الفصل الثاني

الحركات والفعل

النموذج المعرفي ليس فقط أداة في يدَي المُسيطِر؛ إنه بالقَدْر نفسه تمامًا بناءُ الدفاعات والانتقادات وحركات التحرُّر.

آلان تورين، «نموذج معرفي جديد»

تغيُّر النطاق والعملية السياسية

في دراسة مسحية مهمة لأساليب تناول الحركات الاجتماعية، يشير جيف جودوين وجيمس جاسبر (١٩٩٩) إلى أهمية ما تشيع تسميته «نظرية العملية السياسية» التي يفترضان أنها «سائدة» في الوقت الراهن في دراسات علم الاجتماع باللغة الإنجليزية. تفترض هذه الرؤية أن «الحركات العالمية» هي من حيث الأساس امتداداتٌ للأشكال الأقدم من «الحركات الاجتماعية» التي نَألَفها بقدر كبير. وبهذه الرؤية، تشمل العولمة أنماطًا جديدة من التحالفات بين أنماط جديدة من الفاعلين الذين يظلون في إطار الدول القومية، وداخل مبادئ الفعل والثقافة التي نألفها كثيرًا. واضح أن هذه عملية مهمة جدًّا، وواحدة من القوى الدافعة للنمو الاستثنائي في عدد المنظمات غير الحكومية الدولية التي نشأت على امتداد عقدَي الثمانينيات والتسعينيات. وفق هذه الرؤية، تُفهَم العولمة بوصفها «تغيرًا في النطاق» (تارو ٢٠٠٣)؛ إذ تتمدَّد أنماط فعل المستوى الوطني وتنظيمه إلى الخارج إلى سياق دولي جديد؛ ولهذا تُدرَس العولمة على أساس مستويات، بينما تصبح مهمة العلوم الاجتماعية هي الاستكشاف والتحديد ﻟ «الآليات» التي تُفضِي إلى الانتقال بين هذه المستويات التي تُدرَك بأشكال مختلفة على أنها: «محلي»، و«قومي»، و«دولي/عبر قومي»، أو على أنها «جزئي»، و«وسيط»، و«كلي» (تارو ٢٠٠٣). يعني تغيُّر النطاق أن الحركات الاجتماعية لا تركِّز فقط على محاولة التأثير في العمليات والتنظيمات السياسية القومية، وأنها ستنتقل على نحوٍ متزايد إلى التركيز على المؤسسات الدولية، مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وغيرهما من البنى والمؤسَّسات التي تُشكِّل «بنيةَ فرصٍ سياسية» دولية جديدة. وبهذا تُعرَّف العولمة بالأساس بأنها مستوًى جديدٌ من المؤسسات له تبعات عديدة. ويُفضِي التركيز على الحركات المتفاعلة مع المؤسسات إلى التركيز على الحركات الأشبه بتلك التي نَألَفها بالفعل على المستوى القومي؛ أيِ الأشبه بالحركات التي ظهرت في مجتمعاتٍ مثل الولايات المتحدة على مدار العقود الماضية. ويرى كثير من علماء الاجتماع أن هذا الأمر واضح بذاته، لدرجة أنه نادرًا ما يستحقُّ النقاش. وسبب هذا أن الحركات الاجتماعية تُعَدُّ من وجهة نظر كثير من علماء الاجتماع جزءًا من عملية تحديث أوسع، تُفهَم على أنها عملية تتلاقى من خلالها المجتمعات، وتزداد تشابهًا، وتصبح (بالرغم من أن هذا نادرًا ما يقال) أشبه بتلك المجتمعات الأكثر ألفةً لعلماء الاجتماع — أيْ مجتمعات أوروبا وأمريكا الشمالية.

يمكن أن يساعدنا السياق الأوسع على وضع مقاربة «العملية السياسية» هذه في موضعها. كان علماء الاجتماع وعلماء السياسة الأمريكيون، مثل تشارلز تيلي، وسيندي تارو، ودوج ماكآدم يحاولون هجْرَ النماذج الأقدم التي سيطرت على دراسات الحركات الاجتماعية باللغة الإنجليزية، وهي التي فهمت الحركات إلى حد بعيد بوصفها تعبيراتٍ عن القيد أو الاختلال الاجتماعي (سمِلْسرز ١٩٦٢). وبدلًا من رؤية الحركات على أنها تعبيراتٌ عن أزمة اجتماعية، تَصوَّرَ تيلي وغيره من الكُتَّاب حينئذٍ الحركاتِ الاجتماعية بوصفها الفعلَ الرشيد الذي تفعله الجماعاتُ المستبعَدة الساعية إلى تحقيقِ نتائجَ سياسية. أبرز تحليل دوج ماكآدم لحركة الحقوق المدنية (١٩٨٢) تعبئة الموارد عوضًا عن الحرمان النسبي، وأخذ هؤلاء المؤلِّفون يُعرِّفون الحركات الاجتماعية على نحو متزايد على أنها أدواتٌ للحَراك والتأثير في النظام السياسي، وليست تعبيرات عن الاعتلال الاجتماعي. وافترض تيلي، بصفته مؤرخًا اجتماعيًّا، أن تطور المؤسسات السياسية الحديثة يصلح أن يكون مفتاحًا لفهم هذه الحركات. ومن وجهة نظره، تتجلى الحركات الاجتماعية عبر «الاتحادات السياسية المتخصصة المشكَّلة عمدًا»، التي تنشأ في الوقت نفسه مع ميلاد أنظمة انتخابية جديدة. حالما تُنشِئ الدولُ القومية أنظمةً سياسية قومية، يُفضِي تطوُّرُها إلى «انتشار الاتحادات المبتدَعة باعتبارها أدواتٍ للفعل الجمعي» (تيلي ١٩٨٤ب: ٣٠٤). ومن وجهة نظر تيلي، يوازي ظهورُ الحركات الاجتماعية الظهورَ التاريخي للأحزاب السياسية، فهما بُعْدان لعملية واحدة: «الحركة الاجتماعية من حيث الأساس هي حزبٌ سياسي ذو تَطلُّعات واسعة ونظام معتقدات موحَّد. والحزب السياسي هو حركة اجتماعية مرشَّدة مستأنَسة» (١٩٨٤ب: ٣٠٥). يضع هذا التحليل الحركات الاجتماعية بإحكامٍ داخلَ النظم السياسية. ومن وجهة نظر عالِمَي الاجتماع الألمانيَّيْن الشهيرَيْن راخت ونايدهارت: «الحركة الاجتماعية هي آليةٌ لصياغةِ مصالحَ جمعيةٍ معينة وتأكيدها … وهي المُكافِئ الوظيفي … للأحزاب السياسية وجماعات المصالح» (٢٠٠٢: ٢٠).

يصبُّ تحليل العملية السياسية هذا مباشَرةً في تحليلات العولمة؛ حيث تُفهَم المؤسسات السياسية الدولية الناشئة على أنها تكرِّر التطورات التي أدت إلى إقامة الأنظمة السياسية القومية. أما عالمة الاجتماع الفرنسية فلورنس باسي فتُعِيد العملَ على فرضيةِ تيلي، مؤكِّدةً أنه كما أن الحركات الاجتماعية الحديثة «ظهرت في القرن التاسع عشر في أعقاب فترةٍ طويلة من إنشاء الدولة القومية»، ففي السياق المعاصر، «أضحت مراكز القوة الجديدة تُنشَأ على المستوى فوق القومي.» وإذ تؤكد باسي أن مراكز القوى فوق القومية تلك لم تحلَّ محلَّ الدولة القومية، فمن وجهة نظرها أن تطوُّرَ هذه «البنى فوق القومية يقدِّم للحركات الاجتماعية فُرصًا سياسيةً جديدة لمناقشةِ مَطالِبها» (باسي ٢٠٠١: ١٣).

الاتحاد والفضاء العام والتمثيل

رواية تيلي أكثر تعقيدًا من الملحوظة البسيطة بأن أنماط المؤسسات الجديدةَ تخلق «فرصًا سياسية» جديدة؛ فهو ينسب أهميةً كبيرة إلى طريقة جديدة من طرائق الفعل، وإلى علاقة جديدة بين الخبرة الفردية والخبرة الجمعية. ويرى أن كلًّا من هاتين مطروحتان في ميلاد «الاتحاد». ومن وجهة نظر تيلي، يتضمن الاتحاد ««التأسيس العمدي» لجماعات جديدة من أجل السعي الحثيث وراء حقوق ومزايا جديدة» (١٩٨٤ب: ٣٠٣-٣٠٤؛ التشديد مضاف). والتأسيس العمدي لهذه الجماعات الجديدة هو ما يعتبره تيلي تحولًا جوهريًّا حاسمًا يشير إلى ظهورِ نمطٍ جديد من الفعل والفاعل، يصفه بأنه «الحركة الاجتماعية»، ويقابِل ما بينه وبين صور الفعل السابقة مثل أعمال الشَّغب، والفاعلين السابقين مثل المجتمعات. وكما يرى تيلي، فما هو أكثر أهميةً بشأن الاتحاد هو أن هذه الجماعات «مُشكَّلة عمدًا، ومتخصصة، وهي تنظيماتٌ سياسيةٌ بجلاءٍ بصفتها أدواتٍ للفعل الجمعي» (١٩٨٢: ٢٣). تعبِّر فكرة التشكيل «العمدي» عن فهمٍ قصدي للفاعلية؛ أمَّا تركيزه على «التخصص» فيشير إلى تقسيم العمل الناشئ الذي سيكون ملمحًا محدِّدًا للمجتمع الصناعي الذي كان يُولَد في ذلك الوقت؛ وأما الهوية اﻟ «سياسية بجلاء» فتعني أن تلك التنظيمات كانت تنشأ على صلة بالنظام السياسي؛ بينما تشير فكرة أن الاتحاد أداة ﻟ «الفعل الجمعي» إلى تحوُّل ثقافي كان يحدث في ذلك الوقت، تحوُّل لم يسمح للناس فقط بأن يدركوا الجماعات بطرائقَ جديدة، ولكن بأن يتخيلوا أيضًا أنهم يشاركون في الفعل وينشئون «أدوات» لإنجازِ ذلك الفعل. بدأ هذا التركيز على الاتحاد يحدِّد المقاربات الأمريكية إزاء الحركات الاجتماعية، لدرجة أنه في الفترة اللاحقة لكتابات تيلي، سك علماء الاجتماع الأمريكيون تعبيرَ «منظمة الحركة الاجتماعية» ليكون مصطلحًا مختصرًا لتعريف ما اعتبروه حركات اجتماعية. وطوال السبعينيات من القرن العشرين، أصبح زعم ويليام جامسون (١٩٧٥) بأن العامل الأساسي لنجاح الحركات الاجتماعية يكمن في قدرتها على بناء بيروقراطية؛ أمرًا بدهيًّا. تبني الحركات الناجحة منظمات، وتتخذ بذلك طابعًا مؤسسيًّا. كان عالم الاجتماع الإيطالي، ألبرتو ميلوتشي، مهمومًا على نحوٍ خاص بشأن تداعيات هذه المقاربة (١٩٩٦أ). فاختزالُ الحركات إلى أبعادها السياسية له أثر، هو كتم محتواها الاتصالي. واعتقد ميلوتشي أن هذه التحليلات، ببنائها بهذه الطريقة، قطعت الطريق على التساؤلات التي أثارتها الحركات. وبدلًا من ذلك، تصبح الحركات أدواتٍ لتمثيل مصالح الجماعة، بينما يصبح تعريف دراسة الحركات هو تحديد «آلياتها» «ودينامياتها» (ماكآدم وآخرون ٢٠٠١).

نموذج العملية السياسية للحركة متأصل في فهم أشمل للفعل والثقافة. تشير الأبعاد التي يبرزها تيلي باستمرار إلى ظهور شكل غربي حديث للفرد، شكل الفرد الذي لم يعد يُعرَّف بمجتمعه وإنما يُعرَّف بإرادته ومصالحه واهتماماته الخاصة. ويمكن فهم الحركة الاجتماعية المدرَكة بهذه الطريقة بوصفها «فعلًا تمثيليًّا». يصر تيلي على أن الجماعات المكوِّنة للحركة الاجتماعية يجب أن تكون «مُشَكَّلة عمدًا»، وليست انعكاسًا لبعض الخصائص النابعة من المجتمع. فالمرء لا ينضم إلى اتحاد ما على أساس خصائص مجتمعه، ولكن بوصفه عضوًا في فضاء عام. والاتحاد الذي يصفه تيلي هو اتحاد يشارك فيه أولئك المشاركون على أساس ذواتهم «العامة» مقابل ذواتهم «الخاصة». ومن هنا تنبع الأهمية البالغة التي يوليها تيلي لدور الاجتماع العام في ميلاد الحركة الاجتماعية، وإحدى الخصائص الأساسية للاجتماع العام هي تحديدًا أنه يُعَبِّئ الهويات «العامة». يمكننا أن نرى هذا في طريقة اتخاذ القرارات — برفع الأيدي، لا بالاقتراع السري. يحدث هذا الفهم للهويات العامة بالقدر نفسه أيضًا في النقابات المهنية التي تُظهر تفضيلًا تاريخيًّا للتصويت برفع الأيدي على التصويت بالاقتراع السري.

للاجتماع العام دور مهم على نحو خاص في الخيال السياسي الأمريكي، يُقرَن في معظم الأحيان باجتماع بلدة نيو إنجلاند الذي يُعتبَر شكلًا من أشكال الديمقراطية المحضة. ويحظى حديث تيلي عن الاجتماع العام بالذيوع لأنه يوفِّق بين الفرد الحديث والمجتمع. حالما يتحرر الأفراد من قيود التقليد والمجتمع، فلن يواجهوا الانحلال أو التفكك بالضرورة، ولكن «إعادة تأسيس مجتمع سياسي من الأفراد الأحرار» من خلال الاتحاد. تُردد الحركة الاجتماعية عند تيلي صدى «الديمقراطية في أمريكا» عند أليكسي دوتوكفيل، بتركيزها على الاتحاد؛ ومن ثم الإشارة الثابتة إلى التشكيل «العمدي» للاتحاد، والصعوبات الشديدة التي يتحملها تيلي من أجل تمييز الاتحاد من الأشكال الجمعية الأخرى التي هي تعبيرات عن المجتمعات القائمة من قبل. ويساعدنا هذا أيضًا على فهم الترديد الجائر لمفهوم «منظمة الحركة الاجتماعية» — الشائع الاستخدام في الولايات المتحدة، ولكنه أقل انتشارًا في البلدان التي شكَّلتها تقاليد سياسية أخرى.١

بينما يبدو أن أنصار تيلي المعاصرين يوحون بأن إنشاء الحركات الاجتماعية هو ناتج أولي لظهور المؤسسات السياسية التي تتمخض عن أنماط جديدة من المشاركة، فإن كتاباته هو عن الاتحاد بوصفه نمطًا جديدًا من أدوات الفعل والتمثيل، يثير أسئلة تتجاوز «الفرص السياسية» التي تخلقها الترتيبات المؤسسية الجديدة. الاتحاد الذي ظهر على مدى القرن التاسع عشر بوصفه مبادئ أشمل للفعل، يتجاوز كثيرًا دوره المدرَك على نحو أضيق على أنه أداة للاستفادة من الترتيبات المؤسسية. تدرس المؤرخة ميري ريان الولايات المتحدة في الحقبة التاريخية نفسها، مشيرة إلى أهمية الاتحادات المبكرة للتكافل العمالي — من أجل سداد نفقات الدفن مثلًا — التي ستُرسي أساس التطور اللاحق للنقابات المهنية. نشأت هذه الاتحادات في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وتدهورت مع الكساد في الأربعينيات، ثم ازدهرت في الخمسينيات مؤدية إلى تشكيل اتحاد العمال الأمريكي عام ١٨٨٦. وتشير ريان إلى ميلاد الحركات الاجتماعية الأمريكية في مجالات قضايا العمال، والمرأة، والعبيد؛ إذ تبرز البُعْدَين ذاتيهما اللذين يشير إليهما تيلي في بريطانيا بوصفهما جوهر «ذخيرة الفعل» لهذه الحركات، وهما: الاتحاد الطوعي، والاجتماع العام. نظرية تيلي لميلاد الحركات الاجتماعية هي أكثر من سرد لظهور المؤسسات السياسية؛ فهي تقدم رواية أكثر تعقيدًا عن التحولات الاجتماعية والثقافية التي كانت تحدث في القرن التاسع عشر.

تضع رواية العملية السياسية الحركات الاجتماعية داخل فهم أوسع لعملية «التحديث الغربي» (راخت ونايدهارت ٢٠٠٢)؛ فَهْمٍ يُعلي من شأن العلاقات التي تنظمها مؤسسات سياسية، وأشكال الذاتية والحرية والتمثيل والفاعلية المرتبطة بهذا. مع قدوم العولمة، من المفهوم أن يكون ذلك «تغيرًا في النطاق» من المستوى القومي إلى المستوى الدولي. وخلال ذلك تدَّعي الخبرة الغربية بالحركة، أو يدعي فهم معيَّن لهذه الخبرة، مكانة النموذج المعرفي. يتكرر هذا في سلسلة من الطرائق المهمة جدًّا: في كيفية تفكيرنا في العلاقة بين الخبرتين الفردية والجمعية؛ فيما نفهمه ﺑ «المشهد الاجتماعي»؛ وفي طرائق تصورنا للفعل؛ حيث يعد نموذج الحرية والاستقلالية والفاعلية الذي نشأ في الثقافة الغربية كونيًّا بما لا يحتاج إلى دليل.

حركات اجتماعية جديدة

أصبح هناك نموذج مقابل لرواية العملية السياسية المسيطرة، مرتبط بالتحديد بعلماء الاجتماع الأوروبيين، مثل آلان تورين في فرنسا، أو ألبرتو ميلوتشي في إيطاليا. إذا كان علماء الاجتماع الأمريكيون ركزوا كثيرًا على العلاقة بين الحركات الاجتماعية والنظام السياسي، فهذا يفسَّر جزئيًّا بنظام الولايات المتحدة السياسي، المنفتح، والموسوم بأحزاب سياسية ذات بنًى منفتحة نسبيًّا، تمتلك برامج أضعف مما تملكها نظيراتها الأوروبية (بيوكلر ٢٠٠٠). والنتيجة أن نظام الولايات المتحدة يتضمن شبكات كثيفة من أعضاء الجماعات الضاغطة، وثقافة كاملة تؤكد الحراك من أجل التأثير في النظام السياسي. أما النموذج الأوروبي الذي تطوَّر على مر القرن العشرين فيشتمل على أحزاب أقوى تنظيميًّا، مرتبطة بجماعات وطبقات اجتماعية أوضح تعريفًا؛ تدل عليها أهمية الأحزاب العمالية، أو الديمقراطية الاشتراكية، أو الشيوعية على مر القرن العشرين في أوروبا. ولذلك، بينما مال الأمريكيون ميلًا طبيعيًّا إلى إدراك الحركات الاجتماعية على أنها حراك من أجل التأثير في النظام السياسي، ألقى الواقع والتقاليد الثقافية الأوروبيان تركيزًا أكبر على الطبقة الاجتماعية وعلى البنيان الطبقي أثناء التفكير في الحركات الاجتماعية. ولا غرابة أن آلان تورين، أحد رواد علم اجتماع الحركات الاجتماعية الأوروبيين ركَّز بحثه الأول على الحركة العمالية (١٩٥٥). ومن وجهة نظره، لم تكن المسألة الرئيسة لفهم الحركات هي إنشاء الاتحادات، ولكن الحراكات العمالية وأشكال الوعي الطبقي على خط التجميع.

يفترض تورين أنه أمر حاسم الأهمية أن نفهم الحركات، لا باعتبارها مجرد نواتج للبناء الاجتماعي، ولكن باعتبارها فواعل تتشارك في — وتتنازع على — أنماط الإبداع أو «التاريخية» التي تشكل المورد الأساس في مختلف أنماط المجتمعات. ومن وجهة نظر تورين، نُظِّمت المجتمعات ما قبل الصناعية على أساس الوصول إلى الأرض والسيطرة عليها. ومع الانتقال إلى المجتمع الصناعي، رأى تورين أن المصدر الجوهري يتحول إلى السيطرة على العمل وتنظيمه؛ ولذا يمكن أن تحدث الصراعات في مركز المجتمعات الصناعية في مكان العمل. ووفقًا لتورين، ليس العمل في المجتمعات الصناعية موردًا فقط؛ ولكنه شكل من أشكال الإبداع، ومبادئ للأخلاقيات أيضًا. ومن ثم، كان النموذج الذي اختاره تورين يجسد النموذج المعرفي للحركة الاجتماعية؛ ألَا وهو الحركة العمالية (١٩٩٦).

في أواخر عقد الستينيات من القرن العشرين، اجتاحت الصراعات الطلابية والعمالية أوروبا والولايات المتحدة. ورأى كثير من المراقبين أنها تمثل أكثر من حدث بسيط داخل الدورة السياسية، وتشير بدلًا من ذلك إلى تغير سياسي أعمق (كراوش وبيتسورنو ١٩٧٨). وافترض سيرج ماليه (١٩٧٥) الذي كان يكتب في فرنسا أن صعود الحركة الطلابية وتحالفها مع فئات العمال الجديدة كانا يؤشران إلى تحوُّل أوسع بسبب الأهمية المتزايدة للعمل الفكري، واستخدم ماليه لغة أعتق عن الطبقة ليزعم أن الجماعات المهنية الجديدة مثلت «طبقة عاملة جديدة»، يدل ظهورها على أنماط صراع جديدة حول التحكم والإبداع في العمل، معبرًا عنها بلغة الاستقلالية والإبداع. واعتقد أندريه جورز أن الصراعات الناشئة وأنماط تنظيم الإنتاج المتغيرة كانت تعني أنه حان الوقت للقول: «وداعًا للطبقة العاملة» (١٩٨٢). واعتقد لورين كذلك بأن الصراعات التي كانت آخذة في الظهور في أواخر الستينيات كانت مؤشرًا إلى تحوُّل عن أشكال التنظيم والوعي التي صبغت فعل الحركة العمالية في المجتمع الصناعي. وافترض أن الحركة الطلابية في أواخر الستينيات والحركة النسائية التي نشأت منها أشارتا إلى تحوُّل عميق في النمط المجتمعي، من المجتمع الصناعي إلى المجتمع ما بعد الصناعي (١٩٧١، ١٩٧٤)، وهي رؤية كانت آخذة في التبلور في الوقت نفسه في الولايات المتحدة على يد دانييل بل (١٩٧٣). وعلى هذا الأساس، افترض تورين أن أشكال الفعل التي كانت آخذة في الظهور في أواخر الستينيات وعلى امتداد السبعينيات تضمَّنت ما أسماه «حركات اجتماعية جديدة».

من وجهة نظر تورين، كانت «الهوية» مسألة جوهرية لهذه الحركات الجديدة. وقصد بهذا أن الصراعات الحاسمة التي تُنتِج «التاريخية» لم تعد قابعة في مكان العمل، ولكنها كانت تحتل موقعها على مستوى ثقافتها ونماذجها الإبداعية والمعرفية، وهي المورد الأساس في المجتمع ما بعد الصناعي (١٩٨١). ومن ثم، عزا تورين أهمية خاصة للحركات الطلابية والإيكولوجية التي اعتبر أنها من المحتمل أن تنافس على الطريقة التي كانت صور السلطة التكنوقراطية الجديدة تحاول استخدامها لتشكيل نماذج الإبداعية الاجتماعية والسيطرة عليها. في نمط مجتمع يُنظَّم على نحو متزايد على أساس من القوانين الاتصالية، كانت الهوية عند تورين في المقام الأول مجالًا للصراع؛ حيث كانت عمليات الإبداعية الاجتماعية على المحك. وكانت مسألةً بالغة الأهمية للحركات الناشئة، قدرتها على إدارة التوتر بين «وَجْهَي» الهوية؛ بُعْديها الدفاعي والإبداعي تحديدًا (١٩٨٨). وكان هذا التوتر في جوهر تحليل تورين للحركة العمالية؛ فمن جهة، تصدى بحثه الأسبق بشأن الهوية «البروليتارية» التي شكلت في المقام الأول خبرة العمل غير الماهر؛ حيث يُفهَم العمل على أنه سيطرة، يُجرَّد فيها العامل من الإبداعية من خلال نظم مثل خط التجميع. وفي هذا السياق، يتراوح فعل العامل عادة ما بين الانسحاب والتخريب اللذين تصفهما موضوعات التمزق، ومحاولة التحرر من اللامغزى، والخبرة التدميرية في الغالب. لكن بحث تورين أشار من جهة أخرى إلى العمال المهرة الذين يعني العمل لهم خبرة إبداعية، ويبلورون صيغ الفعل التي يمكن استيعابها بسهولة في صور «النزعة الاتحادية للأسواق». جانبا الهوية هذان من وجهة نظر تورين، خبرة إبداعية العمل وصورة المعاناة الاجتماعية الجديدة التي يجلبها الافتقار إلى الإبداعية، تُوجِدهما ثقافة المجتمع الصناعي، وتنظيمه الاجتماعي. ولا يمكن لأي من هذين البعدين وحده أن يخلق حركة عمالية. افترض تورين أن الحركة الاجتماعية العمالية تتأتى حينما يتلاقى بُعْدا الإبداعية هذان، ويعيد أحدهما تشكيل الآخر في سياق الصراعات الاجتماعية. هذا المُركَّب ليس ثقافة المجتمع، ولكنه نتاج صراع اجتماعي، صراع قادر على تأكيد الإبداعية وخُلُق العمل، بينما يحدد في الوقت نفسه شكل السيطرة المهدَّد في أنظمة العمل التي سعت إلى تجريد العمال من إبداعيتهم. يؤكد بحث تورين بالتحديد مدى هشاشة هذا المُركَّب، وأنه يعاد صوغه باستمرار، ولا يمكن تحقيقه إلا من خلال العلاقات الاجتماعية. ويزعم تورين، شأنه شأن هوجرت (١٩٥٧)، أن ثقافة المجتمع تتعارض دومًا مع الحركات والصراعات الاجتماعية. وكما يؤكد، فالحركات لا تدافع عن الهوية الجمعية؛ ولكنها تُنازِع العلاقات الاجتماعية. واعتقد بأن الحركات الاجتماعية الجديدة كانت تخفي صراعًا مركزيًّا جديدًا من شأنه أن يوازي الصراع المركزي بين أرباب الصناعة والحركات الاجتماعية في المجتمع الصناعي.

من التنظيم إلى الهوية

بحلول منتصف الثمانينيات، أخذ الفارق بين المقارَبات «الأوروبية» و«الأمريكية» (كلاندرمانس ١٩٨٦) لدراسة الحركات الاجتماعية يُفهم على أنه تَضادٌّ بين نموذج «الهوية» ونموذج «الاستراتيجية» (كُوِن ١٩٨٥). كانت مقاربة العملية السياسية تتعرض لنقد متزايد، وخصوصًا من داخلها، بسبب العجز عن إيلاء أهمية كافية لمسائل الهوية، ولا سيما في سياق «سياسة الهوية» الأمريكية. ولعب تحليل تيلور ووِتِيَر للمجتمعات النسوية السحاقية (١٩٩٢، ١٩٩٥) دورًا محوريًّا فيما يتعلق بدمج موضوع الهوية في مقارَبة العملية السياسية. أصبحت الهوية تُفهم على نحو متزايد على أنها مورد قابل للتعبئة (تيلي ١٩٩٣-١٩٩٤)، أو عامل يقلل من كلفة التعبئة (تارو ١٩٩٤)، وأنها هي الطريقة التي «تُحوِّل بها الحركات أعضاءها إلى فاعلين سياسيين» (تيلور ووتير ١٩٩٢: ١٠٤). ونتيجة ذلك أن الهوية صارت تُعرَّف على نحو متزايد بأنها السمة المميزة لمجتمع ما، «التعريف المشترك لجماعة ما، المنبثق من مصالح أعضائها المشتركة، وخبراتهم، وتضامنهم» (تيلور ووتيَر ١٩٩٢: ١٠٥)، وأصبحت هي المكافئ الوظيفي للأيديولوجية (تيلور ووتيَر ١٩٩٢: ١٠٤؛ تيلور ٢٠٠٠). وحالما سادت نظرية العملية السياسية المقاربات المكتوبة بالإنجليزية لدراسة الحركات الاجتماعية، أصبحت الهوية تعرَّف على نحو متزايد على أنها «هوية جمعية»، مرسخة نفسها بوصفها تقليدًا جديدًا في دراسة الحركات الاجتماعية، وباعتبار أنها هي العملية التي فيها «يدرك الفاعلون الاجتماعيون أنفسهم — ويدركهم الآخرون — بوصفهم جزءًا من تجمعات أوسع. وعلى أساس هذه الانتماءات، يعطون معنًى لخبراتهم» (ديلابورتا ودياني ١٩٩٩: ٨٥).

عكَس اعتناق علماء الاجتماع الأمريكيين مفهوم «الهوية» التغيرات التي كانت تحدث في النظام السياسي الأمريكي؛ حيث هدفت الحراكات السياسية على نحو متزايد، في سياق التعددية الثقافية المتنامية، إلى أن تصبح بمنزلة الأقليات (بربرييه ٢٠٠٢)، مستخدمة عامل «الهوية» بفعالية، بوصفها «موردًا سياسيًّا»؛ حيث كان النجاح في دخول النظام السياسي يستلزم دومًا تشكيل «مجتمع»، من قبيل «مجتمع الصُّم» أو «مجتمع اللواطيين» (بربرييه ٢٠٠٢). يذكر جوشوا جامسون، في دراسته للثقافة السياسية الأمريكية، مسألة مهمة مشابهة؛ إذ يفترض أن «بنية الفرصة السياسية» تستلزم «فئات واضحة من الهوية الجمعية … من أجل نجاح استراتيجيات المقاومة» (جامسون ١٩٩٥: ٣٩١). ويُجمِل هذا التحولَ الفكري ماكآدم وتارو وتيلي بافتراضهم أن «الفاعلين يباشرون أفعالهم باسم الهويات» (ماكآدم وآخرون ٢٠٠١: ١٣٧).

على مر التسعينيات تحوَّلت «منظمة الحركة الاجتماعية» إلى «مجتمع الحركة الاجتماعية» الذي تجمعه الهوية، لا البناء التنظيمي. ومع ذلك، ثمة استمرارية كبيرة بين هذا الفهم للمجتمع وبين النماذج الأقدم القائمة على التنظيم. بلور سنو وماكآدم، رائدَا نموذج العملية السياسية، روايةً عن الهوية إذ افترضا أن نجاح الحركة يستلزم أن يكون هناك «توافق» بين اﻟ «أنا» واﻟ «نحن»؛ حيث ««قبل أن يصبح الأفراد فاعلين نافعين للحركة» … من الضروري أن تتضافر الهويات الشخصية مع هوية الحركة الجمعية» (٢٠٠٠: ٥٢؛ التشديد مضاف).

يصعب، إن لم يتعذر، تخيُّل أن يُطبَّق نموذج توافق «الهوية» والمجتمع هذا، الناتج من الثقافة السياسية الأمريكية، على الحركات العالمية الناشئة. ولهذا السبب يفترض أعلام مُهمُّون داخل مدرسة العملية السياسية أنه لا يمكن أن تكون هناك «حركات عالمية»، ولكن توجد فقط «منظمات محلية تختار أن تمضي في نشاط عابر للقومية» (تارو ٢٠٠٢) لتعزيز مواقعها داخل النظام السياسي القومي. ولكن بما أن لغة الحركات هي لغة المجتمع، فسوف تشتمل الاستراتيجيات عبر القومية على «آليات» للتماهي وانتحال صفة التماثل:

بما أن المؤسسات، من البنك الدولي، إلى صندوق النقد الدولي، إلى منظمة التجارة العالمية، إلى مجموعة الثماني الكبرى تتبنى اشتراطات الليبرالية الجديدة العالمية، فبوسع المحتجِّين عبر العالم الذين لا يكاد يجمعهم أكثر من ذلك أن يشرعوا في عزو صفة التماثل إلى أنفسهم وإلى الآخرين الذين يتفقون معهم فقط في العلاقة العدائية بواحدة أو أكثر من هذه المؤسسات. وبهذا المعنى، لا توفر المؤسسات الدولية فقط بنية فرص للتنافس، ولكنها توفر موضوعات وهويات تجميعية لأولئك الذين يعارضونها. (تارو ٢٠٠٢: ٣٢-٣٣)

تحاول خلفيات الفهم الذرائعية هذه وضع الهوية في إطار نموذج «آليات اجتماعية» يراعي على نحو متزايد نماذج التكلفة والعائد المطبقة في الخيار الاقتصادي الجزئي الرشيد (تارو ٢٠٠٢).

تحمل نماذج الحركات الاجتماعية المقدَّمة في هذا الفصل إرثًا بالغ الأهمية من زمن ظهورها ومكانه. طوِّرت محاولة تورين بلورة نظرية للحركات الاجتماعية الجديدة في سياق تراجع النزعة النقابية المهنية، والصراعات الاجتماعية التي برزت في فرنسا عام ١٩٦٨ وما أعقبها؛ حيث افترض في البداية أن الحركات الجديدة ستكون «فاعلًا طبقيًّا» جديدًا. وفي الولايات المتحدة، كانت أفهام الحركات الاجتماعية متأثرة بنقد مفهوم «رجل المنظمة» والأنماط الجديدة من حركات الهوية والمجتمع والأقليات، التي ظهرت من السبعينيات وظلت حاضرة. تتجلى هذه التقاليد في طرق تصور الحركات: فلا تزال الثقافة السياسة الفرنسية مرتابة ارتيابًا عميقًا في كل ما يتعلق بفكرتي المجتمع والأقلية، بما يضاهي نفور الثقافة الأمريكية من مسألة الطبقة.

مبادئ الفعل المدنية والصناعية

لكي نتأمل فكرة «الحركة الاجتماعية» على نحو إبداعي مفيد، نحتاج إلى أن نتجاوز تلك المتضادات الأوضح، وأن ننتبه كيف تقبع طرائق فهمنا ﻟ «الحركة الاجتماعية» داخل مسار أوسع ينتمي إلى الثقافات والمجتمعات الغربية. رأينا أن فئة «الاجتماعي» ظهرت في أوروبا على مر القرن التاسع عشر، مقترنة بوعي جديد ﺑ «العمومية»، بالظرف والخبرة المشترَكين، مقترنة كما رأينا بفهم جديد للأعداد الكبيرة. وسهل هذا طرقًا جديدة لتصور الخطر، وتجميع الموارد للتعامل معه، ووضع أساسًا للأنماط الجديدة من الاتحاد من أجل تقاسم نفقات الجنائز في البداية، ثم معالجة الإصابات. وكما يفترض الفيلسوف السياسي بيير روزانفالون (٢٠٠٢)، أفضى هذا الفهم الجديد للخطر وإمكانية التأمين في مواجهته إلى تشكيل دولة الرفاه في نهاية القرن (روزانفالون ٢٠٠٠).

كان هذا الوعي بالعمومية حاضرًا أيضًا في التحولات الثقافية التي فَهِمت في إطارها الجماعات الاجتماعية الناشئة حديثًا العلاقات فيما بينها. يستعرض المؤرخ الأمريكي جيمس سِيويل نشوء ثقافة الطبقة العاملة وفعلها في فرنسا، ويفترض أن أحد الأبعاد الحاسمة لهذه العملية كان مبدأً أخلاقيًّا جديدًا أُنتج في سياق العلاقات الاجتماعية الجديدة. ويزعم أن هذا تجلى خصوصًا في الطريقة التي تغيرت بها معاني كلمة «استغل» من عام ١٧٦٠ إلى عام ١٨٦٠. في الجزء المبكر من هذه الأعوام المائة كان للفظ «استغل» معنًى محايدٌ أخلاقيًّا، يشير إلى طريقة استفادة الفلاح من حقوله بوصفها موردًا. وبظهور العالم الصناعي، استُخدم اللفظ لوصف الطريقة التي استفاد بها أرباب العمل الناشئون من قوتهم العاملة بوصفها موردًا. استُخدم هذا في البداية بالطريقة نفسها كما يستفيد الفلاح من الأرض، ولكن، مع تطوير التنظيمات والأفعال العمالية، اكتسب اللفظ معنًى عصريًّا جديدًا؛ إذ صارت كلمة «استغل» تصف صورة من صور الفعل تنكر كرامة أولئك العمال المستغَلين وقيمتهم. وحدث تحوُّل، ألا وهو فهم «الاجتماعي» وفق وعي جديد بالعمومية وبالفئات، على نحو يصوغ لغة أخلاقية جديدة مبنية في سياق العلاقات الاجتماعية الجديدة.

يفترض بوفي وموريس وروزانفالون جميعًا أن فهمًا جديدًا للجمعية والشمول كان عاملًا حاسمًا في ظهور فئة «الاجتماعي» الحديثة. وكان هذا جوهريًّا للفهم الجديد لمفهوم الطبقة بوصفها فئة تطورت في أوائل القرن التاسع عشر، فئة استخدمها ماركس الذي افترض أن بالإمكان فهم الطبقة بصفتها كلًّا، بوصفها فاعلًا، أو ما ستسميه لاحقًا أيديولوجيات القرن العشرين السياسية «فاعلًا طبقيًّا» (نجري ١٩٩١). فعلت التغيرات الثقافية التي كانت تعتمل في النصف الأول من القرن التاسع عشر ما هو أكثر من إدراك العمومية بوصفها فئة؛ لقد أتاحت التفكير في «العمومية» بوصفها فاعلًا. لا يزال هذا المفهوم يُبتذل في الطرق التي نفكر بها في الحركات، وخصوصًا من خلال ما يسميه بولتانسكي وثِفينو (١٩٩١) مبادئ الفعل المدنية والصناعية التي شكلت طريقة جديدة للتفكير في العلاقة بين الخبرتين الجمعية والشخصية. ويؤكدان هنا الدور المحوري للفيلسوف السياسي جان جاك روسو والطريقة التي غيَّر بها كيفية التفكير في الجمعية.

وفقًا لروسو، يعتمد السلام المدني على سلطة السيد الذي يسمو على شهوات الأفراد الأنانية والخاصة؛ والقادر من ثم على تأمين الصالح العام. يمكن فهم فلسفة روسو السياسية على أنها جزء من عملية أوسع من عمليات العلمنة التي كانت تحدث في أوروبا على مر القرن التاسع عشر (آيزنشتات ١٩٩٩). وكان روسو قريبًا من الجانسنية، وهي حركة دينية فرنسية تتشابه مع الفهم الكالفيني لقدَرية المجتبَى، أو «مجتمع القديسين». وكما يقول رايلي (١٩٨٦)، قبل روسو، تجلت المشيئة الإلهية من خلال جسد الملك، الذي ارتقى، بوصفه السيد، على الشهوات واختلالات الخصوصيات. وعبر بلورة مفهوم «الإرادة العامة»، يجرد روسو مفهوم السيادة هذا، وينقله من المَلك إلى المواطنين الذين كان يفهمهم باعتبارهم جمعيَّةً، باعتبارهم التقاء الإرادات الإنسانية للمواطنين الذين «يتخلَّوْن عن خصوصياتهم» ويكرسون أنفسهم للصالح العام. ومن وجهة نظر روسو، لا تتحقَّق شيمة المواطن الصالح من خلال الموهبة، ولا الشهرة، ولا الرتبة، ولكن من خلال خصال الفضيلة والتضحية التي تؤكِّد بدورها «تبادلية» الممارسات الاجتماعية (بولتانسكي وثفينو ١٩٩١). وفقًا لروسو، يحرِّر هذا الفعلُ المدني الفردَ من تبعيات العلاقات التراتبية، أو الالتزام الشخصي، ويتيح للأفراد أن ينفصل بعضهم عن بعض؛ وبذلك يصبحون قادرين على تحقيق مكانة المواطنين. المواطنون الصالحون قادرون على فصل أنفسهم عن المصالح الشخصية، وعلى وضع أنفسهم في الموقع الذي شغله السيد فيما مضى، بالتصرف على نحو فريد حسب الإرادة العامة. عاش روسو من سنة ١٧١٢ إلى سنة ١٧٨٨، لكن أعماله تتناول عمليات امتدت عبر القرن التاسع عشر وبعده، ومنها مثلًا الطرق التي مضت بها الدولة الفرنسية الجامعة في إزالة خصوصيات التقليد والإقليم واللغة، وتحويل «الريفيِّين إلى فرنسيِّين» (فيبر ١٩٧٦).

حدث خلال القرن التاسع عشر أن أصبحت تعبيرات الجمعي الجديدة تتسم بالسمو الأخلاقي السابق الذي اتسم به السيد، مع كون الدولة هي أوضح مثال لذلك. لكن مبدأ السمو الأخلاقي للجمعي على الفردي سيصبح كذلك في قلب «عالم مدني» أوسع للفعل والتنظيم، عالم لعب دورًا حاسمًا في ظهور النزعة الاتحادية النقابية. يكتب بولتانسكي وثِفينو:

من شأن تفرُّد العالم المدني أن يولي اهتمامه للكائنات التي ليست كائنات فردية ولكنها كائنات جمعية. يمكن اعتبار البشر الأفراد مهمين وذوي قيمة فقط حالما ينتمون إلى جماعة، أو حالما يكونون ممثلين للشخص الجمعي. لهذا السبب، الأشخاص المهمون في هذا العالم، هم الاتحادات، والمجتمعات العامة، والنواب أو المفوَّضون. ويُفترَض أن سماتهم رسمية أو قانونية. والأشياء المهمة إما مجردة مثل القواعد، والقوانين، والإجراءات، وإما مادية مثل أبنية الاتحاد، أو صناديق الاقتراع. والعلاقات الجديرة بالإشادة هي تلك التي تُشرِك الناس أو تُعبِّئهم من أجل فعل جمعي. (١٩٩٩: ٣٧٢)

كما يفترض بيير روزانفالون (٢٠٠٠)، فقد اعتمدت الرأسمالية الحديثة التي نشأت على مر القرن التاسع عشر بقدر مساوٍ على مبدأ العمومية والتكافؤ هذا، متصورة طرائق جديدة لتنظيم العمل؛ حيث يمكن استبدال عامل بعامل آخر. وكان من شأن استجابة الحركات العمالية من خلال ثقافات وتقاليد سياسية جد مختلفة أن تبني كيانات جمعية دفاعية، وأشكالًا من الفعل والتنظيم تبنت المبادئ المدنية الناشئة؛ حيث لا تكون للأفعال قيمة حينما تتم باسم الفرد، ولكن حينما تتم باسم الكيان الجمعي. في إطار مبادئ الفعل هذه، تُهدِّد الفرادات والخصوصيات بالانقسام. ويتحقق التضامن بنبذ الخصوصيات — يتيح التغلب على التفرد التضامنَ والعمل بطريقة جمعية (بولتانسكي وثِفينو ١٩٩١: ٢٣٧). لهذا النموذج الأخلاقي تأثير مباشر على الطريقة التي تبني بها الجماعة ذاتَها وأفعالها. إذا كان المبدأ الأخلاقي الذي يُبنى عليه الفعل جمعيًّا، أو ما يشيع التمسك به، فحينئذٍ «تحظى علاقات الناس بالجدارة حينما يُطبقون ترتيبات تنزع فرادتهم» (١٩٩١: ١٤٣). من هذه الرؤية، تكون العلاقات بين الأشخاص محل شك، شأنها شأن صور الاتصال الشخصي الذي يحدث بين الأفراد: «كل علاقة بين شخص وشخص لا تمر عبر وساطة العلاقة بكلية الجسد السياسي تعتبر عائقًا للإرادة العامة، وتحط من قَدْرها، وتجذبها باتجاه الخصوصي؛ وبذلك تشكل مؤامرة تجب إدانتها» (بولتانسكي وثِفينو ١٩٩١: ١٤٤). يؤدي هذا إلى أشكال من التنظيم تُبرِز علاقات التفويض والإلزام والتمثيل الرأسية؛ إذ إن العلاقات الأفقية تهدد وحدة الحركة. يرتبط العضو ﺑ «الكلية»، أو بالأفعال أو الرموز أو البنى التي تُظهر الكلية — الإعلانات والقرارات والمؤتمرات. أما علاقات الشخص بالشخص والهويات الشخصية فتُستبعَد. يسعى هذا الشكل من أشكال الحركات إلى التأسُّس بصفته «كلية»، بصفته «فاعلًا جمعيًّا».

شكلت الواجبات الأخلاقية النابعة من المبادئ المدنية ميلاد النقابات المهنية (سيويل ١٩٨٠) من حيث الأساس، وما زالت مهمة حتى الآن، وتتجلى في المقام الأول في العلاقة بين الفردي والجمعي. يكمن الواجب الأخلاقي المدني في قلب الأهمية التي تُعزَى في ثقافة النقابة المهنية إلى أمناء الصندوق والأفرع والسكرتارية والأعضاء والتشريعات والقرارات وإجراءات الاجتماع. هذه جميعًا استراتيجيات تُجرِّد المشاركة من الفرادة. وفي الوقت نفسه، اعتنقت النقابات المهنية جوانب رئيسة من المبادئ الصناعية الناشئة التي تضفي قيمة على الكفاءة وتقسيم العمل بوصفهما طريقة لإنجاز الأهداف. وسمح اعتناق المبدأ الأخلاقي الصناعي في التنظيم بأن تطور الحركة العمالية شكلًا من أشكال البنى، تحل فيه القوة في الجمعية، مبنيًّا بمنطق التمثيل والتفويض، حيث ينتخب كل مستوى من مستويات التنظيم المستوى الذي يعلوه، بينما تتنزَّل القرارات، وحيث يستطيع أولئك الذين هم في القمة أن يروا وأن يفعلوا بناء على مصالح الجمعية بكاملها. يتصرف المرء في المنظمة الصناعية على اعتبار أنه يقوم بوظيفة (هيج وباورز ١٩٩٢) بدلًا من التصرف على أساس الولاءات أو العلاقات أو السمات الشخصية. ويفلح هذا الشكل من أشكال التنظيم في الجمع بين مبدأ التكافؤ (كل الأعضاء يمكن التبديل بينهم) وبين حقيقة أن بعض المناصب، مثل الرئيس، ستمارس قوة أكبر من الآخرين: بينما تتفاوت القوى نتيجة الدور الممارَس، فكل عضو متساوٍ مع غيره من حيث المبدأ. ويكمن تفاوت القوة في المناصب لا في الأشخاص، على نحو يعبر عن واجب الكفاءة. وتؤكد الأهمية المعزُوَّة إلى الكيان الجمعي أهمية البرامج والسياسات وقرارات المؤتمرات — بوصفها أمثلة لتجلِّي الكيان الجمعي. وفي إطار المبادئ المدنية، حينما ينفذ الناس فعلًا فإنهم ينفذونه بصفتهم الرسمية، بصفة سكرتير، أو رئيس، وهكذا. ومن ثم أهمية الإحالات إلى المؤتمرات والقرارات — فالناس يفعلون لتنفيذ مهمة؛ ويفعلون لوضع القرارات المتخَذة من قبل الكيان الجمعي موضع التطبيق.

يعني الواجب الأخلاقي التضامني أنه حالما يتخذ الكيان الجمعي قرارًا، فسينفذه الجميع. يتعذر — حسب المبادئ المدنية — أن يكون الأمر على خلاف ذلك. يشكل الفشل في تنفيذ قرار اتخذه الكيان الجمعي خطأ أخلاقيًّا يعتدي على جوهر المبادئ المدنية ذاته. وبهذا المعنى، «يفعل الكيان الجمعي من خلال الأفراد الذين يكوِّنونه». ويعني نبذ الخصوصيات أن المشاركة تُقام على أساس ما يُتمسَّك به في العموم؛ ومن ثم تنبع الأهمية الممنوحة للتصويت برفع الأيدي مقابل الاقتراع السري. فالاجتماعات والمحاضر والممارسات الرسمية من قبيل مخاطبة الرئيس (الذي يجسِّد الكيان الجمعي)، كلها طرائق للتأكد من أن العلاقات بين الأعضاء تمر من خلال علاقتهم بالكلية. ثقافة الشكل المدني الصناعي للفعل لا وجه لها؛ إذ تسعى لبناء شكل من أشكال الاستراتيجية يمجد الكيان الجمعي، وفي الوقت نفسه يشكك في الشخصي، والفردي، والخاص.

ما زالت هذه المبادئ المدنية تؤثر تأثيرًا بالغًا في الطريقة التي تتصور بها النظريات الحديثة للحركة الاجتماعية العلاقةَ بين الفردي والجمعي. نرى ذلك، مثلًا، حينما يؤكد سنو وماكآدم أن الحركات الاجتماعية تستلزم «هوية جمعية» توصف على أساس «التوافق» بين اﻟ «أنا» واﻟ «نحن»، وحينما يؤكدان أنه «قبل أن يصبح الأفراد فاعلين نافعين للحركة … من الضروري أن تتضافر الهويات الشخصية مع الهوية الجمعية للحركة» (٢٠٠٠: ٥٢). ووفق نظريات الحركة الاجتماعية هذه، ينطوي الجمعي على التغلب على الفرادة.

من العمومية إلى الذاتية والخبرة

تشي مجالات كثيرة من الحياة الاجتماعية المعاصرة بأننا لم نعد في منطق عمومية وتكافؤ. يُبرز عمل كاستلز تحديدًا مدى تفاعل أساسيات منطق الشبكة الناشئة مع الخبرة الشخصية لا مع الفئات والجماعات. سعى النموذج المعرفي الصناعي إلى استبعاد الفردية من مكان العمل، سواء من خلال استجابات البيروقراطية القياسية، أو يوتوبيا خط التجميع التي أمل هنري فورد في أن تزيل تمامًا الإبداعية الشخصية من مكان العمل، بما يجعل كل العمال قابلين للتبديل (فورد ١٩٢٩). وتشير أنماط العمل المعاصرة إلى تفرُّدهم المتزايد، الناتج عن تزايد مرونة التواريخ الشخصية العملية، وأهمية التوظيف الذاتي، والعقود قصيرة الأجل، والطبيعة الفردية المتزايدة للمكافآت عبر التعاقدات الفردية. يستكشف أولريخ بك (٢٠٠٠) في ألمانيا، وبولتانسكي وشيابلُّو (١٩٩٩) في فرنسا هذه العمليات نفسها. يبرز بولتانسكي وشيابلُّو على وجه الخصوص الانتقال من المهنة طويلة الأجل إلى المشروع قصير الأجل، والتكامل المتزايد للقدرات الشخصية في مهمة العمل؛ حيث يتضمن العمل على نحو متزايد قدرة الناس على اعتناق التغيير، وقابليتهم للتواصل، وحِسَّهم الفكاهي، وحركيتهم. ويزعمان أن عمليات العمل المماثلة لما يسميانه «رأسمالية الشبكة» تحطم التمايزات القديمة بين العام والخاص؛ لم يعد العمل يعني أشخاصًا قابلين للتبديل يؤدون وظيفة ما، بقدر ما يعني فاعلين مسئولين على نحو متزايد عن «إنتاج الذات»: مسئولين عن جسدهم، وصورتهم، ونجاحهم، ومصيرهم. كانت الرأسمالية الصناعية موسومة بالفصل القوي بين الحياة الخاصة والحياة العملية، وبين الأسرة والعمل، وبين الآراء الشخصية والقابلية للعمل. وهذا الفصل آخذ في الخفوت، لا من حيث طريقة تنظيم الوقت وحسب، ولكن أيضًا من حيث الطبيعة المتغيرة للعمل ذاته، التي تستلزم على نحو متزايد الالتزام، والإبداعية، وأن المرء يستثمر «ذاته». تُشوِّش مفاهيم مثل «الأهلية» الفارق بين السمات الشخصية والقدرات العملية، بينما يحرك العمل على نحو متزايد القدرات الشخصية مثل الانفتاح، والحِسِّ الفكاهي، والقدرة على الترابط مع الآخرين، فارضًا على العاملين مطالب جد مختلفة عن الفصل القوي بين العام والخاص في أساس مكان العمل البيروقراطي. يؤكد هذا أهمية العلاقة التي يبنيها الأفراد «مع ذاتيتهم»، باعتبارها حاسمة في قدرتهم على الإبحار بنجاح في العالم الاجتماعي المعاصر.

تؤثر هذه التحولات على طبيعة الذاتية في المجتمع الشبكي. ترغب نظم العمل الصناعية في إقصاء الأبعاد الخاصة من مكان العمل، بهدف جعل كل عامل قابلًا للاستبدال بغيره. تُنتِج عمليات العمل هذه «عمومية»، وإحساسًا قويًّا بالتماثل، يعد بعدًا مهمًّا من أبعاد التضامن والوعي الطبقي اللذين شكَّلا الحركة العمالية. أما نموذج الشبكة الناشئ في الوقت الراهن فلم يعد يُنتج «عمومية»، ولكنه ينتج «فردية»، وهي عملية لحظها ألبرتو ميلوتشي؛ إذ يفترض أن «الأفراد يصيرون هم قلب ما كان من شأنه أن يسمى «بنية اجتماعية» في وقت ما» (ميلوتشي ٢٠٠٠: ٤٥): وهو تحول له تداعيات حاسمة على الأشكال المعاصرة من الصراع والحركات. وعلى نحو مماثل، يُبرز آلان تورين، حينما يشير إلى الاقتصاد والتكنولوجيا المعولَمَيْن، الأهمية المتزايدة للمودة، والجاذبية، والخبرة المجسدة — كل أبعاد خبرة التخصيص وإضعاف دور المؤسسات في الحياة الاجتماعية. يفترض تورين أن التدفقات العالمية يصحبها بحث بالقدر نفسه من الأهمية عن الخبرة الشخصية (٢٠٠٠: ٢٨). حقًّا، يفترض تورين أن العمليات المتضمنة في العولمة تهدد وحدة الشخص الذاتية، وهي عملية يصفها بأنها «تجريد من الذاتية» (خسروخاوار وتورين ٢٠٠٠). ليست الأهمية المتنامية للحياة الشخصية في عالم معولَم أسلوبًا دفاعيًّا للانعزال بالضرورة، ولكنها ربما تمثل أيضًا أساس إعادة تركيب الفعل الاجتماعي: «في عالم التغير الدائم وغير المتحكَّم به، لا أساس آخر للدعم (من أجل الفعل) سوى جهد الفرد لتحويل الخبرات المعيشة إلى بناء ذاتٍ تعمل عمل الفاعل.» ومن وجهة نظر تورين، تؤسس الذاتية على نحو متزايد جوهر الصراعات الاجتماعية المعاصرة. ومثل هذه الصراعات، كما يفترض، هي أقل اعتناءً بالدفاع عن «الهويات الجمعية»، ونمط الحركات الاجتماعية في المجتمع الصناعي، وتتخذ على نحو متزايد شكل صراع على «تماسك الذات»: «في مجتمع العقلانية، نلتمس كرامة العمل. في عالم اليوم، نعيش تضادًّا بين عالم المال والاستهلاك، وبين التطلُّع إلى جعل وجودنا كلًّا ذا مغزى» (٢٠٠٠: ١٤٥).

الفعل بوصفه علامة: نموذج التمثيل

يزعم تشارلز تيلي أن ما نفهمه الآن على أنه حركات اجتماعية ظهر مع إنشاء الاتحادات في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ويؤكد تورين ظهور أشكال جديدة من صراعات العمل ومن التنظيم. وحينما نستعرض ملامح اجتماعية مختلفة، ومبنية داخل ثقافات سياسية مختلفة، تشير هاتان الروايتان إلى أن الأشكال الجديدة من التمثيل الاجتماعي حاسمة لما ندركه الآن على أنه حركات — يُبرز كلٌّ من أشكال الممارسة هذه أهمية التصويت العلني، سواء في الاجتماع العام أو في جمعية النقابة المهنية. ويتضمن كلٌّ من النقابة والاتحاد العام شكلًا جديدًا للتمثيل بوصفه فعلًا.

يساعدنا عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (١٩٨٥) على فهم ما يعتمل هنا في تحليله ﻟ «نشوء الجماعات». يضع بورديو فعل التمثيل وفئة الرمزي في قلب التحليل، مفترضًا أن الفاعلين يبنون العالم الاجتماعي باستخدام «عمل التمثيل». ويضرب مثلًا ﺑ «الطبقة العاملة». بينما كانت عمليات العمل وظروفه تعني أن العمال كانوا خاضعين لنظام عمل جديد في المصانع، خُلِقت طبقة عاملة من خلال فعل الجماعات والأفراد الذين كانوا يدَّعون تمثيلها. يفترض بورديو أن ادعاء زعماء النقابة الناشئة التحدث باسم الطبقة العاملة و«تمثيلها» من خلال ذلك، هو صيغة الممارسة الاجتماعية التي تشكل عمليًّا الفئة الاجتماعية. تتضمن «القدرة على إيجاد الكيانات» (١٩٨٥: ٧٢٩) جعْل ما كان يوجد من قبل في مستوًى خاص أو معزول عامًّا. ويقع «عمل التصنيف» هذا في مركز الصراع الذي من خلاله «يتنازع الفاعلون على معنى العالم الاجتماعي وموقعهم فيه». ويفترض بورديو أنه من خلال فعل صنع العامِّ هذا يؤتى بالجماعات إلى الوجود الاجتماعي. ومن وجهة نظر بورديو، تعمل القوة الاجتماعية من خلال هذه القدرة على التسمية. ولكنه يرى، بالقدر نفسه من الأهمية، أنه «من خلال فعل التمثيل تُجعَل الحركات الاجتماعية واقعًا اجتماعيًّا». هنا، يستند بورديو (٢٠٠٤: ٣٧) إلى كتابات توماس هوبز، مفكر الفضاء المجرَّد:

تُجعل كثرة من الرجال شخصًا واحدًا حينما يمثِّلهم رجل واحد «أو شخص واحد»؛ ويحدث هذا بموافقةٍ من كل واحد من تلك الكثرة على حدة. لأن وحدة الممثِّل، لا وحدة الممثَّل، هي ما يجعل الشخص واحدًا. والممثِّل هو الذي يُنتِج الشخص، والشخص الواحد فقط: ولا يمكن فهم الوحدة في التعدد بطريقة أخرى. («التنين»، الفصل ١٦؛ التشديد مضاف)

يفترض بورديو أن بالإمكان التماس أصول هذا الفهم في ظهور القانون الحديث، وما يسمِّيه «سر الكهانة» (٢٠٠٤) أو «سر الحلول؛ حيث يصير المتحدث الرسمي هو الجماعة التي يعبر عنها». فالمسئول، سواء أكان كاهنًا دينيًّا أم وزيرًا في دولة «يعمل بوصفه علامة محل الكل»، وهذا «استبدال حقيقي بالكامل لكائن رمزي بالكامل» (١٩٨٥: ٧٤٠).

بمجرد الحضور المرئي للمسئول، فإنه يشكِّل التنوع المتسلسل الخالص للأفراد المنفصلين (تشكيلة الأشخاص العديدين) في «شخص مصطنع» [شخص معنوي]، جسد «تشاركي» مركَّب، ومن خلال تأثير الحشد والتظاهر، ربما حتى يجعله يظهر بوصفه فاعلًا اجتماعيًّا. يضع المتحدث الرسمي، بالحديث عن الجماعة، باسم الجماعة، خلسةً وجودَ الجماعة موضع الشك، ويؤسس الجماعة من خلال العملية السحرية المتأصلة في أيِّ فعل من أفعال التسمية. (بورديو ١٩٨٥: ٧٤١)

يؤكد بورديو أن وجود الجماعة والطبقات ليس ناتجًا ببساطة عن البنى الاجتماعية. تُخلَق الجماعات من خلال الشعارات وعمليات التعبئة؛ حيث إن زعيم الحزب السياسي أو النقابة المهنية أو الطبقة الاجتماعية «بتشخيصه شخصًا تخيليًّا، خيالًا اجتماعيًّا، يرفع أولئك الذين يمثلهم من حال الأفراد المنفصلين، ويمَكِّنهم من الحديث والفعل من خلاله وكأنهم رجل واحد. وبالمقابل يتمتع بالحق … في أن يتكلم ويفعل وكأنه الجماعة وقد جُعِلت رجلًا» (بورديو ١٩٨٥: ٧٤٠). يقع هذا في قلب هذا التصور للفعل، الذي لا يتأتى إلا من خلال التمثيل. في هذه الرواية، يحدث الفعل من خلال تأسيس الجماعات. وفي مستوًى ما، يزعم بورديو أن الجماعات الاجتماعية توجد من خلال القادة والمتحدثين الرسميين الذين يمثلونها، وأنها ستنتفي بوصفها جماعات بانتفاء تمثيلها. ولكن في مستوًى أعمق، يقترح بورديو تصورًا للفعل السياسي مُعرَّفًا بمقتضى ما هو رمزي: «السياسة هي الموقع الأمثل لتأثيرية الرمزي، أي «الفعل الذي يؤدَّى عبر علامات قادرة على إنتاج أشياء اجتماعية، وخصوصًا، الجماعات»» (١٩٨٥: ٧٤١؛ التشديد مضاف). تتضمن هذه التأثيرية السياسية شكلًا من التجريد من الملكية: «لا يمكن للأفراد أن يتشكَّلوا (أو أن يُشكَّلوا) في هيئة جماعات، أي قوةٍ قادرة على أن تُسمَع، على أن تتحدث وتُسمع، ما لم يتخلَّوا عن ذواتهم لصالح متحدث رسمي» (١٩٩١: ٢٠٤). هذا الشكل من أشكال الفعل سيُفهَم في النهاية بمعايير فئتي «الإرادة» و«التمثيل» (فاكون ٢٠٠٤).

الفعل، وفقًا لهذا الفهم، «يؤدَّى من خلال علامات»، وهو أدائي؛ أي إنه يؤدي إلى وضع راهن جديد. فالنقابة المهنية تنشئ الطبقة من خلال تمثيل الطبقة؛ ويخلق الاتحاد الحركة الاجتماعية من خلال تمثيلها. وبهذا تصير الكثرة شخصًا واحدًا؛ كما يزعم هوبز. هذا الفهم للفعل على أنه رمزي من حيث الأساس بالغ الأهمية لنظريات الحركة الاجتماعية: لا يُمكن فهم التجمهر أو الشغب ضمن مبادئ التمثيل، أما الاتحاد المشكَّل بأسلوب عمدي فيُفهَم في هذا الإطار. تقع مقاربات نظريةٌ بيِّنة الاختلاف في إطار هذا الفهم لمركزية الرمزي وفعل التمثيل بوصفه فعلًا أدائيًّا. وبينما صاغه هوبز لأول مرة، ونظَّره بورديو، فإنه يتكرر في أبحاث منظِّري النوع الاجتماعي (الجندر) مثل جوديث باتلر (١٩٩٧) التي كان النوع الاجتماعي من وجهة نظرها علامة أدائية تُنتِج ما تدَّعي تمثيله. أما المنظِّرة السياسية نانسي فريزر فتُقلِقها الاتجاهات السلطوية والمجتمعية التي تتخذها «سياسة الهوية» في الولايات المتحدة، ولكنها تفهم الفعل في الوقت نفسه على أنه «القدرة على التمثيل» (٢٠٠٠: ١١٢). وبينما تركز نظريات الحركات الاجتماعية القائمة على نموذج العملية السياسية على أبعادها الذرائعية، فإنها تؤكد بالقدر نفسه هذا الفهم للفعل على أنه بناء للفئة: يسأل ماكآدم وزملاؤه «لِمَ مثلًا يبذل المشاركون في الحركات الاجتماعية الكثير من طاقتهم في التأكيدات العامة للهويات المشتركة: بالمسيرات، وإظهار الرموز المشتركة، واستعراض التضامن؟» وردُّهم هو: «أن ادعاءً ناجحًا للقيمة الجمعية، والوحدة، والأعداد والالتزام يجلب اعترافًا بصفة لاعب سياسي موثوق به، وقادر على إحداث فرق في الصراع السياسي التالي» (٢٠٠١: ١٤٧، ١٤٨).

النماذج المعرفية المتحوِّلة

على الرغم من الاضطرابات والجدالات الداخلية، تُمكن الإشارة إلى نموذج معرفي سائد عن «الحركة الاجتماعية» مبني على أساس التحولات في المجتمع والثقافة الغربيَّيْن. من جهة، ثمة أولوية مركزية لتشكيل الجماعات التي ربما تتخذ شكل الاتحاد أو المنظمة أو مؤخرًا، المجتمع. ويمكن أن نضع هذه العملية في إطار ظهور أوسع للحداثة الغربية، في أفهام الفضاء المجرد، المحدَّد بالحدود، المكوَّن من الأعضاء المتكافئين وظيفيًّا، وفي فهمٍ حديث جديد للتمثيل، ينشأ منه فهم حديث للفعل الرمزي الذي تكرر بطرائق حاسمة في مقاربات دراسة الحركات الاجتماعية. تتجلى في هذا الإطار فكرة أن الحركة هي شكل من الكلِّية (سواء المنظمة أو المجتمع)، تدَّعي شكلًا من السيادة التي كانت تُفهم فيما مضى على أساس ديني، وأنَّ محلها هو جسد السيد. المثال النموذجي لمبادئ الفعل هذه هو النقابة المهنية، بتركيزها على التفويض والتمثيل والتكافؤ الوظيفي بين الأعضاء، وأهمية الارتباط بالكلية، والارتياب فيما هو أفقي، أي علاقات الشخص بالشخص؛ حيث يفعل المرء بوصفه مفوَّضًا أو ممثلًا، لا بوصفه شخصًا. نشهد هذه المبادئ نفسها منطبقة في نماذج الهوية التي تفهم العضو على أنه «فاعل نافع للجماعة» هذه مبادئ قوية للفعل لا تتغلغل في المنظمات وحدها، ولكن في المدارس الفكرية أيضًا. يشكِّل الفعل بوصفه الرمزي، من خلال أفكار التمثيل والهوية والتفويض والتضامن التي تنساب منه، عالَمًا فكريًّا.

تنطوي أشكال الفعل التي نتصدى لها في هذا الكتاب جميعها على نبذ هذا النموذج المعرفي الذي تؤسَّس فيه الجماعات من خلال فعل التمثيل. وبدلًا «من القدرة على التمثيل»، نجد مبادئ فعل أخرى: الاستشفاء، اللمس، السمع، الإحساس، التحرك. نجد مبادئ التجسيد، كالخبرة، ونمط الحضور والمشاركة في العالم (جورداش ١٩٩٣: ١٣٥). يعني استكشاف أشكال الفعل هذه قطيعة مع الفصل الديكارتي بين الجسد والذات، ووضع الأحاسيس والجسد داخل الفعل. ويثير هذا — كما سنرى — الشك في الفاعل المستقل المعرَّف بإرادته. ويفتح هذا أيضًا المجال للتساؤل عن أشكال البنى الأخرى التي لا يرتبط فيها الفاعلون بالكليَّة كما يقتضي النموذج المدني، ولا يتجردون من ذواتهم بالطريقة التي وصفها بورديو. يحاول كثير من المؤلفين إحداث تحوُّل في الطريقة التي نفكر بها بشأن الحركات، مُبرزين أهمية الشبكة. ومع وضوح أهمية الشبكة، يشير هذا الكتاب إلى وضع الذات المجسَّدة في مركز الفعل، وحالما نفعل هذا، تبدو المفاهيم الراهنة عن «الشبكة» مجرَّدة، ومسرفة في وقوعها في ثقافة التزامن — عادة ما يحاول الباحثون «رسم خرائط» للشبكات بطريقة تنزع منها التجسيد وتضعها في زمن أحادي البعد (انظر دياني ١٩٩٥؛ دياني وماكآدم ٢٠٠٢). لعل أنماط البنى الأخرى تتيح لنا التفكير في الفعل على أساس الأجساد والزمن، وأستعرض في المناقشة الختامية استعارات الموسيقى والإيقاع، لا الشبكات، لإبدال تصور أقدم عن بنية التمثيل.

الحداثات العالمية

تؤكد الدراسات المقارِنة باطِّراد مشكلات التفكير في العولمة بوصفها انتشار الأشكال الغربية للفردية و«المجتمع المدني». يستند عالِم الاجتماع الإسرائيلي إس إن آيزنشتات إلى كتابات كارل جاسبر ليستخدم مفهوم «الحضارة». ميز جاسبر بين ما يسميه الحضارات «المحورية» و«غير المحورية». ويشير مصطلح «العصر المحوري» إلى الحضارات التي تبلورت خلال الحقبة من عام ٥٠٠ قبل الميلاد وحتى ظهور الإسلام. تُظهر الحضارات التي نشأت في هذه الحقبة وعيًا جديدًا بالمسافة الفاصلة ما بين اليومي، أو العالم الدنيوي، وبين النظام السامي أو المقدس. بالمقارنة مع السامي كان العالم الدنيوي ناقصًا، دونيًّا، مدنسًا، وبحاجة إلى إعادة بناء. أما الأمثلة الرئيسة لهذه الحضارات فهي إسرائيل القديمة، ويهودية الكومنولث الثاني، والمسيحية التي ظهرت منها، واليونان القديمة، والزرادشتية في إيران القديمة، والصين الإمبراطورية القديمة، والهندوسية، والبوذية التي نشأت منها، والإسلام (آيزنشتات ١٩٩٩). وبدلًا من أن تكون انعكاسًا بسيطًا للنظام الاجتماعي (مثلما اعتقد علمانيو القرن التاسع عشر من ماركس إلى عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركيم)، يؤكد آيزنشتات أن الملمح المميز لهذه الحضارات كان هو التوتر بين السامي والدنيوي. هذه النظرة النقدية إلى العالم الاجتماعي، هذه الدعوة للاستبدال والتغيير التي صيغت باسم مبادئ عليا، ارتبطت بظهور نخب مختلفة للجماعات الاجتماعية، مثل المسئولين الدينيين، ورجال الدين، أو المثقفين الذين ادعوا القدرة على الوصول إلى السامي، واستخدموا هذا بطريقة أو أخرى لانتقاد التنظيم الاجتماعي اليومي (آيزنشتات ١٩٩٩: الفصل الأول).

كان هذا يعني أن النظام الاجتماعي لم يعد يُرى على أنه يُظهر مبادئ خالدة أو سامية أو يعبر عنها، ولكن يُرى على أنه بحاجة إلى نوع من التغيير أو الإبدال أو الإكمال، بحيث يمكن أن يتجاوب مع الإمكانية المتاحة من خلال النظام السامي. هذا التوتر بين السامي والدنيوي كانت له أبعاد مهمة فيما يخص مفاهيم القوة. حينما تبلورت هذه الحضارات اختفى الملك-الإله، وإذا كان الملك أو الحاكم استرد أبعادًا مقدَّسة مهمة، فهو من حيث المبدأ كان قابلًا للمساءلة أمام نظام أسمى. والنتيجة أن ظهرت في هذه الحضارات، كما يزعم آيزنشتات، إمكانية استدعاء حاكم للحساب (١٩٩٩: ٦) — الأمثلة هي أنبياء إسرائيل القديمة، أو المفهوم الصيني للعهد السماوي. لكن هذه الديناميات الحضارية اكتسبت أشكالًا جد مختلفة، مطوِّرة تصورات جد مختلفة للمساءلة، وتصورات مختلفة اختلافًا جذريًّا بشأن معنى إعادة بناء العالم. في الحضارات «الدنيوية» ولا سيما الهندوسية والبوذية، نشأ هذا من داخلها، واتخذ هذا شكل هجر الدنيا وبناء خبرة المؤمن الداخلية. في هذه الحضارات، نادرًا ما كان نقد العالم الدنيوي يركز مباشرةً على النظام السياسي، وحيثما تصدَّت الحركات التي نشأت من خضم هذه النماذج الثقافية لما هو سياسي، نادرًا ما أخذ هذا شكل محاولة إعادة بناء المجال السياسي، ولكنها، بدلًا من ذلك، اتخذت شكل دعوة الحكام إلى الامتثال للمبادئ الخُلُقية التي أُسِّست عليها الأنظمة القائمة (آيزنشتات ١٩٩٩: ١٥). أما الكونفوشيوسية التي يقترح آيزنشتات دراستها بوصفها «حضارة دنيوية»، واكتسبت طابعًا مؤسسيًّا مع تطور الدارسين والدراسات، فلم تهدف إلى إعادة بناء المجال السياسي، ولكنها ركزت بدلًا من ذلك على أهمية الشخصية الفردية والتربية الخُلُقية — وهي موضوعات سنرى أنها مركزية لأشكال الحركات التي نشأت في الصين في الحقبة التي أعقبت «الثورة الثقافية» وتعولمت منذئذٍ. ومن وجهة نظر آيزنشتات، تجمع الحضارات التوحيدية الكبرى — اليهودية، والمسيحية، والإسلام — بين أبعاد مهمة من هذا ومن النماذج المعرفية للحضارات الدنيوية. يمتلك كلٌّ منها توجهًا قويًّا نحو إعادة تشكيل العالم الدنيوي، ويولي كلٌّ منها أهمية بالغة للمجال السياسي بوصفه وسيلة لتحقيق هذا.

لهذا التحليل الحضاري تداعيات مهمة على الطريقة التي نفكر بها في الحركات العالمية الناشئة. أولًا، أنها تبرز حدود التحليلات المبنية على أساس «الرؤية الكونية». فوعينا بمدى تشكُّل الأنماط الاجتماعية من خلال مبادئ حضارية ينبهنا إلى مدى كون كثير من ادعاءات مكانة «الكوني» نتاج خبرات ومسارات تاريخية محددة في حقيقة الأمر. الحداثة الأوروبية هي شكل واحد من أشكال التحديث متزايدة التعدد. والرابطة القوية بين الدولة القومية والهوية الجمعية، التي لعبت مثل هذا الدور المهم في كثير من الدول الأوروبية لم تتجلَّ، مثلًا، في الهند التي لم تطور دولة قومية. تُنتج منابت الثقافات الأخرى تصورًا للفعل مختلفًا اختلافًا جذريًّا، كما يتجلى في فهم التربية. ولا تتطلع كل هذه المنابت إلى تغيير العالم الدنيوي من خلال تفضيل السياسي، ولا كلها تطور النمط نفسه من المجتمع المدني الذي ظهر في أوروبا. ولا تطور كلها العلاقة الخاصة بين الخبرة الفردية والجمعية التي ظهرت في الاتحاد الحديث، التي يوليها تيلي، عن حق، هذه الأهمية في حالة الحركات الاجتماعية الأوروبية.

الطريقة التي نفهم بها مفهوم الفعل ذاته كامنة في المنابت الحضارية. يفهم تيلي الفعل كما رأينا على أساس «القصدية» — وهو موضوع متكرر في تركيزه على التعمُّد، بينما يؤكد بورديو صفة الرمزية في التمثيل والفعل. يجعلنا الوعي بالمبادئ الحضارية منفتحين على طرائق مختلفة للتحول إلى ذوات والخبرة بالعالم، وطرائق مختلفة للخبرة بالتجسيد والعلاقة بالآخر، وعلى مبادئ مختلفة للنقد الاجتماعي. ويشي كل ذلك بأن الحركات قد لا تتبع بالضرورة المسارات التي نألفها في الحداثة الغربية. لو عرَّفنا «الحركة الاجتماعية» بأنها «المكافئ الوظيفي» للحزب السياسي وجماعة المصلحة، فحينئذٍ سنكون عرَّفنا مفاهيم جوهرية للفعل والاتصال والعلاقات بالآخر وفق الشروط التي ظهرت في الغرب. وهذا يشوِّه نظرتنا، باستبعاد كل الخبرات والحركات التي لا تتوافق ومبادئ الفعل والثقافة التي ظهرت في سياق التحديث الأورو-أمريكي، أو اعتبارها تعبيرات دفاعية عن العجز عن التعامل مع التحديث ومتطلباته. يفرض هذا مزاجًا من التماثلية يُدرَك على نحو متزايد على أنه شكل من أشكال العنف، على أنه رفض للاعتراف. وليس هذا شأنًا فكريًّا محضًا؛ ولكنه شأن أخلاقي أيضًا.

هوامش

(١) يرى البحث المعاصر أن الحالات الفعلية لاجتماع بلدة نيو إنجلاند العام، على الرغم من أهميته للخيال السياسي الأمريكي، كانت أقل بكثير من دورها الذي اعتاد الخيال الأمريكي افتراضه (انظر فرانسوا ونيفو ١٩٩٩).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤