الفصل الثالث

الفعل المباشر: من المجتمع إلى الخبرة

ترجع أصول الفعل المباشر إلى الاحتشادات الكبيرة في أواخر عقد التسعينيات من القرن العشرين. ظهر الفعل المباشر أولَ الأمر في الحركة المناهِضة للطاقة النووية في الولايات المتحدة في أوائل السبعينيات، ولعب دورًا محوريًّا في فعل حركة «تحالف المحار» (الكلامشيل ألايانس) ضد الطاقة النووية في سيبروك، نيوهامبشير. ومن هناك، عُمِّم عبر الولايات المتحدة من خلال سلسلة من احتلالات المواقع التي كان مُخطَّطًا بناءُ المفاعلات النووية عليها، وأشهرها ما جرى في موقع ديابلو في كاليفورنيا (انظر جاسبر ١٩٩٧)، في عمليةٍ توضِّح نموذج السيولة الذي صاغه أوري (٢٠٠٢). في الولايات المتحدة، لعب الفعل المباشر دورًا مهمًّا في ظهور حركة «الأرض أولًا!» (إيرث فيرست!) التي لعبت دورًا أساسيًّا على مدى عقدٍ في تطويرِ أشكالٍ جديدة من الفعل. وبينما أصبحت حركة «الأرض أولًا!» في الولايات المتحدة مغلقةً ومنكفئة، بما أدَّى إلى انهيارها المؤثر، فقد نشأت من ثقافتها وفعلها حركةُ «مجتمع الضجيج» (روكوس سوسَيتي) التي كان لها أن تلتقي مع تقاليد الفعل الثقافي التي مثَّلَتها شبكة «الفن والثورة» (آرت آند ريفوليوشن) في كاليفورنيا، التي نشأت منها حركة «شبكة الفعل المباشر» (دايركت أكشن نتورك) التي لعبت دورًا حاسمًا في نجاح فِعل سياتل ضد منظمة التجارة العالمية.

فاض الفعل المباشر الذي ظهر في الولايات المتحدة على بريطانيا في بدايات التسعينيات، حينما تَبنَّى طلابُ الجامعات البريطانية حركةَ «الأرض أولًا!» ونموذجَ فعلها. ولكن هذا تغيَّرَ تغيُّرًا جذريًّا في بريطانيا نتيجةَ التعرُّض لثقافة الشباب والفعل المناهِض للطرق؛ ولذلك، بينما انهارت «الأرض أولًا!» في الولايات المتحدة انهيارًا مؤثرًا، فإنها نضجت في بريطانيا لتصبح حركة «استعادة الشوارع» (ريكليم ذي ستريتس)، التي ستلعب فيما بعدُ دورًا أساسيًّا في ظهور شبكة «الفعل العالمي للناس» (بيبلز جلوبال أكشن). وفي أوروبا القارية، يتبع الفعل المباشِر مسارًا مختلفًا مرةً أخرى، بسبب خلوِّها من حركات مهمة مناهِضة للطاقة النووية. في فرنسا مثلًا، ينشأ الفعل المباشر من النزعة الإنسانية الجديدة التي تطوَّرت في ذلك البلد في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، مقترنةً بثقافة الشبكات «بلا حدود» مثل «أطباء بلا حدود»، أو المطالبة بالفعل المباشر ضد الجوع والتشرد، وهي شبكات أدَّت إلى تطوير أشكال الاتحاد، من قبيل «الاتحاد من أجل فرْضِ ضريبة توبن لمساعدة المواطنين»، الذي يمكن النظر إليه على أنه شكلٌ جديد من أشكال الفعل، مَصوغ داخل شكلٍ أقدمَ من أشكال التنظيم. وفي إيطاليا، تلعب المراكز الاجتماعية دورًا محوريًّا؛ إذ تؤدي دوْرَ نقاطِ تلاقٍ للثقافات الشبابية البديلة. وفي شمالي أوروبا، تلعب ثقافاتُ الشباب أيضًا دورًا محوريًّا؛ حيث تحتلُّ العلاقةُ بالعنف مكانةً مهمة في أشكال الفعل المباشر — كما في التخريب والأفعال التي طوَّرتها حركة «تحرير الحيوان» (أنيمال ليبريشن) (بيترسون ٢٠٠١).

هذه الأشكال من أشكال الفعل والحركة تُشكِّلها السياقات والتقاليد القومية. ليست أمثلة لثقافة كوزموبوليتانية عالمية. النزعةُ الإنسانية الجديدة التي برزت في فرنسا في الثمانينيات لا نظيرَ لها في الولايات المتحدة، والحركةُ المناهِضة للطاقة النووية التي كانت بالغةَ الأهمية في بريطانيا لم تكن ذات بال في فرنسا. تطوُّرُ الفعل المباشِر هو مثال لمسارات ثربون (٢٠٠٣) «المتداخلة» أو «الصِّلات الجزئية» التي وصفها أوري. بينما انهارت «الأرض أولًا!» بشدة في الولايات المتحدة، أُعِيدَ تشكيلُ نموذجِ الفعل الذي طوَّرته في سياق الصراع ضد الطرق في بريطانيا، مُفْضِيًا إلى ظهورِ حركةِ «استعادة الشوارع»، التي ارتدَّت بدورها إلى الولايات المتحدة في أواخر التسعينيات، وكذلك إلى بلدانٍ مثل إيطاليا وأستراليا. ولعبت جماعاتُ الاهتمام المشترك ومجالسها التمثيلية، التي ظهرت أول الأمر في سياق «تحالُف المحار» في مدينة سيبروك عام ١٩٧٥، دورًا مهمًّا في سياتل عام ١٩٩٩؛ حيث ظهرت أيضًا بصفتها شكلًا أساسيًّا من أشكال التنظيم في الفعل الذي جرى في مدينة إيفيان ضد مجموعة الثماني الكبرى في يوليو ٢٠٠٣. «استعراض الطريق» الذي طوَّرَتْه «الأرض أولًا!» متضمنًا السفر بين المدن من أجل إنشاء الشبكات وتنظيم الفعل، هو إشارة إلى المكانة المهمة التي حظيت بها «الكرافانات» في فعل مناهضة العولمة، ويؤكد أهمية مبادئ خبرة مرتبطة بالنزوح والارتحال. تنساب أشكالُ الفعل من شبكةٍ إلى أخرى في عملية تُضَخِّمها الإنترنت وشبكات الاتصالات، مثل: شبكة «إنديميديا» في الولايات المتحدة، أو شبكة «تكتيكال ميديا كرو» في إيطاليا. وسنشرع في هذا الفصل في كشف تدفُّقات الخبرة هذه؛ حيث تلعب الموسيقى دورًا أكثرَ أهميةً مما تلعبه إجراءات الاجتماعات، وحيث نجد بدلًا من الاتحادات شبكاتٍ معقَّدةً من الارتحال والحيوية.

«تحالف المحار»: جماعات الاهتمام والمجتمع النموذجي

يمكن تلمُّس جذور الفعل المباشر في حركةِ مُناهَضةِ الطاقة النووية، والاستراتيجية التي طوَّرتها على مر السبعينيات، باحتلال المواقع المخطَّط إنشاء المفاعلات فيها. وكان من أهم نماذج هذه الحركةِ «تحالفُ المحار» الذي نشأ في سيببروك (نيوهامبشير) من عام ١٩٧٥ إلى عام ١٩٧٧، مُستلهَمًا من احتلالات المواقع التي جرت في فرنسا وألمانيا. كان لأولئك المنضَوِين في هذا الفعل تاريخٌ من المشاركة في الحركة الطلابية لمُناهَضة الحرب، وكان الاحتلال في سيبروك متأثرًا بقوةٍ بتقاليد العصيان المدني السِّلْمي التي ابتدعَتْها جمعية خدمة الأصدقاء الأمريكيين (الكويكرز)، التي لعبت دورًا محوريًّا في كلٍّ من حركات السلام وحركات الحقوق المدنية في العقد الأسبق.

كانت هذه الحركات منغمسةً في فعل الحقوق المدنية تحديدًا، وكانت جماعات صغيرة مكوَّنة من أناسٍ ملتزمين بدعم بعضهم بعضًا خلال المواجهات مع الشرطة والآخرين الذين يُحتمَل أن يُناصِبوهم العداء. وعادةً ما تشكَّلوا من خلال عمليات «تدريب». سبق أن لعبوا دورًا بارزًا في الرد بأسلوب سِلْمي على عنفِ الشرطة خلال مرحلة الحقوق المدنية، وتبنَّاهم «الكويكرز» خصوصًا الذين نظَّموا تدريباتٍ للنشطاء في سيبروك. وبدلًا من الولاء لمنظمة مجردة، أو خبرة يكون فيها الناشط وحيدًا وسط آلاف الوجوه المجهولة، بنى كلُّ ناشطٍ عبر جماعةِ الاهتمامِ المشترَك روابطَ مُسانَدةٍ قوية مع عددٍ قليل من الناس، وخلال الفعل — الذي كان يُحتمَل أن يصطبغ بالمُواجَهة العنيفة — كان من شأن ولائهم أن يُوجَّه إلى هذه الجماعة الصغيرة.

في الفعل المناهِض للطاقة النووية الذي بدأ في سيبروك، اعتادت جماعات الاهتمام خلال احتلال موقع ما أن تتكتل في مناطق محددة، مع إرسالِ كلِّ «قرية» من جماعات الاهتمام مُمثلا ليشارك في المجلس التمثيلي الذي كان عليه التعامُل مع المسائل المستجدة، وأن يكون مسئولًا عن التفاوض مع الشرطة. يشير هذا إلى تحوُّلٍ في دورهم؛ من مجردِ طريقةٍ لتنظيم الفعل — المُقاوَمة السِّلْمية للاعتقال — إلى مبادئ للتنظيم. واتسع هذا الدور في سيبروك لأن النشطاء طالَبوا في أعقاب الاعتقالات بأن يبقوا جزءًا من جماعات اهتمامهم، بينما كانوا رهْنَ الحبس (إبشتاين ١٩٩١: ٦٨). والنتيجة أن جماعات الاهتمام، بوصفها أسلوبًا للفعل مُصمَّمًا ليسمح للناس بمقاومةِ الاعتقال مقاومةً ناجحة وسِلْمية، صارت مبدأً يمكن أن تنتظم المجتمعات وفقًا له. خلال الدفاع عن جماعة الاهتمام، كان الفاعلون يدافعون عن مجتمعهم — الموضوعات التي أرسَتْ أُسسَ سياسةِ الهُوِيَّة التي نشأت فيما بعدُ في الولايات المتحدة.

سرعان ما قُلِّد احتلالُ سيبروك على امتداد البلاد، لاعبًا دورًا أساسيًّا في ميلاد الحركة المُناهِضة للطاقة النووية الأمريكية بالجمع بين احتلال المواقع والمجتمع النموذجي. في سيبروك، التقت ثلاثة تقاليد أمريكية مؤثرة: الاحتجاج الأخلاقي ذو الأساس الديني؛ والثقافةُ المضادة وحركة المعيشة الجماعية اللتان كانتا بالغتَي الأهمية للثقافة الأمريكية؛ والدفاعُ عن التقاليد المحلية والديمقراطية المحلية، مع إيلاءِ أهميةٍ كبيرة لاجتماع البلدة والاستفتاءات المحلية (إبشتاين ١٩٩١). أثمَرَ الفعلُ ما هو أكثر من مُعارَضةِ إقامةِ محطةٍ نووية؛ بشَّر بمجتمع، وأصبح هذا مهمًّا على نحوٍ مُتزايدٍ فيما أصبح فعلًا مباشرًا من أفعال «الثقافة الفرعية»، «معرَّفًا بقيمٍ إيكولوجية سِلْمية قانونية، وبإجراءاتٍ داخلية مرتكزة إلى صنعِ القرارات الوفاقية وجهودِ إنشاء المجتمع» (جاسبر ١٩٩٧: ١٨٩). ويزعم الباحثون الذين استكشفوا هذه الحركة، أنها بتطوُّرها ازدادت انغلاقًا، مع بقائها لصيقةً بفئة الحركات التي تنتمي لمرحلة الستينيات، وتَلخَّصَ هذا الانغلاق بالإشارات المستمرة إلى أشكال المجتمع اليوتوبي الذي تكوَّنَ من خلال خبرة السجن (جوبك ١٩٩٣: ٨٤).

بغضِّ النظر عن هذا، فإن موضوعاتِ الفعل المباشِر، وجماعاتِ الاهتمام، ومجالسَها التمثيلية، ظهرت بقوةٍ في الفعل المناهِض للعولمة في أواخر التسعينيات. ولكي نفهم هذا، نحتاج إلى أن نستكشف تطوُّرَ الفعل المباشر وتحوُّلاته في مجال الفعل البيئي. والحالة المرجعية الرئيسة هنا هي «الأرض أولًا»!

المحاربون من أجل الطبيعة: «الأرض أولًا»!

أنشئت حركة «الأرض أولًا»! أثناء رحلة تخييم خاضها خمسة شبان إلى صحراء البينكارت عام ١٩٨١. كان الهدف هو الكف عن الحديث والنقاش، وبدء الفعل. وحدث أول فعل ملموس من قِبَل «الأرض أولًا»! في صبيحة الاعتدال الربيعي عام ١٩٨٢، حينما التَفَّ إسفين بلاستيكي أسود بطول ١٠٩ ياردات، وعَرْض مستَدَق من ١٢ قدمًا إلى قدمين اثنين عند واجهة سد «جلِن كانيون» في كلورادو. وفي سياق الجدل بشأن السد وتدمير البراري الذي انطوى عليه الإضرار بالأنهار، لقي هذا الفعل شعبية قومية بسبب القوة التي اكتسبتها صورة ما بدا صدعًا مهولًا يوجد أدنى واجهة السد، موحية بقوة النهر في تحرره من سجنه البشري الصنع (انظر: http://www.hcn.org/allimages/1995/mar20/graphics/950320.001.gif).

كان هذا بداية سلسلة من الأفعال هدفت في مجموعها إلى توفير الحماية والحرية للأنهار التي تعترضها السدود، أو الغابات المهدَّدة. وأُتبِعت هذه الأفعال المبكرة في يونيو من ذلك العام ﺑ «استعراض طريق»، رحلة امتدت ثلاثة أشهر بهدف نشر الرسالة وإشراك أناس جدد. اتبعت حركة «الأرض أولًا»! مسارًا جد مختلف عن مسار حركة مناهضة الطاقة النووية الأمريكية. غابت الإشارة إلى اجتماعات البلدة؛ وطغت بدلًا من ذلك موضوعات المجتمع القَبَلي (ولو في تصور النشطاء)، وكذلك موضوعات الموسيقى والشعر. ولعبت الموسيقى (وما زالت تلعب) دورًا أساسيًّا في حركة «الأرض أولًا»! في الولايات المتحدة، إلى جانب استعراضات الطرق، و«تجمع قَبَلي» سنوي، هو «لقاءات النهر المستدير» (المؤسس على أسطورة أن النهر يتدفق إلى نفسه، والذي يستخدم لفظ «راندفو» لوصف اجتماعات الأمريكيين الأصليين التقليدية). ارتبطت هذه اللقاءات بخبرات الانفلات من المعايير الخُلُقية الاجتماعية، وارتبطت في السنوات المبكرة باستهلاك كبير للكحول.

كان الشبان الذين أنشئوا حركة «الأرض أولًا»! متأثرين تأثرًا واضحًا برواية إدوارد آبي «عصابة العرقلة» الصادرة عام ١٩٧٦، وتصف المغامرات البطولية لمجموعة من المدافعين البيئيين الرحالةَ الذين كانوا يُفجِّرون الجسور للدفاع عن البراري. وفي عام ١٩٨٥، نشر ديفيد فورمان الذي كان في قلب حركة «الأرض أولًا»! كتاب «الدفاع الإيكولوجي: دليل عملي للعرقلة»، بتقديم من آبي. وفيه يعلن رؤيته للفعل المباشر، موحيًا بتأييد دق المسامير في الأشجار وتخريب عمليات قطع الغابات، وتفجير الجسور. ومن وجهة نظر فورمان و«الأرض أولًا»! كان الفعل حاسمًا: «الفعل هو المفتاح. الفعل أهم كثيرًا من السفسطة الفلسفية أو التنقيح اللانهائي للمعتقَد … فلتحدِّد أفعالُنا تفاصيل معتقَدنا» (مقتبَس في لي ١٩٩٥: ٥٧). عارضت «الأرض أولًا»! المجتمع والتنظيم الصناعيين، وأصرَّت على أنها حركة، وأنها ليست منظمة. وجمعت بين السيطرة القوية على التوجهات الأساسية، وثقافة ركزت على الاستقلالية الذاتية والفعل المحليَّيْن.

أخذ فورمان ينظر باطراد إلى البشر على أنهم هم بذواتهم سبب الدمار الإيكولوجي للكوكب. وعلى مدار الثمانينيات، ازداد البعد «الرؤيوي» (نسبة إلى «سفر الرؤية» المتنبئ بنهاية العالم) لكتابات فورمان في مجلة «إيرث فيرست»! مدافعًا عن التعقيم الجبري للناس في الولايات المتحدة عقب ولادة الطفل الأول. وعلى مر الفترة بين عامي ١٩٨٧ و١٩٩٠، أثار هذا التوجُّه، الذي رافقه فرض مكتب التحقيقات الفيدرالية ضغطًا متزايدًا على الحركة، توترًا متصاعدًا داخل «الأرض أولًا»! أصبحت مجموعة محيطة بفورمان «رؤيوية» على نحو متزايد، مؤمنة بأن الحضارة الصناعية توشك أن تنهار، وأنه سينشأ من هذا الانهيار نمط جديد من الخبرة الإنسانية، مندمجة في العالم الطبيعي وليست مسيطرة عليه. وعرَّفت مجموعة أخرى نفسها بأنها «اجتماعية»، متطلعة إلى الارتباط مع منظمات العمال، وتنظر إلى الدمار البيئي على أنه نتاج للسعي الرأسمالي للربح أكثر منه نتيجة للجنس البشري بذاته. وبدأ أنصار توجُّه مركزية الحياة يُئوِّلون الأحداث على أساس دمار قادم حتمي ومرغوب للحضارة الإنسانية، دمار من شأنه أن يؤسس كوكب أرض محرَّرًا. ومن هذا المنطلق تساءل ديفيد كونر، أحد حلفاء فورمان المقربين، في مقال له عام ١٩٨٧ عما إذا كان الإيدز هو «الاستجابة لدعاء مناصري البيئة»، مؤوِّلًا تطور الإيدز على أنه «رد جايا» (الأم الأرض) على الزيادة السكانية، والتلوث، والتمييز بين الكائنات. يحمل عدد ديسمبر ١٩٨٧ من مجلة «إيرث فيرست»! مقالًا كتبه فورمان، مؤكدًا أن «وباء الإيدز، بدلًا من كونه بلوى، هو تطور محبَّذ في التدهور الحتمي للمجتمع السكاني البشري» (مقتبس في لي ١٩٩٥: ١١٠). وفي يونيو من ذلك العام نفسه، شُكلت حركة «ائتلاف الإيدز لتحرير القوة» (إيدز كوليشن تو أنليش باور-آكت أب) بعد مسيرة استعراضية للمثليِّين في نيويورك. تؤكد مناقشة أنصار البيئة الراديكاليين تلك لمنافع الإيدز من زاوية الكوكب المسافة الاستثنائية التي تفصل ما بين هذين التيارين من تيارات الفعل المباشر. وعلى امتداد التسعينيات، مرَّت «الأرض أولًا»! بسلسلة من الانشقاقات والتصدعات، انتهت بانقسامها؛ إذ انتصرت الجماعة الإيكولوجية الاجتماعية على الجماعة الإيكولوجية العميقة.

تزعُم مارثا لي (١٩٩٥) أنه يمكن فهم حركة «الأرض أولًا»! على النحو الأمثل باعتبارها حركة ألفية. والمقصود أن «الأرض أولًا»! توصَّلت إلى رؤية بأن التطور التكنولوجي للمجتمع الصناعي وتدميره البراري سيُفضي إلى انهيار إيكولوجي محدق، من شأنه أن يجلب معه نهاية المجتمع الصناعي. وكان انهيار «الأرض أولًا»! محتومًا بمجرد ترحيب تيار مركزية الحياة بالإيدز بوصفه فعل الأرض الأم للتخلص من الآفة البشرية. اعتنق هذا التيار الألفي داخل «الأرض أولًا»! على نحو متزايد صيغة من النزعة النجاتية، مستمدًّا من لغة الناجي والهالك، والنقي والملوَّث. وصار هذا التضاد جليًّا أيضًا في الكتابات اللاحقة التي كتبها مرجع الحركة الفكري، إد آبي، الذي دعا في عقد الثمانينيات إلى إغلاق الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة، واصفًا المهاجرين بأنهم يلوِّثون البلد. كان المحاربون من أجل الطبيعة يُسحَبون على نحو متزايد في دوامة الطائفة المحفوظة في عالم المهلَكين. لكن ما يجدر إدراكه بشأن «الأرض أولًا»! هو قابليتها لنوع من الخبرة الفردية، خبرة وحشية (ومن هنا أهمية الكحول)، متحررة من إلزامات المبادئ الخُلُقية الاجتماعية. يتباين التركيز على الفعل بوصفه نقيض الجدل تباينًا شديدًا مع الأهمية الاستثنائية التي تمنحها المجتمعات النموذجية الأمريكية للصياغة وللنقاش. كانت «الأرض أولًا»! رائدة مبادئ فعل مؤثرة منذ فعلها الأول ضد سد يستأنس نهرًا وحشيًّا. استندت الحركة إلى مقولات ديونيسيس؛ حيث يعني أن تكون حرًّا أن تكون وحشيًّا؛ ومن هنا تنبع أهمية تحرير الطبيعة، والأهمية الاستثنائية للبراري لدى هؤلاء الشباب. كانت خبرة «الوجود» في «البراري» حاسمة لميلاد حركة «الأرض أولًا»! وتطوُّرها؛ حيث يستطيع الناس أن يكونوا مفعمين بالحيوية. ومع ذلك، بينما دمرت «الأرض أولًا»! نفسها في الولايات المتحدة، فإنها اتخذت مسارًا مختلفًا جذريًّا في المملكة المتحدة؛ حيث التقت مقارعة الثقافة الصناعية مع ثقافة الشباب على نحو خلق شكلًا جديدًا من أشكال الفعل، مؤسِّسًا ثقافة عامة — الحركة البريطانية المناهضة للطرق.

مناهضو الطرق

حينما كانت «الأرض أولًا»! في الولايات المتحدة آخذة في السقوط في فخ التضاد بين الناجين والهالكين، كانت منشوراتها الترويجية ومجلاتها تُتداول عالميًّا. وبالاعتماد على الشبكات الموجودة في حركة السلام البريطانية (ولش ٢٠٠١) وعلى تقليدها في احتلال المواقع الذي طُوِّر في جرينهام كومن بالتحديد (انظر روزنايل ١٩٩٥)، حاولت حركة «الأرض أولًا»! البريطانية حديثة التشكيل في أواخر عام ١٩٩١ أن تفرض حصارًا على محطة دَنْجنِس للطاقة النووية. وكان الهدف هو بناء صلة بين السلام والاهتمامات البيئية، بالزعم بأن من شأن المحطة النووية أن تُعرِّض التوازن الإيكولوجي الهش للموقع للخطر (بأسلوب يذكِّرنا «تحالف المحار» في عام ١٩٧٥). وكما ذكر وول (١٩٩٩)، كان الموقع، باعتباره من أنأى أقاليم إنجلترا، من أقرب المواقع إلى «البراري» في بريطانيا. وفشل هذا الفعل. ولم يتمكن المنظمون، على الرغم من جهودهم، إلا من حشد مجموعة صغيرة لا يتجاوز عددها ٦٠ شخصًا، واتضح أن محاولة الدفاع عن البراري بالطريقة التي فُعل بها ذلك في الولايات المتحدة لم تكتسب الزخم اللازم. وهكذا انتقل الفعل إلى إعاقة واردات الأخشاب الماليزية (وول ١٩٩٩). وشهد ذلك العام أيضًا الفعل الأول ضد مجموعة الدول السبع الكبرى الذي انبثق من الحركة البيئية: تسلَّق بعض أفرادها عامودًا، وعلقوا لافتة، في فعل شارك فيه ٢٠ شخصًا. لكن في عام ١٩٩٧ الذي كان مقررًا أن تجتمع فيه مجموعة السبع الكبرى في بريطانيا، كان عليها مواجهة ٦٠٠ ألف محتج. وأعقبت القمةَ سلسلةٌ من الأفعال ضد استيراد الأخشاب من الغابات المطيرة ومعالجتها، متخذة عمومًا شكل احتلال مستودَعات الأخشاب (وول ١٩٩٩).

وكان من شأن الحدث الجلل أن يتحول إلى فعل مضاد للسيارات. في أواخر الثمانينيات، بشَّرت الحكومة البريطانية بزيادة هائلة في طول الطرق وأهميتها في البلد، مع وضع النقل البري في مركز استراتيجيات البلد الرامية إلى التحديث الاقتصادي، على نحو يشبه كثيرًا ما حدث في عام ١٩٧٢ حينما كشف ريتشارد نيكسون عن برنامج طموح لبناء الطاقة النووية. كان الأمر أكثر من استراتيجية اقتصادية. وتضمَّن صورة لبريطانيا تجتازها بكثافة شبكة طرق، جالبة معها فرصة اقتصادية ودولة متكاملة. كانت السيارات والطرق في مركز الخيال التحديثي، بما يشبه كثيرًا اكتساب الطاقة النووية مثل هذه الأهمية الرمزية في التحديث الأمريكي أو الفرنسي في السبعينيات. في بريطانيا، اشتمل هذا الخيال التحديثي على تدمير الماضي، منذرًا بتدمير نحو ٨٠٠ أثر تاريخي مسجَّل بحلول عام ٢٠٢٥.

اتُّخذ أول فعل مضاد للسيارات مارسته «الأرض أولًا»! شكل احتلال جسر بلدة برينجتون السياحية في الكريسماس عام ١٩٩١. ركز هذا الفعل الأول على دور السيارة بوصفها ملوِّثًا، لكونها مصدرًا للكيماويات السامَّة. لكن سرعان ما تغيَّرت الموضوعات المتضمَّنة. بعد أربعة أشهر، في أبريل ١٩٩٢، أطلقت «الأرض أولًا»! حملة «استعادة الشوارع»؛ حيث كان الهدف هو «عمل أفعال مباشرة سلمية ومبتكرة، واسترداد شوارع لندن من السيارات والزحام، وإعادتها إلى الناس» (منشور «إيرث فيرست»! في وول ١٩٩٩: ٦٣). وفي أغسطس ١٩٩٢، دُمِّرت سيارة في هايد بارك لندن، وهو الفعل الذي اشتمل على قراءات من كتاب هيلثكوت ويليامز بعنوان «أوتوجيدون» الذي يبرز ما يسببه الاعتماد على السيارات من هلاك اجتماعي، فضلًا عن الهلاك البيئي.

كان لفكرة الفعل المباشر والممارسات القسرية التي كانت محورية لدى حركة «الأرض أولًا»! في الولايات المتحدة صدًى قوي وسط النشطاء الشبان في بريطانيا. ويرجع هذا إلى أن «البراري» ليست مجرد ضرب من المناظر الطبيعية، ولكنها نموذج ثقافي: هي الآخَر بالنسبة لكل ما هو حضاري؛ هي القوة والخطر الخام في مقابل الاستئناس؛ هي الحرية في مقابل الروتين. لقد فشل فعل «الأرض أولًا»! المبدئي في بريطانيا؛ هذا الفعل الذي سعى إلى ربط حركات السلام والحركات البيئية من خلال الدفاع عن البراري ضد الطاقة النووية، ولا يرجع السبب في فشله إلى مجرد الافتقار إلى «البراري» في بريطانيا، فمعاني المناظر الطبيعية في بريطانيا مختلفة اختلافًا جذريًّا بالمقارنة بالبراري التي نجدها في الولايات المتحدة، وسيظهر هذا بقوة في حملة مناهضة الطرق.

توِيفورد داون

بُنيت المرحلة المبكرة من مناهضة «الأرض أولًا»! للسيارات بطريقتين مختلفتين تمامًا؛ الأولى تتجلى في الموضوعات المبكرة التي ظهرت في التسعينيات، حينما اشترك أعضاء «الأرض أولًا»! مع الاتحادات المحلية في تويفورد داون في منع مدِّ طريق سريع مقترح. طَبَعَت الجماعة حديثة التكوين منشورات تدين السيارات بوصفها «محور التراكم الرأسمالي»، واصفة السيارات بأنها الصناعة الرئيسة في «أسلوب الإنتاج الفوردي» (ساوث داونز إيرث فيرست)! وأبرز هذا الشكل الماركسي التقليدي نسبيًّا تحليلًا طبقيًّا تقليديًّا، تحليلًا كانت فيه السيارات بنية تحتية تكنولوجية للنظام الرأسمالي. كان لهذا التحليل أن يتغير خلال لفعل في توِيفورد داون.

تقع تويفورد داون في التلال الطباشيرية بمنطقة ساوث داون في إنجلترا، بالقرب من مدينة وينشستر القروسطية في هامشير. كان من المُزمَع مد الطريق إم٣ (الواصل بين ساوثامبتون ولندن) عبر المنطقة التي تحظى بقيمة معمارية وأركيولوجية وحيوية برِّية. وبينما كانت منحدرات تويفورد داون الطباشيرية تتمتع بالحماية البيئية، فقد أُوقِفت هذه الحماية إداريًّا للسماح بتشييد الطريق. فشلت مساعي الضغط والتمثيل التقليدية الموجهة إلى أعضاء البرلمان في منع تشييد وصلة الطريق المزمعة. وصل «رحَّالان جديدان» إلى الموقع خلال سفرهما، وقرَّرا نصب مخيَّم، والتعرف بقدر أكبر على المنطقة. وبينما كان المحافظون المحليون يحاولون منع تشييد الطريق من خلال ممارسات الضغط والتمثيل، كانت ﻟ «الرحَّالَين الجديدَيْن» صلات وشبكات أخرى؛ إذ قررا التخييم هناك، والتطلع إلى إشراك آخرين في الدفاع عن الموقع. وفي أعقاب تظاهرات صغيرة، نجح نحو مائة شخص في فتح محبس مياه في موقع البناء، فأغرقوا معدات البناء. وجذب هذا الفعل اهتمام وسائل الإعلام، مؤكدًا قوة الفعل المباشر في مقابل ممارسة الضغط وكتابة الرسائل. وفي أعقاب هذا النجاح قرر أولئك الحاضرون في الموقع إقامة معسكر احتجاج.

صار المعسكر ذخيرة احتجاج مهمة في بريطانيا، وخصوصًا منذ المعسكر الطويل المدى الذي أقامته النساء في جرينهام لمعارضة إدخال الصواريخ ذاتية التوجيه إلى البلاد (روزنايل ١٩٩٥). كانت النساء اللائي لعبن دورًا محوريًّا في جرينهام جزءًا من الفعل المبكر في تويفورد، ولعبن دورًا محوريًّا في قرار إقامة المعسكر. واعتمدت الاستراتيجية كذلك على احتلالات الغابة التي طورتها حركة الغابات المطيرة (وول ١٩٩٩: ٦٧). دام المعسكر نحو عامين، متضمنًا في ذروته بضعة آلاف من الناس. واعتاد الناس أن يزوروا الموقع، ويمضوا أيامًا أو أسابيع؛ ونتيجة ذلك، اتسعت الاتصالات والشبكات، محرِّكة عملية حدثت فيها من عام ١٩٩٢ إلى عام ٢٠٠٠ احتلالات مناهضة للطرق في بريطانيا.

ومن خلال حراك الناس، قادمين ومغادرين، ومن خلال التغطية الإعلامية كذلك، ارتبطت هذه المعسكرات مع غيرها من صور التغيير الثقافي الذي كان جاريًا في بريطانيا. اشتملت إحداها على وجه الخصوص شبكات «رحالة العصر الحديث» المتنامية (هرينجتون ٢٠٠٠)، وكانت الأخرى هي ثقافة المهرجانات التي ظهرت حول المواقع التاريخية مثل ستونهِنْج. وعلى مر التسعينيات، اتسعت ثقافة الرحالة لتصبح معملًا ثقافيًّا مرتكزًا على تطوير أنماط حياة ارتحالية، وثقافة انتقائية تتضمن الراديكاليين الحضريين، وحفلات الهذيان وتعاطي المخدرات، وثقافة الرقص، والأنظمة الصوتية، والمهرجانات، والروحانية، وتمارين اللياقة والنزعات النباتية، ونزعات مناصَرة البيئة، وكذلك النسوية الباطنية (لرواية مشارك، انظر ديرلينج ١٩٩٨). وفي الوقت نفسه، ثمة أجزاء مهمة من ثقافة الرحالة مكوَّنة من الناس الذين أُبعدوا أو أُضيروا بسبب الثقافة الحضرية، المشردين والمطرودين من المستشفيات العقلية الذين لا يجدون مكانًا لهم في المدينة ما بعد الصناعية (مارتن ٢٠٠٢). التقت الأعداد المتزايدة من الرحَّالة مع نمو المهرجانات الثقافية والموسيقية المقامة على مواقع يُنظر إليها على أنها مشحونة بأشكال غامضة من الطاقة والتميز مثل ستونْهِنج، ورولرايت ستونز، وإيفبري، وسيسبري، وتشانكتونبري رينجز، ومالفيرن هيلز. كان هناك تاريخ حديث للصراع على دخول مثل هذه المناطق؛ إذ أدت المصادمات العنيفة في ستونهنج عام ١٩٨٥ إلى فرض «منطقة حظر» استمرت عشر سنوات. وخلال هذه الفترة واصلت التطور شبكةٌ من المهرجانات الموسيقية الكبيرة المناهضة للتجارة، مرتبطة بتجارب ثقافية تدور موضوعاتها حول الاستشفاء، والغذاء، والديانات الطبيعية، وارتبط كثير من هذه المهرجانات بالاحتفالات بالدورات الطبيعية مثل الانقلاب الشمسي.

على مدار الثمانينيات من القرن العشرين، اتخذت الحركة البيئية البريطانية مبدئيًّا شكل حركة «محافَظة». واندمجت بقدر كبير في نظام جماعات المصالح، باجتماعها بانتظام مع صانعي السياسة (روتس ١٩٩٥)، ومرت بالتغيرات التي اعتبرها جامسون (١٩٧٥) حاسمة للحركات الاجتماعية الناجحة، وهي اكتساب السمات البيروقراطية والمهنية. انتهجت منظمات مثل «السلام الأخضر» و«أصدقاء الأرض» ممارسات الشركات، من إدارة نظام بريد الأعضاء (جوردان ومالوني ١٩٩٧)، إلى دمج المشورة القانونية في استراتيجيات الحملة. وافترض علماء الاجتماع الذين حاولوا فهم لماذا لم تتطور الحركة البيئية تطورًا ملموسًا في بريطانيا على مر الثمانينيات أن ذلك كان بسبب أن الطبيعة المؤسسية القوية لحزبي العمال والمحافظين كانت تعني أن الحياة الاجتماعية والثقافة السياسية في البلد ظلتا تحت سيطرة التضاد بين الشركات والعمال، مع بقاء الموضوعات الجديدة مثل الإيكولوجيا هامشية في ثقافة سياسية يهيمن عليها الالتزام بالنمو الاقتصادي (أيرمان وجامسون ١٩٩١). على امتداد تواجُد الحركة البيئية البريطانية، بدا أنها تتبع المسار الذي رسمه منظِّرو العملية السياسية، أي «النضج» من حركة احتجاج اجتماعي إلى جماعة مصلحة داخل النظام السياسي.

كان من شأن الفعل في تويفورد داون أن يغير هذه العملية تغييرًا جذريًّا. فطوال فترة السنتين التي احتُل فيها موقع تويفورد داون، نجد تطور أشكال من الفعل كانت تظهر في تحركات أخرى مناهضة للطرق، مبنية على أساس التجسيد والخيال. كانت أشكال الفعل المجسَّد في أوضح تجلياتها في الجهود التي بذلها المحتجُّون لتعريض أجسادهم للخطر في سبيل إعاقة هدم المواقع، من «تطويق» الآلات (لمنع استخدامها) أو الأشجار، أو من خلال البناء والاحتلال للأنفاق التي كان يجب أن تزال ليتسنى الشروع في أعمال الهدم والتشييد، أو بناء الحاملات الثلاثية الأرجل، أو العرازيل التي كان يجب الوصول إليها وتفكيكها ليتسنَّى التشييد.

وكما يؤكد دوهرتي (١٩٩٩)، انطوت أشكال الفعل هذه على انكشاف مصطنَع فرض على السلطات إمضاء أسابيع لإجلاء النشطاء عن الموقع، وكان يُنتج أخبارًا تليفزيونية مؤثرة يمكن تداولها على مدى أسابيع أو حتى أشهر، وذلك مقابل بضع ساعات لإجلاء الأشكال الأكثر تقليدية من الحصار أو الاحتجاج. ويُثبت عدد الناس المشاركين الصغير نسبيًّا مقولة ميلوتشي (١٩٩٦أ) بأن قوة الفعل في مجتمع معلوماتي لا تتأتى من التجمهر والحضور المادِّيَّين لعدد الناس المحشودين، ولكن من خلال قدرتهم على «تحدي القوانين أو تغيير كيفية تسمية الخبرات وإدراكها» (دوهرتي ١٩٩٩: ٢٩٠).

التجسيد والذاكرة والخرافة

يؤكد المؤرخ البريطاني سايمون شاما (١٩٩٥) أهمية المنظر الطبيعي للذاكرة والخرافة، من الأشجار الكاليفورنية الباسقة التي ترمز للحرية والتحرر الأمريكيين، أو الغابات الألمانية بوصفها رمزًا للقوة الجمعية، أو الغابات الفرنسية بوصفها رمزًا للنظام والتخطيط، أو الغابات البولندية بوصفها رمزًا للهوية الوطنية القادرة على مواصلة الغزو. ومما أثار الجدل أن الدوي الاستثنائي لفعل حركة «الأرض أولًا»! في الدفاع عن الأشجار الباسقة الفردية بدق المسامير فيها لتعطيل جنازير المناشير، لم يكن فقط بفضل الجدل الناجم من خطرها على الخشَّابين الذين كانوا يقطعونها، ولكن أيضًا بسبب مكانة هذه الأشجار في الخيال الأمريكي حينما تقارَن، مثلًا، بالدفاع عن المحار في نيوهامبشير.

يفترض آلان تورين أن مكان العمل هو الموقع الحاسم الذي نرى فيه الصراعات والحركات الاجتماعية الرئيسة تتطور في المجتمع الصناعي؛ لأن هذا المكان هو الذي تُنتَج فيه «تاريخية» المجتمع الصناعي، وأن الفاعلين الأساسيين في المجتمع الصناعي، وهم الحركات العمالية وأرباب الصناعات، يواجه بعضهم بعضًا هناك. فهل من تشابه بين مقولته وأشكال الفعل التي برزت في الغابات وأماكن عمل أخرى على امتداد العقدين الماضيين؟ يبرز بحث ماكناتن وأوري (٢٠٠٠) الدوي الاستثنائي للممارسات المرتبطة بالأحراج والغابات في إنجلترا، وطرق ارتباط الجماعات الاجتماعية المختلفة بها ومشاركتهم الجسدية فيها. يزيد الوجود في الغابات من قوة خبرة التجسيد، وكون المرء حيويًّا، ونشيطًا، وماديًّا، وحركيًّا. وبالتحديد، كما يفترضان، خبرة «الكينونة» في الغابات هي خبرة حسية، خبرة يستخدم فيها الناس كل حواسهم بطريقة مباشرة (النظر، والسمع، واللمس، والشم)، مانحة الفرص لعلاقات بلا وساطة مع الآخر، كما يحدث مثلًا، حينما يذهب صاحبان للمشي خلال الغابة؛ حيث يمكن أن يتشاركا الخبرة، وصحبة كلٍّ منهما للآخر دون حاجة إلى اللغة. ويزعمان أن الوجود في غابة، أو … أو «بيئة طبيعية» هو مناسَبة يمكن للمرء فيها أن يشعر بجسده، وبذاته، دون حاجة إلى أن يمر ذلك عبر التفاعل مع الآخرين — عبر خبرات الانفراد، مثل المشي وحيدًا، التي لا تتوفر عند الحاجة في المدينة، أو حيث ترجع تلقائية وحميمية رائحة الأشجار والأرض، أو أصوات الإوزِّ أو تدفق المياه بالشخص إلى ذكريات الطفولة الشخصية.

تنطوي ممارسات مثل المشي أو الوجود في الغابة على الوصول إلى أشكال من الذاكرة المجسَّدة. رائحة الأرض؛ الشعور بالرطوبة في الهواء من خلال الجلد؛ حفيف الأوراق؛ الحِسِّ بالحضور الزمني للأشجار؛ الصمت الذي لا يمكن الإحساس به إلا في الغابة، وهو صمت مليء وليس فارغًا؛ نشاط المشي على إيقاع الجسد؛ حيث يكون الوعي بالجسد مختلفًا اختلافًا جذريًّا عما هو المعهود في المدينة؛ كل هذا يكشف عن مبادئ الخبرة المجسَّدة، ومعها إمكانيات الإحساس بالذكرى التي يمكن النفاذ إليها عبر الإدراك. كما هي الحال مع الموسيقى، الذكرى التي نحس بها من خلال الغابة مجسَّدة — نتذكر أمرًا كان منسيًّا، ونتيجة ذلك نحس بذواتنا بطريقة مختلفة. وكذلك، مثلما هي حال الإحساس بالموسيقى، يوجد شيء مبهم بشأن الإحساس بالغابة — يمكننا أن نحس بأن شيئًا يبقى متجاوزًا: يوجد شيء ما عن الوجود في الغابة مختبئ (جارنر ٢٠٠٤). من ثم أهمية الغابة، كما يؤكد ماكناتن وأوري (٢٠٠٠)، فيما يتعلق بالخرافة والقصة: من هانسل وجريتل إلى طرزان، أو روايات الأطفال بالإنجليزية (لاستعراض أكثر تعمقًا في التحليل لمغزى الغابات وأهميتها في الخرافة، انظر بتلهايم ١٩٧٦). يؤكد ماكناتن وأوري الأهمية المتزايدة ﻟ «الخبرة المجسَّدة»: من الطعام البري إلى التخييم، إلى الاهتمام بالرياضة المتطرفة، وهو بُعد يحللانه من حيث هو حنين يتخذ صورًا مختلفة، ولكنه حنين مبني على نحو وثيق وفق خبرة المناطق الحرجية. وكما يكتبان: «يبدو أن كثيرًا من الناس يفصحون عن … الرغبة في صِلات أعمق ومرتبطة على نحو أكثر استمرارًا بحياة الأراضي الحرجية في مناطقهم»، وهي أشكال من الخبرة المبنية في كل الحالات تقريبًا وفق أشكال «الخبرات المباشرة» المجسَّدة بالطبيعة، لا تبنى على منطق أن الناس يحافظون على الطبيعة (النزعة المحافظة) بقدر بنائها على منطق أن «الطبيعة تحمينا» (٢٠٠٠: ١٨٠).

تظهر هذه الموضوعات في قلب عمليات الاحتلال التي تطورت في فعل الحركات المناهضة للطرق. يتجاوز تجسيد الفاعل في هذا الفعل مجرد الانكشاف المصطنع الذي يمثل استراتيجية إعلامية ذرائعية، إلى النقطة التي تحتل فيها الأجساد والتجسد مركز تجربة الناشط. تركز روايات المشاركين في المعسكر باستمرار على الخبرة المجسَّدة: المحافظة على الدفء، والمحافظة على الجفاف، والطهي، والتنظيف، ومشكلات القمامة والقاذورات، والإعياء الجسدي. لا ينفك الجسد يظهر إلى النقطة التي يهدد عندها بالسيطرة على الخبرة.

إذا كانت المحاولات الأولى لصياغة ما كان ذا أهمية بالغة في الفعل في تويفورد داون مبنية بمعايير الحتمية التكنولوجية الماركسية القديمة، فسرعان ما يظهر أن الخرافة والذاكرة مركزيتان في روايات المشاركين في هذه الاحتلالات. يصف أحد المشاركين الموقعَ بتلك الألفاظ البليغة:

كان مكانًا جميلًا وحسب، ولكنه صغير حقًّا، لا غابات مذهلة عمرها ٥٠٠ عام أو أي شيء يشبه هذا؛ فقط النظافة الصلبة للطباشير والصَّوَّان، مكان تلتقي فيه الداون بالسماء، الإحساس بالفضاء، وحيث كانت آثار الأجيال الماضية التي عاشت في هذا المشهد مرئية حرفيًّا — الركامات (تلال كبيرة يُعتقد أنها بُنِيت على مقابر تاريخية)، والأنظمة الحقلية، والبرك الاصطناعية، وسكك العصر الحديدي الغائرة البالية التي تُعرف محليًّا باسم «الدونجا». (بلوز ٢٠٠٢)

في ذروة احتلال الموقع كان نحو ٢٠٠٠ إنسان منهمكين في منع آلات التجريف من الدخول إلى المنطقة المزمع قطعها. لكن قلب الجمع تكوَّن من مجموعة تراوح عددها بين ٣٠ و٥٠ شخصًا، توصلت إلى تسمية نفسها «قبيلة الدونجا» تيمُّنًا بلفظ يستخدمه السكان المحليون لوصف السكك التي قسمت الحقول بالطول والعرض. ومما يثير الاهتمام أن لفظ «الدونجا» قدَّمه إلى المنطقة مدرِّس جنوب أفريقي، ذكَّره المشهد بالسكك التي كانت تسمى «دونجا» في بلده الأصلي جنوب أفريقيا. يقدِّم ألكس إحساسًا بأشكال المغزى والثقافة التي أُنتجت خلال هذا الفعل:

كانت الأفعال المباشرة التي فعلتها الدونجا مبنية في إطار أخلاقي، كانت أفعالًا روحانية صريحة، أو — لنتوخَّى الدقة — وثنية سياسية. أبدت الدونجا إحساسًا بالارتباط بالطبيعة على نحو واضح؛ وكانت الطبيعة تُرى على أنها مقدسة. ومن الأهمية بمكان أن أفراد الدونجا رأوا أنفسهم ورأوا الحياة كلها جزءًا من هذا النسج: لم تكن الطبيعة «آخَر» ما. كانت هذه المفاهيم (كان معظم الناس يألفون نظريات «جايا» العقرب) مرتبطة بأفكار عن مناظر طبيعية وطاقات أرضية مميزة. كانت الداون وقمة تل سانت كاترين القريبة «نقطتَي قوة»؛ علامتين لتيارات طاقة الأرض أو شواخص تحديد الحِمى. لم يكن أفراد الدونجا يعتقدون وحدهم بهذا؛ مؤسس وينشستر كوليدج، وهو ماسوني أيضًا، كان هو أيضًا تابعًا مخلصًا للمعتقدات الهندسية، وما زال الصِّبْية تلاميذ وينشستر كوليدج يحملون آنية الطعام على التل صباح يوم الانقلاب الشمسي الصيفي. شعر الدونجا بأن هذه المعتقدات كانت تتشاركها شعوب العصر البرونزي والحديدي التي عاشت على الداون. ولذلك، كان التماهي مع المنظر الطبيعي المقدس يعني التماهي مع تلك «القبائل» الأولى. شعروا بصِلة بالمكان وتاريخه اللذين أنتجا قصصًا وأشعارًا وأغاني وخرافات عن إعادة التاريخ نفسه، عن قبائل جديدة، وطرائق قديمة. وصُنعت أيضًا توازيات واعية مع المعتقدات وصراعات القبائل الأصلية عبر العالم من أجل حقوقهم في الأرض. انصهر الواقع السحري، ومَزْج الأساطير والسحر التعاطفي، في الفعل المباشر. ولأنهم كانوا يعتقدون بأنهم مُحصَّنون بالأرض دافعوا دفاعًا ماديًّا بأجسادهم، رمزوا لهذه الحماية واستدعوا كينونتها باستخدام صور وأشياء مميزة. كانت الموسيقى، وخصوصًا قرع الطبول، واستدعاء الحماية من خلال الأهازيج والأغاني، تسبق الفعل في الغالب، وتستمر في أثناء حدوثه. (بلوز، ٢٠٠٥: ٢٠٤)

توجد تشابهات بين الطقوس الموصوفة هنا وبين تلك المؤداة قبل جيل في الولايات المتحدة؛ كما حدث حينما خاضت «ستارهوك»، وهي إحدى الحركات المشهورة حاليًّا التي تمارس الوثنية الإيكولوجية، تظاهرة في احتفال بالشمس خلال احتلال موقع «ديابلو كانيون» في كاليفورنيا عام ١٩٧٩ (انظر جاسبر ١٩٩٧). نواجه تعددية نظم معتقدات الثقافة العالمية والعصر الجديد: الآلهة، وأساطير التنين الأوروبية، والطقوس الشمسية للماسونية، وأساحير السكان الشمال أمريكيين الأصليين العشبية. لكن هذا هو أكثر من حركة ثقافية وثنية إيكولوجية انتقائية يمكن اختزالها بسهولة إما إلى نزعة استهلاكية، وإما إلى خطاب ثقافي مضاد بسيط.

تواجهنا قوة هذه الخبرة بمسألة السحر والخرافة وظهور ما يمكن أن نسميه في الفعل، استنادًا إلى بِل (٢٠٠٣)، «مَشاهد الخرافة». يسمح الفعل الذي طوره محتلو الموقع بنوع من الصلة بماضٍ لولا ذلك الفعل لضاع، وهو على وشك التدمير من خلال التدمير المادي للموقع:

شعر أفراد الدونجا بأن هذه المعتقدات كانت تتشاركها شعوب العصر البرونزي والحديدي التي عاشت على الداون. ولذا، كان التماهي مع المنظر الطبيعي المقدس يعني التماهي مع تلك «القبائل» الأولى. كانت الطبيعة المعتادة، وحقائق الحياة، والنمو والتغير في قلب ما اعتُبر سحريًّا. وبالمثل، لحظ الدونجا دورات طبيعية واحتفلوا بها، مثل البدر المكتمل، والانقلاب الشتوي، باستخدام النار والموسيقى وقرع الطبول والرقص في حلقات، وتناول «الفطر السحري» في أغلب الأحيان؛ وهو فطر محلي مسبِّب للهلوسة، مع أنه «ترويحي» سمح أيضًا بصِلة شامانية بالأرض/الكون على نحو زاد من الإحساس بالقداسة. في مثل هذه الليالي (والكثير غيرها) نُظِمت «تعاويذ» الحماية من أجل الداون على الموقع أثناء قرع الطبول والجلسات الساحرة مثل أشعار الاستعراض، على نحو جد مختلف عن الطقس الموحَّد … كانت هناك طرائق رمزية لإعادة تأسيس الصلات بالطبيعة، وبالتاريخ بالقدر نفسه من الأهمية. (بلوز، قبلية الدونجا)

تكشف خبرة الكينونة المجسَّدة شكلًا من أشكال الخيال هو في مركز الفعل. يستحضر السحر وجود الناس والقبائل. والإيقاع وقرع الطبول مركزيان لهذا الفعل.

نحن نراقص النار

في عام ١٩٩٥ احتُلت واحدة من كبرى المساحات الخضراء في مدينة جلاسجو الاسكتلندية من أجل منع تدميرها لصالح شق طريق سريع. كان عالم الجغرافيا بول روتليدج مشاركًا، ويسجل هذه التجربة في يومياته الشخصية:

جلاسجو. كان يوم سبت باردًا غائمًا في فبراير ١٩٩٥. جنوبي نهر كلايد، يقف مخيم إيكولوجي وسط الأراضي الحرجية والمتنزهات في أراضي بولوك، كبرى مساحات جلاسجو الخضراء. تتدلى من جانب الطريق لافتة حمراء ضخمة تعلن «دولة بولوك الحرة»، وبين الأشجار الباسقة، تقف طواطم منحوتة لنسور وغربان وبوم، وخليط من الخيام، والمظلات المنحنية (مآوٍ يصنعها المرء بنفسه)، والعرازيل. تمثل «دولة بولوك الحرة» موقعًا ماديًّا ورمزيًّا لمقاومة مد الطريق إم٧٧ المخطَّط له أن يجري عبر الجناح الغربي من أراضي بولوك. هنا، تجمَّع بضع مئات من الناس لينتظروا وصول أربع سيارات يقودها من أجزاء مختلفة من إنجلترا نشطاء بيئيون. يُظهر العامة المتدفئون حول ألسنة اللهب خليطًا من الألوان والأزياء. تعزف مجموعة من الموسيقيين بعضًا من الموسيقى الشعبية الكيلتية المرتجلة، جو مفعم بالترقب وسط أدخنة الحطب والريح الشتوية. السيارات الأربع الواصلة إلى الدولة الحرة ستدفن، ومحركاتها للأسفل، في مجرى الطريق إم٧٧ إلى جوار الخمس التي دُفنت بالفعل. وبمجرد دفنها ستُشعل، وتحرق بصفتها طواطم للمقاومة، وعلى هياكلها المحترقة ستُرسم شعارات مناهضة الطرق.

وسط أصوات أبواق السيارات، وصافرات الحشد المتجمع وهتافاتهم، تصل السيارات، ثم تصطف بجانب شجرة تحمل شعار الأسد رامبانت. وحالما يتقدم الحشد للزحف نحو موقع المقبرة، تطلق الفرقة نشازًا من المزامير القِرَبية، والأبواق، والطبول، والصافرات، والصيحات. نسير قُدمًا نحو مجرى الطريق، وتُدفع السيارات الواحدة تلو الأخرى داخل القبور التي حفرت لها. المحرك للأسفل، وبالتراب والحجارة، تدفن السيارات رأسيًّا في مجرى الطريق. أحد المقيمين في الدولة الحرة يطوِّح مرزبَّة ويهوي بها على الزجاج الأمامي. ويعلو هتاف آخر من الجمع. نحن حشد إيقاعي؛ إذ نطرب للقرع العميق للطبول. نعربد في مأتم السيارة الذي يرمز لمقاومتنا للتبعات البيئية للإفراط في استخدام السيارات، وتشييد الطريق إم٧٧. وحالما تُدفن السيارات يسكب الوقود عليها وتشعل فيها النيران. تملأ أصوات المحتفلين الجو، بلهجات جلاسويجية، وإنجليزية لندنية، وأسترالية، وسويدية، وأمريكية. يرقص الناس في ضوء النار، وظلالهم تشكل حركات رقص باليه احتفالية على الطريق: نحن نراقص النار، نصير نارًا، حركاتنا هي حركات ألسنة اللهب. (روتليدج ١٩٩٧)

نجد كلًّا من الحواس في هذه الرواية: فالبرد محسوس، ودخان الحطب مشموم، وصياح الأصوات وصراخها مسموعان، والألوان مرئية. والفعل موزون على إيقاع الطبول؛ وهو مُشبَّه برقصة، لا بمسيرة. المدهش هو الطريقة التي يوجد بها الجسد والحواس في قلب هذا الحدث. الفعل وحضور الآخرين، الموقع وذات المرء نفسه كل ذلك نعايشه من خلال الجسد. الحواس وخبرة التجسيد مضخَّمان بالطريقة التي وصفها أوري وماكناتن. الفعل منظوم بإيقاع الطبل، ومراقصة النار، لا بالمنظمة ومفوَّضيها. بعد أن تُحرَق السيارات، تُترَك شاخصة في هيئة آثار معبِّرة. يخلِّف الفعل حضورًا ماديًّا هو جزء من المنظر والخرافة التي يحويها. تضاف لاحقًا خمس سيارات أخرى، صانعة دائرة من تسع سيارات تنتهي بتشكيل مركز الاحتلال، وتُستثار ذكريات الحجارة القديمة من خلال لفظ «معبد السيارات الحجري الدائري».

مبادئ هذا الفعل ليست من نوع «مطالب بشأن الجماعة». السيارة في الأرض لا تمثل جماعة، لكنها تستثير الذكرى، والإحساس، والأمل، والخيال. إذا أردنا أن نشرع في فهم مغزى ما يحدث هنا، فنحن بحاجة إلى هجر نموذج الهوية. يتطلع روتليدج، بسببٍ وجيه، إلى عمل عالم الاجتماع الإيطالي ألبرتو ميلوتشي. من وجهة نظر ميلوتشي، تتضاءل القدرة على فهم الحركات الاجتماعية بمعيار المطالب المصوغة على أساس الهويات؛ وبدلًا من ذلك، يفترض أن الحركات تُفهم على نحو أفضل باعتبارها أفعالًا تواصلية تعترض القوانين السائدة التي تشكل الخبرة الإنسانية، وتُنافسها. ليس الهدف الأساسي من الحركات هو طرح المطالب، ولكنها مؤقتة، وفعلها هو رسالة، على المجتمع تأويلها (ميلوتشي ١٩٩٦أ). ويشير ميلوتشي إلى ثلاثة أبعاد أساسية لمثل هذا الفعل. الأول يسميه «النبوءة»؛ حيث تحمل الحركات رسالة بأن ما هو ممكن حقيقي بالفعل في خبرة أولئك الذين يعلنون الرسالة. والثاني يشير إليه بأنه «التناقض»؛ حيث توضَّح سلطة القوانين السائدة من خلال تضخيمها. والثالث يطلق عليه «التمثيل» الذي يعني به «إعادة إنتاج رمزية، تفصل القوانين من المضامين التي تغطي عليها بحكم العادة». من وجهة النظر هذه، «الفعل الجمعي هو «شكل»، يُوصِّل بمجرد وجوده، والطريقة التي ينشأ بها، رسالته» (ميلوتشي ١٩٨٩: ٧٦-٧٧). وهذا شكل من أشكال الفعل مختلف بشدة عن إنشاء الجماعة من خلال فعل التمثيل في نموذج الفعل الرمزي الذي اقترحه بورديو.

يفترض روتليدج، متابعًا بنفورد وهَنت (١٩٩٥)، أن هذا الفعل هو شكل من أشكال «الدراماتورجي» — «أي مسرحة الفعل السياسي واستعراضه لكسب الانتباه العام». يلتقط هذا الوصف بالفعل نمط الفعل الذي تتبعه بنجاح جماعات من قبيل «السلام الأخضر»، التي تجمع بين مبادئ السوق المباشرة وقيم التليفزيون الحديثة. لكن فعل بولوك ليس مؤكدًا أنه كان مسألة «أداء مسرحي». تتجاوز رواية روتليدج نفسه نموذج الاستخدام التكتيكي لوسائل الإعلام. وهو يلحظ بنفسه أهمية الحيوية بإشارته إلى بيان احتلال سابق يشير إلى كون النشطاء «أحياء بقدر حيوية الحياة». ويؤكد بيان آخر «نحن نعيشه، لا نتحدث عنه وحسب». تجتمع الحيوية مع الآنيَّة. تحتوي خبرة المعسكر على نوع ما من ضغط الزمن. وكما يلحظ روتليدج، الأحداث كما خُبِرت في المخيم هي: «آنيَّة: محسوسة في وقتها، وبلا وساطة» (١٩٩٧: ٣٧١). «نحن نراقص النار، نصير نارًا، حركاتنا هي حركات ألسنة اللهب.» ما معنى هذا؟

طقس؟

بدلًا من التركيز على مفهوم ذرائعي هو «الأداء المسرحي»، يفترض برونيسواف شيرشينسكي أن الطريقة المثلى لفهم ما يحدث في أشكال الفعل هذه هي أن تُفهم بمعايير «الطقس». أحد الأمثلة التي يستشهد بها هو المحتج الجالس على كرسيٍّ ثلاثي الأرجل لعرقلة معَدَّة إنشاءات — ليس الهدف هنا هو منع دخول البلدوزر، ولكن استعراض الخطر الذي يواجهه المحتج، أي تعرُّضه/تعرُّضها للخطر. ويُبرز بالمثل أهمية ما يسميه «المعاني الضمنية». ومن الأمثلة شديدة الإيحاء التي يستشهد بها حالة محتجَّيْن نصف عاريَيْن ينفخان في بوقين من قرون الكباش في طقس حِدادي، بجوار الأثر الجديد الذي خلفته أعمال الطرق التي تتقاطع في تويفورد داون بعد أن أُزيل المعسكر في النهاية. يُبرز شيرشنسكي الطابع المرئي لمثل هذا الاتصال، وقدرته على التعبير عن خبرات التعاسة، والأسى، وقلة الحيلة واستثارتها في موقف تدمير الداون — وهو شكل مؤثر من أشكال الاتصال يمكن نقله بوساطة التليفزيون خصوصًا. ويفترض شيرشنسكي، مستندًا إلى الطقوس الدينية، أن الطقس يتضمن أربعة أبعاد: أولًا، أنه مكرَّر، أو سلوك خاضع للقواعد بصرامة، يشير إلى نوع من التقاليد المتواصلة التي تسمو على الأفراد المشاركين فيها مباشرة؛ ثانيًا، أنه سلوك «مؤدًّى»، يُنَفذ بإحساس مرتفع بأنه للعرض؛ ثالثًا، أنه — جزئيًّا أو كليًّا — غير ذرائعي أو رمزي؛ ورابعًا أنه يتواصل من خلال «تكثيف الرموز» لا من خلال الخطاب المنمق، من خلال التلميح لا التصريح (٢٠٠٢: ٥٤).

يفترض شيرشنسكي أن الفاعلين يستطيعون من خلال الطقس، بوصفه شكلًا من أشكال الفعل، أن ينجزوا خمسة أمور على وجه الخصوص؛ أولًا، يمكنهم أن يقيموا علاقة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، على نحو يسد الفجوة بين الطريقة التي يكون عليها العالم والطريقة التي ينبغي أن يكون عليها، بين الدلالي وبين الاحتمالي. ويقتبس شيرشنسكي من كليفورد جيرتس: «في الطقس، العالم المعاش والعالم المتخيل مصهوران بوساطة مجموعة واحدة من الأشكال الرمزية، ويتضح أنهما العالم نفسه» (٢٠٠٢: ٥٦). من خلال الطقس يصبح العالم الممكن جزءًا من العالم الواقعي.

ثانيًا، يفترض شيرشنسكي أن الفاعلين يستطيعون التعميم من خلال الطقس على نحو يتجاوز الأفعال المحددة، ليرتبطوا بمعانٍ شمولية أو كونية. فالعمال المضربون عن العمل في مصنع صغير قد يُنشدون، مثلًا، نشيد «الأممية» الذي كتبه يوجين بوتييه عقب سقوط كوميون باريس عام ١٨٧١، مشيرًا إلى «اتحاد الرجل العامل الدولي» (١٨٦٤–١٨٧٦). ومن خلال إنشاد هذا النشيد، لا يؤكد هؤلاء العمال فقط أنهم يريدون أن يكونوا جزءًا من صراع عمالي تاريخي أوسع؛ ولكنهم يصيرون لبرهة جزءًا من هذا الصراع. في معبد السيارات الحجري الدائري، توضع السيارات المحروقة في دائرة لتدل على دائرة الأحجار التاريخية. لم يعد الماضي القديم بسحره مفقودًا ولكنه يُجذَب إلى الحاضر، ويُصبح واقعيًّا مرة أخرى، موضوعًا في المركز المادي للمعسكر.

ثالثًا، يزعم شيرشنسكي أن الطقوس تسمح بإنجاز أمور معينة لا يمكن عملها إلا من خلال الرمز، مُتيحة في المقام الأول أشكالًا من الاتصال ذات طبيعة «تلميحية» لا «تصريحية». يجاهد الاتصال الصريح من أجل الوصول إلى الوضوح، وتجنب اللبس، ويستهدف أن يكون واضحًا وشفافًا، باشتماله على رسالة يُتَّفق عليها أو يُختَلف. وفي صلب هذا النوع من الاتصال تكمن الحجة، والمثل النموذجي هو النقاش أو الخطاب العقلاني المستفيض. أما الاتصال التعبيري فهو في المقابل مثير للمشاعر، وينطوي على الاستعارة. يكتب شيرشنسكي:

فعل الاحتجاج الذي يُرى تلميحيًّا لا تصريحيًّا، لا يُنظر إليه لهذا السبب على أنه يحمل رسالة للاتفاق معها أو الاختلاف عليها وحسب، ولكن على أنه يُشرك الفاعل المشاهِد من خلال عمليات معقدة من التضمين والاستعارة، لا يمكن فيها فصل معنى الفعل، كذلك المتضمَّن في عمل فني ما، عن الفعل نفسه. (٢٠٠٢: ٥٩)

في الاتصال التعبيري لا تُنقَل المعلومات وحسب؛ ولكن يُبنى المعنى، ويكون على مستقبِل الرسالة أن «يحس» الرسالة، أو كما يقول شيرشنسكي، يجب على مستقبلي الرسالة استحضار الذكريات والارتباطات الشخصية لكي ينتجوا لأنفسهم معاني جديدة. بهذا المعنى، الحركات رسالة كما يفترض ميلوتشي، ولكنها رسالة أقرب إلى عمل فني منها إلى مقولة أكاديمية. ولكي نستكشف المضامين، كما يفترض ألكسندر وجيكوبس (١٩٩٨)، نحتاج إلى الانتقال من إطار إدراكي إلى إطار ثقافي.

هذا الاستخدام للطقس هو محاولة مهمة لفهم ما يحدث في أشكال الفعل هذه. وهو ينبهنا للمكانة الجوهرية للاتصال. ولكنه يظل بقدر كبير داخل النموذج المعرفي الذي شرعنا في استكشافه فيما سبق؛ حيث يُفهم الفعل على أنه «تمثيل». لكن رواية شيرشنسكي نفسه تشير في الوقت ذاته إلى ما يتجاوز هذا التركيز على «التمثيل»، بملاحظته — مثل ميلوتشي — أن العمل الفني لا «يمثِّل»؛ ولكنه شكل من أشكال الخبرة الاتصالية التي تدعو الرائي إلى إنتاج معنًى جديد. ولا يبدو أن فهم الطقس على أنه «سلوك رمزي» يدرك أهمية التجسيد وأحاسيس الأسى والوحشة التي تُحَس أكثر مما تُمثَّل.

الشبكات الثقافية وتدفقات الخبرة

بدلًا من البحث عن الجماعة الاجتماعية التي تمثلها الحركة (نموذج الهوية)، نحتاج إلى النظر في التدفقات الاتصالية التي تنشأ الحركة من خلالها وتتحول. في حالة بريطانيا، لعبت المهرجانات الثقافية دورًا محوريًّا. وبنهاية عقد التسعينيات، كان في بريطانيا بضع مئات المهرجانات من هذه الشاكلة سنويًّا، تشتمل على الأدب، والموسيقى، والرقص، والثقافات الشعبية التقليدية، والزراعة الإيكولوجية، والفن (ثمة أكثر من ٤٠٠ مهرجان مسجل في قائمة موقع www.festivaleye.com). وكان هذا يعني أن الموسيقى، واستعادة التقاليد التاريخية، وأشكال الخبرة بالعالم الطبيعي في مركز العمليات الثقافية التي تضمَّنَها احتلال تويفورد وأشباهه، يمكن أن ترتبط بشبكات أوسع في بريطانيا وما وراءها. يصف أحد المشاركين لقاءه مع أعضاء الدونجا في مهرجان قوس قزح في أيرلندا:

الموسيقى في كل مكان، حلقات الرقص، البعث، الاستشفاء، التعاليم الروحية، الجميع يبتسمون ووجوههم مشرقة. بإمكانك أن تكون مجنونًا، ولا يبالي أحد، مثل إفرتون، اللندني الأسود الذي كان يريد فقط منذ بلوغه سن السادسة أن يتجول حاملًا عصًا متأملًا فيها — وهذا ما كان يفعله هنا؛ أو السيد الأمريكي الذي يريد أن يغدو ويروح بلا سراويل. هناك طبل متواصل — جيد حقًّا. يستوقفني مهرج جذبه طبلي، وأجدني أجلس مع هذه المجموعة نعزف أعذب موسيقى. أتطلع إلى رايتهم، وأكتشف أنهم قبيلة الدونجا. مهرجان قَوْس قُزَح معروف بأنه تجمُّع لقبائل أوروبا، وأنا مهووس بالدونجا لأنهم هم الناس المذهلون الذين كانوا يحتجُّون على أن يغتصب الطريق تويفورد داون في إنجلترا. أشعر بأنني وصلت إلى وطني. (ماكينتوش ١٩٩٤)

أدت هذه المهرجانات المشتقة من تقليد المَعارض البريطاني الأقدم (مكاي ٢٠٠٠) دور الرابط المهم بثقافة الشباب الأوسع، أو الجسر إلى تدفقات ثقافية أخرى.

المدينة

انتقلت مبادئ الخبرة التي كانت تنشأ في فعل مناهضة الطرق من مناطق الريف الإنجليزي إلى مدينة لندن مع الفعل المضاد لطريق إم١١ السريع. بدأت حملة لمناهضة مد الطريق السريع، الذي كان من المقرر أن ينطوي على تدمير منازل ومتنزهات، في سبتمبر ١٩٩٣. وطورت حملة استغرقت عامًا، مركِّزة على احتلال منازل في كليرمونت رود، وهو الشارع الرئيس المخطَّط تدميره، أُدخلت الشبكات والمقاعد ثلاثية الأرجل، ورُبِطت الحبال والمماشي المتقاطعة المعلقة بين منازل مختلفة، تمامًا كما تسمح المماشي المعلقة في سكنى الغابات بمعيشة الناس وتنقُّلهم بين الأشجار. وكما كانت الحال في الأفعال الريفية استُخدم الاحتلال ليكون بمنزلة بؤرة جاذبة للزوار والشبكات، منتجًا أثرًا قويًّا. يصف أحد الزائرين، وهو تشارلز، خبرته قائلًا:
كان شارع كليرمونت ممتعًا حينذاك. لم يكن عنيفًا ولا صاخبًا ولا مخيفًا، ولكن ممتعًا فقط، ومبهجًا بقدر هائل. كان مجتمعًا كبيرًا حافلًا بالترحيب والتحية. كدأب لندن، لكن ربما مع مبالغات غريبة ومبدعة خاصة به. أرائكُ ومقاعد في الشارع، ومنطقة محظورة على السيارات، باستثناء السيارة الخضراء الخاصة بالشارع المكتوب عليها «أسرِع في سلام»، الحافلة بالفن والزهور. مقهى، ومكتب، ومجتمع صغير عامر، كلهم يسألونني «هل من فكَّة زائدة». اللهو في الشارع، ونباح الكلاب، والنسيم في الأشجار، والكثير من الأحداث الفنية. كان جوًّا مفعمًا بالحيوية ومع ذلك باعثًا على التأمل. قد لا أكون من المغرمين بالوشم، ولكني أحببته هناك. (http://www.geocities.com/londondestruction/index.html)
اشتملت عملية إخلاء شارع كليرمونت على ٧٠٠ شرطي، و٤٠٠ حارس أمن، و٢٠٠ مُحضِر، احتاجوا إلى أربعة أيام لإجلاء ٥٠٠ محتج عن الموقع. وكما يسجل دوهرتي (١٩٩٩) حقق المحتلُّون تغطية خبرية وطنية كبرى على مر هذه الأيام الأربعة، بالإضافة إلى نجاحات تكتيكية مثل الحفاظ على الإمداد بالكهرباء من خلال نفق سري مر من تحت صفوف الشرطة. يصف مشاركٌ منظر الشارع:

كان الشارع مطليًّا ومليئًا بمنحوتات جامدة، ومتاريس، تعلوها الشبكات، والعرازيل، والمماشي المعلقة، وارتفعت الأبراج؛ وخُبِّئت داخل المنازل ملاجئ، وعوائق، وأنفاق في أطنان من الدبش. (مقتبس في «رودبلوك» ١٩٩٥: ٢٥)

في أثناء هذه الفترة جرَّم قانون العدالة الجنائية والنظام العام الموسيقى التكرارية (مثل موسيقى الهذيان) غير المرخصة في الأماكن العامة. في الأيام الأخيرة من المواجهة بين المحتجِّين والشرطة أقيم نظام صوتي، مذيعًا الإيقاعات التكرارية لفرقة بروديجي. لم تُصنع المطالبة بالشارع فقط من خلال الاحتلال المادي للموقع (برج السقالات والموانع)، ولكن أيضًا من خلال إنشاء فضاء حسِّي من خلال الموسيقى. يمكننا أن نحس بقوة هذه الخبرة من خلال يوميات «أورورا» التي صارت منخرطة في الاحتلال قُبيل نهايته. تُطلِعنا في المقام الأول على إحساس بالقوة الغريبة للتجربة؛ حيث كانت الموسيقى فيها جزءًا من بناء عالم لم تحس به من قبل قط:

في ذكرى مولدي الثلاثين في عام ١٩٩٤، أجريت أول زيارة لي على الإطلاق لموقع احتجاج. طريق كليرمونت إي١. موقع امتداد الطريق إم١١ المقترح حينئذٍ. أظن أنني كنت أشاهد الحملة على التليفزيون، وأعتقد أن الأمر كان نوعًا من المزيج بين هلع يوم الميلاد مصحوبًا بفضول مستدام ذهب بي إلى هناك، ووجدتُني أخطو حرفيًّا داخل عالم جديد.

كان الشارع الحافل بمنازل قصيرة مغلقًا، ومحصَّنًا بالموانع من طرفيه. وكانت السيارات الوحيدة المتبقية فيه مغطاة بأعمدة السقالات أو مليئة بالتراب، وتنبت فيها الأزهار، وكانت الأشجار مزينة، وأقيمت فيها عرازيل، والمنازل مطلية، وكان المكان عامرًا بالفن والرؤية. ومن أحد المنازل طلع برج ضخم، وكان داخل هذا الهيكل نظام صوتي.

وبينما كنت أستوعب كل ذلك سمعت فرقة البرودجي للمرة الأولى حقًّا. دوَّت من البرج … «ما نتعامل معه هنا هو افتقار كلي لاحترام القانون …» كانت أول موسيقى تكنو أسمعها على الإطلاق. كان عقلي متوقدًا حقًّا. كانت هذه الموسيقى هي الرفيق المثالي للعالم الأناركي المثالي المفعم بالرؤية الذي أسكرني. عبَّرت الأغاني عن رفض السلطة والنظام السائد، ولكنها حملت إجابات. حملت السم والترياق … في أغنية «الاقتحام عنوة» تغنِّي امرأة «امنح الكوكب حبًّا» مصحوبة بصوت تكسير الزجاج. كان هذا فعلًا مباشرًا في هيئة موسيقى. لم يُطربني شيء قط مثل هذا منذئذٍ، وهكذا دخلت في علاقة حب طويلة مع الحركة المناهضة للطرق ومع موسيقى التكنو.

حتى هذا اليوم، حينما أستيقظ لأتوجه إلى فعل، أو أعود من حدث سياسي، أفتح كل النوافذ في مسكني الشعبي، وأطلق الموسيقى بأعلى صوت فيما يشبه صرخة المعركة، أو رسالة للجميع عن الاحتمالات … «تبًّا لهم ولقوانينهم.» (جرين ٢٠٠٢)

روايتا هذين الزائرين تتجاوزان فكرة أن التجسيد «تكتيك». فهما يبرزان بدلًا من ذلك طبيعة التجريبية والحسِّية لكلٍّ من الفعل والاستجابة له. الشارع محال إلى عمل فني، عمل نختبره ونشعر به، وليس مجرد رسالة نوافق عليها أو نرفضها. يجد الناس أنفسهم مجذوبين داخل التجربة. لا يقتصر الأمر على أن هذا الفعل ليس معرفيًّا في المقام الأول (بمعنى أنه يوصل رسالة يفترض الاتفاق معها أو الاختلاف عليها)، ولكن هذا الإطلاق للأحاسيس والتجسد ينطوي على شكل من أشكال الفعل لا يتسم بالقصدية.

التقى عدد من الناس الذين شاركوا في احتلال طريق كليرمونت خلال الأسابيع التي أعقبت مباشرة الطرد النهائي في فبراير ١٩٩٥، وصمموا على مواصلة الفعل من خلال إعادة تشكيل حركة «استعادة الشوارع». وفي هذه المرة ستكون الموسيقى محورية.

السيارات لا تستطيع الرقص

في ١٤ مايو ١٩٩٥ تدخل سيارة قديمة أحد أزحم تقاطعات لندن، تقاطع خمس طرق في كامدن، فقط لتصطدم بسيارة في مثل حالتها. يخرج السائقان ويأخذان في الجدل، بينما تزدحم السيارات من حولهما. ثم، للدهشة العامة، يدخل كلٌّ منهما سيارته، ويُخرجان مطرقتين، ويبدأ كلٌّ منهما في تحطيم سيارة الآخر. ويبدأ أناس آخرون بالتدفق داخل التقاطع من مترو الأنفاق. تستمر حفلة لمدة خمس ساعات، مع تناوب المشاركين على تحطيم السيارتين. ويقدِّم نظام صوتي مشغَّل بالطاقة الشمسية الموسيقى. يتلو ذلك «اصطدام» ثانٍ يوم ٢٣ يوليو في تقاطع آنجل في إيسلينجتون. وتقدِّر الصحافة أن نحو ٢٠٠٠ إنسان شاركوا في الاحتفال الذي أعقبه، مع نظام صوتي أقوى بكثير في هذه المرة؛ حيث عُلِّقت اللافتات، وأقيمت الأكشاك، وأهيل الرمل على الطريق لإحالته إلى ملعب أطفال.

أطلق هذان الفعلان الأوليان تطورًا استثنائيًّا. على مر العام التالي، كُرِّرت أفعال مماثلة عبر المدن البريطانية، بلغت ذروتها في احتلال لطريق إم٤١ السريع في صيف عام ١٩٩٦، تفترض تقديرات الصحافة أنه شمل ٧٠٠٠ شخص («الجارديان»، ١٦ يوليو ١٩٩٦).

لم يركز الاحتلال على الرقص فقط، ولكن حُفِرت أقسام من الطريق، وزُرِعت أشجار. ولم يكن الهدف هو مجرد احتلال الموقع، ولكن خلق خبرة استثنائية، وُصف بعضها في التقارير الصحافية:

ثمة مخنثون يتعانقون في المسار السريع، ومشاة على سيقان خشبية طويلة يحتفلون في المسار البطيء، وآباء يشجعون أطفالهم على اللعب على مسار التجاوز. وعلى أنغام نظام صوتي على الكتف الصلب، تتمايل سيدة بانتومايم بطول ٢٤ قدمًا على وقع الموسيقى، مرتدية تنورة طويلة من القماش المنفوش المنتفخ وردي اللون. مرحبًا بشارع نموذجي. كلا. (جريفيث ١٩٩٦)

كان من الممكن أن يتخذ الفعل المعارض لمد الطريق السريع شكل المجتمع الريفي مقابل المدينة اللاشخصية، أو الحياة التقليدية مقابل مقتضيات السوق. لكن مبادئ الفعل التي نواجهها هنا مختلفة بطريقتين مهمَّتين: تحلُّ حفلة الشارع محل المسيرة أو التظاهرة، بينما يضع الفعل الذواتية المتجسدة (جورداش ١٩٩٣)، مثل الرقص أو الاستماع معًا، في مواجهة المقتضيات الوظيفية:
الطريق حركة ميكانيكية خطية تختزلها السيارة. والشارع في أفضل الأحوال مكان عامر بالحركة الإنسانية، والتفاعل الاجتماعي، بالحرية والتلقائية. يسرق نظام السيارات الشارع من تحتنا ويبيعه مقابل ثمن البترول. إنه يفضل الزمن على المسافة، مفسدًا كليهما ومختزلًا كلًّا منهما إلى هوس بالسرعة، أو «دورة» باللغة الاقتصادية. لا يهم من «يقود» هذا النظام لأن حركاته محددة سلفًا. (http://rts.gn.apc.org/prop02.htm)

هذه قيمة أخلاقية تنتمي للوقت الراهن. وهي مرتبطة بالعيش بطريقة مختلفة الآن، مقابل المحاولات الخَطِّية أو المبرمجة لتشكيل المستقبل. هذه الخبرة لتحويل فضاء وظيفي مجرد إلى فضاء تواصُل مجسَّد ستصبح قوية بشدة، ومتعولمة، على امتداد شبكات المعلومات والمشاعر. في أوروبا، ارتحلت ثقافات الهذيان والموسيقى. شهد شهر أغسطس عام ١٩٩٧ إغلاقًا استمر يومين لطريق إيه٣٣ في ألمانيا، بناءً على «حفل هذيان مناهض للطرق» حدث في وقت أسبق. وشهدت فنلندا نشاطًا أول من أنشطة «استعادة الشوارع» في مايو ١٩٩٧، وثانيًا في أغسطس. وشهد العامان ١٩٩٦ و١٩٩٧ توسعًا ملحوظًا في أعمال سد الطرق عبر أوروبا واستخدام الإنترنت من أجل ما سُمِّي «تحديثات الفعل» التي كانت منتديات يمكن فيها للنشطاء أن يطلبوا المساعدة، وينشروا الصور، ويحكوا قصصهم. وأقيم نحو ٤٤ حفلة شارع، بين الاحتلال الحضري الأول لشارع كامدن السريع في ١٥ مايو ١٩٩٥ وأول «حفلة شارع عالمية» في ١٦ مايو ١٩٩٨؛ حيث أقيمت حفلات شوارع متزامنة في ٢٤ مدينة عبر أربعة بلدان.

يحكي أحد المشاركين في إغلاق طريق أثناء انعقاد المنتدى الاقتصادي العالمي في ملبورن بأستراليا في سبتمبر ٢٠٠٠ (جمع نحو ١٠٠٠٠ شخص على مدى ثلاثة أيام) خبرته في استرجاع الشوارع:

تمامًا كما لو أن المدينة مِلك للمجتمع. يشبه الأمر أن تقول «ربما تمتلكون القوة، ولكن حينما نجتمع، وخصوصًا بالأعداد التي كنا عليها هناك، يكون العالم لنا.» إنه نوع من القدرة على إثبات أننا على الأرض نمتلك القوة امتلاكًا، وأن هناك تلك [لحظة صمت] الإدراكات التي [لحظة صمت] تظن أن بإمكانك أن تحتل فضاء على هذه الشاكلة، وأن بإمكانك بالفعل أن تغير الطريقة التي يعمل بها العالم كله، وأن يتحول فجأة ما كان شارعًا إلى حلبة رقص. هناك القدرة على أن تكون في ذلك الفضاء، من حيث امتلاك الثقافة والمجتمع وكل أنواع الأشياء الأخرى. (بيب، ناشط فيديو)

لا يستلزم هذا الفعل بالضرورة حشودًا ضخمة. كان بير — وهو نشط من نشطاء الغابة يحظى بتاريخ طويل من الجلوس في الأشجار — هو مشغِّل الموسيقى في أحد الفضاءات المحتلة في حصار المنتدى الاقتصادي العالمي في ملبورن. ومن وجهة نظره أن إحالة الشارع إلى حلبة رقص تهدف إلى تغيير القواعد التي تحكم الحضر:

البيئة الحضرية محاصرة لدرجة أنه لا يوجد متسع للناس لمجرد أن ينطلقوا في حفل. الأمر كما لو أننا كان لدينا منزل في الطريق السريع، وأن متعتنا الصغيرة كانت هي أن نجمع مجموعة كبيرة من الناس، وربما نتناول مشروبًا وعشاء وطعامًا، وأن ننطلق محتفلين، وهكذا نفتح أبواب المنزل الأمامية، وننقل الأثاث إلى الممشى. نُفسِح مساحة كافية للجميع ليحتفلوا بسهولة، ونُخرج الطبول ونقيم حفلة في الممشى الجانبي أمام المنزل. ربما يمر بنا الناس وهم يقودون سياراتهم ويصيحون «مرحى»؛ الأمر هو فقط القدرة على أن يكون باستطاعتك أن تخرج إلى الشارع وأن تعبِّر عن نفسك؛ لأنه من الأساس شارعنا. بطريقة مسئولة أيضًا — فقط أعِدِ المدينة للناس، بدلًا من أن يكون الناس محشورين في المدينة.

كانت هذه هي الشبكات التي قررت أن تقيم «حفلة شارع عالمية» للرد على اجتماع مجموعة الثماني الكبرى في برمنجهام عام ١٩٩٨.

عود إلى الولايات المتحدة: «الكتلة الحرجة»

«حفلة الشارع العالمية» التي وافقت في التوقيت اجتماع مجموعة الثماني الكبرى في برمنجهام هي أوضح علامة على ظهور حركة عالمية كامنة في التدفقات الثقافية. كان هذا هو ما أدى إلى أول فعل من أفعال حركات «استعادة الشوارع» في الولايات المتحدة. وإذا كانت حركة «استعادة الشوارع» في بريطانيا انبثقت من «الأرض أولًا»! ففي الولايات المتحدة، توصلت بقايا حركة «الأرض أولًا»! إلى أن تعرف نفسها بالتضاد مع المدينة والثقافة الحضرية، ولم تكن لها علاقة بتطور «استعادة الشوارع» في ذلك البلد. وبدلًا من ذلك، انبثقت «استعادة الشوارع» من نوع جديد من الحركات الحضرية، وهو حركة «الكتلة الحرجة».

بدأت «الكتلة الحرجة» في سان فرانسيسكو في سبتمبر عام ١٩٩٢. وكانت في أصلها فكرة هاوي دراجات فرد، ناقش الفكرة مع أناس آخرين مشتركين في شبكة تواصل قائمة بالفعل بين المهتمين بالدراجات. لم يكن الهدف منذ البداية هو أن تنشئ جماعة، ولكن أن تقيم حدثًا — جولة شهرية بالدراجات عبر المدينة، من أجل المطالبة بمساحة على الطرق لقائدي الدراجات. واتصل الاسم المبدئي للحدث — كتلة المسافرين على الطريق — بفكرة أن قائدي الدراجات كانوا يهدفون إلى إبطاء تدفق المرور الحضري. نُسخت الأوراق التعريفية بالحدث ووزعت في أماكن العمل، مقترحة على الناس أن «يقودوا دراجاتهم عائدين من العمل معًا». جمعت الجولة الأولى بالدراجات ما بين ٤٠ و٥٠ شخصًا، قادوا دراجاتهم معًا ليبطئوا المرور، وليُظهروا وجود قائدي الدراجات. وانبثقت من تلك الجولة الأولى فكرة جولة شهرية منتظمة. ثم بدأ هذا ينتشر، إلى مدن أخرى في البداية، ثم عالميًّا، مع تكوُّن كتلة حرجة بعد عشر سنوات في كل قارة. وحينئذٍ استُخدِم تعبير «الكتلة الحرجة» بعد أن شاهد مشاركون عدَّةٌ الفيلم الوثائقي «عودة سائق الدراجات السريع» (ريترن اف ذي سكورشر»، ١٩٩٢) عن الدراجات وثقافة الدراجة لصانع الأفلام الأمريكي تد بليس الذي استخدم مصطلح «الكتلة الحرجة» ليصف كيف أن قائدي الدراجات في بكين يتكتلون في جماعات كبيرة، ثم يتقدمون ليعبروا التقاطعات المزدحمة، إذ يسمح لهم حجم الجماعة وكثافتها بعبور الزحام.

يصف المشاركون في «الكتلة الحرجة» هذا الفعل بأنه «مصادَفة غير منظمة»، ويرفضون بشدة أي افتراضات بأنه منظم. وهم على صواب. وبالضبط لأن «الكتلة الحرجة» ليست منظمة، فقد تطورت في شكل فعل عالمي. تلعب الإنترنت دورًا محوريًّا في الأحداث، بمشاركة الأفعال والمعلومات والخبرات من خلال ما يوصف بأنه «مركز كتلة حرجة عالمية» (http://criticalmassrides.info/index.html) يقدم المركز تفصيلات الجولات الشهرية، ولمعظم هذه الجولات صفحات مناقشة يناقش فيها المشاركون مسائلهم.
ولكن على الرغم من أن «الكتلة الحرجة» هي مثال للفعل المنتشر عبر الإنترنت، فإنها تسبق الإنترنت. في عام ١٩٩٢ وصف المشاركون في «الكتلة الحرجة» الفعل بأنه «زيروكْرَاسيَّة» كما نرى من منشور قدَّمه أناس مشاركون في سان فرانسيسكو عام ١٩٩٤:

السياسة التنظيمية، بقادتها الرسميين، ومطالبها، وما إلى ذلك، استُبعدت لصالح نظام لا مركزي بقدر أكبر. لا يوجد مسئول. الأفكار منتشرة، والمسارات متشارَكة، والوفاق منشود من خلال ماكينات النسخ الشائعة في كل وظيفة، أو في محلات النَّسْخ في كل حي — وهي «زيروكراسيَّة» الجميع فيها أحرار في عمل نسخ من أفكارهم وتمريرها إلى المحيطين بهم. تُتَداول الأوراق والمنشورات الترويجية والملصقات والمجلات جميعًا بشغف سواء قبل الجولة بالدراجات أو أثناءها أو بعدها، على نحو يجعل القادة غير ضروريين، عبر التأكد من أن الاستراتيجيات والتكتيكات يفهمها أكبر عدد ممكن من الناس.

تُعزِّز «الزيروكراسية» الحرية، وتُقلل من أهمية التراتبية؛ لأن المهمة لا تحددها قلة في موقع المسئولية، ولكنها تُعرَّف بدلًا من ذلك على نحو واسع من قِبَل المشاركين فيها. لا يُنظر إلى الجولة بالدراجات نظرة ضيقة على أنها محاولة للضغط من أجل المزيد من مسارات الدراجات (على الرغم من وجود هذا الهدف)، أو للاحتجاج على هذا الجانب أو ذاك من جوانب النظام الاجتماعي (على الرغم من أنه كثيرًا ما يُعبَّر عن مثل هذه المشاعر). وبدلًا من ذلك، كل شخص حر في اختلاق سببه الخاص للمشاركة، وحر أيضًا في تَشارُك تلك الأفكار مع الآخرين. (http://www.scorcher.org/cmhistory/howto.html)
في هذه الحالة تعطى الأولوية للأفقي، ﻟ «التعامل مع الشخص الآخر»، لا للتعامل مع رموز أو أمثلة لكليَّةٍ مكوَّنة من خلال فعل التمثيل. نجد فعلًا يُحَس بوصفه تدفقًا مجسَّدًا كما نراه في رواية تصف فعلًا حدث في سان فرانسيسكو:

كان الشرطي يقف أمامي حينما استدرت.

قال لي: «معذرة» بتحفظ مهني، وأردف: «هل أنت أحد المنظِّمين هنا؟» كنت أمرر منشورات تعريفية عن مسار الدراجات التي يبلغ عددها نحو الخمسمائة، المتجمعة من أجل حدث «الكتلة الحرجة» الشهري. كما كنت أوزِّع مجلتي الشخصية.

قلت بتردد: «لا أظن أنه يوجد منظِّمون.»

«لأنكم في المرة السابقة أيها الشباب ظللتم تقودون دراجاتكم في التقاطعات حتى بعد أن تحولت الإشارة إلى الأحمر، وتسببتم في انسداد مروري. هل ذلك الذي هناك أحد المنظمين؟» وأشار الشرطي إلى شخص آخر يوزع منشورات تعريفية. كان مراسلٌ للمحطة السابعة يحاول إجراء مقابلة هنا.

«لا علم لي بذلك. لِمَ يحتاج مثل هذا الأمر إلى منظِّم؟ إنه غير منظَّم تمامًا.»

«حسنًا سيدي، حسنًا، لن ندع هذا يحدث مرة أخرى؛ لأن المحافظ عَلِم بذلك، وهو مستاء جدًّا. حينما تتحول الإشارة إلى الأحمر سنُخلي التقاطع بالقوة إذا لزم الأمر.»

غمغمتُ بشيء ليس صداميًّا، وتسللتُ بهدوء، وأنا لست متأكدًا مما ستكون عليه هذه الجولة، آملًا أملًا واهيًا ألا تشرع الشرطة في أي تصعيد. كانت الجولات الأخرى هادئة للغاية. لم أكن أرغب في أن أُعتقل.

بعد نحو نصف ساعة، تدفقت الدراجات إلى الشارع. كانت الشرطة ترافقنا على دراجات نارية على الجانبين، مثل السابق. وعلى الرغم من أننا، باعتبارنا كتلة بسدَّاداتنا (دراجاتنا)، كنا نستطيع إعاقة المرور دون أن تواجهنا مشكلة، فقد اعتقدوا أننا كنا بحاجة إلى «مرافَقة» منهم للحماية، أو لعلهم كانوا يحاولون وحسب أن يجعلونا نظن أننا بحاجة إليهم.

لحظت وأنا أقود دراجتي نحو وسط الكتلة المتحركة البطيئة أن إشارة أول تقاطعاتنا تتحول إلى الأحمر وأنا أصل إلى هناك. انكمشْتُ. اقتحم ثمانية شرطيِّين على دراجات نارية الجمعَ بوجوه عابسة. تطلعتُ من حولي لأرى ما كان الآخرون ينوون فعله. بدا الجميع هادئين جدًّا إزاء الأمر بمجمله، وهو ما أراحني. رأيت دراجة ثم دراجتين تنسلَّان من بين الدراجات النارية. وبعد ذلك، كنت أشق طريقي متمايلًا عَبْرها. كان الحصار يسرِّب مثل الغربال. حاول الشرطي الذي كان على يميني أن يلف بدراجته النارية، في طريقي. لكن دراجته النارية كانت أثقل مما ينبغي لذلك، وكان بطيئًا للغاية. اجتزت. (http://danenet.wicip.org/bcp/cm.html)

«الكتلة الحرجة» ليست منظمة؛ إنها حدث. واستعارة «الكتلة الحرجة» تلتقط فكرة «نقطة التحول» باعتبارها مقابلًا للعملية الخطية التراكمية. هي حدث، حينما يقع يغير الواقع، ومن ضِمْنه الحدث نفسه.

النموذج المعرفي هنا هو نموذج التدفق والسيولة. «تدفق» قادة الدراجات من ثغرات صفوف الشرطة، وكان الحصار المُقام لاحتواء قائدي الدراجات «يسرِّب مثل الغربال»؛ كان تدفُّق قائدي الدراجات مقابل ثقل الشرطة؛ الأسلوب الذي طوره قائدو الدراجات للسيطرة على تدفق السيارات من حولهم يوصف بأنه «استخدام السدَّادات» مستوحيًا من صورة الاحتفاظ بسائل في قارورة. منذ البادية في عام ١٩٩٢، أصبحت «الكتلة الحرجة» حدثًا عالميًّا. في الجمعة الأخيرة من كل شهر، تحدث جولات بالدراجات في أكثر من ٣٠٠ مدينة.

صدامات وتقاربات

أنتج اقتراح «استعادة الشوارع» بإقامة حفلة شارع عالمية في عام ١٩٩٨ آلاف الرسائل الإلكترونية، بينما أنشأت حركة «استعادة الشوارع» في لندن موقعًا على الويب حيث يمكن للناس أن يجدوا روابط للجماعات الأخرى التي تقيم حفلات في بلدان أخرى. كانت التقارير الجديدة تُنشَر (http://rts.gn.apc.org/global3.htm)، مانحة إحساسًا بعولمة الحركة، بينما كان الناس يحكون حكاياتهم. في فالنسيا في إسبانيا، مثلًا، يكتب أولئك المشاركون أنهم سمعوا بالمبادرة قبل ثلاثة أسابيع فقط من الحدث، بفضل صديق من لندن زائر، كان هو أيضًا مشاركًا في حركة «استعادة الشوارع». وبينما لم تكن في بلدهم حركة «استعادة الشوارع»، كانت هناك شبكات من الناس منجذبة إلى المعارضة التي رأوها في مركز الحدث:
الشوارع فضاء مِلك للناس، ولكن السيارات سرقتها؛ الشارع ميت ومثير للكآبة، ويجب تحويله إلى فضاء للإبداع والحرية من خلال حفلة! (http://rts.gn.apc.org/g-valenc.htm)

في داروين في أستراليا، كانت ثمة محاولة لترتيب اليوم، وكانت المبادرة أيضًا بفضل زائر من لندن كان مشاركًا في حركة «استعادة الشوارع». ولم تكن هناك في هذه الحالة شبكات محلية لتعزيز الحدث، ورغم توزيع نحو ٢٠٠٠ منشور تعريفي، لم يحضر في النهاية في نقطة الالتقاء سوى الثلاثة الذين حاولوا ترتيب الحدث. فقرروا أن يذهبوا إلى الشاطئ بعد أن لم يأتِ أحد. وفي براغ عاصمة جمهورية التشيك، استولى بضعة آلاف من الناس على الشارع، واعتُقل كثير منهم، وحُطِّمت سيارات، ومحل لماكدونالدز. ولكن من أين أتى الاهتمام بالاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة (الجات) وسليلتها منظمة التجارة العالمية؟ منظمة التجارة العالمية بعيدة كل البعد عن الدفاع عن التلال الطباشيرية في تويفورد داون أو كليرمونت رود في لندن.

خلال هذه الفترة بدأت تظهر للعيان تدفقات ونقاط تقاطع جديدة بين الشبكات. أطلق كفاح ساباتيستا في الشياباس في المكسيك أول مواجهة عام ١٩٩٦، متبوعة بمواجهة أخرى في إسبانيا عام ١٩٩٧. ظهر هذا من عملية تشاور ونقاش امتدت عامًا؛ حيث بدأت الإنترنت تلعب دورًا حاسمًا، ملتقية مع المنظمات غير الحكومية الأكثر تقليدية. وفي عام ١٩٩٧ نظمت منظمات شبابية غير حكومية أوروبية عديدة «تجمُّع الجوع» (ذي هَنْجر جاذرينج)، وهو قمة مضادة للقمة الأمنية لمنظمة الأغذية والزراعة التي كانت منعقدة في روما في الوقت نفسه. ركز «تجمُّع الجوع» على تأثير التقنيات الحيوية في الزراعة في بلدان مثل الهند، مبرزًا التأثيرات من حيث تقليص التنوُّع الحيوي، وتزايد قابلية إصابة المزارعين الريفيين، ودور التعاون عبر القومي ومنظمة التجارة العالمية. وأصبحت منظمة التجارة العالمية مستهدفة على نحو متزايد من قبل المنظمات غير الحكومية المعنية بالتنمية، منذ حملة «٥٠ عامًا كافية» التي كانت تستهدف البنك الدولي، والتقت كذلك مع الجماعات الإيكولوجية التي عارضت سياسات البنك المتعلقة بالسدود والزراعة التصنيعية الواسعة النطاق.

مع اتساع هذه الشبكات وتغلغل بعضها في بعض، كانت تظهر مبادئ جديدة للخبرة. من الأساس الاجتماعي، انتقلت بؤرة التركيز إلى التدفقات الاجتماعية؛ ومن الحركة المعبرة عن الهوية بدأنا نستكشف الحركة بوصفها خبرة. ركزنا حتى الآن على ظهور الفعل المباشر وتحوُّله في الحركة البيئية التي انتقلت من الولايات المتحدة إلى بريطانيا، ومن سياق ريفي إلى سياق حضري. لكننا بحاجة إلى فهم التحولات الأكبر في مبادئ الفعل المباشر. أصبحت هذه التحولات أكثر تجليًا في عمليتين: ظهور النزعة الإنسانية الجديدة، وتطور أنماط جديدة من الفعل تتجلى في المقام الأول في حركة ساباتيستا التي ظهرت على الجانب الآخر من الكوكب، في مناطق المكسيك الحدودية النائية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤