الفصل الأول

العولمة

لم أجتَزِ الحدود، الحدود اجتازتني.

فرقة لوس تيجرس دل نورت
أغنية «نحن الأكثر أمريكيةً»

طغت على بدايات القرن الحادي والعشرين عمليات العولمة المتناقضة والمضطربة، ولكن يبدو أن تخمينَ ما هو على المحك أمرٌ بالغُ الصعوبة؛ فثمَّةَ علامات للتغير النَّشِط عبر الكوكب، تتجلى في عولمة الاقتصاد، وانتشار الإنترنت، وفي الأهمية المتزايدة للموضة وأساليب المعمار، وأنماط الاستهلاك، والمشاهير العالميين. واجتمع صعود وسائل الإعلام العالمية، والزيادة الاستثنائية في السفر والتنقُّل ليُنتجا أنواعًا مستجدَّة من الأحداث العالمية، بدايةً من الألعاب الأوليمبية، وكأس العالم، إلى جنازة الأميرة ديانا، إلى تدمير البرجَيْن التوءمَيْن في ١١ سبتمبر، أو الاحتشاد في سياتل عام ١٩٩٩ ضد منظمة التجارة العالمية. وأذكت شعورَنا بأننا نحيا في عالم كونيٍّ زيادةُ درايتنا بالطبيعة المترابطة للأنماط الجديدة من المشكلات، كالتلوث، والاحترار العالمي، والدول الفاشلة، والأعداد المتزايدة من اللاجئين، وظهور الأوبئة العالمية مثل الإيدز، أو تهديد الإرهاب. كلُّ هذه الأمور التي تتجاوز الحدود نابعةٌ من أنماط جديدة من الشبكات والتدفُّقات، ومكوِّنةٌ لها في الوقت نفسه، مثل: القوة، والتمويل، والمعلومات، والناس، والخبرة، والعنف، والشعور، والصُّوَر. يُفسِح سياقٌ دولي أقدم — حيث حدثت الحياة الاجتماعية ضمن حدود الدول القومية، وحيث كانت الدول هي الممثِّلَ الأساسي على المسرح الدولي — المجالَ على نحوٍ متزايد لسياق يشمل ممثلين عالميين جددًا، كالمنظمات غير الحكومية، أو الجريمة المنظمة، أو شبكات الإرهاب، وترتبط بهذا سلسلةٌ كاملة من الجدالات التي تسعى لتفسير طبيعة هذا العالَم الكوني الناشئ.

يدرس هذا الكتابُ واحدًا من أهم أبعاد العولمة الراهنة، وهو ظهورُ أنواع جديدة من شبكات الاتصال والفعل والخبرة، وتدفقاتها، وهو ما أسمِّيه الحركات العالمية. محاولةُ فَهْمِ هذه الحركاتِ بالغةُ الأهمية لاجتهادنا في فهم الإمكانات والمخاطر التي تُعيد تشكيلَ عالَمنا. وبينما يمكننا أن نتعلم الكثير من الأُطُر الفكرية التي استخدمها علماء الاجتماع لاستكشاف الحركات الاجتماعية التي برزت طوال القرن الماضي في المجتمعات القومية الصناعية الغربية، فإن محاولة فهم الحركات العالمية الناشئة تستلزم ابتكارَ أدواتٍ مفاهيمية جديدة. فنحن نحتاج إلى التعامل مع أشكالٍ من النشاط الاجتماعي تُعيد تشكيل العلاقة بين الفردي والجمعي؛ ومع مبادئ للحركات تُفهَم بمعايير الدلالات الثقافية (ألكسندر ٢٠٠٤) والخبرة الشخصية (تورين ٢٠٠٢، ٢٠٠٥) أفضل مما تُفهَم بمعايير بناء المنظمة والهُوِية الجمعية؛ ومع صِيَغ جديدة من التعقيد والسلاسة (أوري ٢٠٠٣)؛ ومع مبادئ حضارية تُشكِّل كيفيات الكينونة والفعل في العالم (آيزنشتات ١٩٩٩)، التي تتداخل بطرق مدهشة (بولييت ٢٠٠٤).

أشكالُ الممارسة والاتصال التي نلقاها في هذه الحركات متجسِّدةٌ وحِسِّية أكثر مما هي تشاوُريَّة وتمثيلية. وهي تؤكِّد الحاجةَ المُلِحَّة إلى إعادة النظر في أفهامنا للفعل، بحيث نفهمه بمعايير اللمس، والسمع، والتحرك، والإحساس، والتذوق، والتذكُّر، والتنفس. وتشير إلى قيودِ مفهوم الفاعل الدنيوي المستقل، ونماذج الفعل القصدي التي تشكِّل أساسَ المداخل النظرية الكبرى لفهم الحركات الاجتماعية. وهي تواجهنا بأشكال من خبرة عامة لا تنسجم وأفهامنا للفضاءات العامة المجردة، الرشيدة، التشاورية التي أصبحت متزايدة التأثير على مر السنوات الأخيرة (في كتابات يورجن هابرماس ١٩٩١، ١٩٩٦ المهمة، مثلًا). وفي الوقت نفسه، تجابهنا أشكالُ الفعل التي نتعرض لها في هذه الحركات بقيودِ نماذجِ «الهوية» المعرفية التي تركز على المجتمعات، والأعراف، وثقافات الجماعات. تُجابهنا الحركاتُ العالمية الناشئة بتحوُّلاتٍ في الفعل والثقافة تستلزم تحوُّلًا جذريًّا في النموذج المعرفي، دافعةً إيَّانا لتجاوُزِ تكرار الجدالات المألوفة بقدر كبير. وإذ تفعل هذا، فهي تجابهنا بتحدِّي إعادةِ التفكير في الطريقة التي نفهم بها العولمة.

عالَم بلا حدود؟

خلال عقد التسعينيات من القرن العشرين، صيغت الأفهامُ السائدة للعولمة بمعايير اقتصادية. عكَس هذا أهميةَ الشركات العالمية، ودورَ صناعات التمويل، والأشكالَ الجديدة من تقنيات الاتصال والمعلومات التي تدمجها. دافَعَ مُنظِّرو الإدارة البارزون (أوماي ١٩٩٠) عن مقولة «العالَم الخالي من الحدود». ودون أيِّ تردُّد، اعتبرت هذه الرؤية السائدة أن اندماجَ الاقتصاد العالمي المطَّرد سيُفضِي إلى توافُق المجتمعات. وأنشأ هذا التصوُّر أساسَ ما أصبح يُعرَف بوفاق واشنطن الذي شكَّلَ سياساتِ مؤسساتٍ من قبيل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وصار هو المثال المتَّبَع في المعاهد الدولية مثل المنتدى الاقتصادي العالمي في سويسرا. وكان الكاتب الصحفي في جريدة «نيويورك تايمز»، توماس فريدمان، واحدًا من صحفيين كُثر روَّجوا هذه المقولة، مشيرين إلى العولمة بوصفها «السُّترة المقيِّدة الذهبية»؛ حيث «يرتدي بلدك السترةَ المقيِّدة الذهبية، فإذا خياراتُه السياسية تنحصر ما بين البيبسي والكوكاكولا» (١٩٩٩: ٨٧). وعبَّر عالِم السياسة، فرانسيس فوكوياما (١٩٨٩، ١٩٩٢)، عن المقولة ذاتها بطريقة أكثر تفلسفًا؛ إذ افترض أن انهيار جدار برلين عام ١٩٨٩ أفضى إلى «نهاية التاريخ»؛ إذ سيكون على البلدان أن تعتنق ثقافةً استهلاكية ونظامًا سياسيًّا تنافسيًّا — لا محالة — بفعل اندماجها في الاقتصاد العالمي. أوحت هذه المقولات جميعًا بأن ظهور العولمة وانتصارها انطوَيَا على نموذجٍ غربي كوني للتنظيم الاجتماعي والاقتصادي. وكان فوكوياما صريحًا في الادِّعاء بأن نهاية التاريخ مثَّلت «انتصار الغرب» (١٩٨٩). وحمل خيارُ فريدمان ما بين مشروبَيِ البيبسي والكوكاكولا رسالةً مُشابِهة.

تَشارَك علماء الاجتماع هذه الرؤيةَ نفسَها على نطاق واسع. من وجهة نظر عالم الاجتماع البريطاني الشهير، أنطوني جيدنز (١٩٩٠: ١) «الحداثة» هي نمطُ ثقافةٍ ومجتمعٍ أنتجه الغرب، أمَّا العولمةُ فتنطوي على مَدِّه إلى الكوكب بأسره، مواصِلةً عمليةً تمتد جذورُها إلى أوروبا في القرن السابع عشر (١٩٩٩). وفي الوقت نفسه، تنبَّأ جيدنز بأشكالٍ من رد الفعل الدفاعي من «العالم المارق»، وتحديدًا، ظهور الأصولية التي يفهمها على أنها «تقليد متأهب للقتال» (١٩٩٩). وقدَّمت الروايات الصحفية روايةً مماثلة، متوقِّعةً «ارتدادات» من شأنها أن تنشأ، في محاولة يائسة للدفاع عن التقاليد ضد زحف السوق العالمية الحثيث (فريدمان ١٩٩٩). وأضحت هذه النظرة إلى العولمة الغازية شائعةً في اعتقادات مفكِّرين راديكاليين وزعماء شعبيِّين أيضًا، بدايةً من نظرية الإمبراطورية التي صاغها طوني نِجري (هارت ونِجري ٢٠٠٠)، وكتابات ناعوم تشومسكي الرائدة (٢٠٠٣)، إلى مطالبة الفلاح الفرنسي، جوز بوف، بالدفاع عن التقليد والأصالة المحليَّيْن ضد قوى الاتحاد الأوروبي ومنظمة التجارة العالمية، الغازية المهيمنة.

تتقاسم هذه التمجيدات والإدانات للعولمة فرضية متماثلة. وكما يفترض روبرتسون وخوندكر (١٩٩٨: ٣٢)، فكِلا الطرفين يستمران في رؤية العالم على أنه يتشكَّل بفعل مركز نشط ومسيطر، وردود فعل دفاعية أو خاضعة (من قِبَل جماعات أو بلدان)، مُجبَرة على الدفاع عن نفسها في مواجهةِ عمليةٍ تنبع من الخارج. ووفقَ هذه الرؤية، ثمة مصدرٌ واحد للعولمة، وهو «الغرب» أو «الرأسمالية». ويظل هذا الفهم للعولمة لصيقًا بنموذج معرفي حداثي أقدم، فهو تعميم أو نشر لنموذجٍ اجتماعي مسيطر. ولا يوجد فقط مصدر واحد للعولمة (مراكز القوة العالمية)، ولكن توجد أيضًا عملية واحدة للعولمة (تعميم نموذج هذه المراكز). وتتحرك العولمة في اتجاه واحد، وإلى المدى الذي تعترضها فيه عقبات، وهذه العقبات دفاعيةٌ بالضرورة، تُفهَم ضمنًا في إطارِ عمليةِ العولمة الخصبة (ويمكن فهمها بمعايير العولمة). وكما تلحظ كارين ورنر بخصوص هذا النوع من التحليلات للأصولية، تبني هذه التحليلات مشروعًا شاملًا للتحديث، تجابِهه «ثغرات أصولية» متنامية، في سياقِ إقامةِ إطارٍ عام تكون الحداثةُ فيه عالَمية، مع تعميم الأصولية «بوصفها شكلًا من أشكالِ مُناهَضةِ الحداثة، قابلًا للتنبؤ بدرجة عالية، ويظل بهذا الوصف «داخل» الفلك الحديث العالمي، لا يمكن لمرجعياته إلا أن تُدحَر، لا أن تُناقَش»، وهي مقاربة «تحصر التنوع الثقافي بين ما هو حداثي وما هو مناهِض للحداثة. ومن خلال ضِيق الأفق هذا، فإنها تُقلِّص فرصةَ إدراكِ الهجائن، والتداخلات، والتجاورات» (ورنر ١٩٩٨: ٣٩-٤٠).

الفضاء المجرد والزمن المتجانس

حينما يحتفي كينيشي أوماي ﺑ «العالم الخالي من الحدود»، مثل جيدنز، فهو يفهم العولمة بمعنى توسعة الحدود، وهي عملية يندرج فيها المزيد والمزيد من العالم «داخل» الفضاء المجرد الذي تُشكِّله العولمة. وإذ كان أوماي يكتب في عقد الثمانينيات، فإن استعارته التي استخدمها للعالم المتعولم هي استعارة مكانية، تتسع فيها الحدود لتشمل بالتدريج بلدانًا وأقاليم. هذه الاستعارة لوصف حدود تتسع هي استعارة مؤثرة بالتحديد لأنها تضع العولمة في إطار مُسلَّماتنا. هي تفهم العولمة باعتبارها امتدادًا لما يسميه لو وأوري (٢٠٠٤) «العالَم الإقليدي»؛ حيث يفهم الناس الفضاء ويتعاملون معه على أنه فارغ ومجرَّد، تُشكِّله الحدود التي تحيط به. ويلعب هذا الفهم للفضاء دورًا مُهمًّا في النظرية السياسية لدى توماس هوبز الذي درس إقليدس والرياضيات خلال معيشته في فرنسا، مستوعبًا مبدأ ضرورة فهم الفضاء على أنه مستمر ومتصل ومنتظم في جميع الاتجاهات. ويرسي كتاب هوبز «التنين» (١٦٥١) الأساس لفهمٍ معيَّن للدولة، يمكن فيه فهم جميع الرعايا على أنهم متكافئون وظيفيًّا داخل فضاء مجرد معيَّن. كانت هذه الفكرة مهمة في تمكين حكم تشارلز الثاني من أن يدرك لأول مرة أن تحصيل الضرائب هو مسألة مجاميع، لا حالات فردية (بوفي ١٩٩٥: ٢٩). وكان لهذا الفهم ﻟ «الفضاء المجرد» الذي تُشكِّله الحدود أن يسهم في السماح للدول الأوروبية بإنشاء الأمم، وأن يكون حاسمًا فيما بعدُ في الاستعمار الأوروبي. يبرز سونيل خيلناني أهمية هذا الفضاء المجرد المحدَّد بحدود في خلق «فكرة الهند»:

كان ما أتاح الابتكار الذاتي للمجتمع القومي هو حقيقة غزو الغرباء والخضوع للاستعمار. كانت المصلحة البريطانية في تقرير الحدود الجغرافية هي التي أحالت — بموجب قانون من البرلمان في عام ١٨٩٩ — «الهند» من اسم لمنطقة ثقافية، إلى إقليم حديث محدَّد … وهكذا خلقت التدقيقات التعسفية للأساليب الاستعمارية بدعًا تاريخيًّا، فضاءً موحَّدًا ومحدَّدًا بحدود يسمَّى الهند. (٢٠٠٣: ١٥٥)

لعب الفهم الجديد للفضاء المجرد دورًا محوريًّا في إنشاء ما نفهمه الآن بوصفه «الاجتماعي» (بوفي ١٩٩٥). وكان هذا جزءًا من تحوُّل أكبر. يستعرض آلان ديروزيير تطوُّر الإحصاءات و«سياسة الأعداد الكبيرة» التي أتاحت التفكير بطرق مجرَّدة جديدة، على نحو سمح بدمج سجلات الواقع في بناء واحد، مع اختفاء التفرُّدات المحلية، وفهمها بصفتها أجزاء من كلٍّ أكبر، وبصفتها تجليات لنظام عام (١٩٩٨: ٧٢). ويفترض لو وأوري أن هذا «العالَم الإقليدي» المكون من الفضاء المجرد هو ما أتاح فكرة التكافؤ الوظيفي التي أفضت إلى فهمٍ للعالم على أساس أنه بلدان (دول) أكبر، وبداخلها كيانات أخرى منفصلة، مصطفَّة في علاقات تراتبية أو احتوائية — كان من الضروري فهم سلوك الوحدات الأصغر في إطار الوحدات الأكبر التي أُدرِجت فيها. وهنا نرى أصول اهتمام جديد بالفئات والطبقة، كان من شأنه أن تنبثق منه نظرية كارل ماركس الاقتصادية والاجتماعية. يرى بام موريس (٢٠٠٤: ٣) هذا الفهم المتغير للعالم في كتابات الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل. يصف ميل في عام ١٨٣٤ بريطانيا بأنها بلد مُكوَّن من مُلَّاك الأراضي والرأسماليين والعمال، الذين كانت حياة كلٍّ منهم منفصلة عن حياة الآخر، لدرجة أنهم أدركوا أنفسهم على أنهم نُظُم مختلفة تعيش في عوالم مختلفة، في عالم كانت تُفهَم فيه هذه الاختلافات «وكأنها أقدار الله، لا الإنسان» (ميل ١٨٣٤: ٣٢٠). بعد مرور ثلاثين عامًا يلحظ الفيلسوف تحولًا: «فيما مضى، عاشت الفئات المختلفة، والأحياء المختلفة، والحرف والمهن المختلفة، فيما قد يسمى عوالم مختلفة؛ أما في الوقت الراهن، فهي تعيش بدرجة عالية في العالم نفسه» (الأعمال، ١٨: ٢٧٤). لم ينكر هذا الفهم الجديد للشمول الاختلافَ والنزاع بطبيعة الحال — لكن فُهِم أن ذلك يحدث ضمن فهم جديد للمجتمع، يتوافق مع الأمة بوصفها عالَمًا موحَّدًا. تُوسِّع الاحتفاءات الحالية بالعالم الخالي من الحدود هذا الفضاء المجرد، ناظرة إلى نشاطه يوميًّا في أسعار الصرف، والتدفقات النقدية، وما لا يُحصى من البيانات الاقتصادية. والسبب في أن فكرة «المجتمع العالمي» تتمتع بمصداقية شديدة، ولا تكاد تحتاج إلى دليل، هو أنه لا يعدو أن يكون وعاءً إقليديًّا آخر، «أكبر وعاء يمكن تخيله حتى الآن» (لو وأوري ٢٠٠٤: ٣٩٩).

لا ينطوي «المجتمع العالمي» فقط على مد الفضاء المجرد، وسكانه المتكافئين وظيفيًّا إلى الكوكب بأكمله؛ ولكنه ينطوي على مد إحساس معيَّن بالزمن أيضًا. يُبرز بنديكت أندرسون (١٩٩١) أهمية الصحف في تشكيل المجتمعات الوطنية، وخصوصًا دورها في الإخبار بالأحداث اليومية، مفترضًا أنها قدمَّت إحساسًا جديدًا قويًّا ﺑ «المجتمع المتخيَّل». ويُبرز الفيلسوف تشارلز تيلور، مستندًا إلى أندرسون، بالتحديد إلى أي مدى يكمن هذا الفهم الحديث للمجتمع في إحساس زمني. إنه شعور ﺑ «عالَم واحد»، ليس فقط بسبب الفضاء المجرد الذي يُكوِّنه، ولكن أيضًا لأن المجتمع «كلٌّ يتكوَّن من الحدوث المتزامن لكل الأحداث التي لا تُحصى التي تميِّز حيوات أعضائه في تلك اللحظة» (٢٠٠٤: ١٥٧). ثقافة «المجتمع المتخيَّل» الذي ذكره أندرسون هي ثقافة التزامن، ولا يكاد يوجد شك في أن هذه الثقافة هي عملية مؤثرة في العالم المعاصر. هي تدفع إطلاقات المنتجات العالمية، ويُحتَفَى بها في الإصدارات المتزامنة للأفلام عبر الكوكب، وهي تقع في قلب الممارسات الثقافية الشائعة، مثل استخدام الهواتف المحمولة والإنترنت. الثقافة العالمية هي ثقافة الحاجة الملحة (العايدي ٢٠٠١)، الكامنة في خلفية الأحداث اليومية؛ حيث يلعب التليفزيون دورًا مماثلًا للدور الذي يعزوه أندرسون للصحف. يصوغ بل جيتس، صاحب شركة مايكروسوفت، هذا الفهم ببلاغة؛ إذ يصف الزمن نفسه بأنه «احتكاك»، بأنه عقبة أو إعاقة لإعمال الشبكة وما تتيحه من إمكانات فورية للاتصال، والمعلومات، والتبادل (١٩٩٦: ١٩١).

ويُبرز تيلور بُعدًا حاسمًا لهذا الشعور الجديد بالزمن، ألا وهو طبيعته المتجانسة؛ فلكي يتكوَّن المجتمع من الحدوث المتزامن لأحداث لا حصر لها، يجب أن تُشكِّل هذه الأحداث ما يسميه «الزمن المتجانس»:

ينتمي مفهوم التزامن الواضح جدًّا هذا إلى فهمٍ للزمن على أنه أمر دنيوي تمامًا. طالما أن الزمن الدنيوي ممتزج بأنواع أخرى من الزمن الأَسمَى، فلا شيء يضمن إمكانية أن تحل كل الأحداث في علاقاتِ تَزامُن وتَعاقُب جلية … ثمة رابطة داخلية وثيقة فيما بين المجتمعات الحديثة، وأفهامها الذاتية، وأنماط التمثيل الاختزالية الحديثة … المجتمع بوصفه أحداثًا متزامنة، التفاعل الاجتماعي بوصفه نظامًا مجردًا، الحقل الاجتماعي بوصفه ما يُرسم في خرائط، الثقافة التاريخية بوصفها ما يظهر في المتاحف … (٢٠٠٤: ١٥٨)

تصحب فكرة «العالم الخالي من الحدود» أو «المجتمع العالمي» هذه فكرة توسعة الفضاء المجرد (جالبة معها التكافؤ الوظيفي) مع وعي زمني جديد بالتزامن. بهذا المعنى، يمكن فهم «المجتمع العالمي» على أنه يتوسع إلى الخارج من المركز بالطريقة التي وصفها جيدنز وفوكوياما. تلاقت فكرة المجتمع العالمي هذه أيضًا مع الأهمية المتزايدة للشبكات الخالية من الحدود، المقامة على أساس التبادل المتزامن (كاستلز ٢٠٠٠). لكن رواية «العالم الواحد» و«المجتمع العالمي» هذه، على الرغم من قوتها وجاذبيتها للنخب العالمية، تتضاءل قدرتها على إدراك العالم المتزايد التعقيد.

من البنية إلى التدفق

اعتمد معظم مفكري القرن التاسع عشر على استعارات الآلة أو البنية المستقرة للتفكير في الحياة الاجتماعية. كان كارل ماركس، مثلًا، مُولَعًا بصورة البناء، بما له من «أساس» و«بنية فوقية»، بينما كان تصوره للتغيير الاجتماعي، كتصور معاصريه، تطوُّريًّا أو خَطِّيًّا. وعلى مر السنوات الأخيرة، تجلَّت دلائل على حدوث تغيُّر في النموذج المعرفي في العلوم الاجتماعية، وفي تطوُّر النماذج النظرية الساعية إلى إدراك الأنماط الجديدة للحياة الاجتماعية المرتبطة بالشبكات والتدفقات. وكان من أبرز الإسهامات في هذا التغير ما قدمه عالم الاجتماع البريطاني جون أوري (٢٠٠٠، ٢٠٠٣). يفترض أوري أن الأدوات المفهومية التي نستخدمها لإدراك «المجتمعات»، بوصفها مساحات محدَّدة للحياة الاجتماعية توافقت مع أقاليم الدول القومية، تزداد قصورًا عن إنجاز مهمة فهم أشكال الحياة الاجتماعية والصراع الناشئة التي تتسم بطابع عالمي متزايد، وتتخذ على نحو متزايد شكل التدفقات. وعلى عكس النماذج المفاهيمية التي سادت القرن التاسع عشر، وتتجلى في افتتان ماركس بأفكار التوازن، أو اهتمام فرويد بالطاقة والدوافع، يفترض أوري أن الأشكال المعاصرة للحياة الاجتماعية معقدة ولا يقينية، وأن أنماط النظام الاجتماعي الآخذة في التطور غير مستقرة، وأن من الأفضل — اعتمادًا على كتابات بريجوجين وستينجرز (١٩٨٢) — فهمها على أنها في حالة افتقار للاتزان؛ حيث يمكن لأحداث صغيرة أن تُنتج تأثيرات كبيرة غير قابلة للتنبؤ، ويعني هذا أن الأنظمة المعقدة معرَّضة باطِّراد لصدمات متلاحقة (مان ١٩٩٣).

حينما نشرع في التفكير في الحياة الاجتماعية، بمعايير السيولة والتدفقات، كما يقترح علينا أوري، يبدو لنا أن التغيير ليس خَطِّيًّا، ولكنْ تُشَكِّله بدلًا من ذلك «نقاط التحول»؛ حيث إن الأحداث التي تقع ليست هي تلك المتنبَّأ بها، ولكن تلك التي تتسبب في حدوث تغييرات مؤثرة، وأنماط جديدة — من قبيل تطور الهواتف المتحركة أو الإنترنت مثلًا. وفي هذا الحالة، لا تعبر أنماط التغير هذه عن منطق تطوري يمكن رسم مخطط له، وتوقع مساره في المستقبل، ولكنها تتخذ صورة أنظمة معقدة تُعيد تنظيم ذاتها بطرائق لا يمكن التنبؤ بها. يفترض أوري أن الحياة الاجتماعية المعقدة هي أقرب إلى سائل يتحرك عبر سطح وعر منها إلى استعارات الآلة التي ترجع إلى القرن التاسع عشر. ويستند إلى الدراسات الاجتماعية للعلم (مول ولو ١٩٩٤) ليقترح أن بالإمكان تحليل الحياة الاجتماعية من حيث هي «أقاليم» تتخذ شكل مساحات مكانية محدَّدة بحدود، مثل المدن والمجتمعات؛ و«شبكات» تتمدَّد عبر الأقاليم، من قبيل نظم المعلومات؛ و«سوائل» تنتقل عبر الشبكات، ولكنها يمكن أن تفيض على غيرها أيضًا — مثل فيض الأفكار التي ظهرت في شبكات «العصر الجديد» على علوم الإدارة (ثريفت ١٩٩٩).

يشير عالم الأنثروبولوجيا، أرجون أبَّادوري، أيضًا إلى الطبيعة المتغيِّرة للخبرة المعاصرة. وبدلًا من تعليق أهمية رئيسة على البُعد الاقتصادي أو المؤسسي، يفترض أبَّادوري (١٩٩٦) أن البُعد الثقافي هو الأكثر حسمًا في تشكيل العولمة الراهنة؛ حيث يرى أن الخيال هو ما يشكِّل باطِّراد حقل الممارسات الاجتماعية. ويُبرز أبادوري في المقام الأول أهمية الخبرة الافتراقية، أي إدراك أن العولمة تتكون من الإحساس بأماكن متعددة وأزمنة متعدِّدة، وهما بُعْدان سنرى أنهما حاسمان لحركة «العولمة الأخرى» التي ظهرت على امتداد عقد التسعينيات. يقترح أبادوري، في تحليل يلتقي التقاءً مهمًّا مع كتابات جون أوري، دراسة العولمة وفق خمسة «مشاهد»، أو تدفُّقات ثقافية عالمية: المشهد الإثني، والمشهد التكنولوجي، والمشهد المالي، والمشهد الإعلامي، والمشهد الأيديولوجي. يُبرز لفظ «المشهد» غياب الاستواء وغياب القابلية للتنبؤ، وأهمية وجهة النظر، بقدر ما يبرز هذه السمات «المشهد الطبيعي». يشير «المشهد الإثني» إلى المناطق المتغيرة للناس الذين يُشكِّلون العالَم الذي نعيش فيه: السائحين، والمهاجرين، واللاجئين، والمبعَدين، والعمال الوافدين. ويشير المشهد التكنولوجي إلى نظم التكنولوجيا وشبكاتها العالمية، من الإنترنت إلى أنظمة المواصلات. ويشير المشهد المالي إلى التدفق المالي الذي تتزايد صعوبة التنبؤ به يومًا بعد يوم. ويشير المشهد الإعلامي إلى الأهمية المتزايدة لوسائل الإعلام العالمية، من التليفزيون إلى الإنترنت إلى المجلات إلى تدفُّق التسجيلات الصوتية والمرئية. ويشير المشهد الأيديولوجي إلى الأهمية المتزايدة للتدفقات العالمية من الأفكار والأيديولوجيات، والمفاهيم التي تنبع في منطقة ما، ولكنها تتدفق إلى باقي الأنحاء وتكتسب أهمية عالمية (أبادوري ١٩٩٦).

من وجهة نظر أبادوري، ما هو حاسم في فهم طبيعة العولمة الراهنة هو التنافر المتعاظم بين هذه المشاهد المختلفة، أو بين تدفقات الناس، أو الآلات، أو الأموال، أو الصور، أو الأفكار. في عالم متكامل وتراتبي، تتحرك هذه التدفقات جميعًا معًا، كما في نموذج ماركس للطبقة الحاكمة أو الثقافة الحاكمة، أو في نظرية الذوق التي صاغها بيير بورديو، وتفترض أن الطبقة المسيطرة هي التي تبتكر، وتتبعها بقية الطبقات. أما في المجتمع المعاصر الموسوم بالتنافر، فإن تلك الحركات تتفرق وتتصادَم كما تتلاقى. لم تعد الأزياء، مثلًا، تنبثق من نخبة وتتنزَّل في السلم الاجتماعي. وبينما تتدفق عبر بِنى التفاوت الاجتماعي، فإن هذه البنى لا تقررها ولا تنتجها — فمبادئها قائمة على التجربة؛ وهي تُكوِّن بِنْيةً من الإحساس.

يُبرز تحليل أوري للشبكات والتدفق بُعْدَين ذَوَيْ أهمية خاصة. بدلًا من اعتبار وسائل التكنولوجيا قوة ذات طبيعة دخيلة تُحطِّم المجتمعات (الرؤية السلبية التقليدية التي رآها كثير من علماء الاجتماع فيما يخص التكنولوجيا)، يفترض أوري أن وسائل التكنولوجيا هي على نحو متزايد الوسط الذي تُبنى فيه العلاقات الاجتماعية. فالمشهد الاجتماعي، حسب زعمه، يتسم بحالة من الاختلاط المتعاظم؛ ولم يعد مجديًا التفكير في المشهد الاجتماعي باعتباره مجموعة من المجتمعات الجغرافية المحدَّدة بحدود، بل لا بد من فهمه بدلًا من ذلك باعتباره صورًا من التدفق والحراك تشكلها وسائل التكنولوجيا، من السيارة إلى الإنترنت. ما زال كثير من علماء الاجتماع يَعُدُّون التكنولوجيا عاملًا يهدم العالم الاجتماعي، من التحليلات الراديكالية لمدرسة فرانكفورت التي ظهرت في ألمانيا في عالم ما بين الحربَيْن العالميتَيْن، إلى رؤية روبرت بتنام (٢٠٠٠) المعاصرة بأن التليفزيون يقوِّض «رأس المال الاجتماعي» في الولايات المتحدة. يزعم أوري على العكس من ذلك بأن المشهد الاجتماعي نفسه أصبح يُبنَى من خلال وسائل التكنولوجيا على نحو متزايد، ويدعو إلى استحداث مفاهيم قادرة على تطوير تحليلات للطبيعة المختلطة التي تتسم بها الشبكات الاجتماعية التكنولوجية.

مجتمع الشبكة؟

إحدى أهم المحاولات لفهم ما هو على المحك في التحولات الجارية في العولمة طوَّرها عالم الاجتماع الإسباني مانويل كاستلز (١٩٩٧، ٢٠٠٠). يَفترِض كاستلز أن العولمة تمثل نقلة كونية إلى مجتمعِ الشبكة، الذي ينطوي على التحول مما يسميه «النموذج الصناعي» إلى «النموذج المعلوماتي» (٢٠٠٠). يضع كاستلز التَّغيُّرات التكنولوجية في مركز هذه العملية؛ وفي المقام الأول، دور تكنولوجيا المعلومات/الاتصال الإلكترونية، بينما يفترض أيضًا دورًا متزايدًا للتكنولوجيا الوراثية. تجلب هذه الوسائل التكنولوجية معها أنماطًا جديدة من التنظيم الاجتماعي تتسم بأنها معلوماتية، وعالمية، وشبكية. ويزعم أن الشبكات تُظهر التفوق التنظيمي والتكنولوجي بفضل قدرتها على التعامل مع حالة اللايقين والتعقيد، ولهذا، فهي تنتصر — لا محالة — على أشكال التنظيم الأخرى، مثل التراتبية والبيروقراطية. تَحُل الشبكاتُ المراكزَ، وتُفكِّك التراتبية، جاعلة ممارسة السلطة التراتبية «مستحيلة على نحو متزايد» (٢٠٠٠: ١٩). ونتيجة ذلك، يفترض كاستلز أن الدولة القومية تجد نفسها تُتَجاوَز وتُضْعَف من قِبَل كل أنواع الشبكات الناشئة: شبكات رأس المال والتجارة والإنتاج والعلم والاتصالات وحقوق الإنسان والجريمة، إلى النقطة التي لا تظل الدولة عندها كيانًا يتمتع بالسيادة داخل عالم يزداد تنظيمه بمعايير الشبكات. وتجد البنى التراتبية الأخرى نفسَها متجاوَزة بالمثل، سواء في ذلك المدارس، والكنائس، وغيرها من أشكال البيروقراطية. ويُعَد منطق الشبكة/المعلومات شَرِهًا بسبب كفاءته الفائقة؛ إذ يبتلع كل أشكال التنظيم الاجتماعي المنافِسة، أو يُهمِّشها.

يفترض كاستلز أن طبيعة السلطة والصراع أيضًا تتغير في مجتمع الشبكة هذا. في هذا العالم، لا تظل السلطة مجسَّدة في مؤسسات سياسية رسمية، ولكنها تصبح لا مركزية (بما أن الشبكات لا مركزية)، ولا مادِّية، وتتخذ شكل تدفقات الشبكات وقانونها. تمتلك الشبكات قانونًا ثنائيًّا من الإدراج/الاستبعاد: فما يتوافق مع الشبكة يُدرَج، وما لا يتوافق يُستبعد. وبينما يفترض كاستلز أن الصراع الاجتماعي هو ما يحدِّد أهداف الشبكات (المنعكسة في قوانين اتصالها)، فحالما تُبرمَج الشبكة تفرض منطقها على جميع أعضائها. ولا يستطيع الأعضاء تحدي الشبكة إلا من الخارج. قد يرغبون في مجابَهَتها من خلال بناء شبكة بديلة مؤسَّسة على قيم مختلفة، أو يُنشئون بناءً أو مجتمعًا دفاعيًّا غير شبكي «لا يسمح بِصِلات خارج منظومة قيمه» (٢٠٠٠: ١٦). يفترض كاستلز أن التغير الاجتماعي يحدث من خلال أيٍّ من هاتين الآليَّتَيْن، اللتين تُعَدَّان خارجيتين بالنسبة للشبكة المسيطرة؛ ولذلك تداعيات مهمة على الطريقة التي يصوِّر بها الحركات المعاصرة، وكيفية تحدِّيها أشكالَ السيطرة والسلطة الاجتماعيتين المرتبطتين بمجتمع الشبكة العالمي. فهو يرى نمطًا أول من التحدي يتضمن شبكات بديلة، مبنية على مشروعات بديلة «تتنافس من شبكة إلى شبكة، في سبيل بناء جسور إلى الشبكات الأخرى في المجتمع، في مواجهة قوانين الشبكات المسيطرة حاليًّا» (٢٠٠٠: ٢٢-٢٣).

أما النمط الثاني من المعارَضة فهو ينطوي على رفض منطق الشبكة كله، بتأكيد قِيَمٍ «لا يمكن التعامل معها في أي شبكة، ولكنها تطاع وتُتَّبع وحسب». من وجهة نظر كاستلز، يتجلى النمط الأول لتحدي الشبكات المسيطرة الناشئة في الشبكات البديلة، مثل الحركات الإيكولوجية والنسوية وحركات حقوق الإنسان. ويرى النمط الثاني للتحدي، أي النمط الرافض لمنطق الشبكة، معبَّرًا عنه بالأشكال الناشئة من الأصولية، وغيرها أيضًا من أشكال «المجتمعات الثقافية» «المتمركزة حول مغزاها المكتفي بذاته»، مثل «المجتمعات الدينية والقومية والإقليمية والإثنية» (٢٠٠٠: ١٩، ٢٢، ٢٣). يستخدم كلٌّ من الشبكات البديلة الجديدة والمجتمعات الدفاعية الجديدة وسائل اتصال تكنولوجية جديدة مثل الإنترنت. لكن ليست الوسائل التكنولوجية التي تستخدمها هي ما يجعلها شبكات؛ ولكن المسألة المهمة هي مدى قدرتها على التواصل مع الشبكات المختلفة خارج تعريفها الذاتي.

من وجهة نظر كاستلز، يُجابهنا هذا العالم الشبكي الناشئ بمعضلة جوهرية:

المعضلة الأساسية في مجتمع الشبكة هي أن المؤسسات السياسية لم تعد هي مَحَل القوة. القوة الحقيقية هي قوة التدفقات الذرائعية، والقوانين الثقافية للشبكات. ولهذا السبب، يستلزم الهجوم على مواقع القوة اللامادية هذه من خارج منطقها إما زرع قيم خالدة، أو اقتراح قوانين اتصال بديلة، تمتد عبر ترابط الشبكات البديلة. من شأن ذلك التغيير الاجتماعي الذي يتقدم عبر طريق أو آخر أن يميِّز بين الطائفية المتشظية وصنع التاريخ الجديد. (٢٠٠٠: ٢٣)

الفاعلون والذاتيات

لعبت العلوم الاجتماعية، وخصوصًا علم الاجتماع، دورًا جوهريًّا في تمثيل أشكال جديدة من التجمعات، مسهمة في تشكيل الدولة القومية الحديثة بوصفها عالَمًا اجتماعيًّا منظَّمًا على أساس الحدود الواضحة، والمواطَنة، والحوكمة. ويوجد اليوم ارتياب جديد في التقسيمات الأساسية لفهم الكينونة والفعل في العالم (وولرشاتين ١٩٩٦). من ناحية، هناك أولئك الذين يزعمون أن العالم الكوني المعاصر هو «مجتمع عالمي». هذا العالم الخالي من الحدود يوسِّع منطق النظم الاقتصادية إلى النقطة التي لا يوجد عندها فاعل، ولكن يوجد مجرد سلوك؛ لأن الأفراد يستجيبون لأنظمة الفرصة أو الحافز التي هم جزء منها. أو يُفهَم الفعل على أنه «مقاوَمة» لهذا النموذج. لكن هذا، كما رأينا، يضع الفعل «داخل» الفلك العالمي، ويجلب معه فهمًا للفاعل على أنه مشترك في فعل ذرائعي هادف؛ حيث يُشكَّل الفعل بموجب فهم معين للمصلحة، ويُحدَّد حسب القصد (أسد ٢٠٠٣: ٧٣).

السؤال الجوهري الذي يجابهنا حينما نفكر في العولمة هو عمَّا إذا كنا نعيش في عالم واحد أم في عوالم كثيرة، وما إذا كنا نسكن «كونًا واحدًا» أم أننا منهمكون فيما يصطلح لُو وأوري على تسميته «كونًا تعدديًّا» ونسهم في إنتاجه (٢٠٠٤: ٣٩٩). ويعني هذا تحولًا عن نماذج التجريد والعمومية، ويعني تحليل العولمة على أساس التعدد والتعقيد المتزايدين. تنطوي فكرتا الافتراق والتعقيد على نبذ تصوُّر «العالم الواحد»، والنظر إلى العالم، كما يفترض عالم الأنثروبولوجيا كليفورد جيرتس (١٩٩٨)، بمعايير الخصوصية والفردانية. ولا يعني هذا عالمًا عالميًّا مكونًا من عدد لا يُحصى من الخبرات التي لا تخضع لقياس واحد، ولا يمكن فهمها فهمًا مشتركًا. لكنه يحمل بالتأكيد تداعيات على الطريقة التي نحاول أن نفهم من خلالها الأنماط العامة التي قد تكون آخذة في الظهور في هذا السياق المتسم بالتعقيد والتعدد. وكما تقترح ألبرتا أرثرز، مستندة إلى جيرتس، «لو كان بالإمكان إدراك العام … فيجب إدراكه، لا بطريقة مباشرة، كله مرة واحدة، ولكن من خلال الحالات، والاختلافات، والتنويعات، والخصوصيات؛ بأسلوب التجزئة، حالة تلو الأخرى. في عالم متشظٍّ، يجب أن نتعامل مع الشظايا» (٢٠٠٣: ٥٨١). لا يعني هذا أن علينا أن نختار بين «عالم واحد» وبين عوالم كثيرة غير خاضعة لقياس واحد، لكن أن العولمة تُجابِهنا بتحدي فهم أشكال الارتباط الجزئي الجديدة، والإدراكات الجديدة للحدود. يكشف هذا أيضًا عن إمكانية وجود طرق أكثر تعقيدًا إلى المعرفة، ويتيح «علمًا اجتماعيًّا سائلًا لا ممركزًا، مع نماذج سائلة لا ممركزة، لمعرفة العالم بأسلوب مجازي، غير مباشر، وربما تصوري، وحسِّي، وشاعري، علمًا اجتماعيًّا للروابط الجزئية» (لو وأوري ٢٠٠٤: ٤٠٠). وبدلًا من فهم العالم بمعيار الفضاء المجرد، والزمن المتجانس، يشير هذا إلى أهمية استكشاف ما يسميه طلال أسد (٢٠٠٣) فضاءً معقدًا وزمنًا معقدًا.

العالم المفهوم حسب الفضاء المعقد والزمن المعقد، ليس عالمًا جُعلت حدوده زائدة عن الحاجة، ولكن الحدود تجتاز فيه ذاتية الأشخاص الذين يجدون أنفسهم يعيشون في عوالم متعددة، على غرار ما تُذكِّرنا به فرقة لوس تيجرِس دِل نورتِ المكسيكية-الأمريكية. يفترض عالِم الاجتماع الفرنسي، آلان تورين (٢٠٠٢) أنه في العالَم الكوني، يكون «البناء الذاتي للفرد بوصفه فاعلًا» هو ما ينبغي وضعه في مركز الكفاح من أجل فهم العالم المعاصر. على مر السنوات الأخيرة، أصبح السؤال عما يشكِّل الفعل سؤالًا جوهريًّا على نحو متزايد بالنسبة إلى النظرية الاجتماعية (يواس ١٩٩٦؛ أسد ٢٠٠٣). يفترض تورين أن هذا يقع في القلب من فهم العالم المعاصر، داعيًا العلوم الاجتماعية إلى تغيير بؤرة تركيزها تغييرًا جذريًّا، «من فهم المجتمع» (بالتركيز على الأنظمة والمستويات والديناميات) إلى «اكتشاف الذات»، واضعة الكفاح من أجل التحول إلى فاعل في مركز العلوم الاجتماعية. يضع هذا مسألة حركات الفعل في قلب الطريقة التي نحاول بها فهم العالم المعاصر.

الحركات العالمية

يركز هذا الكتاب على أشكال الفعل والثقافة التي نشأت في أنماط مختلفة من الحركات التي صارت كل منها عالمية. عُرفت أولى الحركات باسم حركة «مناهَضة العولمة» في فترة الاحتشاد ضد مؤتمر منظمة التجارة العالمية الذي انعقد في سياتل في نوفمبر ١٩٩٩، ولكنها تعرِّف نفسها على نحو متزايد في المرحلة الراهنة بأنها حركة من أجل عولمة أخرى. أصبحت هذه الحركة، على مدى التسعينيات، أكثر تجلِّيًا من خلال التكتلات والأفعال المرتبطة بالأهمية المتزايدة للقمم والاجتماعات الدولية التي تعقدها منظمات من قبيل البنك الدولي، أو المنتدى الاقتصادي العالمي، أو منظمة التجارة العالمية؛ حيث لا تمثل هذه القمم منصات للمصرفيِّين والزعماء السياسيين فقط، ولكنه نقاط التقاء لشبكات الجماعات والفاعلين الناشئة التي تعرف نفسها بالتعارض مع عولمة «الليبرالية الجديدة» أيضًا. تعاظمت هذه الاحتشادات بعد سياتل في عام ١٩٩٩، بالغة ذروتها في جنوة في يوليو ٢٠٠١؛ حيث احتجَّ نحو ٢٠٠ ألف إنسان ضد ما رأوه أجندة قادة دول «مجموعة الثماني» الأكثر تصنيعًا في العالم. بدا لكثير من المحللين أن هذه الاحتشادات الجماهيرية عارضة، واعتقد كثير من المراقبين المشهورين بأنها ستختفي في أعقاب هجمات ١١ سبتمبر عام ٢٠٠١ («وول ستريت جورنال» ٢٠٠١). لكن الحال لم تكن هكذا إجمالًا، مع حدوث احتشادات جماهيرية خارج الولايات المتحدة، كما في برشلونة عام ٢٠٠٢، أو إيفيان في فرنسا عام ٢٠٠٣. لكن حجم الاحتشادات بذاته يمكن أن يكون مضلِّلًا؛ إذ يخفي الدور الحاسم الذي لعبته ما يُسميها عالِم الاجتماع الإيطالي ألبرتو ميلوتشي (١٩٩٦أ) «الشبكات المغمورة» داخل هذه الحركات؛ وهي — في هذه الحالة — الأشكال الجديدة من شبكات الإعلام والإنترنت، والحركات الإنسانية الجديدة، والأشكال الجديدة من الثقافة والفعل المباشر التي ظهرت في الفعل الإيكولوجي والحضري، وتكمن في أصول الشبكات العالمية التي برزت في النصف الأخير من عقد التسعينيات. حالما نستكشف هذه العملية نجد مبادئ جديدة للفعل: تحولًا من صور التضامن الأقدم إلى مبادئ جديدة لتضامن سائل (ماكدونالد ٢٠٠٢).

تتضمن الحركة المحتجَّة على العولمة الليبرالية الجديدة أبعادًا وشبكات مهمة خارج بلدان مثل الولايات المتحدة، أو أوروبا أو المجتمعات المماثلة. فيما سيأتي، سنستكشف واحدة من أهم هذه الحركات التي لعبت دورًا أساسيًّا في الإسهام في نشوء حركة أوسع، وهي بالتحديد حركة ساباتيستا التي ظهرت في منطقة الشياباس في المكسيك، في يناير ١٩٩٤؛ حيث سيطرت جماعة صغيرة من المتمردين المحليين — متأثرة بتقاليد استراتيجية حرب العصابات الأمريكية اللاتينية — على خمس بلدات. كثير من الناس في المكسيك، ومنهم أولئك المتعاطفون مع السكان الأصليين في بلواهم، أفزعتهم بوادر الصراع المسلح هذه؛ إذ أتت والحرب الأهلية العنيفة المروعة في جواتيمالا المجاورة آخذة في الاقتراب من نهاية دامية. واعتبر كثير من المراقبين الخارجيِّين أن هذا الفعل لا يعدو أن يكون حركة قومية إثنية أخرى تسعى إلى الدفاع عن تقاليد محلية بالية غالبًا، في طريقها إلى الاضمحلال لا محالة. وفي الفترة اللاحقة أظهرت هذه الحركة الأصلية قدرة استثنائية على التحول إلى شيء جديد، بنبذ الصراع المسلح نبذًا فعالًا لصالح نمط فعل جديد. لا سيما فعل اتصالي وثقافي، قادر على ربط التقاليد بالانفتاح؛ مما حرك ديناميةً دولية استثنائية ما زالت فاعلة حتى الآن. يتجلى هذا مثلًا في تطور «الإنديميديا»، مركز الإعلام المستقل الذي بدأ في تظاهرات منظمة التجارة العالمية في سياتل، ولكن جذوره كانت تمتد إلى دعوة إلى إعلام عالمي مستقل صُنِعت في الغابة المكسيكية. إن أصالة هذه الحركة لها دلالات عظيمة على طريقة تفكيرنا في العولمة والحركات والأخلاق والديمقراطية المعاصرة.

أما الحركة الثانية التي يستعرضها هذا الكتاب فلم تنشأ في الأمريكتَيْن ولا في أوروبا، وإنما نشأت في الصين. هذه هي حركة الفولون جونج، وهي حركة تربية، تمتد جذورها في حركة التشيجونج الأوسع التي ظهرت في الصين في أعقاب «الثورة الثقافية». والفولون جونج نفسها تقوم على سلسلة من التمارين التي طوَّرها في أوائل التسعينيات مسئولٌ عام رسمي، هو لِي هونججي. وعلى مدى العقد التالي اعتبرها ملايين الناس في الصين نوعًا من الممارَسة، وتلقَّت دعم أقسام معتبرة من نخبة السلطة، قبل إعلانها طائفة غير شرعية، وتعرُّضها لقمع شديد من أبريل ١٩٩٩ فصاعدًا. وقدَّرت منظمة العفو الدولية (٢٠٠٠) أن أكثر من خمسة آلاف ممارس أُرسِلوا إلى معسكرات اعتقال خلال العامين التاليين للحظر. وعلى الرغم من محاولات قمع الفولون جونج في الصين، فقد تطورت بين صينيِّي المهجر في شرق آسيا، وأبعد من ذلك، وخصوصًا من خلال وسائل تكنولوجيا المعلومات كالإنترنت. وهي تظهر في الصين عبر أفعال متفرقة، مثل اختراق شبكة التليفزيون الوطنية في الصين في أواخر عام ٢٠٠٣. ورغم هذا القمع، يرى المختصُّون بالصين أن هذه الحركة تمثل أبرز التحديات للنظام الصيني منذ حركة الطلاب في عام ١٩٨٩ (فرماندر ٢٠٠١). الأمر المميز بخصوص هذه الحركة هو مدى تشكُّلها في صور من الممارسة المجسَّدة مثل تمارين التشيجونج والتأمل، وهي على هذا النحو جزء من تحول اجتماعي وثقافي أوسع في الصين في حقبة ما بعد الماوية. يتضح أن هذه الحركة ليست «حركة اجتماعية» بالمعنى الذي فهم به علماء الاجتماع هذا المصطلح تقليديًّا. لكن إذا كانت واحدة من أهم الحركات التي ظهرت في الصين خلال التسعينيات فإن هذا يفرض علينا استحداث أدواتٍ ملائمة لاستكشاف تطورها وأهميتها. وفي هذه الحالة، تواجهنا الفولون جونج، وحركة التشيجونج الأوسع التي نشأت الفولون جونج منها بأسئلة نقدية عن التجسيد، والذاكرة، والذاتية، وهي أسئلة برزت في منبت حضاري مختلف عن المنابت التي نشأ منها علم الاجتماع والعلوم الاجتماعية الغربية. ولكي نستكشف تطورها، نحتاج إلى «تفكيك مركزية» الخبرة الغربية (جول ٢٠٠٠).

ثالثًا، يتجه هذا الكتاب إلى استكشاف تطور الخبرات الإسلامية الجديدة الناشئة في الفضاء ما بين المجتمعات الإسلامية في العالم والبلدان ذات الأغلبية المسلمة. تختلف التحليلات التي تبحث الأهمية المتزايدة للجماعات والشبكات الإسلامية اختلافًا كبيرًا في مناهجها. يفترض عالم الاجتماع السياسي الفرنسي جيل كيبِل (٢٠٠٢)، مثلًا، أننا نشهد تحولًا مما يسميه «إعادة أسلمة» من أعلى (التركيز على السياسة والدولة) إلى إعادة أسلمة من أدنى (التركيز على التديُّن والحياة الشخصية). ويشي هذا بالتحرك في اتجاهين في المسار الواحد، ضد عملية التحديث الغربية المسيطرة. يشير كتَّاب آخرون إلى ما يتجاوز النموذج الانعكاسي، بإشارتهم إلى ظهور أنماط جديدة من الفضاء العام (أندرسون ٢٠٠٣)، وظهور أنماط جديدة من الخبرات والذاتيات «عبر المحلية» (ماندافيل ٢٠٠١)، والأهمية المتزايدة للممارسات المبنية على أساس الاستقلالية والتجسيد والذاتية (محمود ٢٠٠٤). تشير هذه التحليلات إلى شيء جد مختلف عن نماذج الهويات الإثنية أو المجتمعية الدفاعية التي تفهم الحركات الإسلامية على أنها «ثغرات» في عملية العولمة.

أحد أهم التعبيرات عن هذا الإسلام المعولم هو تطوُّر ما يسمِّيه أوليفييه روي «الأصولية الجديدة» (٢٠٠٤). بينما يشكل الإسلام جزءًا من عملية إعادة تشكيل أوسع للتقاليد الدينية (أسد ١٩٩٦)؛ حيث نواجه في هذه العملية ذاتيات وفضاءات عامة جديدة، فهو مرتبط أيضًا بظهور أشكال جديدة من مناهَضة الحركة (فيفيوركا ٢٠٠٥أ، ٢٠٠٥ب). قد يشي «نموذج الهوية» المستخدم في فهم الحركات الاجتماعية بأن هذه مجتمعات دفاعية مبنية في مواجهة عولمة غازية (كاستلز ١٩٩٧). لكن المسألة المهمة المطروحة للنقاش هنا تبدو شديدة الاختلاف، مع وجود أشكال معاصرة من الأصولية مبنية «ضد» ثقافات المجتمعات وتواريخها (ميديب ٢٠٠٢)، بينما تقع في التدفقات العالمية للناس والأفكار. تستكشف الفصول القادمة ظهور أشكال جديدة من الممارسة الإسلامية العالمية، ولكنها تركز في الوقت نفسه وبالتحديد على أشكال الذاتية والممارسة المجسَّدتين المطروحتين في حركات التدين المتعولمة التي تشكك في أفهام الفعل المبنية وفق مبادئ التمثيل التجريدية.

مبادئ الثقافة والفعل

تتقاطع أشكال الفعل التي نستعرضها في الفصول اللاحقة مع الأفهام الأقدم للفاعلية والخبرة. ينظر الفهم الحديث إلى الفعل على أنه نتاج القصدية أو الأهداف؛ إذ يُفهم بمعنى التحرك لزيادة الاستقلالية والحرية (أسد ٢٠٠٣: ٧١). وفي هذا الإطار، تكون العلاقة مع الجسد علاقة ذرائعية؛ حيث يحس الفاعل بكون ذاته «في» جسد، أو بكونه ذاتًا «تملك» جسدًا (تشوينفلدت ١٩٩٩: ١٠). فُهِمت الحركات كما سنراها في الفصل التالي داخل تفرُّع متكرر، فإما أن تُفهم بمصطلحات «ذرائعية» (في إطار نماذج الفعل الرشيد)، وإما بمصطلحات «تعبيرية» (بتركيز على الهوية، أو الرمزي، أو المجتمعات). وأبرزت أفهام الفضاء العام ما هو رشيد ومنطقي، مستخلِصة نموذجًا مثاليًّا للفضاء العام البرجوازي، مفهومًا على أنه موجود بين الدولة والمجتمع. فُهم الفاعل الفرد على أنه علماني، مجرَّد، ورشيد، واستُخدم هذا النموذج المعرفي كذلك للتفكير في التنظيم والعلاقة بين الخبرة الفردية والخبرة الجمعية. وفي القلب من هذا الفهم سنواجه فئة التمثيل.

نرى في الحركات التي نستعرضها في هذا الكتاب تحولًا من الأشكال الأقدم للتنظيم إلى خبرات جديدة. نجد في صورة مؤثرة خبرات التجسيد والحضور المجسَّد، وخبرات تُفهَم على نحو أمثل باعتبارها خبرات «بين ذوات مجسَّدة» (جورداش ١٩٩٣: ١٤٦)، لا باعتبارها نماذج تمثيل. يبرز هذا تعددية الحواس التي نشعر من خلالها بالعالم، والآخر، والذات. ولكننا حالما نعترف بإمكان الفعل بطريقة حسية، نكسر قيود الفعل القصدي؛ لأن الخبرة الحسية لا يمكن فهمها من حيث الأساس بمعايير قصدية. هذه الحواس تهدد الفعل القصدي، ولعل هذا ما يفسر لماذا طُمِست هكذا بالكامل في علم اجتماع الحركات. نجد باستمرار على مدار هذا الكتاب التجسيد والحواس: الرقص، والموسيقى، وقرع الطبول، وركوب الدراجات، وخوض المخاطر، والمواجهة الجسدية؛ حيث يصبح الفاعل المجسَّد وتفاعل الذوات المجسَّدة حاسمَين للفهم: من تجسيد الفعل المباشر في فعل مناهضة العولمة إلى الذاكرة المجسَّدة والخبرة العامة المجسَّدة في حركات التشيجونج أو ممارسات التدين الإسلامية. هذه الأشكال من الفعل والثقافة تسمح لنا بهجر الجدالات المكرَّرة في الغالب، المصوغة بلغة الفرد في مواجهة المجتمع، وتفتح المجال لأشكال الاستقلالية الفردية التي تتنافى ونموذج الفرد المجرَّد الرشيد.

ليست الحركات التي نستعرضها في هذا الكتاب حركات هوية، ولا هي تعبيرات عن الهوية. يحسُن تناول الحركات التي نستعرضها بطرق مختلفة عن تناولها بمفاهيم «الفئات» و«المجاميع»، وهي مفاهيم، كما رأينا، تمتد جذورها في زمن ومكان محدَّدَيْن. بدلًا من أحاسيس اﻟ «نحن» المصوغة بقوة، من الأرجح أن نواجه خبرات النزوح المصحوبة في الغالب بخبرات الغربة، وما تدرسه مارجريت شيلدريك (٢٠٠٢) بوصفه «لقاءات مع الذات الهشة». من خلال الاشتباك مع هذه الأشكال من الفعل والثقافة، أحاول أن أفهم المبادئ الأكثر تجسدًا للذاتية، والذواتية (التفاعل بين الذوات)، والفعل. وبدلًا من التفكير في الحركات المعاصرة وفق نماذج المنظمة أو المجتمع التي كانت ذائعة على مدى القرن العشرين، آمل أن أوسع الطريقة التي نفكر بها في الحركات لتشمل موضوعات آتية من دراسات الإيقاع، والموسيقى، والرنين. ومما يثير التناقض أنه بينما تجلب العولمة معها الإحساس بأننا نعيش في عوالم مختلفة، تشي هذه الحركات بطرق تفكير جديدة في العوالم التي نتشارك فيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤