان أو الشخصيات.

… إن الأغاني الشعبية تقوم بوظائف ضرورية … فهي تعبِّر عن وجدان الجماعة الشعبية، وتُعلي من شأن مثلها العليا، وتدعو إلى احترامها، وتصون القيم الخلقية التي تريد الجماعة أن تؤكِّدها في نفوس أفرادها، وتدفع إلى الالتزام بها … [و] قد يحدث أن يتضجر الإنسان من حياته، أو يرتاب في أن الأمور تسير وفقًا لما يجب أن تكون عليه، أو يشكُّ في علاقة من العلاقات التي جُبِل على احترامها، وهنا ستجد أغنية أو موَّالًا يقوم باستحداث التوازن الذي فُقِد، أو على وشك أن يُفقد، وتعيد تثبيت القيمة الأساسية، وتستنكر الشذوذ أو الخروج على النموذج أو المثال.١

ومن منطلق الأغنية الشعبية كتب نجيب سرور معظم أعماله المسرحية، ولا سيَّما ثلاثيته: «ياسين وبهية» عام ١٩٦٤، و«آه يا ليل يا قمر» عام ١٩٦٦، و«قولوا لعين الشمس» عام ١٩٧٢. وقد أخذ في «ياسين وبهية» الجوهر العام للموال، ثمَّ تخلَّى عن الإطار المكاني الذي نشأ فيه الموال؛ وهو الصعيد، واستبدل به الإطار الآخر؛ وهو الريف، وعلى وجه التحديد قرية «بهوت»، وهي إحدى قرى مصر؛ حيث دارت فيها أعنف المعارك قبل ثورة ١٩٥٢، وأصبحت هذه القرية رمزًا للصراع ضدَّ الطبقية في مصر. بذلك استطاع «نجيب سرور» أن يحقق التلاؤم بين الأصل الشعبي للأغنية وبين قضايا العصر، فنجد المسرحية تتعرض إلى قضايا الفلاحين، والصراع على الأرض، ومحاربة المستعمر الذي يريد استغلال الأيدي العاملة في المصانع. ومن هنا يعود إلى الأغنية الشعبية من خلال المشكلة الاقتصادية التي اجتاحت البلاد، والتي من مساوئها أن عجز «ياسين» عن الزواج من «بهية».

والأصل الشعبي لحكاية «ياسين وبهية» — أو أغنية «يا بهية وخبريني» — يقول:
يا بهية وخبريني يا بوي
ع اللي جتل ياسين آه يا عيني
ع اللي جتل ياسين آه يا عيني
جتلوه السودانية يا بوي
من فوج ضهر الهجين آه يا عيني
من فوج ضهر الهجين آه يا عيني
وياسين سايح في دمه يا بوي
وخايف منه الحكيم آه يا عيني
وخايف منه الحكيم آه يا عيني
يا بربري البوابة يا بوي
جول لي الست السرايه مين آه يا بوي
جول لي الست السرايه مين آه يا بوي
ست السرايه بهية يا بوي
واللي حاكمها مين آه يا عيني
واللي حاكمها مين آه يا عيني
… … … …
… … … …
وجالوا لي ع النجليز يا بوي
رصُّونا أربعة أربعة آه يا عيني
وجالوا لنا ع الجنال يا بوي
والضابط إنجليزي يا عيني
… … … …
… … … …
وطارت طيارة تركية يا بوي
ضربت في الجنطرة آه يا عيني
طاروا منها الجمالة يا بوي
ضربت في الرديف آه يا عيني
وعد ومكتوب عليَّ يا بوي
ومسطَّر ع الجبين آه يا عيني
… … … …
… … … …٢

ويقوم نجيب سرور بتقديم بطلي المسرحية، فيقول عن ياسين:

كان ياسين أجيرًا من بهوت
جدعًا، كان جدعْ
شاربًا من بز أمه
من عروق الأرض، من أرض
بهوت، كان مثل الخبز أسمر،
فارع العود كالنخلة،
وعريض المنكبين كالجَمَل،
وله جبهة مُهْر لم يُروَّض،
وله شارب سبعْ
يقف الصقر عليه.٣

أمَّا بهية:

فلها عينا غزال،
ولها جيد غزال،
ولها عود كما البان،
ووجه كالقمر
ليلة الرابع عشر.٤

وهي:

حمامة بيضه داخله ع البنيه،
عروسه حلوه والعيون عسليه.٥

وبعد هذا التقديم، يصوِّر نجيب سرور علاقة الحب التي تربط بين البطلين من خلال المشكلة الاقتصادية التي تمنع الزواج، وهي الحاجة إلى النقود؛ فالزواج كي يتم يحتاج إلى نقود، والنقود في بهوت نادرة الوجود، وليس أمام ياسين وبهية سوى انتظار الفرج:

بهية :
إمتى نفرح يابن عمي؟
ياسين :
لما تُفرج يا بهية.
بهية :
إمتى تُفرج يابن عمي؟
ياسين :
لما يفرجها الكريم.٦

ومن قلة المال في بهوت وسوء الأحوال الاقتصادية يدخل نجيب سرور إلى قضية الريف المصري قبل الثورة، فالإقطاع متمثِّلًا في الباشا يسلب كل شيء من أهل القرية، يسلب الأرض والمحصول، حتى العرض. وعندما يريد بهية تخدم في قصره يرفض ياسين، ومع هذا الرفض تأتي الشرارة الأولى لثورة الفلاحين على الإقطاع.

وبالفعل تدخل القرية في صراع مرير مع الباشا ورجاله، فقد أتى موسم الحصاد، وجاءت معه رغبة الباشا في الاستيلاء على المحصول، وأيضًا رغبته في سلب شرف بهية، ولكن الفلاحين تعلو أصواتهم بكلمة «لا»، ويُطلق رجال الباشا الرصاص عليهم، وتشتعل المعركة، فيقوم الفلاحون بحرق قصر الباشا، وتتدخل السلطة فيسقط الشهداء، ومنهم ياسين الذي أصبح رمزًا على النضال الوطني. وينتهي بذلك الجزء الأول.

وإذا كانت الأغنية الشعبية تسأل دائمًا عمَّن قتل ياسينًا، نجد نجيب سرور يفسِّر هذا القتل بصورة تلائم قضايا العصر، فنجد أن الباشا الإقطاعي بمساعدة أعوانه قد قتلوا ياسينًا؛ لأنه قاد أهل القرية لإحراق قصر الباشا، بعد أن حاول الباشا استدراج بهية ليعتدي على شرفها، فكانت هذه الحادثة السبب المباشر لقيام الفلاحين بثورتهم ضدَّ الإقطاع. بذلك تصبح الأغنية الشعبية هي «الأغنية المردَّدة التي تستوعبها حافظة جماعة، تتناقل آدابها شفاهًا، وتصدر في تحقيق وجودها عن وجدان شعبي، وهي تتعدد بتعدد مناسباتها، ويختلف شكلها باختلاف الإطار الذي تعيش بين جنباته.»٧

أمَّا عن توظيف التعابير الشعبية في هذا الجزء؛ فهي عديدة، ومنها: «الحلم» الذي استخدمه الكاتب بصورته الشعبية؛ أي جعله يقوم بدور النبوءة:

بهية :
أمَّا يا مه شفت حلم غريب
يخوف.
الأم :
خير يا بنتي.
بهية :
شفتني قال راكبه مركب،
ماشية يا مه في بحر واسع
زي غيط غله … وموجه،
هادي … هادي،
بحر مش شايفاله بر،
قال وإيه عماله أقدف،
والمراكبي
ابن عمي
ماسك الدفه ومتعصب بشال،
شاله أحمر يا مه خالص،
لونه من لون الطماطم.
جت حمامه بيضا بيضا،
زي كبشة قطن … فوق راسه وحطَّت،
ويا دوب البر لاح
إلا والريح جايه قولي
زي غول مسعور بينفخ،
تقلب المركب
والاقي
نفسي بين الموج باصرخ:
يا ابن عمي
يا ابن عمي.
قال وهوه
ماشي فوق الموج بيضحك،
راح بعيد خالص … وفوق راسه الحمامه
برضه واقفه.٨

وبالنظر إلى مفردات الحلم، نجد أن البحر الواسع وعدم وجود برٍّ له دلالة على المتاهة وعدم وضوح الطريق المرسوم لياسين وبهية، وكذلك الشال الأحمر يدل على الدماء والموت، أو الاستشهاد لياسين، والحمامة البيضاء دلالة على صعود الروح، والرياح العاتية دلالة على الثورة، وانقلاب القارب دلالة على انقلاب الحال، وصياح بهية وسط الأمواج دلالة على حزنها في المستقبل على فقد ياسين.

لذلك نجد أن «الحلم يلعب دورًا هامًّا في الموروث الشعبي العربي؛ إذ يتقدم دائمًا ليُنبِّه إلى الأحداث ويُؤشِّر إلى مظانِّ الخطر أو مظانِّ الانتصار … وهو بهذا يقدِّم دراميًّا للأحداث، ويتيح الفرصة للتفسير والتعليل لكثير من السلوكيات الغامضة التي وردت في الحكايات الشعبية … وأيًّا ما كان الأمر، فإن الباطن والموروث الذي تجسِّده الكلمة هو العنصر الرئيسي والفعَّال في دلالات الأحلام الواردة في الأعمال العربية الشعبية بالذات، وهو أيضًا عنصر فعَّال في تحريك العمل الدرامي وخلق تراكماته الفنية.»٩

ومن التعابير الشعبية أيضًا في هذا الجزء «الموال»، وقد استخدمه الكاتب ليُبرز من خلاله العيوب الاجتماعية، مثل التفاوت الطبقي بين الفلاحين وبين الإقطاعيين:

فيه ناس بتشرب عسل وناس بتشرب خل
وناس تنام ع الحرير وناس تنام على التل
وناس بتلبس حرير وناس بتلبس فِل
وناس بتحكم على الحر الأصيل ينذل١٠

وعندما أراد الكاتب أن يبيِّن عن تحكم الإقطاعيين في القانون واستخدامه ضدَّ الفلاحين في سبيل مصالحهم الشخصية قال:

قاضي القضاة اشتكى البرسيم لحاموله
واللي معاه مال كل الناس يحاموله
واللي بلا مال أهي مالت عليه الأحكام
أجيب منين ناس للغلبان يحاموله١١

ومن التعابير الشعبية أيضًا «الأغنية»، وقد استخدمها نجيب سرور للتعبير عن المواقف المختلفة، مثل صعوبة إتمام الزواج لمعظم فتيات قرية بهوت بسبب قلة المال، وتحكم الباشا في الحالة الاقتصادية للقرية:

يا بنات يا بنات مالكم مالكم
عاوجين الشعر على ودانكم
دا مافيش جواز طولوا بالكم
يا بنات يا بنات كلوا بعضيكم
دا مافيش جواز السنة ليكم
لما المأمور يأمر ليكم١٢

هذا بخلاف الأغاني التي تصف جمال بهية، وكذلك أحلام ياسين بالزفاف. ومن الملاحظ أن هذه الأغاني عمَّقت المعاني الشعبية ذات الجذور العميقة عند القارئ.

وآخر التعابير الشعبية الموظَّفة في هذا الجزء «المثل الشعبي» الذي يقول عنه الدكتور أحمد علي مرسي:
إن المثل عبارة قصيرة تلخِّص حدثًا ماضيًا أو تجربةً منتهيةً، أو أنه نوع من أنواع المأثورات الشعبية تأخذ شكل الحكمة التي تُبنى على تجربة أو خبرة مشتركة … ويتصف المثل بأنه — رغم قصره — ذو مضمون واضح يتَّسم بثراء المعنى، وسهولة إدراكه؛ ذلك أنه إنما يعدُّ تكثيفًا للتجربة الإنسانية وحصيلة لها؛ ومن ثمَّ فإن التركيز سمة أساسية فيه، فهو لا يصف التجربة أو يسرد تفاصيلها، ولكنه يحمل رأيًا فيها. ومن خلال هذا الرأي يمكن إدراك أبعاد التجربة وموقف الإنسان منها.١٣
ومن هذا المنطلق وجدنا الكاتب عندما أراد التحدث عن ضرورة الصبر والتمسك به من قبل أهل القرية يقول: «كل زرع وله أوانه.»١٤ وعن كثرة الظلم في القرية يقول: «ياما فيك يا حبس ياما مظاليم.»١٥ وعن إيمان الإنسان بالعدل الإلهي يقول: «لينا رب ولك يا ظالم يوم معاه.»١٦ وعن الفقر الشديد في قرية بهوت يقول: «إن يكن في حاجة للزيت بيت، فحرام ذلك الزيت على قنديل جامع.»١٧ وعن طول الصبر ونفاده من نفوس أهل القرية يقول: «فلكم مات من الجوع حمار قبل أن يأتي العليق.»١٨

ومن الملاحظ أن هذه الأمثال رغم كونها معروفة إلا أننا نشعر بأنها نابعة من قرية بهوت؛ لأنها متأثِّرة بظروف الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فيها. بذلك أصبحت الأمثال تعبيرًا عن واقع القرية وأهلها. ومن الجدير بالذكر أن هذه الأمثال تصطنع الصبر والاستكانة والسلبية واليأس في بعض الحالات. وهذا الشعور هو شعور أي أمة أو قرية تعيش في عهد الاستعمار والإقطاع وما يصاحبه من ظُلْم وقهر.

لقد أراد نجيب سرور أن يسجِّل التاريخ السياسي والاجتماعي في ثلاثيته، فإذا كان قد بدأ بتصوير صراع الفلاح ضدَّ الإقطاع في الجزء الأول «ياسين وبهية»، نجده في الجزء الثاني «آه يا ليل يا قمر» يصوِّر صراع العمال ضدَّ الرأسمالية والاحتلال الإنجليزي في مصر.

ويبدأ الجزء الثاني بعد مرور عدة أعوام على استشهاد ياسين في الجزء الأول، وقد قامت علاقة تعاطف بين بهية وبين «أمين» العطشجي في وابور الطحين، الذي كان صديقًا لياسين في معركته ضدَّ الباشا، وبمرور الوقت يتقدَّم أمين لخطبة بهية، لكن والدها يرفض بسبب وعده لياسين. وهنا تقول له الأم:

يا بو البنت البالغ بعها
قبل ما شرف البنت يضيع
واستر عرضك قبل ما تعمل
زي المهرة لما تشيع
بنتك حره
بس الحره بتقلب مهره
لما تشوف الجدعان بره١٩

وبالفعل يوافق الأب ويتم الزواج، ويأخذ أمين بهية إلى بورسعيد ليعمل في كامب الإنجليز. وبمرور الوقت يُدمن أمينٌ الخمر ويعيش في اللاوعي، بعدما اكتشف أنه لم يترك بهوت، فالإقطاع في بهوت هو نفسه الرأسمالية في بورسعيد، وكما كان الباشا يتحكم في القرية وأهلها، وجد أن الإنجليز يحكمون مصر وشعبها من خلال المأجورين من الرأسمالية في بورسعيد، فيقول لبهية:

صدقيني يا بهية
إحنا ماسبناش بهوت،
إحنا فيها
لسه فيها يا بهية،
وإحنا حتى في بورسعيد.٢٠

وأمام هذا الواقع المرير، يترك أمين الكامب الإنجليزي ويعمل في أحد المصانع، بعد أن انضمَّ إلى صفوف المقاومة الشعبية، ولكن الظلم قد تفشَّى في كل مكان ووصل إلى المصنع، وهنا لا يجد أمين أي مفر من مواجهته. وبالفعل يتمرَّد، ويتمرَّد معه عمَّال المصنع، وتأتي الحكومة وتقتل بعض العمال ومنهم أمين، وإذا كان استشهاد ياسين في الجزء الأول رمزًا على ضحايا الإقطاع في بهوت؛ فأمين أيضًا ضحية الرأسمالية في بورسعيد.

ومن التعابير الشعبية في هذا الجزء «الحلم» أيضًا، فبعد موت أمين يأتي لبهية في المنام شيخ ليقودها في عالم الخيال؛ حيث ترى ياسينًا وأمينًا ورجلًا ثالثًا لا تعرفه:

بهية :
بينادولي،
التلاتة بينادولي
وف إيديهم حاجة بيضا.
الشيخ :
زي إيه؟
بهية :
زي إيه … زي الطبق.
الشيخ :
قربي.
بهية :
دا اللي في إيديهم قمر
مش طبق.
الشيخ :
قربي.
بهية :
الله … الله …
دا التلاتة بيضحكولي!
الشيخ :
اضحكي لهم.
بهية :
يا ندامة!
دانا لسه دافنه جوزي
وسايب لي واد وبنت!
الشيخ :
اضحكي.

(بهية تضحك ضحكة مغتصبة باكية.)

قربي.
بهية :
التلاتة قربوا،
قربوا ومادين إيديهم بالقمر.
الشيخ :
مدي إيدك.٢١

ورموز الحلم واضحة حسب معناها الشعبي، فالشيخ يمثل الحكمة، والقمر يمثل الأمل في المستقبل، ولكن الحلم بعد ذلك يأتي برموز أكثر شعبية تدل على فقدان هذا الأمل في المستقبل، فنجد الوردة الحمراء التي يمسك بها ياسين وأمين تدل على الموت الدموي على أيدي الإقطاعيين والرأسماليين، ومن الممكن أن تدلَّ على ثورتهما ضدَّ الإقطاع والرأسمالية. أمَّا ملابس الرجال الثلاثة، فنجد صاحب الرداء الأخضر هو ياسين الفلاح، وصاحب الرداء الأزرق هو أمين العامل، وصاحب الرداء الأبيض هو عطية — بطل الجزء الثالث — الجندي. أمَّا البحر والنار والشوك، فهي رموز على الصعاب التي تواجهها مصر — أو بهية — للوصول إلى القمر أو الأمل.

ومن التعابير الشعبية في هذا الجزء أيضًا «العديد الشعبي» — البكائيات — فحينما يموت والد بهية تنعيه بقولها:

وإن لبسوني الخلخال أبو ميه
اللي ببوها تعيش قويه
وإن لبسوني الجوخ ما أريده
أريد أبويا وسكتي في إيده
يا للي ببوكي ما تقعديش جنبي
لتقولي أبويا تقطعي قلبي٢٢

وعندما يموت أمين ورفاقه في المصنع تتمزَّق الأهالي في بكاءٍ شديدٍ، فتقول امرأة:

دارنا وسيعه وبابها كويس
يا ميت ندامه صبحت بلا ريس
يا دارنا لانطر عليكِ شاشي
يا للي ضلامك بيخوف الماشي٢٣

وتقول أخرى:

تبكي عليه الناس
وتنادمه الخيه تقول ع الراس
كبدي عليك يا شاب يا متعاز
وحياة شبابك شاربه عليك الكاس٢٤

والعديد في هذا الجزء وظَّفه الكاتب ليصوِّر حالة فقدان الشعب لرجاله؛ لأن فقدانَ الرجلِ شيءٌ مُهمٌّ في الوجدان الشعبي وفي البيئة العربية. ومن الملاحظ أن أقسى نوع هو فقدان الأب؛ صاحب الدار ومؤسس الأسرة. ودلالة هذا الفقدان تظهر بوضوح في نفسية الابنة عن الابن كما رأينا عند بهية. والعديد هنا قصده الكاتب لإبراز روح الحزن والمأساة في المسرحية.

والعديد «حلقة كبيرة … من حلقات الأغاني الشعبية، وبلغ من عمق تأثيره في القرية أن المرأة الريفية تُردد هذا العديد إذا خلت إلى نفسها … فالبكائيات ليست مجرد استجابة لمناسبة وفاة، ولكنها تعمل على تفريغ شحنات الشعور بالكبت أو الحزن، كما تُسجِّل في الوقت نفسه النماذج والقيم والمثل التي يريد المجتمع الريفي تصعيد الأفراد إليها».٢٥

ومن التعابير الشعبية أيضًا «المثل»، فنجد الكورس يصف أهل الموتى وهم في حالة إعياء شديد ساهرون أمام المصنع، بقوله:

بس ما ينامك يا ليل
إلا من كان قلبه خالي.٢٦

وعن وصف حال الذل والانكسار للفلاحين أمام السلطة الرأسمالية، نجد فلاحًا يقول:

لو قالوا لك فيه طوفان،
حط ولدك
تحت رجليك غرقه
وانفد أنت.٢٧

ويبدأ الجزء الثالث من الثلاثية — مسرحية «قولوا لعين الشمس» — بترك بهية بورسعيد لتهاجر إلى السويس، ولتربي ولديها «أمينة وياسين» من أمين، وبمرور الوقت يعرض عليها «عطية» — عامل البناء المشارك في بناء السد العالي — الزواج، ولكنها ترفض. وإذا كان نجيب سرور قد اكتفى ببطل واحد في الجزء الأول؛ وهو ياسين، وكذلك في الجزء الثاني؛ وهو أمين، فإنه يأتي بثلاثة أبطال في الجزء الأخير: أولهما «عطية» الجندي قبل الثورة، وكان في بورسعيد أثناء استشهاد أمين، ثمَّ سافر إلى أسوان للمساعدة في بناء السد العالي حتى أصيب بسبب التفجيرات في الجبل. وبعد الإصابة، تحول إلى الأعمال الكتابية، واكتشف من خلال عمله الكتابي سرقات عديدة تكفي لبناء سد آخر. وهنا طارده أصحاب السرقات، واعتبروه هو اللص، وثانيهما «ياسين» ابن بهية من أمين، الذي تعلَّم ودخل الجندية ليكتشف الفساد فيها. وهنا يتمرَّد كما تمرَّد من قبله «ياسين» في الجزء الأول، ووالده أمين في الجزء الثاني، وثالثهما «حمدي» الفنان الأصيل الحاصل على أعلى الشهادات، ولكنه لا يجد فرصته الحقيقية في الحياة؛ لأنه رفض الابتذال، ورفض أن يعمل جاسوسًا على زملائه الفنانين؛ لذلك يدمن الخمر كما أدمنها قبله أمين — في الجزء الثاني — فيقتل نفسه بالرصاص يوم النكسة، التي جاءت كنتيجة طبيعية لفساد الحياة في مصر، وبذلك تنتهي المسرحية.

ومن التعابير الشعبية في هذا الجزء: «الحلم»، فنجد الكاتب يوظِّف الحلم باعتباره وسيلة شعبية للكشف عن المستقبل. وكان الحلم هو عبارة عن زيارة يقوم بها «ياسين» بطل الجزء الأول، و«أمين» بطل الجزء الثاني لبهية. وتمثَّل هذا الحلم في التحذير من الخامس من يونيو؛ أي التحذير من نكسة يونيو عام ١٩٦٧. «وتعدُّ الأحلام من المحاور الرئيسية في الملاحم والسير والحكايات الشعبية، فإن الحلم يُعبر عن المستقبل المنشود عند تأزُّم الأحداث أمام البطل، وقد تفصح له عن الطريق الذي يسلكه.»٢٨

أمَّا الأمثال — في هذا الجزء — فكانت تتنوع بتنوع المواقف، فعندما يتقدم عطية لخطبة بهية تقول لها أمها:

يا بهية العقل زينه،
والتفاهم برضو بالهداوه،
وأنا رأيي ضل راجل
ولا ضل حيطه.٢٩

ويقول لها عطية:

يا بهية الحي أبقى م اللي مات.٣٠

ويقول له الكورس بعد أن رفضته بهية:

معلهش يا عطيه
كل شيء قسمة ونصيب.٣١

وعن التعبير عن الأزمات تأتي هذه الأمثال:

واللي مكتوب ع الجبين
العينين لازم تشوفه.٣٢

و:

يا عروسه تيجي تفرح،
ما تلاقيش يا حلوه مطرح.٣٣

و:

وعد ومنقوش ع الجبين.٣٤

ومن الملاحظ أن نجيب سرور عن طريق التعابير الشعبية قد وظَّف بعض المفاهيم الشعبية بصورة فنية مقبولة؛ فمثلًا فكرة «القدر» — أو المقدر والمكتوب — فكرة غيبية وخفية، لا يستطيع الإنسان أن يفعل أي شيء أمامها. أمَّا «القدر» في الثلاثية فيتمثَّل في الشر، سواء عند الباشا، رمز الإقطاع في بهوت، أو عند الرأسمالية في بورسعيد، أو عند الفساد المتفشِّي في مصر في الجزء الثالث. وهذا القدر أو الشر من الممكن تغييره عن طريق الثورة على مظاهر الفساد؛ أي إن القدر هنا من الممكن أن يقف أمامه الإنسان ويغيِّره.

وفكرة «الموت» في الثلاثية جاءت بصورة تختلف عن المفهوم الشعبي لها؛ فالموت فيها جاء ليعبِّر عن موت الأفكار لا الأجساد، فنجد موت ياسين — في الجزء الأول — يعبِّر عن موت فكرة الثورة على الإقطاع أكثر من التعبير عن موت جسد ياسين، وكذلك موت أمين — في الجزء الثاني — يعبِّر عن موت فكرة الثورة ضدَّ الرأسمالية أكثر من التعبير عن موت جسد أمين. وأخيرًا نجد أن موت حمدي يعبِّر عن موت فكرة الثورة ضدَّ الفساد في مصر أكثر من التعبير عن موت جسد حمدي.

وفكرة «التناسخ» من الأفكار الشعبية الموظَّفة في الثلاثية أيضًا، فالروح بعد موت صاحبها تظل باقية تحوم وتحيط بأحبابها، وببعض الأماكن المألوفة لديها. ومن الممكن عودة الروح في شكل من أشكال الحيوان أو النبات، ولكن نجيب سرور وظَّف فكرة التناسخ بصورة مختلفة بعض الشيء، فإذا كان الموت عنده هو موت للأفكار لا للأجساد؛ فالتناسخ أيضًا هو عودة الأفكار لأجساد أخرى؛ لذلك نجد أن أمينًا في الجزء الثاني هو تناسخ لأفكار ياسين في الجزء الأول، وكذلك حمدي في الجزء الثالث هو تناسخ لأمين. ومن هنا وجدنا بهية مؤمنة بهذا التناسخ، ومؤمنة أيضًا بعودة ياسين بعد موته في أي شكل من الأشكال؛ لذلك تنتظره كل يوم تحت النخلتين.

هي لا تدري أننا حين نموت
لا نعود،
لم يعد من الموت أحد لبهوت،
رغم هذا فالبذور
ليس تُفنى … حين تُدفن،
ربما الإنسان … ليس يفنى
حين يُدفن؛
ولهذا قد يعود
هو ياسين لها
ذات يوم في فراشه
أو حمامه
أو يمامه
هكذا الناس جميعًا يؤمنون
في بهوت بالتناسخ؛
ولهذا تنتظر
تحت ظل النخلتين
كل ظهر.٣٥

وهكذا تمكَّن الكاتب نجيب سرور من الاستفادة من المأثورات والتعابير الشعبية ليوظِّفها في ثلاثيته؛ كي يخلق الجو السياسي والاجتماعي والثقافي الذي تدور في جنباته أحداث مصر من خلال الثلاثية. بذلك استطاع الكاتب أن يحمل ثلاثيته أفكاره العصرية وآراءه السياسية، من خلال إبراز قضايا الشعب وهمومه من وجه نظر الشعب نفسه، عن طريق التعابير الشعبية التي تمثِّل وجدانه الشعبي؛ فهذه الثلاثية تبدأ بوصف عهد الظلم والاضطهاد أيام الإقطاع، وذلك في الجزء الأول «ياسين وبهية». أمَّا الجزء الثاني فقد عبَّر من خلاله نجيب سرور عن العصر الذي حاولت فيه مصر أن تنهض وتقاوم الاحتلال، من خلال شخصية «أمين» الذي يعتبر امتدادًا لياسين في الجزء الأول. ويختتم المؤلف ثلاثيته ليعبِّر عن قدرة مصر لتعرف طريقها إلى الثورة، من خلال شخصيات: «عطية» الجندي، و«ياسين» بن أمين، و«حمدي» الفنان، وهكذا يمتد زمن الثلاثية كي يعبِّر عن أهم الأحداث التي مرَّت بها مصر.

١  د. أحمد علي مرسي، «الأغنية الشعبية»، دار المعارف، ١٩٨٣، ص٣٦، ٦٤، ١٠٢، ١٠٥.
٢  بهيجة صدقي رشيد، «أغانٍ مصرية شعبية»، مكتبة الأنجلو المصرية، ط٢، ١٩٨٢، ص٦٠-٦١.
وتقول بهيجة صدقي رشيد: «شاعت هذه الأغنية — كما تدلُّ كلماتها — أثناء الحرب العالمية سنة ١٩١٤ إلى ١٩١٨، وكانت السلطة العسكرية البريطانية قد جندت آلافًا من العمال المصريين، لا سيَّما الصعايدة، لما اشتهروا به من قوة السواعد والصبر واحتمال العمل تحت أشقِّ الظروف. ولقد قاموا بحفر الخنادق، ومد سكة حديدية عبر الصحراء إلى فلسطين، وغيرها من الأعمال الشاقة؛ لذا تعرَّضوا لقذف القنابل، ومدفعية الألمان والأتراك الذين كانوا متحالفين ضدَّ الإنجليز وحلفائهم. والأغنية تعبِّر أبلغ تعبير عن شعور هؤلاء الرجال في غربتهم عن الوطن.» السابق، هامش ص٦١.
٣  نجيب سرور، مسرحية «ياسين وبهية»، سلسلة مسرحيات عربية، إصدار مجلة «المسرح»، عدد ٥، يوليو ١٩٦٥، ص١١.
٤  المسرحية، ص١٣.
٥  المسرحية، ص١٤.
٦  المسرحية، ص١٥.
٧  د. أحمد علي مرسي، «الأدب الشعبي وفنونه»، وزارة الثقافة، مكتبة الشاب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٨٤، ص١٤٤.
٨  المسرحية، ص٢٥-٢٦.
٩  فاروق خورشيد، «الأحلام في الموروث الشعبي»، مجلة «الفنون الشعبية»، عدد ٢٧-٢٨، أبريل–سبتمبر ١٩٨٩، ص٤٧، ٥٢.
١٠  المسرحية، ص١٨.
١١  المسرحية، ص٩٠-٩١.
١٢  المسرحية، ص١٧.
١٣  د. أحمد علي مرسي، السابق، ص٢٣، ٢٥.
١٤  المسرحية، ص٥٨.
١٥  المسرحية، ص٦٠.
١٦  المسرحية، ص٦١.
١٧  المسرحية، ص٦٥.
١٨  المسرحية، ص٧٢.
١٩  نجيب سرور، مسرحية «آه يا ليل يا قمر»، سلسلة مسرحيات عربية، عدد ٦، د.ت، ص٩٣.
٢٠  المسرحية، ص١٢٩.
٢١  المسرحية، ص٢٠٩-٢١٠.
٢٢  المسرحية، ص١٤٧.
٢٣  المسرحية، ص١٧٦.
٢٤  المسرحية، ص١٧٦.
٢٥  د. عبد الحميد يونس، «معجم الفولكلور»، مكتبة لبنان، بيروت، ط١، ١٩٨٣، ص٤٠.
٢٦  المسرحية، ص١١٢.
٢٧  المسرحية، ص١١٢.
٢٨  د. عبد الحميد يونس، السابق، ص٣٠.
٢٩  نجيب سرور، مسرحية «قولوا لعين الشمس»، مكتبة مدبولي، القاهرة، د.ت، ص٢٠.
٣٠  نجيب سرور، مسرحية «قولوا لعين الشمس»، مكتبة مدبولي، القاهرة، د.ت، ص٤٢.
٣١  نجيب سرور، مسرحية «قولوا لعين الشمس»، مكتبة مدبولي، القاهرة، د.ت، ص٤٨.
٣٢  نجيب سرور، مسرحية «قولوا لعين الشمس»، مكتبة مدبولي، القاهرة، د.ت، ص١١٠.
٣٣  نجيب سرور، مسرحية «قولوا لعين الشمس»، مكتبة مدبولي، القاهرة، د.ت، ص١٥٤.
٣٤  نجيب سرور، مسرحية «قولوا لعين الشمس»، مكتبة مدبولي، القاهرة، د.ت، ص١٥٥.
٣٥  مسرحية «آه يا ليل يا قمر»، ص٤٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤