ذكرى دمشق

بمناسبة استشهاد المجاهد أحمد مريود
هادئُ القلبِ مُطبَقُ الأجفانِ
مُطلَقُ الروحِ راقدُ الجثمانِ
مَلَكٌ عند رأسه باسمُ الثَّغْـ
ـرِ جناحاه فوقه يخفقان
غادةٌ تملأ الكؤوسَ وخَوْدٌ
تنضح الجرحَ من رحيق الجِنان
وحواليه طاف أسرابُ حُورٍ
بغصون النخيلِ والريحان
وتهاوى الطيورُ عن شجر الخُلْـ
ـدِ تَغنَّى بأعذب الألحان
من كبيرٍ يزهو بأبهى رياشٍ
وصغيرٍ مُصوَّرٍ من حنان
وأفاق الشهيدُ مُنشرِحَ الصَّدْ
رِ شكورًا لأنعُمِ الرحمان
واستوى جالسًا على رَفْرفٍ خُضْـ
ـرٍ غوالٍ وعبقريٍّ حِسان
وسقتْه ملائكُ اللهِ خمرًا
جعلتْه حيًّا مدى الأزمان

•••

وتجلّتْ أنوارُ مَنْ مَلَكَ المُلْـ
ـكَ، فخَرَّ الحضورُ للأذقان
ثم حيَّا ذاك الشهيدَ ونادى
أيّهذا الشهيدُ لستَ بفان
رضي اللهُ عن جهادكَ فاخلدْ
وتَبوّأْ في الخُلْد أعلى مكان
وخلودُ النعيمِ عندي جزاءٌ
للذي مات في هوى الأوطان

•••

ما مصيرُ الشهيدِ يا ربِّ إلا
غبطةٌ عند راسخِ الإيمان
غيرَ أن الشباب إنْ كان غَضًّا
والتوى الغصنُ منه في الريعان
وتراءتْ أزهارُه ذابلاتٍ
عبثتْ للرياح فيها يدان
تُعْذَر العينُ في البكاءِ عليهِ
دمعَ سلوى لكنْ بلا سُلْوان

•••

رَبِّ عفوًا إنْ راعنا فَقْدُ نَدْبٍ
ضاحكِ الوجهِ في قُطوب الزمان
صارمٌ كان مُغمَدًا صقلتْهُ
يدُ حُرّيةٍ أَنوفٍ حَصَان
شهرتْهُ حتى أذابتْه مَسْحًا
في رقاب الأعداءِ يومَ الطعان
يا دموعي وهبتُكِ القلبَ إن لم
تَقنعي بالقريح من أجفاني
فَهْو قلبي أليفُ هَمّي وحزني
وحليفُ الزفيرِ والخفقان

•••

يا ربوعَ «الفيحاءِ» أنتِ عروسٌ
أَيّمتْها طوارقُ الحَدَثان
الأكاليلُ لم تزل غضّةَ الزَّهْـ
ـرِ ولم تنقطع أغاني الغواني
والمغاني مأهولةٌ والروابي
بادياتٌ نواضرًا للعيان
والندامى بين الكؤوسِ قيامٌ
رَنّحتْهم مُدامةُ الغُدران
والعذارى سوافرٌ لاهياتٌ
بالأراجيح وَهْي في الأغصان
يا عروسَ الدنيا وما حال قلب
فجعتْه أحزانُه بالأماني
الخطوبُ اللائي نزلنَ جِسامٌ
قد أحلنَ الهَنا إلى أحزان
والأسى في الضلوع أشبهُ شيءٍ
بكِ لما قُذِفتِ بالنيران
منكِ دمعٌ ومن مُحبّكَ دمعٌ
بردى والمحبُّ مُتّفقان
رحل العامُ عنكِ جَهْمَ المحيّا
مُكفهِرًّا فكيف حالُ الثاني؟

•••

لا ترعْكِ الخطوبُ يا ابنةَ مَرْوا
نَ ولُوذي بالله والفتيان
الشبابُ النضير والأملُ الثّا
بتُ خِلّان كيف يفترقان
والشبابُ النضير إن سِيم خسفًا
ثائرٌ باسلٌ وَثُوب الجَنان
لفرنسا أن تحشدَ الجيشَ كالسَّيْـ
ـلِ وتُبدي عجائبَ الطيران …
لفرنسا ما تشتهي لفرنسا
ما تَمنَّى فموعدُ الثأرِ دان

•••

يا لَهولِ الوغى وقد هاج سُلْطا
نٌ وأضحى يجيشُ كالبركان
أَسَدٌ فوق ضامرٍ عربيٍّ
شاهرٌ للوغى حُسامًا يَماني
أرهقتْه المنونُ، ثمّ أنامتْـ
ـهُ ليومٍ مُحجَّلٍ أَرْونان
«صفحتاه عقيقتان من البَرْ
قِ وفي مَضربَيْه صاعقتان»

•••

وطبيبٌ أغرُّ يُعطي دواءً
لسقام الأوطانِ … والأبدانِ …
ألُيوثًا أَفْلتَّ يا سجنَ أَرْوا
د تذيق العداةَ كأسَ الهوان
أيُّ حربٍ أثار ظلمُ فرنسا
فدهاها ما ليس بالحُسْبان
المغاويرُ حُضَّرٌ وبُداةٌ
زمجروا دون أُمّةِ الطغيان
والجيادُ العِتاق وَلْهى طِرادٍ
مسرعاتٌ بهم إلى الميدان
والسيوفُ الرقاق ظمأى دماءٍ
تشتكي بثَّها إلى المُرَّان
فاسألي عن فَعالهم يا فرنسا
إن أبناءهم لدى غملان
وأقيمي ممالكًا وعروشًا
وافزعي للخداعِ والبهتان
إنّ مَن تمنحين مجدًا ومُلْكًا
ورثوا الملكَ عن بني مروان
سوف لا ينثنون عن طلب الحقِّ
قتالًا أو تضرعي للأمان

•••

إيهِ روحَ الشهيدِ زُوري فِلسطيـ
ـنَ، وطُوفي قدسيّةً بالمغاني
وانزعي من صدورنا جمرةَ الحِقْـ
ـدِ، وسُلّي سجيّةَ الشَّنَآن
هَمُّ إخواننا الجهادُ وأضحى
همُّنا في مجالسٍ ولجان
أيها العاشقُ المناصبَ مهلًا
أبتاجٍ ظفرتَ أم صولجان
كيف أنساكَ حبُّ ذاتكَ مهدًا
أنتَ لولاه كنتَ للنسيان
يا فلسطينُ هل لديكِ سَريٌّ
غيرُ ذي مطمعٍ ولا مُتَوان
ليس عندي سوى التلهّفِ أهديـ
ـهِ، وقلبٍ مُولَّهٍ بكِ عان
وشعورٍ نسّقتُه في بياني
ودموعٍ أودعتُها أشجاني
هل أَمِنّا العداةَ حتى رقدنا
أم وجدنا الهوانَ حلوَ المجاني؟
أين منّا الأبيُّ؟ أين المُعَزّي؟
أين منّا مُعذَّبُ الوجدان؟
فاتّقوا اللهَ واذكروا نهضةَ الشّا
مِ وخُصّوا العدوَّ بالأضغان
نابلس، ١٦ تموز ١٩٢٦

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤