الفصل الرابع

النزعة الإنسانية الجديدة

لولا التليفزيون لَمَا وُجِدت النزعة الإنسانية المعاصرة.

برنار كوشنير، مؤسس أطباء بلا حدود

في مايو ١٩٩١، احتجَّ نحو ٢٠ شخصًا على اجتماع مجموعة السبع الكبرى في لندن، مركِّزين في المقام الأول على استيراد أخشاب أشجار الغابات المطيرة الماليزية. غير أنه حينما عادت مجموعة الثماني الكبرى (بإدراج روسيا) إلى بريطانيا في برمنجهام عام ١٩٩٨، قابَلَها نحو ٦٠ ألف شخص، وكان من بينهم «سلسلة بشرية» مكونة من ٧٠٠٠ شخص، مطالبين بمحو ديون «العالَم الثالث»، وكذلك حفلة شارع نظمتها حركة «استعادة الشوارع»، متضمنة بضعة آلاف شخص. وبينما كانت الأغلبية الكاسحة من هؤلاء المشاركين من البريطانيين، حُشِدت شبكات من مختلِفِ أجزاءِ القارة الأوروبية، على أثر الحشد الناجح ضد مجموعة الثماني الكبرى قبل ذلك بعامين في مدينة ليون الفرنسية. في فرنسا، كانت شبكات مختلفة قد تقاربت في حَراك ليون، من «تنسيقات» العمال الجديدة، مثل «متضامنون ومتحدون وديمقراطيون» (سوليدير يونيتير إيه ديموقراطيك)، وأشكال جديدة من شبكات الحملات ضد الفقر مثل «الحقوق أولًا!» (دُرْوا دفان!) وأشكال من المنظمات الإنسانية مثل «أطباء بلا حدود».

مرةً أخرى، يبدو أن تعدُّد هذه الجماعات يدعم فرضيةَ أنها ذات أساس قومي تشترك من الناحية المبدئية في حقيقة أنها اختارت، لأسباب مختلفة، أن تُدرِج بُعْدًا دوليًّا في استراتيجيتها. ومع ذلك، فحالما نشرع في النظر إليها، تبدأ موضوعات معينة في التكرار: التحولُ من التراتبية إلى الشبكة، شخصنةُ الالتزام، الانتقالُ من المدى الطويل إلى المدى القصير، التحولُ من المنظمة إلى المشروع، الأهميةُ الحاسمة لوسائل الإعلام وعلى رأسها التليفزيون؛ لإضفاءِ الطابع الإعلامي على الفعل. إن التحوُّل من ٢٠ إنسانًا يحتجُّون على مجموعة السبع الكبرى عام ١٩٩١ إلى ٦٠ ألف إنسان في ١٩٩٨ ليس تحولًا في النطاق في المقام الأول؛ إنه يشير إلى تحول في النموذج المعرفي.

ما وراء الخبراء المضادِّين

تمتد جذور مجموعة الدول الثماني الكبرى في أزمةِ نظامِ التشريع السياسي والاقتصادي إلى ما بعد عام ١٩٤٥، وهي أزمةٌ ازدادت وضوحًا في أوائل عَقْد السبعينيات من القرن العشرين، مع انهيارِ نظامِ بريتون وودز لسعر الصرف الثابت، وأزمةِ النفط عقب الحرب العربية-الإسرائيلية عام ١٩٧٣. اجتمع وزراء مالية الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا العظمى وألمانيا في أبريل ١٩٧٣، في مكتبة البيت الأبيض، وتلا ذلك اجتماعُ رؤساء الحكومات الذي انعقد في باريس عام ١٩٧٥؛ حيث انضمت إيطاليا للجماعة أيضًا، وركَّزَ النقاش على التضخم. وأُرسِيت آليةٌ للقمم الاقتصادية السنوية. وعلى مدى معظم العقد الأول من إعمال هذه القمم، تجاهَلَتْها المنظماتُ غير الحكومية، والحركات الاجتماعية، وغيرها، وفي الوقت نفسه تجاهلت القممُ هذه المنظماتِ والحركاتِ بالمثل (هاجنال ٢٠٠١).

حدثت العلامات الأولى على التغير في قمة لندن عام ١٩٨٤، حينما عُرِّفت مجموعة السبع الكبرى من قِبَل المنظمات غير الحكومية البريطانية باعتبارها هدفًا لممارسة الضغط والمعارضة. أوْلت قمةُ عامِ ١٩٨٣ مكانةً مهمة لمسألة الدَّيْن الدولي، والتكيُّف الهيكلي، ودور صندوق النقد الدولي، في سياقٍ كانت الاضطرابات بسبب الطعام وبرامج التكيف الهيكلي تؤدي فيه إلى تزايُدِ الجدل بشأن سياسات صندوق النقد الدولي. أعادت القمة الاقتصادية تأكيدَ دعمِها مثلَ هذه السياسات، ومع منتصف الثمانينيات كانت تظهر بوصفها حالةً من حالات الحوكمة العالمية. مهَّدَ دورُ القمة الاقتصادية المتزايد، والمُعارَضة الناشئة لسياسات صندوق النقد الدولي للتكيُّف الهيكلي التي كانت القمة تُدافِع عنها؛ الطريقَ في عام ١٩٨٤ لتدشين «القمة الاقتصادية الأخرى»، وهي تجمُّعٌ للمنظمات غير الحكومية المعنِيَّة بالتنمية، وعلماء الاقتصاد الراديكاليين الذين يُقِيم كثيرٌ منهم في بريطانيا. وعُقِد اجتماعٌ ثانٍ ﻟ «القمة الاقتصادية الأخرى» عامَ ١٩٨٧، وعلى مر العَقْد التالي نظَّمَتْ شبكةُ «القمة الاقتصادية الأخرى» قمةً مضادة سنوية مُعتمِدةً بقدر كبير أيضًا بمشاركته في الوسط الطبي على شبكات علماء الاقتصاد الراديكاليين الدولية، وأشركت في الوقت ذاته كذلك المنظماتِ غيرَ الحكومية المَعنِيَّة بالتنمية الدولية. وفي شيء من التناقُض، أشارت الشبكة المضادة إلى نفسها بأنها قمةٌ اقتصادية مضادة، بالضبط في الوقت الذي كانت تتَّسِع فيه أجندةُ القمة الاقتصادية لما هو أبعد من الاقتصاد، لتشمل مسائل الإرهاب، والسياسة الدولية، والتلوُّث، في أعقابِ كارثةِ تشيرنوبل عامَ ١٩٨٦.

وحدث تحوُّلٌ ملموس فيما يتعلق بمجموعة السبع الكبرى والدول المكوِّنة لها عام ١٩٨٩، وهو العام الذي عُقِدت فيه القمة في باريس. كانت الذكرى المئوية الثانية للثورة الفرنسية، ونقلَتِ الحكومة الفرنسية بقيادة الرئيس ميتران الحدثَ عبر وسائل الإعلام، عاقدةً إياه في ذروة إحياء ذكرى الثورة في ١٤ يوليو، ونُقِل الحدث المضاد للقمة إعلاميًّا أيضًا مع حفل موسيقي وقمة مضادة جمعا أناسًا من أفقر سبعة بلدان على وجه الأرض، لكن هذا وُضِع في إطار المناقشات بشأن تراث الثورة الفرنسية. عُقد حفل موسيقي جماهيري في الباستيل، على غرار الحفل الموسيقي الخيري الذي أقيم في عام ١٩٨٦؛ حيث كان «ثوَّار عام ١٩٨٩ يحتفلون بثوَّار عام ١٧٨٩» على حد تعبير المنظِّمين، وكان الهدف هو تشكيل مُعارَضة على نحوٍ رمزي للقمة الاقتصادية على أساس تراث اليسار الفرنسي التقليدي وتصنيفاته. ومع ذلك، على الرغم من نجاح الحفل الموسيقي، لم يكن للفعل تأثير مستمر يُذكَر. لكن في المرة التالية التي أتت فيها القمة إلى فرنسا، عام ١٩٩٦، كان من شأنها أن تُواجَه بنمط جديد من الفاعلين: الإنسانيين الجدد. يستكشف هذا الفصل أمثلةً أساسية لهذا الشكل من أشكال الفعل والثقافة الذي لعب دورًا مهمًّا في فعلِ عام ١٩٩٦ ضد مجموعة السبع الكبرى: حركتَيْ «مطاعم القلب»، و«أطباء بلا حدود».

النزعة الإنسانية الجديدة: «مطاعم القلب»

أسَّس «مطاعم القلب» (رستو دي كور) في فرنسا عام ١٩٨٦ الممثلُ الكوميدي الترفيهي ميشيل كولوتشي، الأكثرُ شهرةً باسمه المسرحي كولوش. صَدَم كولوش المؤسسةَ السياسية الفرنسية حينما أعلن نِيَّتَه الترشُّح في الانتخابات الرئاسية عام ١٩٨١، مقدِّمًا نفسه بوصفه مرشَّحَ أولئك الذين يعتقدون بأن السياسيين لم يعودوا يخدمون الشعب. وبعد أربع سنوات، في سبتمبر ١٩٨٥، منح كولوش دعمَه للحملة الفرنسية ضد الجوع في إثيوبيا، وهي الحملة الدولية ذاتها التي أفضت إلى الحفل الموسيقي الخيري في بريطانيا في وقت مبكر من ذاك العام. وبينما كان كولوش يشارك في برنامج إذاعي لزيادة الأموال المخصصة لمناشدات الإغاثة في إثيوبيا، تعرَّضَ لتحدٍّ من متَّصِل، وهو ألَّا يتجاوب فقط مع مشكلة الجوع في أفريقيا، ولكن أن يتجاوب أيضًا مع ما أصرَّ المتصل على تسميته الجوعَ والفقر المتزايدَيْن في فرنسا نفسها. اصطبغت هذه الفترة في فرنسا بإحساسٍ متزايد بانهيار فترةِ رخاءِ ما بعد الحرب، ونقاشاتٍ عامة مكثَّفة عن الفقر وأشكال «الإقصاء الاجتماعي» الجديدة المفهومة على أنها تَضَعْضُعٌ للرابطة الاجتماعية (لرؤية عامة، انظر بوجام ٢٠٠٠).

في اليوم التالي لهذا الحدث، توجَّهَ كولوش لزيارة الأب بيير؛ أحدِ الرموز العريقة في التقليد الخيري الفرنسي داخل الكنيسة الكاثوليكية، وكان مسئولًا عن تقديم وجباتٍ مجانية للفقراء في فرنسا منذ عقد الخمسينيات في القرن العشرين. وعقب هذا الاجتماع، قصد كولوش الإذاعة الوطنية، وأطلق هو والأب بيير مُناشدةً قومية للقضاء على الجوع في فرنسا، وانهمرت على البرنامج الحواري المكالمات، ليس فقط من أفراد يعرضون الطعام، ولكن أيضًا من كبارِ تجارِ الأغذية الذين تعهَّدوا بتوفير الطعام لمراكز توزيع الطعام الجديدة التي كان كولوش يدعو إليها. وعلى مدار الأيام القليلة التالية، ربط المشاهيرُ أنفسَهم بالحدث، كما شارك المثقفون النقديون أيضًا. وكان من المزمع تشكيلُ شبكةٍ من مراكز توزيع الطعام، وأن تُعرَف باسم «مطاعم القلب»، بهدف حشد ٥٠٠٠ متطوع على مدار الشتاء التالي، وتوزيع نحو ٨٫٥ ملايين وجبة على الجوعى. وانضمت القنوات التليفزيونية الوطنية الفرنسية الثلاث إلى الحشد، مسانِدةً جميعها المطاعمَ الجديدة التي كانت تتكوَّن في البلد.

وفي مارس ١٩٨٦، بعد بضعة أشهر من هذا الحراك الاستثنائي، قُتل كولوش في حادث دراجة نارية. وساعدت وفاته على تسريع الحركة التي بدأها، لدرجة أنه في شتاء عام ١٩٨٦ الذي أعقبها ساهم نحو عشرة آلاف متطوع في «مطاعم القلب»، بينما تضاعف عدد الوجبات الموزعة خلال الشتاء ثلاث مرات ليصل إلى ٢٧ مليون وجبة. وبعد عقد، في عام ١٩٩٦، كانت المطاعم توزِّع ٦٠ مليون وجبة على أكثر من نصف مليون إنسان، وتستقطب نحو ٣٠ ألف متطوع. وبحلول عام ٢٠٠٣ تكوَّن الاتحاد من نحو ٤٠ ألف متطوع، وكان له أكثر من ٢٠٠٠ مطعم ونقطةِ توزيع للوجبات عبر فرنسا، ووزع نحو ٦٠ مليون وجبة، أغلبها خلال فصل الشتاء. تشير «مطاعم القلب» إلى شكل من أشكال الفعل يميز «النزعة الإنسانية الجديدة» التي ستلعب دورًا حاسمًا في تطور الحراكات المعنية بالعولمة، وخصوصًا ثلاثة أبعاد.

أول هذه الأبعاد يتضمن العلاقة بالعملية السياسية والدولة. كان كولوش، بصفته مرشحًا للانتخابات الرئاسية الفرنسية عام ١٩٨١، رمزًا للإحباط من السياسة والعملية السياسية — كان مرشحًا آتيًا من خارج المؤسسة، يرمز للانتخاب المضاد للمؤسسة السياسية بيمينها ويسارها (أصبح أمثال هؤلاء الرموز متكررين على نحو متزايد عبر الأنظمة السياسية الغربية منذئذٍ). وكان أحد الأفعال الأولى للتصدي لتحدي الاستجابة للفقر في فرنسا هو التماس إذن الأب بيير، وهو راهب كبوشي كان معنيًّا بتوزيع الطعام على الفقراء على مدى أكثر من ثلاثة عقود، وكان يُعَد عمومًا ذا توجه محافظ سياسيًّا. كان كولوش — بطرقٍ كثيرة — مرتبطًا بجيل مايو ١٩٦٨، وهو جيل كانت مفرداته ومفاهيمه ذات أساس سياسي. وكان الأب بيير رمزًا لشكل أقدم من أشكال الإحسان، يولي أولوية للاستجابة المباشرة لأولئك المحتاجين على برامج التغيير السياسي. ولتأكيد إلحاح التوزيع المباشر للأطعمة لأولئك المعوزين. كان كولوش يؤكد أن هذه كانت استجابة أكثر إنسانية وأكثر أخلاقية من الانخراط في نظام سياسي يُنظَر إليه على أنه زائف. في الحالة الفرنسية، هذا الأمر مهم على نحو خاص، أن تنطوي «مطاعم القلب» على قطيعة مع ما كان يعرف بأنه «النموذج الجمهوري». بدلًا من المطالبة بتوسُّط الدولة، بما يعكس خلقًا مدنيًّا تضمن فيه الدولة رفاهة المواطن، ركزت ثقافة هذا الفعل على تأسيس علاقة مباشرة بالآخر، وأن تؤكد بها «قيمة الأصالة من خلال الطبيعة المباشرة لهذه العلاقة» (سالمون ١٩٩٨: ٢٣). وهي تبرز علاقة مباشرة بالآخر، علاقة لا تتم بوساطة من فعل الدولة.

أما البعد المهم الثاني لحركة «مطاعم القلب»، كما ذكره ديفيد سالمون، فهو مدى كون هذه الحركة «اتحادًا إعلاميًّا». لم يشتمل تطور «مطاعم القلب» على تشكيل اتحاد، متبوعًا باهتمام وسائل الإعلام. على العكس من ذلك، ظهر الاتحاد في المقام الأول «في وسائل الإعلام»، باعتماد نشأته المبكرة اعتمادًا شديدًا على «شخصيات الإعلام» أو المشاهير. لم يكن المشاهير فقط مهمين للنشأة الأولى؛ بل يمكن القول إن ثقافة «مطاعم القلب» شكلتها على نحو حاسم ثقافة الإعلام، وخصوصًا ثقافة التليفزيون. تُبرز الأبعاد الحاسمة لهذه الحركة الحاجة الملحة والآنيَّة، وهما بعدان مركزيان لقواعد الاتصال في التليفزيون المعاصر.

وأما البعد الثالث لهذه الحركة الذي ستتجلى أهميته على نحو متزايد، فيكمن في مجموعة من السمات المرتبطة ﺑ «شخصنة» الالتزام. تتجلى أبعاد عدة في البحث الذي أُجرِي مع الناس المشتركين في المطاعم. أولًا، أن الثقافة ليست ثقافة «توسُّل» ولا «تفانٍ» «لشخص فقير» متخيَّل. فالفقر يُرى على اعتبار أنه يعم المجتمع الفرنسي، إلى النقطة التي يؤكد عندها المتطوعون في حركة «مطاعم القلب» أن ما كان يحدث للفقراء كان يمكن أن يحدث أيضًا بالسهولة نفسها تمامًا لهم هم أنفسهم أيضًا. ولكن في الوقت نفسه، لا توجد محاولة لبناء «هوية جمعية»؛ الهوية التي تتخذ شكل «نحن» في النماذج الكلاسيكية للحركات الاجتماعية. وبدلًا من ذلك، ثقافة حركة «مطاعم القلب» هي ثقافة لا يسعى فيها المشاركون إلى مجتمع، ولكن إلى الاعتراف بدلًا من ذلك بخبرة مشتركة. ثقافة حركة «مطاعم القلب» هي ثقافة يتواصل فيها أولئك المشاركون معًا على أساس الاسم الأول، مستخدمين صيغة ضمير المخاطَب الحميم «أنت»، لا صيغة التفخيم الرسمية «أنتم». صيغة المخاطبة هذه في فرنسا أكثر شيوعًا بين الناس الأحدث سنًّا، مما هي بين الناس الأكبر سنًّا، لكن هذه ليست صورة «مطاعم القلب»؛ وإن كان فيها حقًّا قسم كبير من المتقاعدين المشاركين بصفة متطوعين. بدلًا من ذلك، تشير دراسة رافل ورافون (١٩٩٧) الإثنوغرافية ﻟ «مطاعم القلب» إلى أي مدًى تستخدم «فقط» الأسماء الأولى؛ إذ تتشكل قوائم العضوية وسجلاتها من الاسم الأول وأرقام الهواتف. وفي الاجتماعات وجلسات التخطيط، سواء أكان المرء مشاركًا بوصفه متطوعًا أم مستفيدًا من الخدمة، لا يدقق في تهجي اسمه (والواقع أن المرء يمكن أن يكون متطوعًا ومستفيدًا معًا)، وثقافة تجنُّب استخدام اسم العائلة هي جزء من ثقافة يوجد فيها بالفعل تجنُّب للوسوم المميِّزة، من قبيل المهنة، واسم العائلة، والوضع، وما إلى ذلك. لا يشير تفضيل الأسماء الأولى واستخدام «أنت» إلى ثقافة تودُّد شبابية، ولكن إلى ثقافة شخصنة، ثقافة «تتجنَّب الهوية الجمعية المؤسسة على مرجعيات الهويات المتشاركة اجتماعيًّا» (يتجنب المتطوعون طلب معلومات عن أمور من قبيل مكانة العائلة، أو اسم العائلة، أو الانتماء المكاني، أو الوضع الوظيفي).

أطباء بلا حدود

يتجلى بُعدَا الثقافة والفعل المهمَّان في حركة «مطاعم القلب» كذلك في منظمة «أطباء بلا حدود» التي يُزعَم أنها بمنزلة حالة نموذجية للنزعة «الإنسانية الجديدة». شُكِّلت «أطباء بلا حدود» عام ١٩٧١ من قبل مجموعة من الأطباء الممارسين بقيادة الطبيب برنار كوشنير، بعد فترة من العمل مع الصليب الأحمر الدولي في بيافرا. كان سياق ميلاد «أطباء بلا حدود» هو الطبيعة المتغيرة للصراعات، والقيود المتزايدة التي فرضها هذا على فعل اللجنة الدولية للصليب الأحمر. حتى أوائل الستينيات كانت اللجنة الدولية للصليب الأحمر قد حصرت دورها مبدئيًّا في مراقبة تطبيق اتفاقية جنيف بشأن المدنيين والسجناء، والواقع أنها لم ترسل فرقًا طبية إلى مناطق الصراعات. وتطور دور اللجنة الدولية للصليب الأحمر في مناطق الصراع في ظل سياقٍ تقاتلت فيه الجيوش المنظمة والمدربة فيما بينها، سياقٍ كانت الخدمات الطبية تُقدَّم فيه من جانب المقاتلين العسكريين. ولكن في أفريقيا خلال عقد الستينيات، أثناء فترة التحرر من الاستعمار، والحروب الأهلية، كان واضحًا أن طبيعة الصراع المسلح كانت تمر بعملية تحول، بشمولها صراعات العصابات، وأزمات نقص الأغذية، وتشوش التمييز بين القوات المسلحة وغير المقاتلين. يتجلى هذا في الأنماط المتغيرة لضحايا الحروب على مدار القرن العشرين. في الحرب العالمية الأولى، كان ٥ في المائة فقط من القتلى مدنيين. وفي الحرب العالمية الثانية ارتفعت هذه النسبة إلى ٥٠ في المائة. وفي حروب التسعينيات كان نحو ٩٠ في المائة من القتلى مدنيين (تيلي ٢٠٠٢). تخاض الحروب على نحو متزايد في المدن، لا في مواقع نائية، وتتشوش التمييزات بين القوات النظامية وغير النظامية. في الحرب البيافرية، غاب حتى أبسط الإمدادات الطبية الأساسية والعاملون المدرَّبون. ولم يتمكن النموذج الأقدم من نماذج المساندة الطبية الذي يُفترض تفعيله من جانب الجيوش من الاستجابة لهذا الموقف الناشئ. وفي الوقت نفسه، لم تسمح سياسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر لطاقم الطوارئ الذي أرسلتْه للعمل في مناطق الأزمات بإبداء تعليقات نقدية على أفعال الدول الأعضاء؛ إذ كان حضورها المستمر يعتمد على النوايا الحسنة لتلك الدول.

كان كوشنير عضوًا في فريق الصليب الأحمر الفرنسي المرسَل إلى بيافرا، الذي تألف من ٥٠ طبيبًا. ولدى عودته إلى فرنسا، كان جزءًا من مجموعة «المحاربين القدامى البيافريين» الذين شكلوا «لجنة ضد الإبادة البيافرية»، وإذ كانت المجموعة تعتقد بأن من المحتمل أن تستمر مواقف مماثلة في التطوُّر في أفريقيا، فقد أنشأت «جماعة التدخل الطبي والجراحي في الطوارئ»، وهدفها هو تطوير القدرة على التدخل في حالات طارئة مماثلة. واتَّحدت هذه الجماعة في عام ١٩٧١ مع طبيب كانت له خبرات مماثلة في بنجلاديش منشئة حركة «أطباء بلا حدود». بالنظر إلى الماضي، إلى فترة تشكيل «أطباء بلا حدود»، يُبرز روني برومان — الذي صار رئيس «أطباء بلا حدود» في منتصف السبعينيات — أهمية السهولة المتزايدة في القدرة على السفر الدولي، وأهمية وسائل الإعلام. ما يتحدث عنه برومان هو ما يشير إليه الجغرافي ديفيد هارفي (١٩٩٠) بأنه «انضغاط المكان»؛ تصاغُر العالم بفعل تقنيات السفر. لكن في المقام الأول، يؤكد برومان الأثر الحاسم للتليفزيون في نشأة «أطباء بلا حدود»: «الظهور الفوري للكوارث والصراعات على التليفزيون جعل من غير المقبول على الإطلاق الامتناع عن عمل شيء، أو الاكتفاء بتقديم جهد مرتبك في المساندة أثناء الطوارئ» (برومان ١٩٩٣). ويذهب كوشنير نفسه إلى مدًى أبعد بزعمه أنه لولا وسائل الإعلام، وعلى رأسها التليفزيون، لما كان من الممكن أبدًا حدوث الفعل الإنساني الذي تطور على مدار الثمانينيات (١٩٩١: ١١٢). يُبرِز هذان العاملان الأساسيان في تطور «أطباء بلا حدود» الدور الحاسم للتليفزيون بوصفه شكلًا من أشكال الوساطة، شكلًا وصفه ميخائيل إجناتييف بالكلمات الآتية:

سواء أرغِب أم لم يرغب، صار التليفزيون هو الوسيط الرئيس بين الغرباء المعذَّبين وبين ضمائر أولئك الذين يقيمون في مناطق الأمان القليلة الباقية في العالم … لم يصبح مجرد الوسيلة التي من خلالها يرى بعضنا بعضًا، ولكن الوسيلة التي يتحمل بها كلٌّ منا المسئولية عن مصير الآخر. (١٩٩٨: ١٣)

واضح أن التليفزيون لعب دورًا أساسيًّا في ظهور الأشكال الجديدة من أشكال الفعل الإنساني، في فرنسا في البداية، وفي البلدان الأخرى لاحقًا. ينتقد مُنظِّرو وسائل الإعلام مثل توماس كينان (٢٠٠٢) هذا التطور، زاعمًا أن هذه النزعة الإنسانية حلَّت بديلًا من الحلول السياسية للصراعات؛ حيث حل الطعام والأغطية محل الحلول السياسية المستدامة. ويزعم آخرون، مثل لوك بولتانسكي (١٩٩٩) أن الاستجابة للمعاناة البعيدة أكثر تعقيدًا، بينما يصرون على أن التليفزيون يشكل باطراد كلًّا من الجو العام المعاصر وأشكال الفعل التي تظهر فيه. تَدين «مطاعم القلب» و«أطباء بلا حدود» كلتاهما بأصولهما لشخصيات كاريزمية، وكلتاهما بدأتا بوصفهما «اتحادين إعلاميين». وعلى الرغم من النفوذ الذي حازته «أطباء بلا حدود» في وسائل الإعلام الفرنسية ثم الدولية، فعلى مدار معظم عقدها الأول كانت هناك فجوة واسعة بين ملفها الإعلامي وبين قدرتها الفعلية على الفعل: على مر الفترة من ١٩٧١ إلى ١٩٧٨، أرسلت «أطباء بلا حدود» في المتوسط بضع عشرات من الأطباء سنويًّا (برومان ١٩٩٣). ومع ذلك، فمن البداية تمامًا، ضمَّت الفرق التي أرسلتها مسئولًا صحافيًّا، كان دوره هو المنافسة من أجل الظهور في وسائل الإعلام، مضخِّما مكانة أطباء منظمة «أطباء بلا حدود» ودورهم (ثمة تشابه واضح بين «أطباء بلا حدود» و«السلام الأخضر»)، ولقيت هذه الاستراتيجية انتقادًا واسعًا؛ إذ اتُّهمت «أطباء بلا حدود» بأنها «تُسلِّع المأساة»، واتُّهمت بتزايد اندماجها في نظامٍ تحرِّكه وسائل الإعلام، ممثِّلة دور البطل (طبيب «أطباء بلا حدود») والضحية (انظر ليتون ١٩٩٨).

انبثق كلٌّ من «مطاعم القلب» و«أطباء بلا حدود» من ثقافة الحاجة الملحة. القيمة الخلقية للفعل التي يدعو كلٌّ منهما إليها هي الالتزام بالفعل الآن. وفي حالة «مطاعم القلب»، فالدعوة إلى الفعل ليست موجهة إلى حاجات طويلة المدى (التوظيف، الرواتب، تغيير العلاقة بين العمل والدخل)، ولكن إلى الحاجات الآنية الملحَّة لفصل الشتاء المقبل. وفي حالة «أطباء بلا حدود» تركز الدعوة إلى الفعل على الطوارئ الراهنة، في مقابل المدى الطويل. ويمكن النظر أيضًا إلى تركيز برنار كوشنير على الطوارئ والاستجابة الآنيَّة باعتباره مرتبطًا بالتغيرات في الطب الفرنسي خلال الستينيات، وهي الفترة التي تدرب فيها كوشنير وظهر خلالها طب الطوارئ بوصفه تخصصًا طبيًّا منفصلًا. فُهِم الاتحاد الأول الذي أسسه كوشنير بمعايير الطوارئ الطبية الدولية، وشكَّل تفضيله لطب الطوارئ الفترة التي قضاها بصفته وزير الصحة الفرنسي.

تدل أهمية الطوارئ أيضًا على بُعد أقل وضوحًا: البحث عن المخاطر، والعلاقة بالعنف. تستكشف عالمة السياسة الفرنسية جوانا سيمِيون (٢٠٠١) المسارات الشخصية للمشاركين المحوريين في تشكيل «أطباء بلا حدود». كان عدد مدهش من الجماعة الأكبر سنًّا المشاركين في تشكيلها إما ممن سبق أن شاركوا في المقاومة الفرنسية خلال الاحتلال النازي، أو من البحرية، أو — في حالة الأعضاء الأصغر سنًّا مثل كوشنير أو برومان — ممن لعبوا دورًا في المحافظة على النظام للمؤسسات السياسية خلال أحداث مايو ١٩٦٨، أو ما قبل. قُتِل جَدَّا كوشنير في معسكر اعتقال نازي، وصار ناشطًا سياسيًّا خلال الفعل المناهض للفاشية. وكانت إحدى مشاركاته هي عضويته في جماعة دافعت دفاعًا جسديًّا عن شقة سيمون بوفوار ضد عدوان محتمل من التنظيم المسلح السري في أواخر عقد الخمسينيات من القرن العشرين (التنظيم المسلح السري هو جماعة عارضت إنهاء فرنسا استعمار الجزائر، وكانت مسئولة عن مقتل مئات عدة، وعن محاولة اغتيال رئيس فرنسا شارل ديجول عام ١٩٦٢). وفي عام ١٩٦١ تطوع كوشنير هو وريجيس دوبري معًا في السفارة الكوبية للانضمام إلى كتيبة دولية للدفاع عن شعب الجزيرة ضد الولايات المتحدة. ولم يلتحق كوشنير في نهاية الأمر بالكتيبة، ولكنه سافر عام ١٩٦٤ إلى كوبا ضمن وفد من الشباب الفرنسي (سيمِيون ٢٠٠١). وخلال أحداث مايو ١٩٦٨ المروِّعة، تنقَّل كوشنير بين جماعات مختلفة موزعًا منشورات على بوابات المصانع، وانخرط في اتحاد الطلبة الشيوعيين بينما كان يحتفظ أيضًا بمشاركته في الوسط الطبي (سيمِيون ٢٠٠١). ويرسم الكتاب الذي شارك في تأليفه، وهو كتاب «فرنسا الوحشية» الذي أحيا ذكرى صراع مايو ١٩٦٨، صورة مواجَهة غامضة بين قوى التحدي وقوى النظام؛ حيث يوضح كوشنير أن «كل فرنسيٍّ متمردٌ على المستوى الفردي» (كوشنير وبورنيير ١٩٧٠: ٩).

يكشف احتفاء كوشنير ﺑ «فرنسا الوحشية» عن «الثقافة الفحولية» التي تزعم سيميون أنه كان من شأنها أن تلعب لاحقًا دورًا حاسمًا في نشوء «أطباء بلا حدود». وهذا جليٌّ في خُلُق المغامرة، والولع بالسيارات السريعة (المستعارة في الأغلب، لا المملوكة)، وفي عدم التعلق بالمال، وفي الضيق بالخجل، وبالأخلاق البرجوازية، وبالرياء. وعلى الرغم من أنه على بُعد قارة، بمعايير التقاليد السياسية والثقافة، فثمة تماثلات جليَّة بين ثقافة الفحولة لدى كوشنير وبين نظيرتها لدى ديف فورمان، مؤسس حركة «الأرض أولًا»! (في الولايات المتحدة) الذي ركز هو أيضًا على الحاجة الملحَّة وعلى الفعل، لا على المدى الطويل والتحدُّث. سيقارن كوشنير لاحقًا بين خبرة الأعمال الطارئة في بيافرا وبين حياة العمل والمدينة الرتيبة في باريس كاتبًا: «على الرغم من مفارقاتنا وشكوكنا، فقد خلقنا أرستقراطية مخاطر. مرة أخرى، الهرمون الذكري …» (١٩٩١: ٣٢٤).

لعبت «أطباء بلا حدود» — كما يزعم دوشين (٢٠٠٢) — دورًا محوريًّا في بناء تخيُّل عالمي، يُظهِر عالمًا «بلا حدود». فكرة «الفضاء الإنساني» مركزية هنا، وهي فهم لفضاءٍ نواجه فيه الآخر بوصفه شخصًا لا بوصفه مواطنَ بلد معين — يبتغي فعل «أطباء بلا حدود» تجريد الفضاء من طابعه الإقليمي، وأنسنتَه (دوشين ٢٠٠٢)؛ حيث يُرسي الاعتراف بإنسانية الآخر الشروط التي تسمح ﻟ «أطباء بلا حدود» بالفعل — في صورة لعالم معولم وبلا حدود، منمذج وفق تصور «أطباء بلا حدود» لنفسها.

شبكات الفعل

تتجلى الموضوعات التي لعبت دورًا أساسيًّا في ظهور «اتحادات الإعلام» مثل «مطاعم القلب» و«أطباء بلا حدود» بالقدر نفسه في شبكاتِ فعلٍ أخرى تشكلت في فرنسا خلال عقد التسعينيات، وكان لها أن تلعب دورًا محوريًّا في ظهور موضوع مناهضة العولمة في أواخر العقد. في فرنسا، بدلًا من الارتباط بالدفاع عن المواقع الريفية، ارتبط ظهور الفعل المباشر بصراعات الإسكان، وخصوصًا «الحق في السكن» والأشكال الجديدة من حراك المهاجرين الذين لا يملكون وثائق، وكذلك تنسيقات العمال، ومن أهمها «متضامنون ومتحدون وديمقراطيون» التي ظهرت في بداية الأمر بين العاملين في قطاعات الاقتصاد ذات التكنولوجيا العالية، وحافظت على هوية قوية قائمة على العمل.

يرى بعض الكتاب أن هذه الشبكات لا تكاد تمثل أكثر من عودة جيل اليسار المتطرف الذي كان يمر بحالة سبات خلال عقد السبعينيات (بوليه ١٩٩٩). واضح أن عددًا من التنسيقات التي ظهرت في أوائل التسعينيات كان يحركها أعضاء من التنظيمات السياسية اليسارية المتطرفة، مع أعضاء من التنظيمات السياسية الأقدم البارزة، مثل كريستوف أوجيتون الذي هو عضو في المكتب السياسي للرابطة الشيوعية الثورية، وهي جماعة سياسية تروتسكية أسسها آلان كريفين (الذي لم يزل زعيمها) في عام ١٩٦٨. أوجيتون هو أحد مؤسسي حركة «متضامنون ومتحدون وديمقراطيون — البريد والبرق والهاتف» (سوليدير، يونيتير إيه ديمقراطيك — بوست، تليجراف، تليفون)، وكذلك حركة «الفعل المضاد للبطالة» (أجير كونتر شوماج). لعبت حركة «الفعل المضاد للبطالة»! دورًا واضحًا في تطور المسيرات المضادة للبطالة، بينما أوجيتون هو مؤسس مشارك ومتحدث باسم منظمة «الاتحاد من أجل فرض ضريبة توبين لمساعدة المواطنين»، وهي إحدى المنظمات الرئيسية التي تلعب دورًا محوريًّا في تطور الحركة المناهضة للعولمة في فرنسا.

سمحت هذه الحركات بدخول الموضوعات التي تطورت في الفعل الإنساني مجال نقاش أوسع؛ فنمط الفعل الذي اتخذته كان هو الفعل المباشر، وأُضفي عليه طابع «إعلامي» بدرجة عالية؛ إذ كان الهدف هو إنتاج أحداث ذات طابع اتصالي (من قبيل الاحتلالات)، أو رمزي (مثل التنانين والمهرِّجين)، لا بناء منظمات. يزعم بولتانسكي وشيابلُّو (١٩٩٩: ٤٣٤) أن أشكال الفعل هذه وازت بطرق كثيرة التحول إلى رأسمالية الشبكة. وتُبرز مبادئ الفعل التي استخدمَتْها موضوع «الحضور» لا «المسافة»؛ والفعل «القصير المدى» الآني، لا الفعل الطويل المدى؛ والتركيز على «الأحداث» لا على «البرامج». هذا الشكل من أشكال التنظيم هو شكل شبكات مبنية على أساس الأحداث، وطابع الفعل فيها مفتوح للتغاير والتعدد بدلًا من تأكيد التماثل. لا حاجة لبناء «هوية جمعية» من خلال الفعل. يصر كريستوف أوجيتون على هذه التعددية داخل شبكات الفعل، داعيًا إلى «شكل من أشكال التنظيم الذي يرمز لهذا الموقف: الشبكة، التي يعمل فيها المرء والآخرون معًا، بينما يحتفظ المرء بهويته» (أوجيتون وبنسعيد ١٩٩٧).

يوجد إحساس قوي بأن الفاعلين المعنيين واعون بتحولٍ نشط في النموذج المعرفي، بعيدًا عن النموذج القديم لبناء المنظمة، باتجاه شكل جديد من الشبكات، تُرَكَّز فيه الخبرة الوقتية على الحاضر لا على المستقبل. يكتب أوجيتون:

نحن اليوم وسط صدع عميق. نحن في ثقافة شبكات … إنه الدفاع عن القيم، أكثر مما هو نموذج المجتمع، هو ما يبني الأيديولوجية التي تستند إليها الحراكات. حينما كانت الأحزاب أو النقابات المهنية أو الاتحادات تتمسك بمشروع للتغيير الاجتماعي — سواء أكان ثورة أم إدارة ذاتية أم برنامجًا مشتركًا — كان المهم هو تعزيز جماعة المرء، وتوسيع نطاق نفوذ حزبه، أو نقابته المهنية. أما اليوم، فالمهم هو الدفاع عن القيم، وتأتي البنية في المقام الثاني، وبدلًا من ذلك تجتمع القوى المختلفة «جميعًا للمشاركة في معركة الآني». (أوجيتون ١٩٩٦: التشديد مضاف)

كانت هذه الشبكات الجديدة تكمن في جذور «القمة الاجتماعية» التي جاءت ردًّا على اجتماع مجموعة الدول السبع الكبرى الذي انعقد في ليون عام ١٩٩٦.

مكافحة الفقر

يوم السبت ١٦ مايو ١٩٩٨، شكَّل نحو ١٠ آلاف إنسان سلسلة بشرية بطول ستة أميال حول مركز مدينة برمنجهام خلال انعقاد قمة قادة الدول الصناعية لمجموعة الثماني الكبرى (انظر: http://www.indymedia.org.uk/images/2004/06/293206.jpg) شَلَّت السلسلة البشرية التي كانت جزءًا من فعل أكبر شمل نحو ٥٠ ألف إنسان جزءًا كبيرًا من مركز المدينة. ونَظَّم الفعلَ ائتلاف من جماعات مسيحية كبرى للتنمية والمساعَدة، كوَّنت «ائتلاف يوبيل ٢٠٠٠»، وكان المطلب الأساس للائتلاف هو إسقاط ديون «العالم الثالث». شُكِّل هذا الائتلاف عام ١٩٩٦ في محاولة لتوسيع ائتلاف أسبق بين المنظمات غير الحكومية المعنية بالتنمية، البريطانية، وهو «شبكة أزمة الديون» التي كانت تشن حملة تدور حول مسألة الدَّيْن في أفريقيا، وهي الَّتي نظمت عام ١٩٩٦ سلسلة من زيارات القادة الأفارقة لبريطانيا لكي يتحدثوا عن مسألة الدَّين، ولقيت هذه الزيارات دعمًا رفيع المستوى من قادة الكنيسة البريطانية. وهدف تشكيل «يوبيل ٢٠٠٠» إلى توسيع قاعدة الائتلاف لما هو أبعد من منظمات التنمية. استخدم ائتلاف المنظمات اسم «يوبيل» في إشارة إلى الأمر الإنجيلي المسيحي بإعتاق العبيد، وتحرير الناس من الديون في عيد كل ٥٠ عامًا. وكان أولئك المشاركون في السلسلة البشرية يدعون مجموعة الدول الثماني الكبرى إلى تأكيد إسقاط الدَّيْن في عام ٢٠٠٠.

هدف الفعل إلى الرمز إلى أهمية «كسر سلسلة الدين»؛ وكان أحد الموضوعات الثابتة في الحملة هو الإشارة إلى عبودية الدَّين، من خلال تشبيه زعماء الحملة فعلهم بالحملة البريطانية لإلغاء العبودية خلال القرن التاسع عشر. نواجه الخيال الإنساني: الرابطة بين الناس مباشرة، دون اعتماد على وساطة الحكومات أو الدول. ينبهنا هذا الفعل أيضًا إلى الطرق التي يعبِّئ بها الفعل العالمي التقاليد القومية. في الحالة البريطانية، رُكِّز الفعل المعني بالدين على أفريقيا، مع إشارة ثابتة إلى «سلاسل الدَّيْن» و«عبودية الدَّيْن» والصراع من أجل إسقاط الدَّيْن، مبرزًا توازيات تاريخية مع الكفاح لإلغاء العبودية. وعلى مدى الفترة المفضية إلى قمة برمنجهام كان النشطاء يشيرون إلى أنفسهم على نحو متزايد بأنهم «الإلغائيون الجدد». الموضوع الرئيس هو موضوع التعاطف مع المعاناة الناتجة من الديون، باعتبارها أساس شكل جديد من أشكال العبودية.

كان أمرًا مهمًّا أن هذا الشكل من الحراك لم يمتد إلى الولايات المتحدة، على الرغم من جهود منظِّمي الحملة. والسبب الواضح هو الوعي الأكثر تدنيًا بأفريقيا في الولايات المتحدة (وإن كان هناك وعي أكبر بكثير بدولة جنوب أفريقيا). ولكن ما هو أهم من ذلك هو غياب نوع الهوية «الإلغائية» التي كانت هذه الحركة البريطانية تحاول تعبئتها. ينبهنا إخفاق هذه الحملة في التطور في الولايات المتحدة إلى الأفهام المختلفة للمعاناة داخل ثقافات مختلفة. في الولايات المتحدة، كما تلحظ هنا آرندت (١٩٧٣)، كانت معارَضة الآباء المؤسسين ضد العبودية مبنية على نحو فريد على أساس موضوع الحرية. وتشير آرندت إلى أننا لا نجد أي اهتمام معبرًا عنه من قِبَل المؤسسين الأمريكيين بأن العبودية قد تقترن أيضًا بنوع مؤثر من أنواع المعاناة (انظر أيضًا بولتانسكي ١٩٩٩). لا يعني هذا فقط أن الهوية التي كان النشطاء يبنونها (هوية الإلغائيين الجدد) كانت هوية بريطانية مميزة، مبنية من خلال علاقة بأفريقيا، ولكن أيضًا أن نمط التعاطف الذي كانت الحملة ترغب في بنائه يمكن أن يكون له صدًى أكبر في ثقافات وأقل في ثقافات أخرى.

المشاهير ووسائل الإعلام

في العام التالي، اتسعت حملة «اليوبيل» لتشمل مشاهير من أمثال بونو، ومحمد علي، والنجم السينمائي إيوان ماكجريجور. جاب عليٌّ بريطانيا في فبراير ١٩٩٩، واضعًا إكليلًا في مركز للاجئين في بريكستون لأولئك الذين ماتوا بسبب الفقر الناتج من الدَّيْن. لقي هذا الحدث تغطية واسعة من وسائل الإعلام البريطانية. وعلى وجه الخصوص، ركزت التقارير الصحفية في ذلك اليوم على دموع أولئك المشاركين: «أخذ يتبسَّم وكنت أبكي من الفرح» (اقتباس عن أحد المشاركين، في صحيفة «صن»، ١٨ فبراير ١٩٩٩)، بينما وصف أحد منظمي زيارة عليٍّ إلى لندن التي استغرقت يومين، التجربة بالكلمات الآتية: «لم أعرف يومين هادئين مثلهما. عليٌّ رائع حقًّا. وهو، مثل الأميرة ديانا، يمتلك القدرة على أن يُلهم ويوحِّد؛ فهو يجمع الناس، هو مواطن عالمي حقيقي» («ميرور»، ١٨ فبراير ١٩٩٩).

مهم أن نفهم الإشارة إلى الأميرة ديانا والدور الأوسع للمشاهير في حملة «اليوبيل». أحرز علم اجتماع وسائل الإعلام تطورات عظيمة منذ التصورات المبكرة لوسائل الإعلام على أنها نظام للتلاعُب؛ إذ درس هذا العلم على نحو متزايد الاستجابات التي نبديها تجاه الصور التليفزيونية، وهي في هذه الحالة صور المعاناة القاسية في أغلب الأحيان. يربط كثير من المحللين بين التكرار المتزايد لصور المعاناة وبين ظهور النزعة الإنسانية المعاصرة. ويفترض آلان تورين (٢٠٠٠) أنه بينما يصير العالم الكوني أكثر تعقيدًا وأقل قابلية للفهم، يلعب المشاهير على نحو متزايد دور الوسيط، ويكونون بمنزلة الرابط بيننا نحن المراقبين، وبين «الإنسانية مجهولة الاسم». ويفترض جيلز ليبوفتسكي، في تحليل بالغ التشاؤم، أن العاطفية وإضفاء الطابع الأخلاقي المقترنين بمعالَجات وسائل الإعلام للمعاناة؛ حيث يقترن فعل استثارة استجابةٍ ما بمتعة تكاد تكون نرجسيَّة، يعنيان أنه بينما تستثار مشاعرنا لأشكال المعاناة التي تُقدَّم في صيغة متلفزة على نحو متزايد، فإننا نُجرَّد من الإحساس بتلك الأشكال من المعاناة التي لا تنقلها الوسائط الإعلامية، وتُحوَّل إلى تسلية. ومن وجهة نظر آلان تورين، يُسرِّع التحويل المتزايد للمعاناة إلى مادة إعلامية من تفكك الحياة الاجتماعية، على نحو يجعل العلاقات الاجتماعية الفعلية أقل وضوحًا:

اكتسب التليفزيون هذه المكانة المركزية في الحياة الراهنة لأنه يربط مباشرة بين أكثر أبعاد الحياة خصوصيةً وبين أكثر الوقائع عالمية؛ (بين) الشعور الذي تشعر به حينما تواجهك المعاناة، أو الفرحة بكونك إنسانًا وبين أكثر التقنيات الحربية أو العلمية تقدمًا. مثل هذه العلاقة المباشرة تقضي على الوساطات بين الفرد والإنسانية، وتخاطر — من خلال نزع الرسائل من سياقاتها — بالمساهمة فعليًّا في عملية التفكيك الاجتماعي. الشعور الذي نحس به جميعًا حينما نواجَه بصور الحرب، أو الرياضة، أو الفعل الإنساني، لا يُحوَّل إلى تحفيز واتخاذ مواقف. (تورين ٢٠٠٠: ١٨)

يزعم برنار كوشنير، مؤسس «أطباء بلا حدود» أنه «لولا التليفزيون، لما وُجدت النزعة الإنسانية المعاصرة.» يتيح التليفزيون إمكانية العلاقة الآنيَّة، واختراق بنية البيروقراطية والجمود. يجلب التليفزيون دراما المعاناة البعيدة مباشرة إلى غرف معيشة مشاهدي التليفزيون، وهكذا فإنه يطالب المُشاهِد بالاستجابة ويستجديها منه. يستكشف لوك بولتانسكي هذه «المعاناة البعيدة»، ويزعم أنه يمكن تحديد أطر مختلفة أو «عناوين» يحدث فيها استقبال الصورة وبناء الاستجابة. يتخذ الإطار الأول شكل استجابة شعورية «بالاستياء»؛ حيث نغضب حينما نواجَه بواقع المعاناة، ويتحول انتباهنا عن ضحية المعاناة ليركز على الجاني. يتيح لنا الغضب أن نتحكم في خبرة الاستياء المجسَّدة، ولكن على حساب تغيير بؤرة الاهتمام؛ من الشخص الذي يعاني إلى أنظمة أو منظمات مجردة؛ حيث نتقدم عبر حالات الاستياء، والإدانة، والاتهام. ويؤكد بولتانسكي مدى كون خبرة المشاهَدة هذه مجسَّدة، لا كونها إدراكية وحسب؛ فنحس بالاستياء، ويُجسَّد هذا بدوره في صورة غضب.

أما أسلوب الاستجابة الثاني الذي استكشفه بولتانسكي فيتخذ شكل «الوجدان». وهنا ينظر المشاهد إلى المعاناة المنقولة إعلاميًّا من ناحية تدخُّل المُحسِن، ويشارك المُشاهد إحساس العرفان بالجميل الذي يعبِّر عنه مَن يعاني تجاه المُحسِن. ولتوضيح هذه العملية، يدرس بولتانسكي صورة شهيرة التقطها دبليو يوجين سميث في «لايف ماجازين» عام ١٩٥١، وفيها تظهر قابلةٌ تساعد امرأة أمريكية من أصل أفريقي فقيرة في الولادة، ليس في مستشفًى، ولكن في مستوصف مؤقَّت مُقام في كنيسة، والمصلُّون ظاهرون في خلفية الصورة. لا تثير بنية الصورة الاستياء، ولا الغضب، ولا الاتهام، ولكنها تُبرِز نظرة المرأة التي تلد، وهي تنظر لأعلى إلى القابلة التي تساعدها. في أسلوب الاستجابة الحالي، لا نحس بالاستياء، ولكننا نحس بخبرة الحُنُو؛ إذ نتطلع إلى المُحْسن من موقعٍ متخيَّلٍ للمتلقي. يواجه أسلوب الاستجابة هذا مشاهدي الصورة ﺑ «مكنون» أنفسهم. وهو يؤكد الحاجة إلى المُضِيِّ إلى ما هو أبعد من الاستجابة السطحية للمعاناة، أي الاستجابة المبنية على أساس الوقائع والبيانات، للبحث على مستوى أعمق:

يتسم المستوى السطحي بعلاقات «سطحية» بين الناس، ويُبنى على أساس الوقائع، والأوهام، وضحالة المعتقدات، وفوق كل ذلك الانفصال والبرود. ولكن تحت ذلك مستوًى أعمق يمكن النفاذ إليه من خلال تركيز انتباه المرء على الداخل، داخل المرء نفسه. هذا هو مستوى «القلب». (بولتانسكي ١٩٩٩: ١٢٢؛ التشديد في النص الأصلي)

قد لا يكون مدهشًا أن المَثلَيْن اللذين استعرضناهما في هذا الفصل يشيران مباشرة إلى مسألة القلب — إنشاء كولوش «مطاعم القلب» في عام ١٩٨٧، واتخاذ الأميرة ديانا في بريطانيا هدفًا أن تصبح «مليكة القلوب». النموذج المعرفي هنا هو نموذج محاولة الوصول إلى الآخر؛ محاولة المرء لمس الآخر، والسماح لمعاناة الآخر بلمس المرء. في عصر لم يعد فيه إيمان بالأيديولوجيات أو البرامج، يجتمع المشاهير والتليفزيون ليجعلا الإيمان بها ممكنًا. أصبح هذا متزايد الوضوح في معالَجات وسائط الإعلام للأميرة ديانا. يمكننا أن نرى هذا في رواية صحافي عن استجابة ديانا للمعاناة:

ما كان مدهشًا في الأميرة ديانا هو استعدادها لعناق أولئك الذين يتحاشاهم قادتنا السياسيون. لم تتردد في أن تصافح أيدي مريض بالإيدز (دون ارتداء قفازات)، أو أن تعانق أبرص، أو أن تحتضن طفلًا محتضرًا يسيل المخاط من وجهه إلى صدرها المكسو برداء من أشهر الماركات. (سمرز ١٩٩٧)

تلتقي في هذا الوصف موضوعات عدة، بطرق تشابه كثيرًا صورة دبليو يوجين سميث في «لايف مجازين». ديانا، على العكس من السياسيين، لا تقف بمعزل عن أولئك الذين يعانون، ولكنها تدخل مباشرة في اتصال بهم. وبدلًا من الاعتماد على وسائط من قبيل الاتحادات أو الحكومات، ترغب في علاقة «مباشرة»، ويُفهم ضمنيًّا أن هذا أسمى أخلاقيًّا مما يتميز به «قادتنا السياسيون». ثانيًا، هي تقيم صلة جسدية — تصافح الأيدي، وتحتضن. وثالثًا، نحن على دراية فوق كل ذلك بالتأثير المادي «الذي كان لذلك على ديانا»؛ نحن نتماهى معها تمامًا إلى الدرجة التي يعبَّر فيها عن الإحساس بالطبيعة المادية لوفاة طفل بناء على المخاط على ردائها الثمين. هذه كلها صور مؤثرة مبنية على أساس إشعار المتلقِّي بالامتنان. يبقى الطفل المتوفَّى بلا اسم؛ ولا نعرف سبب وفاته. يحس المشاهد بمادية الموت من خلال أثره على ثوب ديانا.

مثل هذه الخبرات، كما يقول بولتانسكي، تستثير استجابة مجسَّدة من جانب مستقبِل الصورة. رأينا من قبل استجابة الاستياء تُترجَم إلى تعبير عن الغضب. وفي هذه الحالة، يقول بولتانسكي إن الإحساس المتجسِّد المستثار للتعامل مع الخبرة مبني على أساس «الحاجة الملحة». الإحساس المتجسد بالشفقة هو إحساس نشعر به في تهدج الصوت والإحساس بالنشيج الوشيك، وتمامًا مثلما يمكن أن يُترجَم قمع الإدانة إلى غضب، فكذلك أيضًا يمكن التحكم في الإحساس بالشفقة من خلال سرعة استجابتنا، من خلال اختزال تعبير المرء وجسد المرء بكامله، «للتحوُّل باتجاه الضحية البائسة التي لا يمكن لمعاناتها أن تنتظر، للاستغراق بالكامل في حركات الفعل. فلا توجد لحظة لتضيعها» (١٩٩٩: ١٢١).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤