الفصل العاشر

إعادة النظر في الحركات

شرع هذا الكتاب في تحليل أشكال الفعل والثقافة المتحولة في الحركات الآخِذة في العولمة، ولا يقتصر أمله على مخاطبة الباحثين والطلاب، ولكن يشمل الناس المنخرطين في إنشاءِ مثلِ هذه الخبرات والإحساس بها وعيشها. ما التداعيات على الطريقة التي نفكر بها في الحركات؟ وهل من موضوعات هنا يمكن أن تُعِينَنا على فَهْم الفعل والعولمة بطريقة جديدة؟

ما وراء «الحركات الاجتماعية»؟

تشير الحركاتُ كلُّها التي استكشفناها إلى تحوُّلٍ جذري في النموذج المعرفي، من الأنماط المسيطرة للحركة التي ظهرت وترسَّخت في أوروبا وأمريكا الشمالية على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين، ونطلق عليها عمومًا «الحركات الاجتماعية». ظهرت هذه الحركات في سياق الأفهام الجديدة بشأن العموم، والتكافؤ الوظيفي، والأفهام الجديدة للأعداد الكبيرة، وأشكال الدمج، والطرق الجديدة للتفكير بشأن العلاقة بين الخبرة الفردية والخبرة الجمعية. ترافقت هذه التحولات لتجعل من الممكن التفكير بطرق جديدة في الفئات، والتنظيم، والفعل. وبرز من هذا ما نفهمه الآن باعتباره «الحركة الاجتماعية». أتاحت الأفهام الجديدة للعموم، والأعداد الكبيرة، والتكافؤ الوظيفي، التفكير في الكيانات الجمعية التي تفعل بطرق جديدة. وكما يؤكد تشارلز تيلي وبيير بورديو، كانت هذه الأشكال من الفعل مدمجة في تاريخية جديدة للتمثيل. يمكننا أن نرى هذا في تركيز تيلي على الجدَّة التاريخية للاتحاد، وفي تركيز بورديو على الفعل الرمزي للتمثيل؛ إذ يخلق جماعاتٍ اجتماعيةً جديدة من قبيل الطبقات. أمَّا تحليلُ طلال أسد لأصول هذا الفهم فيُعِيدنا إلى مولد الحداثة، وإلى الممارسات الجديدة في النهضة الأوروبية، التي بدأت تفصل الكينونات الداخلية للأشخاص وتمثيلهم العام، وأدت إلى فَهْم جديد للفعل الرمزي الذي يضعه هوبز في مركزِ خلقِ الكيان الجمعي الحديث الأول، وهو الدولة القومية. وفي مركز هذا الفهم الحديث الجديد للفعل، نواجه «القدرة على التمثيل». ظلَّ هذا في مركزِ طرق التفكير بشأن الحركات الاجتماعية؛ حيث «تتكوَّن الجماعة من خلال فعل التمثيل».

بوسعنا أن نرى هذا الفهم الجديد وهو يبلغ منتهاه في العصر الصناعي، وخصوصًا في نماذج الفعل الجمعي التي نلقاها في النقابات المهنية التي تطورت على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين. فُهِمت بنية الحركات بمعايير علاقات التمثيل والتفويض الرأسية التي كان بإمكانها المضي من المحلي إلى الجهوي إلى الوطني إلى الدولي. وكانت المسألة المهمة هي الهوية العامة، المشتركة. كان بالإمكان استبدال أي شخص يلعب دورًا بأي شخصٍ آخَر من حيث المبدأ، في محاولة لتجريد الحركة من الفردية. وكان الكيان الجمعي يفعل من خلال الفردي، عبر ثقافة التضامن. يتصل الأعضاء ﺑ «المجموع» المُنشَأ من خلال المؤتمرات، والإعلانات، والرموز. وتمثل العلاقات الأفقية بين شخص وشخص تهديدًا محتملًا، إلى حدِّ أنها تتعارض مع العلاقة الجوهرية؛ العلاقة التي تربط العضو بالمجموع. ويُفهَم الفعل في المقام الأول بالمعايير القصدية.

المدهش هو مدى استمرار طريقة تفكيرنا بشأن الحركات المعاصرة لصيقةً بهذا النموذج المعرفي بقدرٍ كبير. يُبرِز تارو تراتبيةً خفيةً في نموذجه ﻟ «تغيُّر النطاق». وأبرَزَ فهْمُ تيلي السابقُ للاتحاد، مع إصراره على تشكيله العمدي، أن الاتحاد مثَّلَ جماعةً ما أخرى، أو تحدَّثَ باسمها. وعلى مر الثمانينيات وخلال التسعينيات شهدنا تحولًا في المقاربات السائدة إزاء الحركات الاجتماعية، بالابتعاد عن التنظيم، والتركيز بدلًا من ذلك على الهوية الجمعية والمجتمع. لكن الفعل لا يزال محلَّ تفكيرٍ بالمعايير ذاتها: تفعل الحركات «باسم هويات»، والفعل هو «القدرة على التمثيل». يفترض بعض الكتَّاب أن الحركات تمثِّل في المقام الأول مصالح؛ ولذلك يمكن فهمها بمعايير بنى الفرصة واستراتيجياتها. ويفترض غيرهم أنها تمثِّل مجتمعات وهويات؛ ولذا يركِّزون على الفعل الرمزي و«تعبيرات الهوية». ويقال إن ما تُسمَّى مقارَبة «العملية السياسية» لدراسة الحركات الاجتماعية لم تحقِّق نفوذَها بسبب أستاذية رموزها الأساسيين التي لا شكَّ فيها فقط، ولكن أيضًا لأنها تجمع بين هذين البعدين من التمثيل. وكما يزعم هؤلاء الكتاب، تمثِّل الحركات هوياتها استراتيجيًّا؛ فهي تصوغ ادِّعاءات الاستحقاق، والالتزام، والوحدة لكي تصبح لاعبين أكثر نجاحًا في النظام السياسي. وعبر هذه المقاربات المختلفة، يتكرر الموضوع نفسه. التعبير عن الهوية يبني المجتمع (هيذرينجتون). الاتحاد والادعاء يُنشِئان ما يسمِّيه تيلي «المجتمع الانتخابي». وفي كلٍّ من النظريات الذرائعية (الفرص والاستراتيجيات) والنظريات التعبيرية (المجتمعات بصفتها رموزًا)، «تُخلَق الجماعات من خلال فعل التمثيل». هذا هو قلب فكرة «الحركة الاجتماعية».

ناقشنا في هذا الكتاب، ولو بإيجاز، مفكِّرين من أمثال هوبز، أو تأملنا لبعض الوقت الأفهامَ الجديدة للتمثيل التي ظهرت حين مولد الحداثة الأوروبية، أو بدأنا نستكشف فكرة الحضارات، وكان لزامًا أن ننبه إلى العمليات الاجتماعية المتضمَّنة في بناء الفئات الأساسية للخبرة؛ فهذه كلها طرائق للكينونة في العالم، ولكنها أيضًا طرائق للكينونة في الجسد؛ حيث نحسُّ بأنَّ لِذَاتنا جسدًا، أو بأن ذاتنا كائنةٌ في جسد. حيث تُمنح الأولوية للرمزي والتمثيلي، سواء في مبادئ التطور من المجسَّد إلى الرمزي، أو داخل فهم متجرد من التجسيد؛ حيث يمثِّل الجسد الفوضى التي ينبغي أن تُحوَّلَ إلى رموز للتعامل معها. ما نعمِّمه على نحوٍ غير واعٍ بالذات باعتباره «الاجتماعي» هو نتاجُ المسار الغربي. تلحظ ماري بوفي (٢٠٠٢: ١٢٧) أن كلمة «الاجتماعي»، التي ترجع أصولها إلى كلمة «سوسياليس» أو «سوسيوس» اللاتينية، دخلت اللغة الإنجليزية في أواسط القرن السادس عشر، وكانت تُفهَم في عام ١٥٦٢ على أنها قدرةٌ يمتلكها الفرد على تشكيل العلاقات. ويعكس هذا، كما تفترض، فهمًا متغيرًا للفاعل الإنساني، لم يَعُد يُدرَك باعتباره جزءًا من كلٍّ أكبر، ولكن باعتباره كيانًا فرديًّا يمتلك القدرة على الارتباط مع الكيانات الفردية الأخرى. تؤكد إعادةُ بناءِ بوفي لأصول اللفظ وتحولاته تمامًا إلى أيِّ حدٍّ عكَسَ الفهمُ وعيًا بالنزعة الفردية الجديدة وبالعبء الأخلاقي الجديد الذي أتى معه. في البداية أُدرِك هذا الفهم للقدرة الاجتماعية بالمعايير الدينية، باعتباره أحدَ أبعاد الطبيعة الإنسانية التي تمتد جذورها إلى الله. تتقصَّى بوفي عبر سنوات القرن الثامن عشر عمليةَ العلمنة التدريجية لهذا الفهم، وتطوُّره من أحد أبعاد الطبيعة الإنسانية التي تمتد جذورها إلى الله؛ ليصبح ما صاغه الفيلسوف البريطاني توماس ريد في عام ١٧٨٥ باعتباره «عمليات العقل». لم يقتصر تأثير هذا على تطبيعِ ما كان يُفهَم بمعايير ثيولوجية، ولكنه أرسى أيضًا الأساسَ لفهمٍ معيَّن للاجتماعي يُعلِي من شأن مبادئ العلامات؛ إذ افترض ريد أن الحواس ينبغي فهمها باعتبارها «علامات» لموضوعات خارجية (كلارك ١٩٨٧). وبينما يُعتبَر هذا الافتراض نقديًّا لكثير من فلسفة ديكارت، فقد اشترك في الأفهام ذاتها التي تفصل بين الجسد والذاتية. يتقصى طلال أسد في هذا السياق ظهورَ فكرة «الشخصية» باعتبارها فكرةً لهُوية أساسية فريدة لكل فرد (١٩٩٣: ٧٠)، في مجتمعِ هوياتٍ ناشئ، يُفهَم على أنه باعتباره متزايدَ العمومية ومتزايدَ الخصوصية معًا، «قابلٌ للإبدال وفريدٌ بطريقة جديدة» معًا (بوفي ٢٠٠٢: ١٣٧). ومن هذا المسار التاريخي نواجه نموذجًا معرفيًّا غربيًّا يدرك الفعل باعتباره تمثيلًا، نموذجًا يركز على أولوية الرمزي، يمتد من ديكارت إلى كانت وريد، ودوركيم وفرويد، وإلى مُنظِّرِي الأنظمة الرمزية وتابعيهم، من ليفي-شتراوس، وعلماء الأنثروبولوجيا الإنجليز، وهابرماس ودريدا. ليس هؤلاء منظِّرين للحركات الاجتماعية، ولكن عملهم لعب دورًا حاسمًا في بناء الفئات التي نفهم من خلالها الفعل والكينونة في العالم.

التجسيد والفعل والذات

يتعارض كلٌّ من الحركات التي حللناها مع أولوية الرمزي، فكرة أن الفعل يمثل مصلحة أو يعبِّر عن هوية، ومن خلال ذلك يكوِّن جماعة. ويؤكد كلٌّ منها بطريقة مختلفة أهمية مبادئ الفعل المجسَّدة والخبروية. أكد تحليل الحركات «المناهضة للعولمة» أهمية التجسيد، والحواس المتعددة التي تتيح النفاذ إلى العالم، وإلى الذات، وإلى الآخر. ولا يمكن فهم حركة التشيجونج التي درسناها بمعايير فعل تمثيلٍ لفئة. على العكس من ذلك، يفضَّل فهمها باعتبارها «حركة استشفاء». والساباتيستيون ليسوا منخرطين في فعل قومي إثني يمثلون فيه هوية مجتمع؛ ولكننا نواجه أشكالًا من الانفتاح على الآخر، ثقافة اللايقين، أشكالًا من الاتصال المجسَّد تتجلى في إيقاع سردي؛ هي حركة مبنية من خلال موسيقية تفاعل الذوات المجسَّد. ولا تُعبِّر حركة التديُّن الإسلامية عن هوية، ولا تشكل مجتمعًا انتخابيًّا، ولكنها منهمكة في أشكال من العمليات المتجسدة لصنع الذات؛ حيث نلقى فهمًا للغة غير مصاغ وفق أولوية الرمز، ولكنه فهم يولي الأهمية للصوت، والسمع، ولخلق المستمِع المتجسِّد.

لا حركة من هذه الحركات منشأة على أساس بِنى التمثيل والتفويض، ولا أيٌّ منها تعبير عن عملية تشاور عقلاني. ما يتكرر باستمرار هو حقيقة أن هذه الحركات منهمكة في «العمل»؛ حيث تكون الحواس في قلب الفعل. يتضمن اللقاء البصري مع الدمى التقاءً بالجمال والأسى. وتكوِّن ممارسات التشيجونج خبراتٍ لداخلٍ اتصاليٍّ وذاكرة متجسِّدة؛ وتنشئ ممارسات التديُّن خبرات بالباطن وأشكال صنع الذات التي لا تتفق والذات الغربية الاستقلالية. وقصص الساباتيستا هي نتاج متحدِّث ومستمع، وليست نظامًا رمزيًّا متكررًا لا زمن له. فكل قصة تستثير إحساسًا بالمكان — الصوت، والرائحة، والإحساس بالزمن، ولمسة الريح، ورائحة الطين، وهي موضوعات تقع أيضًا في مركز الفعل المناهض للطرق الذي درسناه.

تؤكد أشكال الفعل هذه أهمية التجسيد بوصفه ممارسة تكون الخبرة فيها «نمط حضور وتفاعل» (جورداش ١٩٩٣: ١٣٥) في العالم. ولكي نفهم طبيعة الحركة هنا، نحتاج إلى نبذ نماذج الجماعة والمجتمع والفئة التي تتشكل فيها الجماعة من خلال فعل التمثيل. وبدلًا من نموذج الجماعة أو المجتمع، يفُضَّل فهم هذه الحركات بمعايير نموذج التفاعل المتجسِّد بين الذوات (جورداش ١٩٩٣)؛ حيث نلقى السمع، والإحساس، واللمس، والتذوق، وحيث يكون الزمن في الجسد عبر مكان الإيقاع في هذه الأفعال.

المدهش هو المدى الذي بلغته النظريات السائدة بشأن الحركات الاجتماعية في استبعاد الحواس. وأكثر ما يكون هذا وضوحًا في الروايات الذرائعية للحركات، بتركيزها على الاستراتيجية، والمنطقية، والحساب، والفرصة. ينبغي أن نكون واضحين جدًّا: حالما نُدخِل الحواس، نقيِّد مجال الفعل القصدي. ليست هذه تمامًا هي الفكرة التي نألفها بأن جسدنا عقبة تقيِّدنا. على العكس من ذلك، فالغرض منها هو تأكيد أنه بينما نستطيع أن نشكِّل الحواس (وكثير من صور ممارسات الجسد تهدف إلى هذا)، يبقى الجسد، كما تفترض ناديا سيريمتاكيس (١٩٩٤: ٩) أداة إنتاج للمعنى، تشتغل بما يتجاوز كلًّا من الوعي والنية. تهيئ الحواس الجسد لتذكر الأشياء المنسية، وراء مجال الفعل القصدي. لا يمكن أن نقرر تذكُّر شيء ما نسيناه؛ لا يمكن تحقيق هذا من خلال الإرادة أو الإدراك. يمكن توضيح ذلك بقوة من خلال تطور حركة التشيجونج في الحقبة التالية للثورة الثقافية. لا يمكن من خلال الإرادة والتمثيل (أي من خلال فهم بورديو للفعل) تشكيل إحساس جديد بالذاتية المتجسدة بعد فترة صدمة. مثل هذا التجسد يضع الخبرة اللاإرادية في مركز الفعل؛ بامتلاك ممارسات الجسد بعدًا متميزًا من تعلُّم التخلي عن السيطرة على الجسد.

يسهل نسبيًّا أن ندرك أن النموذج المعرفي الذرائعي، بفهمه الفعل على أنه استراتيجية وتعظيم الفرصة، مهيأ للميل إلى استبعاد الجسد والحواس. ولكن أليس هذا في قلب نموذج الهوية بافتراضه أن الحركات هي «تعبيرات عن الهوية» كما يقول هيذرينجتون؟ تعتمد مثل هذه المقاربات على وجه الخصوص على دوركيم، وعبر فيكتور تيرنر، وعلى فرويد. وتولي أهمية بالغة للطقس، كما رأينا في رواية ساشا روزنيل للطقس المحيط بجنازة الأميرة ديانا في بريطانيا، أو مقولة كيفين هيذرينجتون بأن الحركات هي «تماهيات شعورية على نحو مكثف»، خبرات «اجتماع» تُقابل التشظي الناتج من الهيمنة الذرائعية للمجتمع الحديث (على نحو يعيد كما نرى إعمال فهم الأنثروبولوجيا البريطانية للطقس) (١٩٩٨: ١١٣). الفكرة الجوهرية، التي عبر عنها هيذرينجتون بقوة، هي أن الحركات تُنتِج «كيانًا كليًّا» استجابةً للتجزؤ. يحاكي رون آيرمان، مثلًا، دوركيم حينما يلح بأنه «في المقام الأول، تشير الحركة إلى خبرة التحرك والتحريك من قبل قوًى أكبر من إرادة المرء الفردية أو اختياراته العقلانية» (٢٠٠٢: ٢): الخيار المطروح في الحركة حاضر إما باعتباره اختيارًا رشيدًا، أو بكونها تحرُّكًا بفعل «شيء أكبر». هذه المقاربات إزاء الطقس والمجتمعات، بوصفهما خبرات شعور متجانس، تفهم «الشيء الأكبر» وفق خبرات «التجرد من التفرد» (مارشال ٢٠٠٢)، ذوبان الفرد في الجمعي اللامبني، المجتمع المشاعي. تعكس رواية هيذرينجتون ﻟ «النشوة»، التي يضعها في مركز خبرات الحركة بالشعور، مناقشة دوركيم للنشوة التي يعتقد بأنها تعرِّف الخبرة الدينية. تُفهمَ هذه باعتبارها خبرات اضطراب واستثارة يظهر من خلالها الفرد متحولًا. حينما تدخل الحواس تختفي الذات. يقدَّم لنا الخيار بين ذات عقلانية ذرائعية، وبين حواس الكوميونيتاس (المجتمع المشاعي) وشغفه. ويعبر دوركيم عن هذا التضاد بقوة؛ إذ يكتب: «نكون أشخاصًا بقدر أكبر كلما تحررنا من حواسِّنا» (١٩١٥: ٢٧٢).

هذه الروايات الذرائعية (الاستراتيجية والفرصة) ونظريات الهوية (التعبيرية، والمجتمع، والكوميونيتاس) يعكس بعضها بعضًا. فالنظريات الذرائعية تستبعد الجسد من النظام لتركز على الفاعل الرشيد. والنظريات التعبيرية تُدخِل الجسد ولكن في إطار نظرية يكون فيها الشخص مذابًا في فئات الكلية. يلعب هذا التضاد بين الذرائعي والتعبيري بالطبع دورًا محوريًّا في الخبرة الغربية، يتجلى مثلًا في نظرية بارسون عن أدوار النوع الاجتماعي؛ حيث اعتقد بأن الرجال ذرائعيون وعقلانيون، بينما النساء عاطفيات وتعبيريات. ويشيع الآن فهم أن هذه طريقة بائسة للتفكير في النوع الاجتماعي، والجنسانية، والذكورة والأنوثة. ولكننا نجد باستمرار أن هذا التضاد نفسه بين «الذرائعي» و«التعبيري» يكرَّر في النقاشات بشأن الحركات، مصاغًا بتعبيرات «الاستراتيجية» و«الهوية». للبدء باستجلاء معنى ما هو على المحك في مبادئ التجسيد التي تعرضنا لها في هذا الكتاب، نحتاج إلى نبذ هذه النظريات عن التجرد، والنظام والاختلال، والكلي والطقوسي التي تتضاد وتشظي العالم الحديث، التي ترجع جميعها إلى أواخر القرن التاسع عشر، وتعكس جميعها بطرق مختلفة أولوية التمثيلي على المجسَّد.

يتيح تحليل طلال أسد للألم والفاعلية طرقًا للتفكير في الممارسة المجسَّدة مختلفةً عن اعتبارها تعبيرًا كليًّا عن الهوية. ويتأمل أسد الألم المُعانَى في المخاض باشتباكه مع المقولة التي طورتها عالمة الأنثروبولوجيا الأمريكية باميلا كاسن التي تفترض أنه «ربما في أمريكا في أواخر القرن العشرين؛ حيث تُعلَّم النساء أن يكن ناقدات لأجسادهن من الخارج، يضع ألم المخاض النساءَ مرة أخرى «في» أجسادهن» (مقتبس في أسد ٢٠٠٣: ٨٧). يشير أسد إلى أن المخاض وفق أفهام الفعل القصدية، كما طرحها النسويون الحداثيون، مثل سيمون دي بوفوار، سلبي ومنتقص من الإنسانية، خبرة تبقي النساء «عالقات في الخطر» (سوزان بريسون، في أسد ٢٠٠٣: ٨٧). هنا يُفهَم الألم والتجسُّد بوصفهما خسارة للفاعلية، وسلبية. لكن طلال أسد يفترض أن بالإمكان فهم خبرة الألم الحاضرة في المخاض باعتبارها خبرة إيجابية، مبرزًا كيف أن الخبرة والفعل «موجودان في جسد مادي»: «على الرغم من أن الجسد الحي هو موضوع الحواس (وهو سلبي بهذا المعنى)، فإن قدرته على المعاناة، وعلى الاستجابة الحسية والعاطفية للأسباب الداخلية والخارجية، وعلى استخدام ألمه بطرق فريدة في علاقات اجتماعية مميزة، تجعله إيجابيًّا» (أسد ٢٠٠٣: ٨٩). المسألة هنا ليست ما يرمز إليه الألم، أو يمثله أو يعبر عنه. على العكس من ذلك، يزعم أسد أن فعل الولادة المجسَّد يُنتج تحولًا:

صيرورة المرأة وكونها «أُمًّا» من خلال الأساليب العملية المستخدَمة في التقاليد المتنوعة. ولأن فعل الولادة لا يقتصر على إنتاج جسد حي آخر؛ فهو يخلق أيضًا علاقة حيوية مشرَّبة بالحساسية للألم، العلاقة التي تربط الأم والطفل بفعالية معًا. (٢٠٠٣: ٨٨)

هذا شكل من الفعل لا يُفهم بوصفه تعبيرًا عن الهوية، ولكنه ليس أيضًا شكلًا من الفعل يسعى إلى الاستجابة للفرصة الحاضرة في بيئته. كما يفترض أسد، فهناك أشكال من الخبرة نتصل فيها بالعالم من خلال أجسادنا، تتضمن «الرغبة في السماح لذات المرء بأن يسيطر عليها العالم بطرق معينة» (أسد ٢٠٠٣: ٧٣).

يحدث أمر مماثل في خبرة إنشاء الدمى التي وصفها نيك. يؤكد مادية عملية الإنشاء، الإرهاق المُعانَى من الصنع والبناء، الجهد المتضمَّن. ثمة نوع من خبرة المعاناة حاضر في روايته، شبيه من بعض الطرق بالألم المتضمَّن في الولادة؛ فالصعوبة المادية المحسوسة في بناء الدمى تتكرر باستمرار في روايته: التعب، الأثر المرهِق الناتج من الساعات الطوال. الجسد في مركز هذا البناء، ويُعلى هذا من خلال أهمية الطعام، والرائحة، والمذاق. ليس هذا شكلًا ذرائعيًّا من أشكال الفعل؛ فهو ليس محكومًا بالكفاءة ولا حسابات الكلفة والمنفعة. ولا هو حالة تضحية، أو معاناة من أجل تقليل معاناة الآخرين. ولا هو حالةُ كليةٍ أو مجتمع مشاعي؛ حيث يتسامى أولئك المعنيون على ذاتيتهم الفردية ويصيرون مدفوعين بشيء ما أكبر منهم. بدلًا من ذلك، فمن خلال فعل البناء، يتمكن الشخص من إعادة ربط جسده بذاته؛ ونتيجة ذلك لا ينصهر مع الآخر، ولكن يلقى الآخر بصفته آخر. الجسد وسيط الخبرة بالذات واللقاء مع الآخر.

ما نحتاج إلى الاعتراف به هنا ليس فقط حضور الجسد، ولكن أيضًا أهمية خبرة الجسد بالزمن. فمثل هذا الزمن المجسَّد يُحَس من خلال الإيقاع، أو النشاط المتبوع بالراحة. جودي، التي قابلتها في نيويورك، صاغت الفكرة نفسها: «لا يمكنك أن تبني دمية في لحظة»، بمقارنة الزمن المحسوس في بناء دمية بمطلب الرد على الرسائل الإلكترونية ومنتديات النقاش، في هذه الروايات، يكون الزمن، المحسوس من خلال الجسد بوصفه إيقاعًا، جزءًا لا غنى عنه في الممارسة. بوسعنا أن نرى كيف تتباين خبرة الزمن المجسَّد هذه، الزمن اللازم للممارسة المجسَّدة، مع يوتوبيا الشبكة المعبَّر عنها في احتفاء بيل جيتس بالتزامنية وفهمه للزمن باعتباره «احتكاكًا». يوتوبيا التزامنية هي يوتوبيا تتسم فيها الشبكة المتجردة من التجسد بالتبادل المستمر والفوري. أما أشكال الممارسة المجسَّدة التي تعرَّضْنا لها فلا تكشف فقط عن الحركة، ولكن عن «السكون» أيضًا. وهنا، مرة أخرى نصل إلى قيود الفعل الذي يُفهَم باعتباره تمثيلًا للمصالح من خلال «ادعاءات» أو باعتباره تمثيلًا للهويات من خلال «تعبيرات».

تشير قصص الفعل التي حكَتْها جودي أو نيك — خبرة الدمى، خبرة الأسى عبر التشيجونج — إلى أمر يتجاوز التضاد بين الذرائعي والتعبيري. «حتى نحس بالجمال، والدهشة، أو الأسى، يجب أن ننفتح لشيء يحدث لنا. يجب أن نجعل أنفسنا منكشفة». ليس هذا شكلًا من أشكال الانصهار في تعبير جمعي، أو مطالبة بالاعتراف بهويتنا. على العكس من ذلك، هو أحد أبعاد تكوُّن الذات، كيف نصبح ذاتًا يمكنها أن تنفتح على الخبرة بالآخر. يضع هذا خبرة الذاتية المجسَّدة في مركز أفهامنا للفعل، وله تداعيات عملية بشأن طرق تفكيرنا في الفعل الجمعي، وهو يؤكد في المقام الأول حدود نموذج الشبكة.

ما وراء الشبكات

نموذج المنظمة، ببنيته القائمة على التمثيل والتفويض؛ حيث يرتبط العضو بالمجموع، عاجز عجزًا بيِّنًا عن الإحاطة بالحركات التي استعرضناها. ولكن، كما أظن، لا يستطيع ذلك مفهوم «الشبكة» المتزايد التأثير أيضًا. الشبكة هي نظرية بنيةٍ غير مجسَّدة، مشكَّلة من حيث الأساس بفعل يوتوبيا الزمن المتجانس والعالم الخالي من الحدود. والشبكات، كما يؤكد بيل جيتس، تنشد التزامنية. قد تلتقط صورة الشبكة جيدًا مبادئ الأشكال الجديدة من السيطرة النشطة في عالم متعولم، كما في «رأسمالية الشبكة» التي حللها بولتانسكي وتشابيلُّو، بمطالباتها بالحركة والإبداع المستمر، وأولوية المدى القصير على المدى الطويل. وبالنظر إلى التأثير المذهل لفكرة «الشبكة» في الثقافة العالمية المعاصرة، فلا عجب أن كثيرًا من الناس المنخرطين في الحركات يحاولون فهم الأنماط الناشئة على أساس هذه الاستعارة. لكن ليس واضحًا أن ما هو مهم في الحركات التي درسناها هو نتيجة بنيتها الشبكية. الشبكة صامتة، يمكنها الإنجاز بالتزامن من خلال استبعاد الوقت، بينما أشكال الذاتية المجسَّدة التي تعرضنا لها مستحيلة دون الوقت. تستبعد صورة الشبكة الحواس والجسد، وهي تيارات من المعلومات المجردة.

في قلب الحركات التي درسناها نقابل ذاتية مجسَّدة، ومعها أشكال من الفعل غير قصدية، وخبرات من الانكشاف الاتصالي وحدود الفاعل الاستقلالي. بينما تتيح لنا صورة الشبكة نبذ أفهام المجموع والتدفقات الرأسية التي كانت بالغة الأهمية في العصر الصناعي؛ فهي لا تسمح لنا بوضع الذاتية المجسَّدة في مركز الطريقة التي نفكر بها في الحركات. بيل جيتس مصيب حقًّا؛ فالشبكات تستبعد الزمن، وهكذا تستبعد الفاعلين المتجسدين. ولهذا السبب، بينما أفادت «الشبكات» في تحريرنا من التصورات الصناعية للتنظيم، فهي لا تتيح لنا التفكير تفكيرًا إبداعيًّا بشأن الحركات والفعل المعاصرين.

يدعونا لو وأوري (٢٠٠٤) إلى التفكير في الخبرة الاجتماعية بطرائق جديدة، مفترضَيْن إمكانية الاستعارة. في ضوء الخبرات التي تعرضنا لها، أعتقد أن استعارات الإيقاع والموسيقى أكثر عونًا من صمت الشبكة المتجرد من التجسيد. تهيئنا الموسيقى والإيقاع لبنى الحضور والغياب، الحركة والسكون، والامتلاء والفراغ، والنبض والإيقاع (كوبر وماير ١٩٦٠). يستلزم الإيقاع والموسيقى الوقت والجسد الحساس بطريقة لا تستلزمها الشبكة. يساعدنا الإيقاع والموسيقى على أن نفكر في أشكال الفاعلية غير التمثيلية، بينما تؤكد تفاعل الذوات الذي يجب أن يكون مركزيًّا لأي محاولة لإعادة النظر في الحركات. للموسيقى بنية، ولكنها على خلاف الشبكة، مكوَّنة من خلال الخبرة المجسدة.

الإيقاع

إحدى الاستعارات التي تعيننا على التفكير بطرائق جديدة في الحركات مقدَّمة في تحليل فيليب توريتسكي (٢٠٠٢) للإيقاع بوصفه تجمعًا وحدثًا؛ حيث يحلل «الهاكا» أو الرقص التقليدي لشعب الماوري الأصلي في نيوزيلاندا. الهاكا حدث، وبهذه الصفة فكل «هاكا» تمتلك فرادة، مثل الأحداث الأخرى؛ كالخروج للتمشية، أو الإصابة بجرح على جسد المرء، أو تمتلك موسمًا. يفترض توريتسكي أن «الهاكا» هي حدث يُقدَّم من خلال «التجمع الإيقاعي».

الإيقاع حدثٌ مبني من خلال الحضور، والغياب، والتكرار. لا يمكن أن يوجد الإيقاع دون زمن، بعكس الشبكة التي تنشد محو الزمن. ونتيجة ذلك، لا تقدِّم «الهاكا» أيًّا من خصائص الشبكة على الإطلاق. وبدلًا من ذلك، فهي «حدث مجمَّع من خلال العلاقات الإيقاعية للحركة والسكون»؛ حيث تكون الإيقاعات هي الطرق التي من خلالها «تصبح الفترات الزمنية على نحو خالص مجمَّعة معًا من خلال توزيع اللحظات المشدَّدة وغير المشدَّدة»، بصرف النظر عن العناصر الفعلية المنشورة. للإيقاع جانبان: ارتباط معقد للمواد المشكَّلة (الناس، والأشياء)، و«توزيع للنبرات يميز بين التنظيم المجرد والأحداث الزمنية» (توريتسكي ٢٠٠٢: ١٢٥). ولذا يُظهر التنظيم الإيقاعي شيئين: مادة في جسد فرد، ومجموعات من الفواصل الزمنية المجردة في حدثٍ فرد.

يميز توريتسكي بين ثلاث لحظات من التركيب في «الهاكا». تنطوي الأولى على خبرة تسلية أو مزامنة، تصبح فيها أشكال الإيقاع المستقلة بعضها عن بعض مترابطة إيقاعيًّا:

تحدث العناصر التي تنتظم في تجمع إيقاعي على نحو مستقل بعضها عن بعض عادة، إلى أن تصبح منتظمة إيقاعيًّا. ولا تكون هناك حاجة إلى ارتباطات مادية أو سببية كامنة في هذه العناصر لوقت طويل؛ إذ تصبح متوافقة … في تجمع إيقاعي منتظم بدرجة عالية مثل الهاكا؛ حيث يحافَظ على الزمن الصارم، تحدث توازيات الحركة والسكون في الغالب بسبب اتفاقها الزمني. يحدث هذا الاتفاق حينما تصبح العناصر الحادثة السابقة واللاحقة مرتبطة من خلال فواصل زمنية متناغمة؛ حيث تصطف فواصل تتابع الحركة والسكون في علاقة محددة، وتتجاوب مع التتابعات الأخرى التي ربما تحدث خلال الدوام ذاته. ستستمر معدلات مرور الحركات والسكون في توافقها طويلًا بقدر ما يمكن للتجمع أن يحافظ على الارتباطات بين الحركات السابقة واللاحقة. «يُنتج إنجاز الارتباطات بين اللحظات المتتابعة مركزًا ربما تستقر من حوله العناصر الفوضوية»، وربما تتبلور بدايات النظام، وربما يُمنح منها التجمع المتنامي اتجاهًا. (٢٠٠٢: ١٢٦؛ التشديد مضاف)

وعلى هذا، فاللحظة الأولى من «الهاكا» تشتمل على إيقاعات مختلفة ومستقلة، تشكل علاقة بين كلٍّ منها؛ حيث تبدأ التتابعات في التجاوب، وتبدأ العناصر في الاستقرار، ومن خلال هذه الروابط يتشكل مركز. ويمكن أن يتدفق هذا المركز وينتقل أيضًا، كما في الحالة التي يبدأ فيها الطبالون بتشكيل الإيقاعات، وحينما يستمدون السعادة من الإحساس بالمركز وهو يتدفق بطرق مختلفة ولا يمكن التنبؤ بها، من خلال تجمعهم. ليس الإيقاع مسألة انصهار، ولكنه مكوَّن من خلال الضربات المشددة وغير المشددة. ينظم الإيقاع المادة التي يتكون من خلالها، بينما هو في الوقت ذاته نتاج هذه المواد. بذلك المعنى، الإيقاع انعكاسي، ولكن ليس من خلال «رقابة ذاتية» إدراكية. ومن خلال التنظيم الإيقاعي، كما يفترض توريتسكي يشكِّل التركيب المواد في جسد فرد، ومجموعات الفواصل الزمنية في حدث فرد، حتى تتضح المواد والزمنيات. وفي هذه اللحظة الأولى تتجاوب الإيقاعات، وتشكل التركيبات والتدفق، وتكون الأجساد متصلة، ويُخلَق الحاضر الحي. تخلق «الهاكا» خبرة زمنية ﺑ «الآن». وهذه هي الخبرة الزمنية التي تجعل الحركات ممكنة.

لكن هناك لحظة ثانية من «الهاكا». تقف الخبرة حال تكوُّنها في علاقة احتمالية ببنى إيقاعية وحالات تجاوب افتراضية أوسع. وحالما تتشكل الإيقاعات يمكنها إنتاج المتعة، والغضب، والحزن؛ يمكنها أن تدعو أو تمنع. ولكن فعل هذا يستلزم ارتباط الإيقاع بهذه البنى الإيقاعية والخبرة الأوسعَيْن:

يقف كل إيقاع مجسَّد في حالات افتراضية من التجاوب مع كثير من المستويات المعمارية من البنى الإيقاعية. ولا يمكن أن ينشأ موضوع جديد دون تعديل مستمر لبنيته السابقة بكاملها؛ حتى إن نشوء كل موضوع يكون بالفعل مشترِكًا مسبقًا في البنى الآخذة في التطور وموحَّدًا فيها. (توريتسكي ٢٠٠٢: ١٣٠)

ليس هذا مسارًا خطيًّا؛ فلا يمكن التنبؤ مسبقًا بالاتجاه الذي سيتدفق فيه، تمامًا كما لا يستطيع الطبالون التنبؤ أين سيتدفق المركز حينما يشكلون تجمُّعًا إيقاعيًّا. فقط بعد ذلك يمكن إدراك أي احتمالية حُقِّقت. ومع تطور الإيقاع، ومع تدفق مركزه من نقطة إلى أخرى، يتيح إمكانيات مختلفة من حيث ما سيصير إليه، ومن خلال هذا، يمكن للإيقاع الذي حدث للتو حتى هذه اللحظة أن يتخذ دلالات مختلفة. لإيقاع الفترة الأولى إمكانيات عديدة؛ لكن ما سيصير إليه هذا يعتمد على لحظة ثانية.

وكما يفترض توريتسكي، لا يخلق الإيقاع التركيب وحسب، ولكنه يستلزم التفريد: «الإحساس باللحظات الزمنية المشددة وغير المشددة غير كافٍ للإيقاع. تستلزم خبرة الإيقاع الذاكرة.» في اللحظة الأولى يتضمن الإيقاع تركيبًا تتواصل فيه الأجساد؛ حيث يتشكل من خلال التكرار عيشٌ للَّحظة. لكن الإيقاع يستلزم أيضًا الذاكرة في عملية «تفرِّد الأجساد، وتجعلها تعبيرية، وتكوِّن ماضيًا مسبقًا.» فعل الإيقاع في الحاضر يتيح فعل التذكر:

تعتمد الذاكرة على العادة، ولكن العادة غير كافية لتشكيلها. تعمل الذاكرة وفقًا لقوانين الارتباط على حواضر سابقة متجاورة مع الحاضر الحالي ومشابهة له … ولا يجب أن تمثل الذاكرة الماضي فقط، ولكن يجب أن تمثل الماضي إلى جانب حاضره الحالي، وإلى جانب هذه التمثيلات يجب أن تمثل فعل تمثيلها الخاص. ولكي يُعَد الفعل ذكرى، يجب أن يضع الفعل ماضيه باعتباره ماضيًا متصلًا بفعل إعادة الإنتاج الخاص به، وأن يضعه والحال هكذا موضع الفعل. يحدث فعل التذكر في حاضر، يجب لذلك أن يحتوي على بُعد انعكاسي إضافي يمثل فيه نفسه وحاضرًا سابقًا. حينئذٍ تؤدي الذاكرة تركيبًا نشطًا يجمع بين أفعال إعادة الإنتاج، والتأمل، والإدراك. (٢٠٠٢: ١٢٨)

يستثير توريتسكي هنا فكرة التذكر باعتباره فعلًا، ويكشف عن «الزمن المعقد» الذي استعرضه طلال أسد. تستلزم «الهاكا» باعتبارها شكلًا من الممارسة المجسدة وقتًا لتكتمل، ولكنها أيضًا شكل من فعل الذاكرة المجسَّدة، يعيد اللقاء بالمواضي ويعيد تخيلها ويَمُدها (أسد ٢٠٠٣: ١٧٩). هذا الشكل من الذكرى حاضر أيضًا في الخبرة الغربية، كما تؤكد ماري كاروثرز (١٩٩٠) حينما تحلِّل التذكر باعتباره ممارسة، لا عقيدة في الثقافة القروسطية الأوروبية. تتنافى أفعال التذكر هذه؛ أي التذكر بوصفه «ممارسة»، مع زمن العولمة المتجانس، زمن تزامنية التبادل، زمن السوق والاستهلاك، والشبكة. ولا يتأتى كون الذاكرة «ممارسة» إلا حيثما يتشكل الفعل عبر الزمن. هذا النوع من التذكر مستبعد عبر يوتوبيا الشبكة.

من وجهة نظر هينارا تيواي، أستاذ «الهاكا» الشهير، حينما تؤدى «الهاكا» «ينبغي أن يتكلم الجسد كله» (كاريتو ١٩٩٣: ٢٢، مقتبس في توريتسكي ٢٠٠٢: ١٢٨). وفي ضوء تحليل هيرشكيند للاستماع المتجسد، بوسعنا أن نضيف أيضًا أنه في «الهاكا» يستمع الجسد كله، إذ يشكل النمط الإيقاعي خبرة اتصالية. اللحظة الثانية من «الهاكا» تماثل الخبرة التي يبرزها هيرشكيند حينما يحلل فاعلية الاستماع المجسَّد، أو حيث تكشف الموسيقى أو أي ممارسات جسدية أخرى عن خبرة ظلت منسية. مثل هذه الذكريات المنسية لا يمكن جعلها جزءًا من الحاضر إلا من خلال فعلِ تذكرٍ مجسَّد. «الهاكا» هنا هي شكل من أشكال الفعل يجعل الماضي جزءًا من الحاضر؛ هو فعل تذكُّر جمعي. تلعب أفعال التذكر من هذا القبيل، أي الذاكرة بوصفها ممارسة، دورًا محوريًّا في مبادئ الفعل التي استعرضناها؛ من التشيجونج إلى إيقاع القصة في خبرة الساباتيستا، إلى مكانة الموسيقى في الفعل المناهض للعولمة، في الطريقة التي تشكل بها الموسيقى الخبرة، وفي حضور الإيقاع في الفعل، من قرع الطبل مرورًا إلى علاقة الحضور والغياب في الحركة والسكون، والضجيج والصمت.

اللحظة الأولى في «الهاكا» هي لحظة تسلية وتأرجح، لحظة خلق المركز. وفي لحظة ثانية يتخذ هذا المركز معنًى بالنسبة إلى بنًى إيقاعية أكبر، مستثيرًا بنًى موسيقية أكبر، تعمل بوصفها شكلًا من الذاكرة المجسدة. غير أن «الهاكا» ليست من طقوس إحياء الذكرى. إنها حدث إيقاعي ببنية مفتوحة، هي حدث متكوِّن في فرادته. وتشير هذه الفرادة إلى اللحظة الثالثة؛ حالما يحدث التجمع الإيقاعي، تمر «الهاكا» بتحول. ومن خلال إقامة علاقة بالبنى الإيقاعية الأوسع، وتحقيق التذكر، تخلق «الهاكا» لنفسها إمكانية خلق الجديد. يحلل توريتسكي الطريقة التي تتجاوز بها «الهاكا» التكرار، وتتقدم إلى تركيب ثالث من خلال إنتاج صدع إيقاعي أو «كيسورا». تلعب انقطاعات الإيقاع هذه دورًا مهمًّا في الشِّعر الذي يجب أن يُقرأ هو أيضًا بصوت مرتفع ويُسمَع بالجسد، مقابل التكوُّن من مجموعة من الكلمات بوصفها علامات. هذا الانقطاع هو فاصل يفسد الدورة، ويجلب معه «إمكانية الصيرورة»، إمكانية تجمُّع جديد:

إقصاء فاعلية العادة، وتغيير دورتها وإفسادها … هذه الصيرورة تشكل الحدث الذي يصبح فيه التجمع قادرًا على التغيير، حينما يصل إلى قدرته على الفعل. «هذه اللحظة خطرة، معرَّضة دائمًا لخطر الانهيار إلى التفكك، أو السقوط مرة أخرى في الماضي، في الأشكال الأقدم ذاتها … لا ينتمي تماسك أي تجمُّع جديد إلا إلى المستقبل، إلى لحظة تأتي بعد تحوُّله». وإذ يتصل بالأشكال الماضية، يخلق [هذا] التركيب الجديد شيئًا بلا شكل، فَرْقًا متطرفًا ومكثَّفًا، ويمد خطًّا حادًّا، لا يمكنه في هذه الحالة أن يستمر إلا بتغيير طبيعته. (٢٠٠٢: ١٣٤؛ التشديد مضاف)

لو نجح هذا، يمكن إنتاج «هاكا جديدة»؛ إذ يتشكل معنًى جديد لا يغيِّر المشاركين وحدهم، ولكن الجمهور أيضًا الذين يصبحون مستغرَقين في الخبرة وجزءًا منها.

حركات الخبرة

ليست «الهاكا» مثالًا لحركة، ولكن القراءة المتفحصة للتحليلات المختلفة التي تتضمنها تشير إلى لحظات حاسمة في تأسيس الحركات، وإلى طرق التفكير في التحول من الحركات المعرَّفة على أساس الفئات الاجتماعية إلى الحركات المعرفة على أساس الفعل؛ وهذا هو التحول من الحركات الاجتماعية التي سادت في المجتمع الصناعي إلى ما أقترح تسميته «حركات الخبرة». يفترض عالِم الاجتماع الأمريكي جيفري ألكسندر في فرضيةٍ مهمة تستكشف ما يسميه «البراجماتيات الثقافية»، أن «النظرية التحررية سياسيًّا يجب تعزيزها بممارسةٍ آسِرة جماليًّا» (٢٠٠٣: ٢٦). بالعمل من داخل تقليد دوركيمي يُبرِز التمثيل الجمعي، ينشد ألكسندر أن يفعل ذلك من خلال فكرة «الأداء الثقافي» التي تمتد جذورُها في دراسات المسرح. يقصد ألكسندر بالأداء الثقافي «العمليةَ الاجتماعية التي يعرض بها الفاعلون على نحوٍ فردي أو جماعي للآخَرين معنى وضعهم الاجتماعي» (٢٠٠٤: ٥٢٩). ويزعم أن الأداءات الثقافية الناجحة هي «شبه طقوسية»، ويقصد بها أنها تنجح في خلق «إعادة انصهار» بين الأدوار المميزة على نحوٍ متزايد في المجتمع الحديث والذاتية الشخصية؛ ويزعم أنه في الأداءات الناجحة، يمكن للفاعلين الاجتماعيين أن يحققوا «التدفق»، الأصالة التي تنجز حينما يصبح الدور والذاتية شيئًا واحدًا: «يبدو الفاعل وكأنه هاملت؛ الرجل الذي يؤدي قَسَم الوظيفة يبدو أنه الرئيس» (٢٠٠٤: ٥٤٩). وبفهمه على هذا النحو، يحقق الأداء الاجتماعي الناجح الجاذبية.

تتباين مبادئ الفعل التي عكفتُ على استعراضها في هذا الكتاب مع هذه الرواية للتمثيل و«التدفق» والجاذبية. بدلًا من الاندماج، ما يظهر لنا باستمرار هو أهمية خبرات الغيرية، والبينية. يمكننا أن نرى هذا في التوتر بين الحل والترحال، بين السرعة والسكون، بين الافتراضي والمجسَّد. جمالية ما هو غريب تشغل مكانًا مهمًّا، من الأجواسكالينتس في لا رياليداد إلى خبرات التشيجونج أو المبادئ الخبروية للدمى. كما لا يبدو أن هدف الفعل هو انصهار الذات والدور. في حالة ماركوس، مثلًا، لا نلقى محاولةً لخلق انصهار بين رفاييل جيين وزعيم العصابات. المنطق الكامل في هذا الفعل يرفض مثل هذا الانصهار، وهذا أوضح ما يكون في استخدام القناع، ولكنه واضح في طرق أخرى بالمثل. الطلقات التي يتَّشِح بها ماركوس في الحزامين متدليةٌ من فوق كتفيه لا يمكن إطلاقها من المسدس الذي يحمله. ماركوس ليس انصهارَ جيين وزعيم العصابات، لا هو جيين، ولا هو رجل العصابات. على عكس الانصهار، نقابل اللاحتمية والحرية التي تجيء معها.

تظهر موضوعات مماثلة في مكانة الموسيقى. يفترض آيرمان وجاميسون من خلال تحليل الحركات الاجتماعية المعاصرة أن الموسيقى والأغنية تلعبان دورًا أساسيًّا في «تشكيل الهوية الجمعية» من خلال «تزويد الفاعلين بمصادر المعنى والهوية التي يبنون منها فعلهم الاجتماعي الجمعي» (١٩٩٨: ١٦١-١٦٢). ويتخذان نموذجًا الحركات الاجتماعية الأمريكية في ستينيات القرن العشرين؛ إذ سمحت أغنياتُ الاحتجاج للنشطاء بربط فعلهم بما مضى، مؤكدين «تقليدًا، وهو أن الماضي في الحاضر، حاسمًا لفهمنا مَن نحن وما يجدر بنا عمله» (١٩٩٨: ١٦١). يحلل آيرمان الحركات المعاصرة مبرزًا الدور المنفصل للموسيقى؛ حيث حلت الأغاني محل الخُطَب السياسية؛ حيث «تصير الأغاني بوصفها أداءً جمعيًّا نصوصًا» (٢٠٠٢: ٤٥٠). مشكلة تعميم هذه الفرضية هي في مدى ما لقيناه من أشكال من الموسيقى أقرب إلى الهذيان أو موسيقى الرقص؛ حيث يكون الصوت والخبرات الحسية أهمَّ من نصوص الكلمات. في هذه الحالة، كما يفترض جُوَرز (١٩٩٩)، لا تستثير الموسيقى الذاكرةَ الواعية. واعتمادًا على جرايك (١٩٩٦)، تبرز بدلًا من ذلك أهميةُ النغمة في الموسيقى. تختلف النغمة عن درجة الصوت في الحِدَّة، في أن نوعية الصوت لأي آلة مفردة هي ما يجعلها متفردةً عن غيرها، متضمنًا «موقفًا معقدًا ومتبدلًا؛ حيث توجد النغمة في علاقات هشَّة ومتواصلة مع التردد، والمحتوى الطيفي، والهوية الصوتية، وتمييز المصدر» (سمولي ١٩٩٤). لهذا أهميةٌ فيما يتعلق بمكانة الموسيقى في الحركات، والموسيقى باعتبارها فعلًا: «للنغمة أثر تعبيري في الخبرة المباشرة التي ستغيب في ذكرياتنا عنها» (جرايك ١٩٩٦: ٦٠، مقتبس في جورز ١٩٩٩: ٣٩٢). هذه الخبرة الموسيقية جد مختلفة عن أغاني الاحتجاج التلقينية أو «الأداء باعتباره نصًّا»؛ حيث تكمن وراء الصوت علامة. على خلاف ذلك، نلقى مبادئ خبرة التقطها جورز حينما يفترض أننا «نحس بالإثارة المفاجئة حينما نعيد استماع نغمات محددة من منطقة غريبة بين الذاكرة والنسيان، نُذكَّر بشيء منسي» (١٩٩٩: ٣٩٢). في هذه الحالة لا تمثِّل الأصوات. لا يتسنى تذكُّر شيء منسي إلا حينما يمكننا التحرر من سيطرة الفعل القصدي، ونصبح معرَّضين للأشياء التي تحدث لنا.

مبادئ الخبرة هذه أقرب إلى الرقص المعاصر؛ حيث نجد أشكال التجسد باعتبارها خبراتِ انسلاخ وابتعاد عن المألوف، وليست انصهارًا؛ خلْقَ التوترات بين القوة والهشاشة، وليس الذاتية الموحدة الممثلة بالجمال (بيرجينشو ٢٠٠١)، وحيث يُحَس المكان من خلال الجسد (ناست وبايل ١٩٩٨). لا يرغب هذا الشكل من أشكال الفعل في إظهار «القيمة، والوحدة، والأعداد والالتزام» (تيلي ٢٠٠٤) ولكن بدلًا من ذلك يبني مساحات خبرة تتقابل فيها القوة والهشاشة.

يمكننا أن ننظر إلى الحركات بوصفها رسائل غير مجسَّدة، بوصفها أنظمة علامات، وبوصفها نصًّا، أو يمكننا التفكير في الحركات باعتبارها أقرب إلى الموسيقى؛ يعني هذا إدخالَ الصوت، والإيقاع، والخبرة الصوتية إلى أفهامنا للحداثة، المستبعدة في نموذج التمثيل، وأن نبدأ في الاستماع إلى الحداثة (انظر إرلمان ٢٠٠٤). في هذه الحالة، تحليل تشارلز هيرشكيند لفاعلية الاستماع مهم لطريقة فهمنا للحركات المعاصرة. يفترض أن الاستماع هو شكل من أشكال الفاعلية المجسَّدة الأخلاقية. بمعنًى ما، تُواجَه العلوم الاجتماعية بشيء مماثل. هل ينبغي فهم موسيقى الحركات بطريقة واحدة، ككلمات أغنية، وتحليلها باعتبارها نصًّا، كما رغبت الدولة المصرية الحداثية في إسكات الاستماع والصوت، وتأكيد أولوية الرمزي والتمثيلي؟

لهذا تداعيات على طريقة إدراكنا المجالَ العام، والحركات، والفعل. المجال العام للخطاب العقلاني هو مجالٌ تُجرَّد فيه اللغة من التجسد، وتُبنَى من الرموز، لا الصوت والموسيقى. غير أن بإمكاننا أن نفكِّرَ فيه تفكيرًا أكثرَ جدوى في الحركات التي تعمل من خلال خبرات التجاوب، بمعايير الموسيقى والإيقاع والحضور. هذا هو ما تدعو إليه ملتقيات الساباتيستا؛ الأصداء والتجاوب. التجاوب هو خبرة حسية، ويتحقق حينما لا تندمج الاختلافات في التماثل، ولكن تتكثف على نحو متبادل في حضور الآخر، كما يحدث حينما تتجاوب الألوان أو الأنغام المختلفة. تُواجَه العلوم الاجتماعية اليومَ بمهمةِ إنشاءِ طرقٍ لمعرفة أننا قادرون على فهم مبادئ الخبرة الإنسانية والمجالات العامة، ليس باعتبارها أنظمةً غير متجسدة مكونة من العلامات ولكن باعتبارها خبرات تجاوُب متجسدة. وفي هذا الصدد، سيمكننا الانتقال من نموذج الحركات «الاجتماعية» من القرنين الماضيين، بمنطقها القائم على اﻟ «نحن» و«المجتمع» لنبدأ في فهم أشكال التلاقي المبنية على الاختلاف، ومبادئ التجاوب. على خلاف المجتمعات والفئات، سنبدأ بدلًا من ذلك في استكشاف مبادئ الممارسة.

مبادئ الفعل التي تعرَّضنا لها في هذا الكتاب تختلف جميعها فيما بينها، ولكنها تشير كلها إلى فرضية جوهرية، ساقها طلال أسد الذي يقول — إذ يحلِّل الفارق بين الطقس بصفته فعلًا يصنع الذات، وبين الفهم اللاحق للطقس باعتباره رمزًا — إن «تعلُّم تنمية القدرات الخُلُقية وتعلُّم ابتكار التمثيلات ليسا سواءً» (١٩٩٣: ٧٩). بوصفه جزءًا من الفهم الذاتي للحداثة الغربية، أعلى علم اجتماع الحركات الاجتماعية من شأنِ فهمٍ تُدرَك فيه الحركات الاجتماعية باعتبار أنها تمثِّل مصالحَ أو هويات، وأحيانًا تُمثَّل المصالح من خلال الهويات. حينما تُفهَم العولمة باعتبارها عالَمًا واحدًا، يُعَد هذا التخيُّل الاجتماعي، شأنه شأن الاقتصادي تمامًا، امتدادًا في النهاية ليشمل الفضاءَ الخالي من الحدود للكوكب كله.

بدلًا من التركيز على الفعل بصفته التمثيل والعمليات التي تشكِّل الجماعات والفئات، سعى هذا الكتاب إلى تحليل أشكال «العمل» في الحركات التي لا تتوافق وابتكار التمثيلات. وتعتمل هذه في المقام الأول في مستوى الخبرة الشخصية، من مبادئ الإنترنت وممارسات الاستشفاء، إلى فعل التذكُّر. لكن بدلًا من عزل الفرد الليبرالي وقدرته على التآلف الاجتماعي، لا يمكن بناء أشكال الخبرة الشخصية التي تعرضنا لها إلا من خلال التقاليد، والثقافة، والذاكرة، والذاتيات الدينية؛ وبدورها، تجعل هذه الخبرات فهمنا للحداثات الغربية أكثر تعقيدًا؛ تدفعنا إلى تجاوُز الرواية التبسيطية عن صدع جذري يجري توسيعه ليشمل الكوكب، إلى أن نشرع في استكشاف خبرات من التدين إلى التجسد إلى التذكر، مستبعَدة من الروايات السائدة عن عملية تعميمية مبنية من خلال قوتها الذاتية الخلاقة. بدلًا من تعميم تخيل اجتماعي مسيطر من أحد المجتمعات على كل المجتمعات على كوكب الأرض؛ حيث تُفهم الأفعال إما باعتبار أنها تُواصِل هذه العملية وإما باعتبار أنها تقاومها، تقدم هذه الحركات رؤيةً متفحصة للعولمة باعتبارها خبرة عوالم متشارَكة، لا عالم واحد، حدودٍ تجتاز الذاتيات الفردية بدلًا من أن تشكِّل مجتمعات وهويات مغلقة. نلمح في مبادئ الفعل والثقافة التي استعرضناها هذه، روايات عن الفعل والحداثات يكمن فيها مفتاحُ فهْمِ المجتمعات كما يفترض تورين على نحوٍ متناقِضٍ في مستوى الفاعل الشخصي. وحيث تقع في قلب الصراعات من أجل الحرية خبراتُ الالتقاء والهشاشة اللازمة للإحساس بالمعاناة، وللاندهاش، وللإبداع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤