الفصل السادس

حلم الساباتيستا: الذاكرة والقناع

في أول يناير ١٩٩٤ استولى بضع مئات من الرجال والنساء الأصليين المُسلَّحين على مباني بلدية سان كريستوبال دي لاس كاساس وخمس بلدات أخرى في ولاية شياباس المكسيكية، وهي واحدة من أفقر ولايات المكسيك؛ إذ تقع في منطقة نائية على الحدود مع جواتيمالا. ومع عدد سكان يناهز ثلاثة ملايين نسمة، منهم مليونان من السكان المحليين، تبلغ نسبة المنازل ذات الأرضية الطينية ٥١ في المائة، مقابل معدل وطني يبلغ ٢١ في المائة. على مر ثمانينيات القرن العشرين، عبَّرت المنظمات الدولية على نحوٍ متزايد عن قلقها بشأن مدى الوحشية ومدى عنف الجيش والشرطة في الولاية. أطلقت الجماعة التي استولت على البلدات على نفسها اسمَ جيش ساباتيستا للتحرُّر الوطني، وتلا رجلٌ مقنَّع يسمي نفسَه نائبَ القائد ماركوس بيانًا من شُرْفة في مبنى بلدية سان كريستوبال دي لاس كاساس، مُبرِزًا وضْعَ السكان الأصليين في المنطقة، داعيًا إلى انتفاضةٍ من أجل السيطرة على الحكومة الاتحادية. وكان الموضوع الرئيس هو: «يا باستا!» (كفى!) شهدت الأيام الاثنا عشر التالية قتالًا شديدًا، ومقتلَ ما بين مائتَيْ إنسان وأربعمائة، معظمهم من المتمردين، الذين كان الكثيرون منهم مسلَّحين تسليحًا بائسًا، ولم يكن بعضهم مسلَّحًا على الإطلاق. ردَّت القوات المكسيكية بعنف متطرف، متضمنًا إعدامات فورية للمتمردين المقبوض عليهم. أنتج مدى هذا العنف ضغطًا شديدًا على الحكومة المكسيكية، مع كثرة المحتجين في العاصمة، ودوليًّا، من خلال الشبكات الحكوماتية وشبكات المنظمات غير الحكومية التي كانت تراقِب وضْعَ حقوقِ الإنسان على الجانب الآخَر من الحدود في جواتيمالا. وفي هذا السياق أعلنت الحكومة وقْفَ إطلاق النار في ١٢ يناير، وبدأت مُفاوَضاتُ السلام في فبراير. أرسل قادة جيش ساباتيستا للتحرُّرِ الوطني التماسًا إلى الصحافة المكسيكية، داعِينَ «المجتمعَ المدني» إلى إرسال متطوعين ليشكِّلوا طوقَ حمايةٍ حولَ مفاوِضِيه، وجرى تداولُ الالتماس في المكسيك وكذلك في شبكات الأكاديميين وحقوق الإنسان في أمريكا الشمالية، وخصوصًا عبر شبكات الإنترنت الناشئة.

لم تُثمِر المفاوضاتُ التي تلت ذلك، وفي أعقاب إعادة انتخاب «الحزب الثوري المؤسسي» المسيطر، في يونيو، أُقِيم حصارٌ عسكري حول المنطقة التي كان الساباتيستيون يسيطرون عليها. وفي فبراير التالي، أصدرت الحكومة مذكراتِ اعتقالٍ بحق قادة التمرد، مرسِلةً القواتِ مرةً أخرى إلى المناطق التي يسيطر عليها الساباتيستيون، مستعيدةً السيطرةَ على المدن، ومجبِرةً نحو عشرين ألف ساباتيستي على هجر القرى، والارتدادِ إلى المناطق الشرقية من الشياباس. ومن هذه النقطة انتهج الجيش المكسيكي استراتيجيةَ حربٍ منخفضة الشدة، مسانِدًا تطويرَ الجماعات البرلمانية المكونة بقدرٍ كبير من الشبان الذين لا يمتلكون أراضي، مستهدفًا الأفرادَ والجماعاتِ الذين يَبْدون متعاطفين مع الساباتيستيين (إبِر ٢٠٠١).

شاع اعتقادٌ بأن الانتخابات التي أعادت الحزبَ الثوري المؤسسي مرةً تالية مُزوَّرةٌ، وأنشأ جيش ساباتيستا للتحرر الوطني عمليتَه الاستشارية الخاصة، بتنظيمِ استفتاءٍ صوَّتَ فيه نحوُ مليونِ إنسان على سلسلةٍ من الإصلاحات التي اقترحها الساباتيستيون، وأعقبتها عمليتا تشاوُرٍ وطني. حمى هذا الساباتيستيين من العزل في مناطق الجبال والغابات التي انسحبوا إليها، وعزَّزت هذه الأفعال الساباتيستيين تعزيزًا ملموسًا، مفضيةً في فبراير ١٩٩٦ إلى توقيعِ اتفاقاتِ سان آندريس التي اعترفَتْ بحقوق السكان الأصليين الثقافية والاقتصادية. وفي هذه الفترة أطلَقَ جيش ساباتيستا للتحرُّر الوطني التماسًا من أجل مُشاوَرةٍ عالميةٍ تحدث في المناطق التي سيطَرَ عليها، داعيًا إلى اجتماع دولي «من أجل الإنسانية في مواجهة الليبرالية الجديدة». وشاع تداوُلُ هذا الالتماس بين شبكات التضامن التي سبق أن نشأت خلال العام، وشهدت تغطيةً من نحو ٣٠٠٠ إنسانٍ في الشياباس في يوليو ١٩٩٦، مسرِّعةً تشكيلَ أنماطٍ جديدة من الشبكات في كلٍّ من أوروبا والولايات المتحدة.

اعتقد جيش ساباتيستا للتحرر الوطني ومؤيدوه بأن الاتفاقات لم تكن تُنفَّذ، فعلَّقوا المُفاوَضات مع الحكومة، مع الاستمرار على مر عام ١٩٩٧ في المفاوضات مع البرلمان في إطارٍ أنشأه السيد صامويل رويز؛ أسقف سان كريستوبال دي لاس كاساس الكاثوليكي. وفي ديسمبر، ذُبِح ٤٥ مؤيدًا أعزل من مؤيدِي ساباتيستا في قريةِ أكتيال الساباتيستية من قِبَل جماعةٍ شبه عسكرية متصلة بالحزب الثوري المؤسسي. وخلال العامين التاليين عزَّزت الحكومة الحصارَ حول منطقة الساباتيستا التي تكوَّنت من نحو ٣٠ مجتمعًا محليًّا، وكان لهذا الوضع أن يستمر حتى تغيير الحكومة على المستويين الفيدرالي وعلى مستوى الولايات، حينما أخفق الحزب الثوري المؤسسي في يوليو ١٩٩٠ لأول مرة منذ ٨٠ عامًا في الفوز بالانتخابات. وفي ديسمبر ٢٠٠٠ بدأت الحكومة الجديدة تحدُّ من عسكرة ولاية الشياباس، مُغلِقةً عددًا من القواعد العسكرية التي سبقت إقامتها في المنطقة منذ عام ١٩٩٥. واستُؤنِفت المفاوضات، مؤديةً في فبراير-مارس ٢٠٠١ إلى خوض ٢٠ قائدًا من قادة جيش ساباتيستا للتحرر الوطني ومئات المؤيدين — ومنهم فريق دولي ضخم أغلبه من الشباب الذين قَدِموا ليشكِّلوا دروعًا لحماية العصابات من الجيش — مسيرةً كان مقرَّرًا أن تقصد المركزَ الرمزي للمكسيك، وهو بلاكا دل سوكالو؛ حيث لقيهم ٢٠٠ ألف شخص، وحيث خاطبوا البرلمانَ الوطني بشأن وضع السكان الأصليين في المكسيك؛ وفي أعقاب التأثير الفائق للمسيرة، اقترحت الحكومة إصلاحًا دستوريًّا في أبريل ٢٠٠١. رفض هذا الساباتيستيون الذين اعتبروا التعديلات نكوصًا عن المكاسب المحققة في زمن اتفاقات سان آندريس (اتفاقية المناطق المتمتعة بالحكم الذاتي التي وقَّعتها الحكومة المكسيكية في ١٦ فبراير ١٩٩٦؛ انظر ناش ٢٠٠١: ١٢٢ وما بعدها). وعاد قادة جيش ساباتيستا للتحرر الوطني إلى شياباس، بينما — وعلى الرغم من معارضتهم — أقرت الحكومة والعدد اللازم من الولايات التعديلات. وشهدت الفترة التي تلت ذلك استمرارَ الاحتلال، ولكن في الوقت ذاته، صمتًا من جانب الساباتيستيين، وخصوصًا بعد تدمير البرجين في سبتمبر ٢٠٠١. واستمر هذا الصمت حتى أول يناير ٢٠٠٣، الذكرى التاسعة للانتفاضة، حينما زحف ٢٠ ألف ساباتيستي، ووجوههم مُغطَّاةٌ بأقنعة التزلج، مرةً أخرى عبر الساحة المركزية في سان كريستوبال دي لاس كاساس.

يشيع الاعتقاد بأن كفاح أولئك الذين يُسمِّيهم الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتس «العصابات الأولى ما بعد الشيوعية» (فوينتس ١٩٩٤: ٥٤) غيَّرَ جذريًّا المجتمعَ والثقافة المكسيكيَّيْن، محرِّكًا عمليةً هادفة إلى تحقيق الديمقراطية، أدَّتْ من بين عوامل أخرى إلى التغيير الأول في حكومة البلد منذ ٨٠ عامًا. ولكن في الوقت ذاته، لعب كفاح الساباتيستا دورًا محوريًّا في الحركة العالمية الأوسع، وفي هذا الفصل نبدأ استكشاف سبب اكتساب هذا الكفاح مثل هذه الأهمية، وتداعياته على طريقة تفكيرنا في الحركات، والفعل، والعولمة.

ظل لينين، المجتمعات الدفاعية

رجل العصابات المسلَّحة المُخفِي وجهَه خلف قناعِ تزلج أسود، الذي يقرأ الإعلانَ من شُرْفةِ مبنى البلدية في سان كريستوبال دي لاس كاساس في أول أيام عام ١٩٩٤ سمَّى نفسَه نائب القائد ماركوس، وعُرِف فيما بعدُ على نطاقٍ واسع — ولم يَعُد يُنكِر ذلك ماركوس نفسه — أن نائب القائد هو طالِبُ فلسفةٍ سابق، وهو رفاييل سيباستيان جِيِين، ابن صانع الأثاث من مدينة بامبيكو، إحدى المدن الرئيسة في شمالي ولاية تاموليباس المكسيكية. بعد دراساته في مدرسة الجيزويت، حصل جيين على شهادة في الفلسفة في مكسيكو سيتي؛ حيث تأثَّرَ بالنظرية البنيوية الفرنسية التي كانت عصريةً في ذلك الوقت، وكان بحثه (ما زال متاحًا في قسم الفلسفة في الجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك) حافلًا بالإحالات إلى فوكو وألتوسير وعالِم السياسة نيكوس بولانتزاس. جديرٌ بالذكر أن جيين اختتم بحثَه بمُطالَبةٍ بنبذِ الفلسفة الأكاديمية، داعيًا إلى نوعٍ جديد من الفلسفة يعتمد على «الممارسة السياسية البروليتارية»، التي ستجعل من الممكن صنع «نظرية بالسياسة وسياسة بالنظرية» (هوي ١٩٩٥، مقتبس في رودريجز ١٩٩٦). بعد إتمامه شهادتَه في الفلسفة، احتلَّ جيين منصبَ مدرسٍ لتدريس الفنون الرسومية في جامعة تجريبية في ضواحي مكسيكو سيتي. وبينما كان يُبدِي اهتمامًا قويًّا بالفنون البصرية، لعب دورًا في مسرحية «في انتظار جودو»، وشارَكَ كذلك في بضعةِ أفلامٍ قصيرة. وتتضمن كتاباتُه إشاراتٍ مستمرةً إلى أفلام، والإسقاطات الفيلمية متكررة في «لا رياليداد» (الواقع)، عاصمة إقليم ساباتيستا، دونَ أيِّ محاولة للتصحيح السياسي أو التوجيه التلقيني — كان أحد أشهر الأفلام المسقطة على الواقع عادةً هو فيلم «رامبو» (لو بو ١٩٩٧).

تكمن جذور جيش ساباتيستا للتحرُّر الوطني في قوات التحرُّر الوطني. أُنشِئت قوات التحرر الوطني بوصفها تنظيمًا عسكريًّا ماويًّا ماركسيًّا، في أعقاب المجزرة التي ارتكبتها الحكومة ضد الطلاب في تلاتيلولكو عام ١٩٦٨، وكان هدفها أن تكون استراتيجيةَ تمرُّدٍ مُسلَّحٍ في الريف، مثل قوات العصابات الأخرى التي وُجِدت في فترةِ ما بعد عام ١٩٦٨ في أمريكا الجنوبية وأمريكا الوسطى. التزمَتْ قواتُ التحرُّر الوطني بأسلوبٍ لينيني كلاسيكي لإنشاء «ديكتاتورية البروليتاريا»، وكانت قوات التحرر الوطني على وشك التصدع حينما أصبح جيين نائبًا للقائد في المنطقة الجنوبية (رودريجز ١٩٩٦؛ لو بو ١٩٩٧)؛ إذ وصل غابةَ لاكاندونا المطيرة في أغسطس-سبتمبر ١٩٨٤، بعد سبعة أشهر من إقامة معسكرٍ أساسي، مكوَّنٍ من نحو ١٠ عصابات (ماركوس ٢٠٠٣). تكوَّنت قوات التحرر الوطني في بدايتها من راديكاليين حضريين، وقادة محليين منهمكين في السياسة، وكانت كلتا الجماعتين، كما يؤكد إيفون لو بو (١٩٩٧)، مشبَّعتَيْن بثقافةٍ سياسية لينينية، مُعادِيةٍ للديمقراطية، سلطوية. يعترف ماركوس بأنه لم يكن يدري أن هنود الشياباس كان لهم تاريخهم، وثقافتهم، وأشكال حركتهم، حينما وصل المنطقة لأول مرة في سنوات ١٩٨٥–١٩٨٧:

في البداية، من وجهة نظرنا بصفتنا عصابات، كانوا مستغَلِّين، وكان علينا أن ننظِّمَهم ونَدُلَّهم على الطريق. ضَعْ نفسك مكاننا؛ كنا نورَ الدنيا … وكانوا عُميانًا، وكان علينا أن نفتح عيونهم! (ماركوس، في لو بو ١٩٩٧، ١٢٨-١٢٩)

حينما وصل جيين في الجنوب، كان نموذج «الفوكو» للتغيير الاجتماعي الذي كانت تعتنقه حركات العصابات؛ حيث كان من المفترض تحرير أقسام متزايدة الاتساع من الريف من خلال الفعل العسكري ومحاصرة المدينة العاصمة في النهاية، يلفظ أنفاسه في أمريكا الجنوبية وأمريكا الوسطى. كانت هذه هي الحال بالفعل قبل عام ١٩٨٩، لكن يبدو أن سقوط حائط برلين وانهيار اليوتوبيا الاشتراكية كانا ضربة قاصمة لأيديولوجية قوات التحرر الوطني. من وجهة نظر ماركوس، كانت الهزيمة الأولى لقوات التحرر الوطني هي إخفاق نموذج التعبئة هذا. غير أن هذا أتاح إمكانية لإقامة علاقة جديدة بالسكان الأصليين، يحكي ماركوس أن «ساباتيسمو ثانية» وُلِدت منها:

في النهاية، كان ذلك هو جذر قوات التحرر الوطني الأصلية: جماعة «التنويرين» التي أتت من المدينة من أجل «تحرير» المستغَلين، التي بدت، حينما ووجهت بواقع المجتمعات الأصلية، أشبه بمصابيح محترقة منها ﺑ «تنويرية». كم استغرق الأمر منا لندرك أنه كان علينا أن نتعلم أن نصغي، وبعد ذلك نتكلم؟ لست متأكدًا، فلم يكن ذلك منذ أشهر قليلة من الآن، لكني أعتقد أنه استغرق عامين على الأقل. (ماركوس ٢٠٠٣)

حركات السكان الأصليين

بينما كان نموذج الاشتراكية الذي ألهم «الممارسة السياسية البروليتارية» يذوي، كانت أشكال مهمة من حركات السكان الأصليين تنشأ في أمريكا الجنوبية وأمريكا الوسطى، وخصوصًا في بلدان المكسيك، وجواتيمالا، وبوليفيا، والإكوادور. تميل المقارَبات السائدة لفهم هذه الحركات إلى إدراكها بمعايير «ما قبل الحداثة»، باعتبارها تعبيرات عن ثقافة أصلية شبه بائدة، أو بمعايير «الذرائعية» حيث تعبِّئ مثل هذه الحركات الهويات بوصفها موردًا؛ لكي تدخل النظام السياسي (من أجل دراسة للمقارَبتين، انظر ياشر ١٩٩٨). استُحضر هذان التحليلان كلاهما بكثافة فيما يخص فعل ساباتيستا. يعتبر عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي جاري جوسن حركة الساباتيستا إحياءً لثقافة المايا البدائية، إحياءً ﻟ «الروح الهندية الجمعية في أمريكا الوسطى» (١٩٩٦: ١١٦)، بينما هي، من وجهة نظر منظري العملية السياسية، تطوُّر هوية واستراتيجية إثنيَّتين، شكَّلته بنية الفرص السياسية، وهي في هذه الحالة بنية أكثر انفتاحًا على المستوى الدولي منها على المستوى القومي (تارو ١٩٩٩).

بينما من الواضح أن تمرد الساباتيستا في العام ١٩٩٤ هو تعبير عن حركة أصلية، فلا يكاد يوجد ما يشي بتأكيد وجود ثقافة خالدة؛ فالمنطقة التي ظهرت فيها الحركة، لاس كاناداس، منطقة في غابة لاكاندونا المطيرة، لم تُستوطَن إلا خلال الأعوام الخمسين الماضية، وكان ذلك من تداعيات ثورة عام ١٩١٧ المكسيكية التي جعلت من الممكن استيطان أرض غير مملوكة واستكشافها، وخصوصًا من خلال أشكال المِلكية الجمعية وقطع الأراضي المملوكة للفلاحين الأفراد أو «الإيخيدوس». ومنذ خمسينيات القرن العشرين ظلت منطقة لاس كاناداس مأهولة بعمال المَزارع الأصليين المنحدرين من الأراضي الجبلية (بارماير ٢٠٠٣). أفضى هذا إلى منطقة سكانها أصليون ولكنهم من إثنيات متعددة، ولغات متعددة في الغالب، مع تحدُّث معظم السكان أكثر من لغة محلية. وبسبب هذا المجتمع السكاني المهاجر الحديث، ظلت المنطقة لا تُدرَس من جانب علماء الأنثروبولوجيا المهتمين بمناطق يرونها أكثر تقليدية وأصالة. وأُهملت المنطقة كثيرًا من جانب الحكومة المكسيكية أيضًا، ربما بسبب خطط التنمية المستقبلية التي تشتمل على تطوير البترول والكهرباء المائية، مع ترك المزارعين المستوطنين في اقتصاد كفاف قائم على محصول ذرة المايا التقليدي، ومع قليل من الإمداد بالخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء والإسكان (بارماير ٢٠٠٣).

ومع ذلك، كان الإقليم يمتاز بأشكال مهمة من التنظيم الذاتي. وكان أحد هذه الأشكال — الذي ظهر أنه الأكثر أهمية — هو تقليد الدفاع المسلح عن النفس ضد ملاك الأرض الذين كانوا يحاولون في أوقات مختلفة إخلاء أراضيهم من القرويين. كان هذا التقليد مختلفًا كثيرًا عن الجماعات السياسية المسلحة الثورية. بدلًا من تمويل الأسلحة والبنية التحتية (الزي، وأجهزة اللاسلكي، وخلافهما) من خلال «الضرائب الثورية» أو الجريمة، اشترى المزارعون الأسلحة من خلال تجميع الموارد (دياس ١٩٩٥)، وكان أحد المصادر المهمة هو بيع الخنازير (بارماير ٢٠٠٣). قُبِل جيين ونشطاء قوات التحرر الوطني الآخرون الذين وصلوا ليعيشوا في المنطقة بين عامي ١٩٨٣ و١٩٨٥ في هذه الجماعات المسلحة في النهاية. وفي الوقت ذاته كان لانهيار الاتحاد السوفييتي والنهاية المؤثرة للاشتراكية أثر عميق على كثير من أعضاء قوات التحرر الوطني الذين ذهبوا إلى المنطقة؛ إذ تخلى كثير منهم عن فكرة الكفاح المسلح في أعقاب عام ١٩٨٩. بدا أن عصر حروب العصابات ولَّى، كما أظهرت ذلك اتفاقات السلام بين أهم حركات العصابات في المنطقة، وهي جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني، وبين حكومة السلفادور، الموقعة في المكسيك في يناير ١٩٩٢ (دياس ١٩٩٥).

ومع ذلك، كانت الفترة التي أفضت إلى انتفاضة عام ١٩٩٤ فترة ضغط متزايد على المزارعين؛ فالهجرة الداخلية المتزايدة إلى المنطقة، مصحوبة بالضغط السكاني المتزايد، كانا يعنيان ضغطًا متزايدًا على الموارد المحدودة. فنظام الحماية القديم، الذي كان يدمج النخب المحلية من خلال الصنائع والمنح، تناقصت فاعليته في سياق الموارد المتدهورة، وتجلِّي علامات إنهاك الدولة المكسيكية والنظام السياسي. وأنذر انضمام البلد إلى النافتا بإبطال القسم السابع والعشرين من الدستور، الذي كان يعني نهاية شكل الصفة الجماعية التي كانت تسمح للسكان الأصليين بدخول الأرض. لكن بينما كانت يوتوبيا الاشتراكية وديمقراطية البروليتاريا تذوي مع انتهاء القرن العشرين، كانت هناك علامات واضحة منذ السبعينيات على حضور حركة أصلية تنشأ عبر أمريكا الجنوبية والوسطى. كانت الأيديولوجيا السائدة في المكسيك، وكذلك عبر منطقة أمريكا الجنوبية والوسطى بمجملها، هي أيديولوجية اندماج للمجتمعات السكانية الأصلية في هوية وطنية متجانسة. أعلنت الثورة المكسيكية عام ١٩١٠ أن هدفها هو «مكسكة الهنود، لا تهنيد المكسيك» (مالدونادو ٢٠٠٤)، طامسةً ظهور السكان الأصليين. وبحلول عقد السبعينيات كانت تظهر علامات على حركة للسكان الأصليين. كان أحد المؤشرات المهمة هو عقد مؤتمر للسكان الأصليين في سان كريستوبال دي لاس كاساس في عام ١٩٧٤، وهو الذي انبثق منه اتحاد الإيخيدوس (قوتنا من أجل التحرر في تزيلتالي) (لو بو ١٩٩٧: ٥٠). وعلى الرغم من أن ماركوس اعتاد التقليل باستمرار من أهمية الحركات الدينية، وخصوصًا الحركات الكاثوليكية المبنية وفق عقيدة التحرر، فمن الواضح أنه كان لها دور مهم في ظهور الوعي والشبكات بين السكان الأصليين (لو بو ١٩٩٧؛ ليفا سولانو ١٩٩٨). نُظِّم مؤتمر السكان الأصليين الأول في عام ١٩٧٤ من خلال الأسقفيات الكاثوليكية في سان كريستوبال دي لاس كاساس. واكتسبت هذه الحركة الأصلية الناشئة أهمية متزايدة قبيل إحياء الذكرى السنوية الخمسمائة للغزو الإسباني في عام ١٩٩٢. يُبرز لو بو أهمية هذه الذكرى؛ إذ يشار إلى الغزو الإسباني على نحو متزايد بأنه «العولمة الأولى»، عاكسًا وعيًا أصليًّا يؤكد خمسمائة عام من المقاومة. وتتجلى الأهمية الدولية لهذه الحركة في إقرار جائزة نوبل للسلام لسيدة جواتيمالية، وهي ريجوبرتا منشو، في الاحتفال بالذكرى السنوية عام ١٩٩٢ (لو بو، ٢٠٠٣).

وفي الذكرى السنوية نفسها، ١٢ أكتوبر ١٩٩٢، زحف بضع مئات من السكان الأصليين نحو تمثال دييجو دي ماثارييجوس، مؤسس العاصمة الاستعمارية للشياباس، في سان كريستوبال دي لاس كاساس. تسلق رجلٌ التمثالَ، وأزاله بمرزبة، مسقطًا إياه على الأرض، وحينئذٍ انقض عليه الحشد، محطمين إياه شظايا، وبعد تحطيم التمثال، عادوا إلى القرى وهم يحملون قطعًا منه للذكرى. وأعلنت لافتات المحتجِّين: «اليوم نُحيي ذكرى خمسمائة عام من تدمير شعبنا الهندي»، و«نلعن المعاهدة التي تسيء معاملتنا!» مشيرين إلى النافتا (دياس، ١٩٩٥، مقتبس في لو بو ٢٠٠٣). يزعم المؤرخ الأمريكي توماس بنجامين (٢٠٠٠) أن السكان الأصليين الذين حطَّموا هذا التمثال طالما كانوا يُعتبَرون «شعبًا بلا تاريخ»، ويُصوَّرون على أنهم سلبيون، أو كسالى، أو بوصفهم عقبات تعترض مسيرة التقدم في قلب المجتمع المكسيكي. وكما يفترض بنجامين، فالهجوم على التمثال هو هجوم على نموذج معين من التاريخ، نموذج الآثار والذكريات التي كان لها أثر تحويل السكان الأصليين إلى شعب بلا تاريخ.

وُلِدت الحركة الساباتيستية من اندماج عصابات لينينية تقليدية مع حركة دفاع مجتمعي مسلحة (دياس ١٩٩٦). وكان قرار الانتقال من الدفاع عن مجتمعات القرى إلى حمل السلاح ضد الحكومة في إطار الأوضاع المتردية في شياباس، والقمع الشامل الذي شهد توسعًا في استهداف السكان الأصليين بالاعتقال والسجن بوصفهما استراتيجية للتخويف والإذلال (دياس ١٩٩٥). وبكلمات أحد زعماء جيش ساباتيستا للتحرر الوطني:

وصلنا إلى مرحلة كان الأمر فيها صعبًا للغاية، حينما بدأ [الرئيس] ساليناس الحديث عن المعاهدة وعن التجارة الحرة وعن المادة ٢٧، وعن خصخصة الإيخيدو والمشروعات … فسَّر لنا المزارعون ما الذي كان يعنيه لبلدنا، وفي المقام الأول للمزارعين. ذلك [الإبطال] للمادة ٢٧ من شأنه أن يُفضي بنا إلى موقف مماثل يشبه [ما قبل ثورة ١٩١٧] تحت حكم بروفيريو دياس. «لا، يكفي هذا! يجب أن نعلن الحرب!» سألنا الجميع، وكان ذلك هو القرار. وهذا هو سبب حدوث ١ يناير ١٩٩٤. (الرائد موسز، قوبل في لو بو، ١٩٩٧، ١٨١)

يوضح موسز هنا المنطق الدفاعي بالأساس الذي أطلق النزاع المسلح، ذاكرًا إلى أي مدًى كانت انتفاضة يناير امتدادًا للاستراتيجية التقليدية للدفاع المسلح عن المجتمعات. ويفسر هذا أيضًا الافتقار إلى استراتيجية مصاحبة للانتفاضة. أعاد إعلان ماركوس، «الصحوة المكسيكية» (إل دسبيرتادور مكسيكانو)، توكيد استراتيجية «الفوكو» التقليدية للتقدم نحو العاصمة، ودحر الجيش الوطني، وإنشاء بنًى سياسية جديدة في المناطق المحرَّرة. كان النموذج نموذجَ تغيير من أعلى إلى أسفل من داخل التراث اللينيني: التركيز على الدولة، والاستيلاء على السلطة السياسية بقوة السلاح، ثم إعادة بناء المجتمع. وسبق أن دعا ماركوس كل المكسيكيين إلى الانضمام إلى العمل العسكري المسلح ضد الجيش والحكومة. لكن الانتفاضة المأمولة لم تحدث. وبالنظر إلى الماضي؛ إلى الانتفاضة الأولية، يقول ماركوس:

كان أملًا، حلمًا خفيًّا في المستوى الأعمق، لكن لم يكن له ما يبرره على الإطلاق. كان هناك قسم منا يأمل، خلافًا لكل الاحتمالات، أن يثور الناس معنا، ليس فقط الهنود، ولكن أيضًا الطلاب، والعمال، وعمال المكاتب، وليس فقط الشياباس، ولكن بقية المكسيك … لكننا لم نكن نصدق ذلك أيضًا بجدية. (ماركوس، في لوبو ١٩٩٧: ١٧٦)

بعد الانتفاضة الفاشلة، ارتدَّ الساباتيستيون إلى مواقع دفاعية، يطوقها نحو ٥٠٠٠ جندي. وتحولت الاستراتيجية إلى الدفاع عن القرى المستقلة ذاتيًّا، والاستحواذ على الأرض، مقلدة استراتيجيات الدفاع التقليدي عن المجتمعات الأصلية. يُبرز لو بو المخاطر الكامنة في هذه الاستراتيجية، مع ميلها الثابت نحو النزعة الجماعاتية، والواجب الأخلاقي للإجماع، الذي اكتسب في الأيام الأولى شكل نفي أولئك الذين لم يوافقوا على القرارات المتخذة من القرى. إلى الحد الذي أصبحت عنده القرى الساباتيستية معزولة، كان بالإمكان أن يتطور هذا إلى شكل من أشكال النزعة الألفية، ثقافة قمعية تتساوى فيها المخالفة مع الخيانة. تجلى هذا مثلًا فيما يفترض لو بو أنه كان النزوع الثابت إلى النقاء الحاضر في هذه الحركة، المتجلي مثلًا في حظر الكحول في المناطق الخاضعة لسيطرة الساباتيستا، أو في الأهمية المولاة للتأكد من أن يكون المساندون المتطوعون الأجانب تحت السيطرة، وألا يختلطوا بحرِّية أكثر من اللازم مع السكان الأصليين. وهكذا، كانت هناك احتمالية قوية بعد فشل الانتفاضة الأولية أن تتحول حركة الساباتيستا إلى حركة مجتمع مغلقة ودفاعية وربما بيوريتانية، بالمعنى الذي يعتبر كاستيلز وفقًا له أن الحركات الإثنية هي سياجات دفاعية ضد العولمة. غير أن ما حدث كان مختلفًا جذريًّا.

الأحلام والقصص والملتقيات: تحوُّل صراع

ثمة نزوع قوي في محاولة إدراك كنه السباتيستا إلى أن نُسقَط عليها التصنيفات التي نألفها بالفعل. يحلل الكنديان، جنستون ولاكسر (٢٠٠٣) مثلًا حركة الساباتيستا من خلال عدسة كندية للغاية، زاعمَيْن أن كلًّا من الساباتيستا في المكسيك والحشود الكندية المناهضة للاتفاق المتعدد الأطراف بشأن الاستثمار في أواسط التسعينيات يعكسان الصراع ذاته؛ وبالتحديد مقاومة الدولتين الكندية والمكسيكية كلٌّ فيما يخصها «خيانة الميراثين التاريخيين للقومية الاقتصادية» (٢٠٠٣: ٧٨). ومن وجهة نظر آخرين، تعني إشارات الساباتيستا المتزايدة إلى موضوع «الاستقلال الذاتي» أن صراعهم هو شكل من أشكال الأناركية، تعبير محلي عن نزعة تحررية مناهضة للدولة، مؤثرة في الحركات السياسية اليسارية، وخصوصًا في الولايات المتحدة. ومع ذلك فمن الواضح أن صراع الساباتيستا ليس تعبيرًا عن نزعة قومية اقتصادية، ولا أناركية محلية. فتمامًا منذ الزحف الأول على سان كريستوبال دي لاس كاساس، رفع الساباتيستيون عاليًا الراية الماركسية، وهم يريدون بوضوح تغيير الدولة والأمة، لا إزالتهما. بيد أن مشروع الأمة الذي كافحوا من أجله ليس نسخة مكسيكية من القومية الاقتصادية.

كانت استراتيجية الارتداد الدفاعية نوعًا من الانفتاح وعملية تحول لا يصفها تاشو — وهو زعيم محلي قابله ناجمان ولو بو (١٩٩٧) — بلغة البرامج والأهداف، ولكن بلغة الأحلام:

الزعيم تاشو : «أردنا أن نقابل الناس، كما كان الأمر حينما أخذنا سان كريستوبال أو سان آندريس، أتت جماعات كثيرة لرؤيتنا، وأردنا أن نشرح أسبابنا، لماذا كان علينا أن نحمل الأسلحة. حملنا الأسلحة لنعيش، ببساطة … لنعيش حياة بكرامة.»
موريس ناجمان (المحاور) : «ولكن مع ذلك، في البداية كنتم تتحدثون عن الاستيلاء على السلطة، وعن الاشتراكية، ألم تفعلوا ذلك؟»
تاشو : «في البداية، نعم. ولكن في الواقع، كنا قد بدأنا بالتغيير بالفعل. احتجنا أن نجد طريقًا. إذا أفاد حمل السلاح فقط في أن يصغي الناس لنا فحسن جدًّا … وإذا أمكننا أن نتحدث بعد أن تحدثت الأسلحة […]»
ناجمان : «مع هذه التغييرات، هل تغيرت طريقة تفكيركم وأيديولوجيتكم أيضًا؟»
تاشو : «نعم. يوميًّا. كنا معتادين أن نحلم، ومع كل حلم كنا نتعلم كيف نطبقه. لم يكن حلمًا واحدًا وحسب. لو كان حلمًا واحدًا لكان مسار الأسلحة. لكن الأمر لم يكن هكذا؛ أي مسار الأسلحة فقط. جاءت الأحلام الأخرى بقدر ما حلمنا بها.»
ناجمان : «ماذا تقصد بالأحلام الأخرى؟»
تاشو : «كان هناك حلم ثانٍ، بعد الانتفاضة، بخلق أول أجواسكالينتس [مكان مُقَام للحوار، مؤتمر أول للحوار الوطني الديمقراطي في أغسطس ١٩٩٤، الموقع الذي دمره الجيش لاحقًا وحوَّله إلى قاعدة عسكرية] … حلمنا ذات يوم أن يكون لنا ملتقًى قارِّي أمريكي وتحقق هذا الحلم أيضًا. لم نسقط في مصيدة الحلم الأول، حلم الأسلحة.» (لو بو ١٩٩٧: ١٨٩)
ووجهت هزيمة الشياباس وعسكرته بأشكال من الفعل هدفت إلى خلق ثغرات وصدامات. تم الكثير بفضل دور الإنترنت، وواضح أن شبكة الإنترنت لعبت دورًا حاسمًا في حشد شبكات المساندة، وفي المقام الأول في سياق انضمام المكسيك للنافتا، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ولكن، كما لحظ ماركوس، لم تكن التكنولوجيا هي العنصر الوحيد المهم؛ فقد كان ما قيل مهمًّا أيضًا. والاهتمام الفائق الذي وُجِّه إلى الساباتيستيين هو نتيجة قدرتهم على «إنتاج المغزى» (لو بو ١٩٩٧: ١٠٥). وهنا كان دور ماركوس بالغ الأهمية. فهو — من وجهة نظر بعض المراقبين — «مدير ماهر وفعال للعلاقات العامة.» لكن هناك ما هو أكثر من هذا. ماركوس هو شخص من غير السكان الأصليين، ولا يتظاهر بأنه منهم. ومع ذلك فهو يضطلع بدور حاسم، دور جسر بين عالَمَين. اتخذ كفاح الساباتيستا شكل ما يسميه لو بو «استراتيجية جيش غير عنيف يخدم إنتاج المغزى» (لو بو ١٩٩٧: ١٠٥). وعبر لقائه بكفاح السكان الأصليين، أصبح ماركوس حكَّاءً. وهو يحكي لقاءه بالرجل العجوز أنطونيو، ويصف كيف تعلم في هذا اللقاء أن يطرح الأسئلة، وقد نُشر اللقاء لأول مرة في «لا جورنادا»، وهي صحيفة مكسيكية مساندة للساباتيستيين، بعد عام تقريبًا من الانتفاضة الفاشلة:

البرد قارس في هذه الجبال. آنا مارِيا وماريو معي في هذه الرحلة قبل فجر يناير بعشر سنوات. الاثنان انضمَّا إلى جيش العصابات، واضطلعتُ أنا، الذي كنت في ذلك الوقت ملازم مشاةٍ، بدوري في تعليمهما ما علَّمني إيَّاه الآخرون: أن أحيا في الجبال.

صادفتُ أمس أنطونيو العجوز أول مرة. كلانا كذبنا — هو حين قال إنه كان في طريقه ليتفقد حقله، وأنا حين قلت إنني كنت بالخارج أصطاد. كلانا علم أننا كنا نكذب. وعلمنا أننا علمنا بذلك. تركتُ آنا مارِيا تتبع تعليمات الرحلة الاستكشافية، وعدتُ إلى النهر لأرى إن كنت أستطيع أن أحددَ على الخريطةِ باستخدام بوصلةٍ موقعَ تلٍّ مرتفع جدًّا كان قبالتنا. ولأرى إن كان بإمكاني مصادفة أنطونيو العجوز مرة أخرى. لا بد أنه كان يفكر في الأمر نفسه؛ لأنه ظهر في المكان نفسه حيث وجدتُه من قبل.

مثل اليوم السابق. أنطونيو العجوز يجلس على الأرض، متكئًا على كومة من العشب الأخضر، يشرع في لف سيجارة. جلستُ قبالته، وأشعلتُ غليوني. بادر أنطونيو العجوز: «أنت لا تصطاد.»

ردَدتُ: «وأنت لست في الطريق إلى حقلك.» شيء ما جعلني أتحدث بلهجة مهذبة — بأسلوب تبجيلي — إلى هذا الرجل العجوز مجهول العمر، بوجه لوحته الشمس مثل لحاء شجرة الأرْز الذي أراه الآن للمرة الثانية في حياتي. ابتسم أنطونيو العجوز، وأضاف: «سمعتُ بكم أيها الناس. في الوديان، يقولون إنكم لصوص. وفي قريتي قلقون لأنكم تسلكون هذه الدروب.»

سألته: «وأنت، هل تصدق أننا قُطَّاع طرق؟» نفث أنطونيو العجوز نفثة طويلة من الدخان، وسعل، وهز رأسه. استجمعتُ شجاعتي، وسألته سؤالًا آخر. «إذًا، مَن تظننا؟»

«أُفضِّل أن تخبرني.» قال لي هذا، وهو ينظر مباشرة في عيني.

قلت: «إنها قصة طويلة»، وشرعت في الحكي له عن زمن ساباتا وفيلا، والثورة، والأرض، والظلم، والجوع، والجهل، والمرض، والقمع، وعن كل شيء. ثم ختمت حكايتي قائلًا: «ولهذا فنحن جيش ساباتيستا للتحرر الوطني.» ترقَّبت إيماءة ما من أنطونيو العجوز الذي لم يكفَّ عن النظر إليَّ أثناء حديثي.

«أخبِرْني بالمزيد عن ساباتا.» قال هذا بعد نفخة وسعلة أخريين. بدأت بآنينيكويلكو، ثم تابعت بوثيقة «بلان دي أيالا»، والحملة العسكرية، وتنظيم القرى، وخيانة تشيناميكا. ويستمر أنطونيو العجوز في الحملقة فيَّ إلى أن انتهيت من حديثي.

رد قائلًا: «لم يكن الأمر كذلك.» وأنا مندهش، وكل ما أمكنني فعله هو أن أغمغم: «لا؟»

«لا»، أصر أنطونيو العجوز. «سأخبرك بالقصة الحقيقية عن هذا الذي يُسمَّى ساباتا.»

يُخرج أنطونيو العجوز تبغه، ويلف سيجارته، ويبدأ في قصته، قصة تختلط فيها الأحداث القديمة والحديثة، ويتوه بعضها في بعض مثلما يختلط الدخان المنبعث من سيجارته ومن غليوني ويتوه بعضهما في بعض.

«قصص كثيرة في الماضي، حينما كانت الآلهة الأولى — تلك التي خلقت العالم — لا تزال تطوف آناء الليل، كان هناك ذانِك الإلهان الآخران — إيكال وفوتان.»

«كان الاثنان واحدًا فقط. وحينما كان أحدهما يستدير كان الآخر يظهر. كانا ضِدَّين. كان أحدهما نيِّرًا مثل صباح من صباحات مايو عند النهر. وكان الآخر معتِمًا مثل ليلة من ليالي البرد في الكهوف. كانا الشيء نفسه. كانا واحدًا، ذانِك الاثنان؛ لأن أحدهما خلق الآخر، ولكنهما لم يكونا يتمشيان، بل كان هذان الإلهان اللذان كانا واحدًا يمكثان هناك دائمًا بلا حراك.

وسأل كلاهما: «ما الذي ينبغي أن نفعله إذًا؟»

«الحياة بائسة بما يكفي على هذا المنوال.» تحسَّر الاثنان اللذان كانا واحدًا في جلستهما بلا حراك.

قال إيكال: «الليل لا يمضي أبدًا.»

وقال فوتان: «النهار لا يمضي أبدًا.»

وقال الواحد الذي كان اثنين: «فلنمشِ.»

سأل الآخر: «كيف؟»

سأل الواحد: «أين؟»

«ورأيا أنهما قد تحركا قليلًا، بسؤالهما أولًا كيف، ثم بسؤالهما أين. الواحد الذي كان اثنين صار سعيدًا جدًّا حينما رأى الواحد أنهما كانا يحركان نفسيهما قليلًا. أراد كلاهما أن يتحركا في الوقت نفسه، ولكنهما لم يتمكنا من فعل ذلك بنفسيهما.»

«كيف يمكن أن نفعل ذلك إذًا؟»

ربما يلتفت الواحد أولًا، ثم الآخر، وربما يتحركان ولو قليلًا، وأدركا أنهما يمكن أن يتحرَّكا لو أن أحدهما ذهب أولًا ثم الآخر. وهكذا بدآ يمشيان. والآن، لا أحد يتذكر أيهما بدأ بالمشي أولًا؛ لأنهما كانا مسرورين للغاية في ذلك الوقت بمجرد أنهما كانا يتحركان.

قال الإلهان اللذان كانا واحدًا وكانا الشيء نفسه: ««ومن يهتم أيُّنا كان هو الأول ما دمنا نتحرك الآن؟» وضحك كلٌّ منهما للآخر، وكان أول اتفاق يبرمانه هو أن يرقصا، ورقصا، خطوة صغيرة بعد خطوة، ورقصا طويلًا؛ لأنهما كانا سعيدين للغاية أن وجد بعضهما بعضًا. ثم تعبا من كل هذا الرقص، وتطلَّعا إلى فعل شيء آخر … ورأيا أن السؤال الأول كان «كيف نتحرك؟» وأن الجواب كان «معًا، ولكن كلٌّ بمفرده، وبالاتفاق.» لكن لم يعد للسؤال أهمية؛ لأنهما أدركا أنهما كانا يمشيان بالفعل. وهكذا برز سؤال آخر حينما رأيا أنه كان هناك طريقان أمامهما: طريق كان قصيرًا جدًّا وكان يؤدي مباشرة إلى هناك، وكان بإمكانهما أن يريا بوضوح أن هذا الطريق سينتهي سريعًا، وكانت أقدامهما مليئة بالسعادة من المشي لدرجة أنهما قالا حينئذٍ إن الطريق الأول أقصر مما ينبغي، وإنهما لم يريدا أن يسلكاه؛ ولذلك عقدا اتفاقًا، أن يخوضا الطريق الطويل.

«كانا يَهُمَّان بالسير حينما جلبتْ إجابتُهما باختيار الطريق الطويل سؤالًا آخر؛ «إلى أين يأخذنا هذا الطريق؟» أمضيا وقتًا طويلًا للتفكير في الإجابة، وتوصل الاثنان اللذان كانا واحدًا إلى الفكرة المشرقة بأنهما سيعرفان أين يمضي بهما الطريق فقط حينما يخوضان الطريق الطويل. وإذا ما ظلَّا حيث هما فلن يعرفا أبدًا إلى أين يُفضي الطريق الطويل. وقال الاثنان اللذان كانا واحدًا لبعضهما البعض: «فلنَخُضْه إذًا»، وبدآ المشي، الواحد أولًا ثم الآخر. وحينئذٍ فقط وهناك أدركا أن خوض الطريق الطويل كان يستغرق وقتًا طويلًا، وهكذا برز سؤال آخر: «كيف سنخوض طريقًا طويلًا هكذا؟» مكثا يفكِّران مليًّا، وحينئذٍ قال إيكال بوضوح حقًّا إنه لا يعرف كيف يسير بالنهار، وقال فوتان إنه لا يعرف كيف يسير بالليل، وبكيا طويلًا.»

«وحينما انتهى كل النحيب والصراخ، توصَّلا إلى اتفاق، ورأيا أنه سيكون جيدًا لإيكال أن يسير بالليل فقط، ولفوتان أن يسير خلال النهار فقط، وأن إيكال سيسير بالنيابة عن فوتان أثناء الليل، وهكذا توصَّلا إلى إجابة السؤال عن السير طوال الوقت. ومنذئذٍ سار الإلهان بالأسئلة، ولم يتوقَّفا أبدًا، أبدًا؛ لا يصلان أبدًا، ولا يبتعدان أبدًا. بهذه الطريقة تعلَّم الرجال والنساء الحقيقيون أن الأسئلة للسير، لا ليقفوا محلَّهم وحسب ولا يعملوا شيئًا. ومنذئذٍ، حينما يريد الرجال والنساء الحقيقيون السير يسألون أسئلة. حينما يريدون الوصول يغادرون. وحينما يريدون المغادرة يقولون مرحبًا. ليسوا ساكنين أبدًا.»

تُرِكْتُ أقضم طرف غليوني القصير وأعض عليه، وأنا أنتظر أن يواصل أنطونيو العجوز حكايته، لكن بدا أنه لم تعد به نية لفعل ذلك. وخشية أن أقاطع شيئًا بالغ الجدية، سألت: «وساباتا؟»

ابتسم أنطونيو العجوز، ورد: «لقد تعلمتَ أنه لكي تعرف وتسير فلا بد أن تسأل أولًا.» يسعل ويشعل سيجارة أخرى لم أدرِ أنه لفَّها، ووسط الدخان الذي ينبعث من بين شفتيه، كانت الكلمات تتساقط كالبذور إلى الأرض: «الشخص الذي يدعونه ساباتا ظهر هنا في الجبال. يقولون إنه لم يولد هو نفسه. ظهر وحسب، هكذا فقط. يقولون إنه هو إيكال وفوتان اللذان أتيا إلى هنا حينما كانا في مسيرتهما الطويلة، وحتى لا يخيفا الناس الطيبين، أصبحا واحدًا. ولأنه بعد أن سارا كثيرًا معًا اكتشف إيكال وفوتان أنهما كانا واحدًا، والشيءَ نفسه، وأن بإمكانهما أن يجعلا نفسيهما واحدًا خلال النهار والآخر خلال الليل. وحينما وصلا إلى هناك، جعلا نفسيهما واحدًا، ومنحا نفسيهما اسم ساباتا …»

«وقال ساباتا إن هذا هو المكان الذي وصل إليه — حيث كان يمضي ليكتشف إلى أين يُفضي الطريق الطويل، وقال إنه سيكون نورًا حينًا وظلامًا أحيانًا أخرى، لكنه كان واحدًا، وكان الشيء نفسه، فوتان ساباتا وإيكال ساباتا، ساباتا الأبيض وساباتا الأسود. وكان هذان الاثنان هما معًا الطريق نفسه الذي ينبغي لكل الرجال والنساء الحقيقيين أن يتبعوه.»

أخذ أنطونيو العجوز كيسًا صغيرًا مصنوعًا من النايلون من حقيبة ظهره. وكانت بداخله صورة قديمة من عام ١٩١٠ لإيميليانو ساباتا. وكان ساباتا يمسك في يده اليسرى سيفه مرفوعًا حتى وسطه. وفي يده اليمنى كان معه مسدس، ويحيط بصدره حزامان من الطلقات، واحد من اليسار إلى اليمين والآخر من اليمين إلى اليسار. قَدَماه في وضع كما لو كان يقف ثابتًا أو يمشي، وكان في نظرته شيء مثل «ها أنا ذا» أو «ها أنا أمضي.» ويوجَد دَرَجان. واحد يأتي من الظلام، وهناك ساباتيستيون داكنو البشرة كما لو أنهم آتون من شيء ما. والدَّرَج الآخر مُضاء، ولكن لا يوجد أحد، ولا يمكن للمرء أن يرى أين يمضي أو من أين يأتي. سأكون كاذبًا لو أخبرتك بأنني لحظت كل تلك التفاصيل. كان أنطونيو العجوز هو الذي أخبرني. ومن خلف الصورة مكتوب بالإسبانية والإنجليزية والفرنسية عبارة:

«الجنرال إيميليانو، القائد العام للجيش الجنوبي.

عام ١٩١٠ تقريبًا. تصوير: أوجستين كاساسولا.»

قال لي أنطونيو العجوز: «سألتُ أسئلة كثيرة عن هذه الصورة. وبهذه الطريقة صرت هنا.» ثم سعل وألقى عقب السيجارة. أعطاني الصورة. وقال: «ها هي، حتى تتعلم كيف تطرح الأسئلة … وتسير.»

«يحسن أن تقول وداعًا حينما تصل. بهذه الطريقة لا يكون الأمر مؤلمًا جدًّا حينما تغادر.» قال لي ذلك مصافحًا إياي وهو يغادر، بينما كان يخبرني بوصوله. ومنذ ذلك الحين، يرحِّب أنطونيو العجوز بقول «إلى اللقاء»، ويودِّع بقول «مرحبًا.»

غادر أنطونيو العجوز. وكذلك بيتو، وتونيتا، وإيفا وهيريبرتو. أخرجت صورة ساباتا من حقيبة ظهري، وأريتها لهم.

قال بيتو: «أهو في طريقه إلى الصعود أم الهبوط؟»

وسألت إيفا: «أيمضي أم يمكث؟»

وسألت تونيتا: «هل يسحب سيفه أم يغمده؟»

وسأل هيريبرتو: «هل انتهى من إطلاق مسدسه أم بدأ توًّا؟»

يدهشني دائمًا كم الأسئلة التي تثيرها الصورة التي يبلغ عمرها ٨٤ عامًا التي أعطانيها أنطونيو العجوز عام ١٩٨٤. أنظر إليها نظرة أخيرة، وأقرر أن أعطيها آنا مارِيا، وتثير الصورة سؤالًا آخر: أهو أمسُنا أم غَدُنا؟١

لا يطالب الساباتيستيون فقط بالراية المكسيكية، ولكن أيضًا بميراث إيميليانو ساباتا؛ العَلَم التاريخي العظيم للثورة المكسيكية. ولكن في القصة التي حكاها ماركوس، يصبح ساباتا جزءًا من الحلم الماياوي — فوتان ساباتا — بينما يدَّعي الحلم الماياوي أيضًا من خلال القصة جزءًا من القصة المكسيكية. وتُشير قصص ماركوس عن مقابلاته مع أنطونيو العجوز إشارات دائمة إلى الأحلام وفعل الحلم. فمن خلال المقابلة مع أنطونيو العجوز يقول ماركوس إنه عرف كيف يتحرَّر من أيديولوجية قديمة، ويتعلم أن يحلم (لو بو ١٩٩٧). قوة الأحلام الكامنة، يدرك أهميتها سكان المكسيك الأصليون على وجه الخصوص (انظر إيبر ٢٠٠١). في الفترة التالية لعام ١٩٩٤، أصبحت الأحلام والقصص متزايدة الأهمية؛ إذ أرسل ماركوس هذه القصص والأحلام إلى الصحف المتعاطفة في مكسيكو سيتي، التي انتشرت منها داخل البلد، وخارجها (جُمعت وتُرجمت في كتب لاحقًا). وأصبحت أهم في الظهور التدريجي لشخص ماركوس والقصص التي يحكيها عن شخصيات مثل أنطونيو العجوز، ودون دوريتو. أنطونيو العجوز إنسان، لكن دون دوريتو خنفس قاسي الظهر مشاكس بعض الشيء. وهو رمز للهجرة، ولكن في القصص التي يحكيها ماركوس، يعيش حياة من صنعه، بينما زعم ماركوس في عمل آخر أن أنطونيو العجوز كان موجودًا فعلًا، وعلَّمه بالفعل بالطريقة التي حكاها. تحظى هذه القصص بطبيعة أشبه بالحلم. ولا تحظى ببناء زمني خطِّي، وهي في تضادٍّ مع قصة وعظية مهيكلة لها بداية ونهاية. والأمر الحاسم في مقابلة أنطونيو العجوز هو صيرورة الانفتاح على إمكانية الحلم. في الثقافة الماياوية، الأحلام هي التي تجعل من الشخص إنسانًا.

حَكْي القصص أمر مركزي في الثقافة والتنظيم الاجتماعي الهنديين. ويشير كوراندو (١٩٩٣، في مالدونادو ٢٠٠١: ١٤٢) إلى جوانب أهميته المتعددة:

من خلاله يصاغ فهم الحياة الفردية والاجتماعية، وتُبنى الذاكرة الجمعية. ويمكن استخدامه لنقل تاريخهم، سواء الأسطوري أو الخرافي أو الحديث، ولتعليم الأخلاق وسلوك الجماعة، وأشكال تنظيمها الاجتماعي والديني، بوصفه طريقة لفهم العلاقة بين الإنسان والطبيعة … وأداة لاستمرارية الوحدة الاجتماعية وتماسكها.

يقع حكي القصص في مركز الذاكرة الماياوية. شجرة القابوق، الشجرة المقدسة عند الشعوب الماياوية، يمكن أن تُسمَّى أيضًا شجرة الكلمات؛ لأنه تحت هذه الشجرة يحدث الحديث والاستماع (مالدونادو ٢٠٠١). يمكننا أن نرى في قصص ماركوس نقلة من رطانة قوات التحرر الوطني وشعاراتها، التي كانت مستمرة في فهم العالم حينئذٍ بمعايير الثورة البروليتارية والاشتراكية (ووماك ١٩٩٩) إلى الطريقة التي يصف بها العالم بمعايير الثقافة الشفهية الماياوية. في البداية كانت قصص أنطونيو الأولى هامشية، مع بقاء أشكال التواصل الرئيسية بيانات رسمية مصوغة بلغة سياسية تقليدية، لكن قصص أنطونيو العجوز هي التي جذبت الانتباه وشاع تداولها. وهي تنبع من الأبعاد الرئيسية لثقافةٍ وتقليد شفهيين وتعبِّر عنهما؛ فهي تلتقط المزاج العام، والحيوية والأسلوب الدارج لمتحدثٍ يحكي قصة لجماعة؛ هذه القصص «حدث» مبني على أساس التحدث والاستماع. وهي تُظهر أيضًا الخصائص الرئيسية للثقافة الشفهية، والتكرار؛ الذي من خلاله تتخذ القصص أبعاد «الإيقاع» و«الموسيقية» الأساسية (مالدونادو ٢٠٠١: ١٤٣).

غالبًا ما تعارض مداخل فهم الأدب الثقافة الشفهية للمجتمعات التقليدية؛ إذ يُنظر إليها على أنها تعبر عن الثقافة الجمعية والنسخ، بينما يُنظَر إلى الرمز الحديث للمبدع والكاتب على أنه تعبير عن الفردي الذي يميز المجتمع الحديث. لكن هذا التضاد ينهار في حالة قصص ساباتيستا هذه. فالقصص تقدم تعقيدًا يصبح مشحونًا بمعانٍ جديدة أكثر مما يفعل هذا نقل المعلومات. وبدلًا من التكرار اللازمني للحكايات عن الآلهة وحدها، هذه القصص تشكلها ذاتية المؤلف، من خلال الفكاهة، والسخرية، والنقلات الزمنية غير المتوقعة (كولومبرز ١٩٩٧: ٧٥). وهي ليست نظامًا رمزيًّا، ولا تكرارًا متجاوزًا للزمن: لكنها مبادئ المواجهة بين متحدث متجسِّد ومستمع متجسِّد. وكما يفترض مالدونادو، فالمكان مركزي لهذه القصص. في هذه القصص نكون في مكان عبر الأحاسيس؛ فالقصص تبدأ باستمرار بماركوس وأنطونيو العجوز يتناقشان بشأن الطقس (مطر، وريح، وحرارة)، والحيوانات التي تحيط بهما (نمور، وطيور، وخفافيش، وغزلان). المكان حاسم الأهمية: «الغابة، برموزها المحددة، تشغل موقعًا أساسيًّا في قصص أنطونيو العجوز. ليست الغابة حصنًا لمقاومة الساباتيستا، ولكنها مكان لإبداع أدب شفهي» (مالدونادو ٢٠٠١: ١٥٢). يحيك أنطونيو العجوز هذه القصص بين نفثات سيجارته. هذه ليست خطابات ثورية يلقيها القائد من على المنصة. وليست قصص أبطال ورموز شعبيين؛ إنها محاورات راسخة في المكان، في الغابة، في الخبرة المنقولة من شخص إلى شخص. قصص ماركوس راسخة في التقليد الشفهي، لكن ماركوس يلعب دور المترجم حيث يسقط التمييز بين الشفهية الجمعية والأدب الفردي. لا يرفض فعل الساباتيستا الثقافة السائدة، مرتدًّا إلى الدفاع عن التقاليد؛ ولكنه يكشف عن إمكانية «ثنائية اللغة بين الشعوب» (مالدونادو ٢٠٠١: ١٤٤). لا تدعو القصص إلى بناء هوية هندية موحدة ضد الدولة المكسيكية. وبدلًا من ذلك، يتكرر موضوعان: الاعتراف بالآخر، وبمكنون السكان الأصليين.

في نهاية العام الأول بعد هزيمة الانتفاضة الأولية، كان لماركوس أن يكتب: «نعم، أعلم أن كتابة رسالة ليست بالتحديد هجومًا على «قصر الشتاء». لكن الرسائل جعلتنا نسافر إلى تلك المسافة» («لا جورنادا»، ١٣ ديسمبر ١٩٩٤).

في التقليد الماياوي، يعني الحلم أن تفعل. القصص أحلام نجحت في تجاوز الحصار العسكري المقام من حول إقليم ساباتيستا، أولًا! بطبعها من قبل الصحف المتعاطفة في مكسيكو سيتي؛ وبعد ذلك بتداولها عالميًّا.

التمرد على النسيان: الكرامة والاعتراف

بعض المراقبين لا يعتبرون أن بإمكان السكان الأصليين أن يكونوا هم الفاعلين في فعلٍ ما، وأن ينتجوا معناهم هم. يتجلَّى هذا في الحجة التي يصوغها عالم السياسة جويرمو تريخو. يزعم أن جيش التحرر الوطني وحركة ساباتيستا الأوسع مثال لحركة ماركسية-لينينية تقليدية، تحولت إلى حركة «إقليمية إثنية» في عام ١٩٩٦، بفضل جهود المستشارين الخارجيين الذين نجحوا في صوغ «الزهو الإثني الجماعي في برنامج سياسي من المطالب الإقليمية الإثنية». وكان هذا بدوره ممكنًا فقط نتيجة تطُّور الزهو الإثني بين السكان الأصليين، الذي كان هو نفسه نتيجة قوًى خارجية أيضًا:

مثل هذا التحول الجذري للساباتيستيين من طبقةٍ إلى إثنية أتيح من خلال عامل طويل المدى، وعامل قصير المدى. أما العامل الطويل المدى فهو أن الزهو واللغة الإثنيَّين وُجدا بالفعل على المستوى الجماعاتي، بالتحديد بوصفه الناتج غير المقصود لعمليات التنافس الديني والسياسي بين الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية والدولة في عقدَي السبعينيات والثمانينيات. وأما العامل القصير المدى فهو أن جماعة من العلماء والمثقفين الذين أدوا وظيفة مستشارين للساباتيستا في الجولة الثانية من مفاوضات السلام ساعدت جيش ساباتيستا للتحرر الوطني في صوغ الزهو الإثني الجماعي في برنامج سياسي من المطالب الإقليمية الإثنية … ولولا المستشارون، لبقي الزهو الإثني الجماعي دفينًا، في الماضي، تحت قبعة الريفي. (تريخو ٢٠٠٢: ١٠٤-١٠٥)

يعتبر هذا الرأي أن فعل حركة ساباتيستا هو عاقبة عمليات أخرى. «الزهو الإثني» هو العاقبة غير المقصودة لتنافس الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية على حصة في السوق، ولم يكن ليعبَّأ إلا لاحقًا بفعل المثقفين الأجانب الذين لولاهم لبقي مدفونًا تحت «قبعة الريفي». تعتبر هذه الرؤية مرة أخرى أن المجتمع السكاني الأصلي غير قادر على إنتاج خبرته. السكان الأصليون ليسوا فاعلي فِعْلِهم هم، فبدلًا من ذلك، فعلُهم هو العاقبة غير المقصودة لقوًى أخرى. ووفق هذه الرؤية يبقى تاريخ المكسيك صنيعة الآخرين، لا السكان الأصليين.

بعد فترة وجيزة من فشل الانتفاضة، نرى تحولًا واضحًا في شكل الفعل. لكن هل إعادة التعريف هذه هي تعبير عن «زهو إثني» ناتج من إعادة توجيه مُدارة من جانب «مستشارين خارجيين» وعلماء اجتماع؟ بدلًا من التركيز على الاستحواذ على الإقليم، والسيطرة على الحكم وتحويل المجتمع من خلال الدولة، بدأ فعل الساباتيستا يتحول مباشرة مع المفاوضات التي أعقبت الانتفاضة الفاشلة، في فبراير ١٩٩٤. خلال «حوار السلام» الذي حدث يوم ٢٤ فبراير، يصف ماركوس الساباتيستيين بأنهم شعب «بلا أصوات، بلا وجوه». أدى هذا بقوة إلى خبرة جعلهم غير مرئيين، ومحوهم من تاريخ البلد، والحكم عليهم بالنسيان، وهي الخبرة نفسها التي يمر بها من يعانون من الاستعمار (انظر www.casa115.com/blog/zapatistas-thumb.jpg).

كانت لصورة أولئك الذين هم «بلا أصوات وبلا وجوه» الموحية قوة فائقة، مقترنة اقترانًا وثيقًا بمعنى القناع وقوته. حينما خرج الساباتيستيون من الغابة لاحتلال سان كريستوبال دي لاس كاساس، ارتدوا أقنعة تغطي وجوههم. ويرجع السبب في ارتداء القناع إلى الخوف الحقيقي جدًّا من خطر الممارسات الانتقامية، وهو خوف مؤسَّس خصوصًا على خبرات اللاجئين الجواتيماليين الذين التمسوا الملجأ في الشياباس، في أعقاب الأعمال الانتقامية وسياسة القتل النظامية التي اتبعها ريوس مونتي في المناطق الجواتيمالية المجاورة للمكسيك. وسرعان ما تغيَّر معنى القناع. أصبح ارتداء القناع فعلًا مؤثرًا، بإظهار حقيقة تعرُّض المرتدي للإخفاء. وهذا معبَّر عنه في ملصق للساباتيستا بعنوان «طوال ٥٠٠ عام كان وجهنا مُحرَّمًا. لماذا تطلبون أن تروه الآن؟»

يستثير القناع أيضًا موضوعات مؤثرة في الثقافة الأصلية؛ حيث إنه وسيطٌ فعَّال للاتصال بمصادر القوة. كل الآلهة الماياويين ممثلون بالأقنعة. واعتاد المُداوون التقليديون والشامانون ارتداء قناع من أجل النفاذ إلى مصدر من مصادر القوة وممارسة الحلم؛ تلعب الأقنعة دورًا مركزيًّا في خبرات الرقص والنشوة التقليدية؛ حيث يصبح مرتدي القناع مَعْبَرًا للوصول إلى القوة الكونية. هذا الفهم للقناع حاضر بوضوح في فعل الساباتيستا. قتال الساباتيستا هو «قتال ضد النسيان» (بيان ١٤ فبراير ٢٠٠٤)، بينما يُنظر إلى الحكومة المكسيكية على أنها تحاول طمس الذاكرة. ليس القناع في المقام الأول رمزًا لحقيقة أن السكان الأصليين جُعِلوا صامتين وغير مرئيين؛ ولكنه ما يمكن أن نسميه أداة للذاكرة، الذاكرة بوصفها فعلًا. فهو يقيم علاقة مع أولئك الغائبين:

في صوتنا سينتقل صوت الآخرين، من أولئك الذين لا يملكون شيئًا، أولئك المقضي عليهم بالصمت والتجاهل، أولئك المقتلَعين من أرضهم ومن التاريخ بغرور الأقوياء، من كل أولئك الرجال والنساء الطيبين الذين يسْعَون في مناكب الألم والغضب هذه، من الأطفال والشيوخ موتى الإهمال والعزلة، من النساء المَهِينات، من الرجال الواهنين. من خلال أصواتنا سيتحدث الموتى، موتانا، الوحيدون والمنسيون جدًّا، موتى جدًّا لكنهم أحياء جدًّا في أصواتنا وفي خطوات أقدامنا. (ماركوس، مقتبس في مونسيفيه ١٩٩٧: ١٤٦)

يستثير القناع موضوعات في الثقافة الشعبية المكسيكية؛ حيث هو أداة البطل الذي يقاتل من أجل العدالة ضد الطغيان. في سبتمبر ١٩٨٥ دمر مكسيكو سيتي زلزال، وأفضت الأحداث التي تلت ذلك إلى فقدان فادح للثقة بالدولة. أعلنت الشخصيات البارزة الرسمية أن نحو ٥٠٠٠ إنسان ماتوا، بينما قدرت الصحافة أن الرقم يتجاوز ٣٠ ألفًا. وقعت أغلبية الوفيات من جراء انهيار مبانٍ يقل عمرها عن ٤٠ سنة، علامة على ازدهار ممارسة البناء الرديء في ظل الفساد. وكانت استجابة الحكومة مفتقرة للتنظيم والفاعلية. وفي هذا السياق ظهرت الاتحادات وجماعات الطوارئ، مسمِّين أنفسهم «المجتمع المدني». وفي هذا السياق أيضًا شاع تداول حكايات عن جهود إنقاذٍ خارقة. نُسِب إلى شخص، وهو «البرغوث»، أنه كان يتسلق داخل المباني المنهارة، وينتشل الناس أحياءً، بينما كان المسئولون يقفون مكتوفي الأيدي. وفي حالة أخرى، نظَّم رجل كان يرتدي قناعًا وسروالًا ضيقًا أحمرين لمصارع، ويدعو نفسه «سوبرباريو» مطابخ لإعداد الحساء، وأنشطة إغاثية أخرى، وتولى مهمة الدفاع عن أولئك الذين كانوا يُبعَدون من منازلهم في أعقاب الزلزال. لم يكن سوبرباريو على مثال أسطورة ماياوية، ولكن على غرار أبطال كتاب رسوم كاريكاتيرية أمريكي، لكن فعله اجتذب انتباهًا إعلاميًّا غير متوقَّع. وصار ناشطًا في جمعية الأحياء السكنية التي نشأت بعد الزلزال في مكسيكو سيتي. وبعد عقدٍ كان سوبرباريو لا يزال يتصرف بناءً على وصفه لنفسه بأنه «مُدافع عن العدالة»، مساندًا المشرَّدين والمطرودين، ووصفه صحافي أمريكي في عام ١٩٩٧ بأنه «محارب صليبي ذو قلنسوة رخوة وسروال أحمر كالكرز، ضيق، يجوب شوارع مكسيكو سيتي، مدافعًا عن الطبقة الدنيا» (سي إن إن، ١٩ يوليو ١٩٩٧) (انظر www.childrensworld.org/superbarrio/jolanda.asp).
ليس قناع سوبرباريو بغريب تمامًا عن قناع ماركوس؛ فهو يلتقط المعنى الكامن في الثقافة الشعبية بأن القناع يخفي قوة خارقة. غير أن هذا الشكل من أشكال القوة شديد التواضع في الحالتين. يقلد سوبرباريو شخصية مصارع، بينما ارتدى ماركوس في الفترة التالية للانتفاضة الأولى شخصية مقاتل ليس مقاتلًا، الرصاصات في الحزام الذي كان يرتديه على كتفه لا تناسب المسدس الذي كان يحمله (انظر http://www.ezln.org/fotos/marcos.jpg).

عقب هزيمة الانتفاضة، انصبَّ فعل الساباتيستا على «المجتمع المدني»، استهدف إعادة تشكيل المجتمع، مقابل الاستحواذ على قوة الدولة. وكانت إحدى الطرق الأساسية لتحقيق هذا هي من خلال الملتقيات؛ حيث دعا الساباتيستيون إلى «مجتمع مدني» يلتقي معهم، يستكشف سبل التوصُّل إلى مجتمع مصوغ مجددًا. عُقد اللقاء الأول، وهو «المؤتمر الوطني الديمقراطي»، في لا رياليداد في أغسطس ١٩٩٤، بينما انعقدت أربعة مؤتمرات أخرى في أماكن أخرى تدعى أوفينتيك، وموريليا، وروبرتو باريوس، وفرانسيسكو جوميس. أنشأ الملتقى الأول جبهة، هي جبهة التحرر الوطني لتكون منظمة سياسية. لكنها كانت جبهة سياسية من أجل مساندة تنمية «المجتمع المدني»: لم تكن تنشد القوة السياسية بذاتها، ولم يكن مسموحًا لقادتها أن يرشحوا أنفسهم لأي منصب سياسي. سُمِّي المُلتقى الأول والملتقيات التالية له «أجواسكاليينتس» (الينابيع الساخنة) على اسم البلدة التي التقى فيها عام ١٩١٠ ساباتا وفيلا وزعماء الثورة المكسيكية الآخرون ليقرروا اتجاه الثورة. ولكن في هذه الحالة، كانت الأجواسكاليينتس معسكراتٍ منشأةً من أجل هذه اللقاءات.

أقيم أول أجواسكاليينتس على مكان بلا اسم، في أعماق غابة لاكاندونا المطيرة، في بلدية جوانداليوب تيبيياك. وسمِّي هذا المكان المبتكَر «لا رياليداد» (الواقع)، رغم أن الخيال شكَّله في أعماقه. أمضى مئات الساباتيستيين ٢٨ يومًا يعملون على الموقع، معششين في وهدة بين ذروتين. قُطعت مقاعد خشبية بدائية الصنع لنحو ٨٠٠٠ إنسان، ونُشرت على أحد التلال، ومُدَّت كوابل معدنية بين الذروتين، وعبرها مُدَّ ما يقرب من ٤٦٠٠ متر مربع من القماش السميك الأبيض. هذه الأشرعة العملاقة أعادت إنتاج سفينة فتسكارالدو الشهيرة من الفيلم الذي أخرجه فيرنر هيرتسوج. في هذا الفيلم يريد هيرتسوج أن يبني دار أوبرا وسط الغابات البرازيلية. ولكن معظم الأرض بحوزة بارونات المطاط مالكي الأراضي، باستثناء موقع واحد في عمق إقليم هندي. وليصل إلى هنالك، كان على فيتسكارالدو أن يسافر بحرًا، ولكن طاقمه يهجر السفينة في خوف، ويلتمس فيتسكارالدو وقد زاد استحواذ هدفه عليه المساعدة من الهنود لكي يسحبوا سفينته فوق جبل، الطريق الوحيد المتبقي ليصل إلى أرضه (انظر http://www.hackitectura.net/osfavelados/osfavela2002/anarchogeographies/urbanarquista/urbanarquista.html).

قبل الحدث، لم يكن واضحًا كم عدد الناس الذين سيأتون إلى الأجواسكاليينتس الأول، بعد ثمانية أشهر من الانتفاضة. وفي النهاية حضر نحو ٦٠٠٠ شخص، من المكسيك ومن بلدان أخرى، وخصوصًا من الولايات المتحدة. سافروا في نحو ٢٠٠ حافلة، عابرين نقاط تفتيش الجيش المكسيكي، ومتوغلين في إقليم الساباتيستا. في بداية الملتقى، التقى المشاركين القائدُ تاشو بتعبير «مرحبًا بكم على متن السفينة.» سيحكي كثيرون من الذين أتَوْا فيما بعد عن رحلتهم، والموضوع الثابت هو عن رحلة في مكان ساحر، رحلة في الخيال. وصف كارلوس مونسيفيه — وهو أحد رواد النقاد الثقافيين في المكسيك — الملتقى بأنه خليط من «(مهرجان) وودستوك، و(فيلم) «ماكس المجنون، الجزء الرابع» (ماد ماكس آي في)، وسفينة المجانين» (مقتبس في بيريز دي لاما، ٢٠٠٠). وأشار ماركوس إلى المكان بأنه «برج بابل، وفُلك نوح، وقارب فيتسكارالدو، وحُمَّى ساباتسيستية جديدة، وسفينة قرصان».

القناع

ليس القناع رمزًا فقط؛ إنه ينقل خبرة جَعْل المرء خفيًّا؛ جَعْله بلا وجه. أصبح هذا التعريف المؤثر مصاغًا بقدر أكبر وأكبر في لب حراك الساباتيستا. في تقديمه جيش ساباتيستا للتحرر الوطني إلى المشاركين في الملتقى الثاني، يلتقط ماركوس هذا المعنى حينما يقول:
نحن جيش ساباتيستا للتحرر الوطني.
على مدى عشرة أعوام، عشنا في هذه الجبال، نتأهب لخوض حرب.
في هذه الجبال، بنينا جيشًا.
في الأسفل، في المدن والمزارع، لم يكن لنا وجود.
كانت قيمة حياتنا أقل من الآلات والحيوانات.
كنا مثل الحجارة، مثل النباتات البرية في الطريق.
أُخرِسنا.
كنا بلا وجوه.
كنا بلا أسماء.
لم يكن لنا مستقبل.
لم يكن لنا وجود.
ثم ذهبنا إلى الجبال لنجد أنفسنا، ولنرى إن كنا نستطيع تخفيف تألُّمنا من كوننا حجارة ونباتات برية منسية.
هنا في جبال جنوب شرقي المكسيك يُبعث موتانا. يعلم موتانا الذين يحيون في الجبال أشياء كثيرة.
يحدثوننا عن موتهم، ونسمعهم.
تتحدث الأكفان، وتخبرنا بقصة أخرى تنبثق من الأمس، وتشير إلى الغد.
تحدثت الجبال إلينا، نحن «الماثيهوالوب»، نحن الناس المألوفين والعاديين.
نحن أناس بسطاء، كما يقول لنا الأقوياء.
كل يوم وفي الليلة التالية، يريد الأقوياء منا أن نرقص رقصة «الإكِس-تول»، وأن نكرر غزوهم الوحشي.
«الكاس-دسول»، الرجل المزيف، يحكم أراضينا، ويمتلك آلات الحرب العملاقة التي، مثل «البوب» التي هي نصف فهد ونصف حصان، تنشر الألم والموت بيننا.
الحكومة الغشاشة ترسل إلينا «الألوكسوب»، الكذابين الذين يخدعون شعبنا ويجعلونهم ناسين.
لهذا السبب صرنا جنودًا.
لهذا السبب نظل جنودًا.
لأننا لا نريد المزيد من الموت والغش لشعبنا؛ لأننا لا نريد مزيدًا من النسيان.
الجبل طلب منا أن نمتشق السلاح حتى يصبح لنا صوت.
طلب منا أن نغطي وجوهنا حتى يصبح لنا وجه.
طلب منا أنا ننسى أسماءنا حتى يمكن أن نُسمَّى.
طلب منا أن نحمي ماضينا حتى يكون لنا مستقبل.
في الجبال، الموتى يعيشون: موتانا.
ويعيش معهم فوتان وإيكال، النور والظلمة، البلل والجفاف، التراب والريح، المطر والنار.
الجبل هو موطن الهالاتش إيونيك، الإنسان الحقيقي، السيد الكبير.
هنا تعلمنا وتذكرنا أننا نحن نحن، الرجال والنساء الحقيقيون.
بدأنا الحرب في العام صفر، وشرعنا في خوض هذا المسار الذي أوصلَنا إلى قلوبكم، ويأتي بكم اليوم إلى قلوبنا.
هذا هو نحن.
جيش ساباتيستا للتحرر الوطني.
الصوت الذي يتسلَّح ليُسمَع.
الوجه الذي يستتر ليُرى.
الاسم الذي يتخفَّى ليُسمَّى.
النجمة الحمراء التي تناشد الإنسانية والعالم لتُسمَع، ولتُرى، ولتُسَمَّى.
الغد المحصود في الماضي.
من خلف قناعنا الأسود.
من خلف صوتنا المسلح.
من خلف اسمنا اللا مُسمَّى.
من خلف ما ترونه منا.
من خلف هذا، نحن أنتم.
من خلف هذا، نحن الرجال والنساء البسطاء العاديون أنفسهم المكررون في كل الأجناس، الملونون بكل الألوان، يتحدثون بكل اللغات، ويَحيَون في جميع الأماكن.
الرجال والنساء المنسيون أنفسهم.
المستبعدون أنفسهم.
غير المحتمَلين أنفسهم.
المضطَهدون أنفسهم.
مثلكم.
من خلف هذا، نحن أنتم.
من خلف أقنعتنا وجه كل امرأة مُقصاة.
كلِّ شعب أصلي منسي.
كلِّ مثليِّ الجنس مضطهد.
كلِّ شاب محتقَر.
كلِّ مهاجر مهزوم.
كلِّ المسجونين بسبب كلماتهم أو آرائهم.
كلِّ العمال الأذلاء.
كلِّ هؤلاء الموتى من الإهمال.
كلِّ الرجال والنساء البسطاء والعاديين الذين لا يؤبه لهم، ولا يُرَون، ولا يُسَمَّون، ولا غد لهم. (ماركوس، ٢٧ يوليو ١٩٩٦)

خطاب ماركوس والقوة التي يستنهضها هما مما يجد جانب كبير من العلم الاجتماعي صعوبة في فهمه: إنه تعبير عن خرافة. طالما ظل المجتمع المتعقلن الحديث يُعتبر مجانبًا للخرافة؛ فقد افتتحت الثورة العلمية للقرن السابع عشر حداثة يحتل فيها «اللوجوس» محل «الميثوس». وتجلى هذا خصوصًا في أنماط التنظيم السياسي التي انبثقت من الماركسية، التي ترى نفسها تعبيرًا عن اشتراكية «علمية»، تمتلك مفاتيح التاريخ أو قوانينه. شكَّل هذا الفهم للعلم مفهوم «الأيديولوجيا» الذي ظهر على مر القرن العشرين، وهو الذي تشبَّع به جيين بعمق حينما كان طالبًا. وتزعم مقاربات معاصرة كثيرة لدراسة الحركات الاجتماعية أن نموذج الأيديولوجيا الأقدم حلَّت محله الهوية. ولكن، في هذه الحالة، ثمة شيء مختلف عمليًّا. يربط عالم الاجتماع الإيطالي ألبرتو ميلوتشي (٢٠٠٠: ٧٥) بين «الخرافة» وصور «الفعل». وكما يزعم، فالفعل تشكله خبرة بالافتقار أو الحاجة — شيء بيولوجي وثقافي معًا. الجوع مثلًا يُترجم إلى فعل الأكل، لكن هذا بذاته غير كافٍ. والمسائل المطروحة ليست بيولوجية وحسب، ولكنها مسائل اجتماعية وثقافية، تُفضي إلى إبداع الطهو والأطعمة وتقع في صلب الحياة والتفاعل الاجتماعيين، ما هو حاسم هنا كما يقول ميلوتشي هو حقيقة أن «الفعل سيظل دائمًا قاصرًا»، سيكون ثمة مجال من الخبرة خارج نطاق قدرتنا على الفعل، إنها خبرة النقص. وبينما تَعِد الأيديولوجيا بسد هذا الغياب أو هذه الفجوة، فالخرافة تستكشفها.

من وجهة النظر هذه، فالخرافة ليست «هوية»، ولا «سمة»، ولا نظامًا رمزيًّا. إنها «حدث»، قصة تقال؛ محكية. «إنها حدث مجتمعي يتخذ شكلًا فقط من خلال الحكي، من خلال الكلمات التي كلما تكررت تنعش الجماعة» (ميلوتشي ٢٠٠٠: ٧٨). يشير هذا إلى أهمية حكي ماركوس القصص، وإلى فعل الحلم الذي نلقاه باستمرار في خبرة الساباتيستا. مكان لا اسم له يصير موقعًا للهجرة، يسمَّى «الواقع». يساعدنا هذا على فهم مغزى القناع. القناع ليس رمزًا لهوية. مرتدو القناع يطالبون بالذاكرة بوصفها ذاكرتهم، إنه وسيلة للتذكر، وسلاح ضد النسيان، إنه يوسع الفعل الذي رأيناه يحدث في ١٢ أكتوبر ١٩٩٢، حينما حطم رجال ونساء أصليون تمثالًا يرمز إلى نسيانهم.

كانت قوة القناع جلية بالفعل في الأجواسكاليينتس الأول في عام ١٩٩٤. في منتصف خطابه في الليلة الأولى، سأل ماركوس المشاركين عما إذا كانوا يريدون منه أن يخلع قناعه، وكانت الإجابة «لا» مدوِّية! «من خلال القناع، يصبح المرتدي جزءًا من إعادة حَكْي الخرافة». يمتزج صوت المرتدي بأصوات الموتى، أصوات الجبل، أصوات أولئك الذين لا صوت لهم. قوة الذاكرة مركَّزة من خلال الأماكن والأحداث. وفي أول أجواسكاليينتس ظهر شعار «كل شيء لكل شخص، لا شيء لنا.» بارتداء القناع، كان الساباتيستيون قادرين على الادعاء «من وراء هذا، نحن أنتم.» وسيكون لهذا قوة فائقة. يمكننا أن نرى هذا في الأحداث التي أعقبت قرار الحكومة المكسيكية في فبراير ١٩٩٥ باستئناف الصراع المسلح وإلحاق هزيمة عسكرية بالساباتيستيين. استُقبل بدء الفعل العسكري باحتجاجات شوارع حاشدة في مكسيكو سيتي ومدن أخرى رئيسة. أكدت هذه المسيرات شيئًا أكثر من التضامن مع كفاح الساباتيستيين. وكان الشعار الذي بدأ يظهر على شوارع مكسيكو سيتي، وهو الذي سيتعولم في السنوات التالية، هو «كلنا ماركوس» (تودوس سوموس ماركوس).

لهذا، حافظ ماركوس على ارتداء قناعه مدة طويلة بعد أن صارت هويته معروفة. استخدم جيين اسم «ماركوس» ليتذكر «رفيقًا» قُتل في الأيام الأوائل من حرب العصابات. وبصيرورته الشخص الذي أُنكِرت هويته، يصبح الساباتيستيون كل مَن جُعل خفيًّا، كل مَن اختفى حينما انتصر النسيان على الذاكرة. ومن وجهة نظر ماركوس، فهذه خبرة تحوُّل شخصي. حينما سأله الفائز بجائزة «نوبل»، جابرييل جارسيا ماركيز: إذا كان الجميع يعرفون من أنت فلِمَ تستمر في ارتداء القناع؟ كانت إجابة ماركوس بليغة: إنهم لا يعرفون من أكون، لكن الأكثر هو أن هذا لا ينبغي أن تكون له أهمية. المهم هو من يكون نائب القائد ماركوس، لا من كان (كامبيو، ٢٥ مارس ٢٠٠١). قابل جيين أنطوني العجوز، وتعلم أن يحلم، وأثناء ذلك تعلَّم أن يسمع أحلام الآخرين.

عولمة الساباتيسمو

كان لفعل الساباتيستا تأثير على مدار العقد التالي لانتفاضة عام ١٩٩٤، على نحو يساعدنا على فهم الأبعاد الرئيسية لنماذج الفعل والثقافة التي تظهر في الحركات العالمية. تفسر تحليلات عدة نجاح هذه الحركة من منطلق دور محترفي التضامن الدولي. يزعم علماء الاجتماع المرتبطون بمؤسسة راند أن تمرد الساباتيستا حوَّل نفسه إلى «حرب شبكية» عالمية، في المقام الأول نتيجة المنظمات غير الحكومية التي «احتشدت» في المكسيك في أعقاب الانتفاضة، ولولاها لبقي التمرد حبيسًا في غابة لاكاندونا المطيرة، ولكان الأرجح أن يستنفد نفسه. واضح أن التماس الساباتيستا الأوَّلي للدعم كان دفاعيًّا؛ فقد تمت المطالبة بمراقبين لإتاحة التفاوض في أعقاب فشل الانتفاضة. واشتمل القمع الحكومي على إعدامات عاجلة لأولئك المقبوض عليهم (قُتل كثير منهم بإطلاق الرصاص على رقابهم)، ولولا دور المراقبين الخارجيين لما كان من المرجح أن تحدث مفاوضات السلام الأولية. وواضح أن المنظمات غير الحكومية لعبت دورًا حيويًّا في هذه المرحلة وفيما بعدها. غير أن باحثي راند يؤكدون أن بنية الشبكات المفتوحة التي اتسمت بها هذه المنظمات غير الحكومية لعبت دورًا أساسيًّا في إعادة تشكيل الهيكل التراتبي المبدئي لجيش ساباتيستا للتحرر الوطني.

ثمة مشكلة في مثل هذا التركيز على «حشد المنظمات غير الحكومية». كانت شبكات التضامن الدولي الأولية نتاج المنظمات بدرجة أقل من كونها نتاج الأفراد؛ فخلال فترة قصيرة عقب الانتفاضة الأولية، تطورت مواقع الإنترنت لكي تساند وتبث الرسائل المنشورة على مواقع المنتديات. وتطورت هذه الأنشطة بين الشبكات الأكاديمية القائمة، التي أنشأها في أغلب الأحيان أفراد. موقعَ جيش ساباتيستا للتحرر الوطني EZLN.org أنشأه جستين بولسن الطالب في سواثمور كوليدج. كان مهتمًّا بالانتفاضة، ولكنه كان يجد صعوبة متزايدة في الحصول على المعلومات؛ لذا قرر أن ينشئ موقعًا حتى يمكن أن تكون جميع المعلومات المتوفرة متاحة فيه. لم يكن عضوًا في أي جماعة سياسية أو تضامنية، ولكنه أنشأ صفحته في مارس ١٩٩٤، واستخدم المهارات ذاتها لنشر بيانات جيش ساباتيستا للتحرر الوطني على الإنترنت، وكذلك لإطلاق مناشدات للإفراج عن السجناء. في البداية، أُرسلت البيانات بالفاكس من «لا جورنادا» وهي صحيفة يسارية مقرَّبة من حزب الثورة الديمقراطية، واعتاد بولسن يوميًّا، من يناير ١٩٩٥، أن يضعها بصيغة نص تشعبي ويبثها على خادم مدرسته. وخلال سنتين كان هناك أكثر من ٦٠ موقع إنترنت مماثلًا حيث استطاع الناس الحصول على المعلومات والمشاركة في أفعال المساندة، وإن كان واحد فقط منها في المكسيك.
خبرة بولسن أكثر دلالة من الافتراضات بشأن خوض المنظمات غير الحكومية حربًا شبكية. وتبرز دراسات «معمار الشبكات» المنخرطة في فعل الساباتيستا دور الأفراد بقدر أكبر مما تُبرز دور المنظمات (أولسن ٢٠٠٤). في أعقاب نجاح المؤتمر في عام ١٩٩٤، عُقد «الملتقى الدولي الأول من أجل الإنسانية وفي مواجهة الليبرالية الجديدة» في أغسطس ١٩٩٦، مخاطبًا هذه المرة الشبكات الدولية التي اعتبرها الساباتيستيون منخرطة في صراعات مماثلة. حضر مشاركون من نحو ٣٠ بلدًا، وكان أغلبهم من الولايات المتحدة. وفي هذا «الإنكوينترو» (الملتقى) نشهد التحول المستمر لصراع الساباتيستا. خاطب ماركوس الجمع المكوَّن من نحو ٥٠٠٠ إنسان، سائلًا عن الخطوة التالية. يرفض فكرة إنشاء منظمة ذات مناصب، وتوصيفات وظيفية، وألقاب، بقدر ما يرفض فكرة الثورة العالمية. وبدلًا من ذلك، يدعو إلى صدًى، صدًى يعترف بالمحلي والخاص، ولكنه يتردد عبر الدولي، صدًى يعترف بالآخر، ولا يحاول إسكات الآخر (ماركوس ١٩٩٦). في بيانه النهائي، قرر «الإنكوينترو» إنشاء شبكة قارِّيَّة من شأنها التركيز على مقاومة الليبرالية الجديدة، وهو اتجاه يرفض تحديدًا إنشاء منظمة:

شبكة المقاومة القارية؛ إذ تعترف بالاختلافات والتشابهات، ستبحث عن ملاقاة المقاوَمات الأخرى عبر العالم بأكمله. ستكون شبكة المقاومة القارية هذه وسيطًا يمكن من خلاله أن تتساند المقاومات المختلفة. وليست شبكة المقاومة القارية هذه بنية منظمة، فلا هي تمتلك التوجيه ولا مركز صنع القرار، وليس لها قيادة مركزية ولا تراتبية. نحن الشبكة، كلنا الذين نتكلم ونستمع. (الإعلان الختامي ١٩٩٦)

كان ﻟ «إنكوينترو» عام ١٩٩٦ تأثير استثنائي على أولئك الذين شاركوا، من أمثال جستين بولسن. كتب بعد الحدث:

هل يستطيع الساباتيستيون حقًّا أن يكونوا إدراجيِّين لهذه الدرجة في خطابهم، وفعالياتهم التي يمكن أن تُنعش أحلام هؤلاء الآخرين ونضالاتهم؟ إذا كان الأمر هكذا، فمتى يصبح الأخيرون نشطين إذا ادعوا أنهم يساندون الساباتيسمو، هل يتجنبون «النضال في الداخل» لصالح التضامن مع انتفاضة محلية في الشياباس؟ أم لعلهم توصلوا إلى إدراك أنها جزء من النضال ذاته؟ (بولسن ٢٠٠١)

كانت قوة صيحة «كلنا ماركوس» تعني نوعًا من الفعل يتجاوز مساندة نضال بعيد. أتاح اللقاء مع الساباتيستيين إحساسًا بالخرافة، والسحر، والخيال. يزعم عدد من النقاد الراديكاليين أن الاهتمامات بمثل هذه «الواقعية السحرية» تشتت الانتباه عن التحليل العلمي للبنى الطبقية المنتِجة لصراع الساباتيستا. ولكنني سأزعم العكس، أن هذا الصراع لمس مكانًا أعمق. يمكننا أن نرى شيئًا من قوة هذا الاتصال في مادة بثَّها أمريكي شاب:
تودوس سوموس ماركوس! كلنا ماركوس، الكائنات المناصرة للرؤى على طريقنا نحو رؤية، حافلة بالأشواق، والآمال والرؤى، تجدلها الثقافة الأحادية المشتركة؛ حيث يعزز نَهَم الربح والسلع الاستهلاكية ميثولوجيا النمو. (باتكو، منشور في http://www.network54.com/Forum/message?forumid=23164&messageid=998758179)

يذكِّرنا هذا بحديث روزلين عن الدمى: خَلْق السحر هذا أكثر فعالية من الصراخ وفرض الأفكار على الآخرين. الخيال والمسرح يصلان إلى مكان أعمق داخل النفس مما يصل إليه شيء عنيف وقسري (روزلين، إنديميديا، ٩ يوليو ٢٠٠٣).

ليس هذا صراعًا مصاغًا مبدئيًّا بمعايير البرامج أو المبادئ. هذه الأمور حاضرة، لكن هناك إحساسًا بأن الذاتية الشخصية على المحك.

الأصداء والتجاوب

اليوم التالي ﻟ «الإنكوينترو» اجتمعت مجموعة صغيرة من المشاركين من أمريكا الشمالية وأوروبا في سان كريستوبال، وقررت أن تنشئ شبكة ستُسمَّى «شبكة الاتصال البديل الدولية». أصبحت هذه الشبكة تُفهم على نحو متزايد على أنها شبكة «جذورية» لا مركز لها، شبكة ستنشر الأخبار بلا تصفية. شرع الناس الذين سبق أن انخرطوا في الإذاعات المحلية، مع تركيز على تنظيم المجتمعات المحلية وحكي حكاياتها، في الالتقاء مع نشطاء التضامن الدولي. وعلى مدار العام ١٩٩٧ تزايد اتضاح وعيٍ ﺑ «حركة الإعلام الحر» (روجييرو ودنكان ١٩٩٧). وفي مدًى زمني قصير، اكتسبت فكرة إنشاء شبكة جذورية أهمية ماسَّة. وسبق أن قرر الملتقى الدولي في لا رياليداد عقد «إنكوينترو» ثانٍ في العام التالي في أوروبا. ولعبت المجموعة التي اجتمعت في اليوم التالي في سان كريستوبال دورًا مهمًّا في ترتيب هذه العملية التي حدثت في أغسطس ١٩٩٧ في إسبانيا. من خلال هذا بدأت الروابط الجديدة تتشكل، واصلة بين الناس المشاركين في حركة «استعادة الشوارع» وبين نشطاء الإعلام البديل من أمريكا الشمالية. ولذا حينما طوَّر طلاب علوم الكمبيوتر في سيدني بأستراليا الكود النشط الذي كان من شأنه أن يسمح للناس برفع صور وقصص إلى الإنترنت في الزمن الحقيقي، لتُستخدم من أجل كرنفال «استعادة الشوارع» ضد الرأسمالية في لندن عام ١٩٩٨، تدفق هذا عبر الشبكات مؤديًا إلى حراك سياتل ضد منظمة التجارة العالمية في نوفمبر ١٩٩٩؛ حيث لعب الناس الذين سبق أن شاركوا في «إنكوينترو» عام ١٩٩٦ أدوارًا حاسمة في تأسيس «مركز الإعلام المستقل» في سياتل.

انتقلت أصداءٌ أخرى لخبرة الساباتيستا عبر شبكة المراكز الاجتماعية، التي توجد في كل مدن إيطاليا الرئيسية تقريبًا، جامعةً ما بين ثقافات وشبكات بديلة، شملت الموسيقى والمقاهي والمطاعم والمكتبات والعروض الموسيقية والنقاشات. تنطوي هذه المراكز على نبذ الشكل القديم من الثقافة السياسية اللينينية، بالغة الأهمية لليسار الإيطالي في سبعينيات القرن العشرين، التي مجَّدت ذاتيةً «بطولية» مرسَّخة في خُلُق التضحية. خبرة الشخص في ثقافة المراكز الاجتماعية خبرة هشة أكثر منها بطولية. تغني المغنية مع فرقة الراب الإيطالية بيشيه التي تحظى بنفوذ في المراكز الاجتماعية، عن خَلق فضاء خاص من صنعها، لا عن غزو العالم أو إعادة تشكيله (رايت ٢٠٠١).

ثقافة المراكز هي ثقافة شبكات ونقاط اتصال، لا منظمات وهياكل، هي ثقافة أشعار، لا برامج، ثقافة يحضر فيها باستمرار إرث الأيديولوجيا الذي يستبد بذاتية الشخص، ويُرفض في ذكرى الإرهاب. ومن السياق برزت واحدة من أكثر الحركات ابتكارية في التضامن مع الساباتيستيين، وهي حركة «يا باستا» (كفى). ارتدى نشطاء «يا باستا» أفرولات بيضاء، استُخدمت لأول مرة في ميلان عام ١٩٩٤، بعد أن أشار محافظ المدينة عضو حزب «الرابطة الشمالية» إلى المحتجِّين الشباب من المراكز الاجتماعية بأنهم «أشباح». استُعمِلت الأفرولات البيضاء على سبيل الرد الساخر على هذا الاستهزاء (انظر فارو ٢٠٠٣). كان الإيطاليون أكبر جماعة أوروبية في «إنكوينترو» عام ١٩٩٦، وتجاوبت أصداء القناع ومعنى جعل الناس غير مرئيين على نحو مؤثر مع الأفرولات البيضاء:

لطالما كنا غير مرئيين في المجتمع. تُعبِّر الأفرولات البيضاء عن حقيقة أن الدولة تتجاهلنا. نقول: انظروا، أنتم لا تعترفون بنا ولكن ها نحن أُؤلاء. كثيرون منا مهاجرون، وعاطلون، وعمال في وظائف حقيرة، وأنصار بيئة، وأناس يعملون مع متعاطي المخدرات. لكن الكثير من الناس خريجو جامعات، وحتى مدرسون ومثقفون. يستطيع أي شخص أن يختار أن يرتدي أفرولًا أبيض. (أنيليزا، المركز الاجتماعي بجنوة، مقتبس في فيدال ٢٠٠١)

أبرَزَ فعلُ «يا باستا» في المقام الأول الأحداث المجسدة والظهور، والمواجهات المادية الدفاعية؛ مستهدفةً التضامن مع الجماعات الاجتماعية المقصاة الجديدة، من قبيل المهاجرين، أو أولئك العاملين في وظائف غير آمنة. لكن بإمكاننا أن نرى تحولًا ملحوظًا في «يا باستا» في الفترة المفضية إلى الحراك المناهض لمجموعة الثماني الكبار في جنوة عام ٢٠٠١. يحلل عالم الاجتماع الإيطالي باولو سيري (٢٠٠٢) ما يعتبره أزمة الحركة الاجتماعية الحاضرة في «يا باستا»، وهي الأزمة البادية في الأهمية المتزايدة لموضوع العنف في خطاب النشطاء، ونبذ الموضوعات الثقافية التي كانت بالغة الأهمية حتى تلك المرحلة. يبين سيري بُعدَين للاستجابة للتفاوت الذي يمكن أن نشهده في هذا السياق، عاكسًا فهمَيْن للعولمة. يفهم أحدهما العولمة بمعايير رأسية، باعتبارها نتاج البنى العالمية الجديدة للقوة، التي تجب معارضتها. والآخر يفهم العولمة بمعايير أفقية، بوصفها الفرصة السانحة للأنماط الجديدة من الشبكات والخبرات الجديدة. وفي سياق مواجهة العولمة، يبين سيري أن الفعل يمكن أن يتخذ شكلين: العداوة تجاه النظام، أو فعل التضامن مع الأطراف الأضعف. في جنوة، أخذت موضوعات الغيظ والغضب المتجلية في الادعاءات بأن الزعماء العالميِّين كانوا قتَّالين بالجملة، تطغى على نحو متزايد على القواعد الجديدة لخبرات التضامن.

سيُفضي هذا في النهاية إلى انهيار «يا باستا»، وظهور خليفتها «ديسوبيديانتي» (العصيان) المعرَّفة بقدر أكبر وأكبر على أساس معارضتها لنظامِ سلطةٍ متزايد التجريد والعنف (شكل من أشكال الممارسة نَظَّر له وصاغه طوني نجري) (هارت ونجري ٢٠٠٠). هذا الشكل من الخطاب لا يبالي كثيرًا بالثقافة والخبرة؛ إذ يعرِّف العالم بدلًا من ذلك على أنه مواجهة بين نظام للسلطة، و«جموع» هي نتاجه. لكن في الوقت ذاته، برز اتجاه معاكس، اتجاه يظل مرتبطًا بقوةٍ بالمراكز الاجتماعية. وركز هذا بقدر متزايد على أشكال التعاون المباشرة والمتجسدة، مع قضاء نشطاء «يا باستا» صيف ٢٠٠٤-٢٠٠٥ في الشياباس، عاملين على مشروعات للمياه النظيفة، والعيادات الصحية، والمشاركة في حصد البن. يلتقي هذا وصور الفعل المتجسد الأخرى، مثل حركة الطعام البطيء وغيرها من أشكال الممارسة التي تدور حول تنمية الغذاء واستهلاكه مثل «كريتيكال واين» (www.criticalwine.org). دعم إنتاج الساباتيستا من البن هو جزء من محاولة نبذ الفصل بين الجسد والذاتية الذي جلبه الطعام ونظام التغذية الصناعيان، وهو واحد من أهم أشكال الفعل في المراكز الاجتماعية اليوم. لم يختفِ السعي من أجل السمع والإحساس والتجسد في المعارضة المجردة للإمبراطوريات والجموع.

هوامش

(١) نُشر للمرة الأولى بعنوان «أسئلة وسيوف: قصص شعبية من ثورة الساباتيستا» ترجمة ديفيد رومو، إلباسو، تكساس، تشينكو بونتوس برس، ٢٠٠١. أعيد نشره هنا بتصريح من الناشر. وثمة مواد إضافية ترجمتها سيسيليا رودريجز، واللجنة الوطنية للديمقراطية في المكسيك في الولايات المتحدة الأمريكية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤