الفصل السابع

حركات الاستشفاء، الذوات المتجسدة

التغيرات التي يمكنني أن أشعر بها هي في نفسي، فأنا أستطيع أن أشعر بالتغيرات الجسدية داخل نفسي … حينما تتغير … لن تتأثر بالعالَم الخارجي بالقدر نفسه من السهولة. ربما بهذا المعنى تتغير علاقتك بالعالم الخارجي.

«جيني»، متحدثةً عن خبرتها في ممارسة الفولون جونج

جيني عمرها ٣٥ عامًا، وهي في بلدٍ غربي بموجبِ تأشيرةِ حمايةٍ مؤقتة، بانتظار نتائج طلبها للحصول على وضع اللجوء. نزحت قبل ثمانية عشر شهرًا من الصين، تاركةً وراءها في بكين ولدًا وزوجًا، وهي ممارِسةٌ للفولون جونج، أو «ممارَسة عجَلة القانون»، وهي تمارين أو طريقة للتأمُّل، ظهرت في الصين عام ١٩٩٢، وأُعلِن حظْرُها في عام ١٩٩٩. انبثقت الفولون جونج من حركة أوسع من حركات الممارسة الجسدية، وهي التشيجونج، المكوَّنة من مجموعة من التدريبات التي تجمع بين التنفس، والتحرك، والتأمل. ويجمع اللفظ بين مفهومي «التشي»، وهو الطاقة الحية التي تشكل العالم، و«الجونج» الذي يعني «الممارسة» أو «القانون» أو «العمل». جيني حاصلة على درجة الماجستير في الكيمياء الأرضية، من «جامعة بكين» الراقية، حيث كانت طالبة ما بين عامي ١٩٨٤ و١٩٩١، وقبل أن تغادر الصين وُظِّفت في وظيفة محلِّلة استثمار في شركة صينية كبرى. وفي ٢٥ مارس ١٩٩٩ كانت من المشارِكات في تظاهرة صامتة على امتداد اليوم لنحو ١٠٠٠٠ ممارس للفولون جونج خارج جونجنانهاي، الحي المسوَّر الرسمي لإقامة كبار مسئولي الدولة والحزب، المجاور لميدان تيانانمن في بكين، وفي الأسابيع التالية لهذه التظاهرة حُظِرت الفولون جونج، وأُعلِن أن ممارسة تمارينها غير مشروعة. وعلى مدار الشهور التالية، حُبِست جيني مرات عدة، وحُكم عليها في أبريل ٢٠٠٠ بقضاء عام في معسكر اعتقال. وخلال فترة سجنها أُجبِرت على المشاركة في دروس تعليم خاصة، بينما كانت تعمل أيضًا ١٠ ساعات يوميًّا في تجميع الدمى المحشوة لصالح شركة أوروبية متعددة الجنسيات.

بالنسبة إلى شخص غير متخصص بدراسة الصين، يصعب فهم ظهور الفولون جونج والاستجابة اللاحقة لها، حتى دارسو الصين يختلفون فيما بينهم بشأن طبيعة هذه الحركة، غير أن الجميع يتفقون على أن الفولون جونج تشير على نحوٍ ما إلى أبعاد حاسمة للتغير الاجتماعي والثقافي في الصين المعاصرة؛ إذ يخرج ذلك البلد من الحقبة التي تميزت بثورة عام ١٩٤٩، ويعتنق أبعادًا أساسية من نموذج عالمي ناشئ للتنظيم الاجتماعي. في فترة زمنية قصيرة، اكتسبت الفولون جونج أيضًا سمات مميزة من سمات الحركات العالمية، وحتى قبل حظرها في عام ١٩٩٩، تحوَّلَ مركزها من الصين إلى منطقة «كوينز» في نيويورك سيتي، وهي من المراكز العالمية لصينيي المهجر، بينما كانت تنتشر بسرعةٍ بين المتحدثين باللغة الصينية في أوروبا وآسيا، وبدأت الحركة تنتشر متجاوِزةً المتحدثين بالصينية أيضًا؛ حيث أصبحت تيارات التشيجونج الأوسع تزداد ارتباطًا مع حركات ثقافية عالمية مثل حركة «العصر الجديد».

يعني مصطلح «الفولون جونج» «طريق العَجلة العظيم»، أو «نظام عَجلة القانون»، و«الفولون جونج» هي حركةُ تربية، مؤسَّسةٌ على خمسة تمارين ابتكرها ودعا إليها لي هونججي، وهو موظَّف رسمي سابق في شركةِ حبوبٍ تابعة للحكومة من مدينة تشانجتشون، وهي مدينة صناعة متدهورة في شمال شرقي البلد. بدأ ما صار الفولون جونج في عام ١٩٩٢، حينما أخذ لي إجازةً بلا أجر، وسافَرَ إلى بكين؛ حيث قدَّمَ التمارينَ الخمسة التي ابتكرها إلى مؤتمر اتحاد أبحاث التشيجونج في الصين، وهو المنظمة المقررة رسميًّا لممارِسي التشيجونج واتحاداتها. وقدَّمَ لي عرضَه في قاعةٍ تَسَع نحو ٥٠٠ فرد، موضِّحًا خمسة تمارين، وشارحًا المبادئَ المتضمَّنة فيما سمَّاه حينئذٍ «تشيجونج النجمة». وكانت التمارين التي وضَّحها لي مصحوبةً بمحاضرات تجمع ما بين موضوعات مُستمَدة من الفكر البوذي، والطاوي، والكونفشيوسي. ومع العرض الرابع لم تتسع أيُّ قاعةٍ لاستيعابِ أعدادِ الناس الذين رغبوا في الاستماع إلى محاضراته (آدمز وآخرون ٢٠٠٠). ومن مايو ١٩٩٢ حتى سبتمبر ١٩٩٤، عقد لي حلقات تدريبية في تشانجتشون، وهاربين، وبكين، وقُدِّر عدد المشاركين بنحو ٢٠٠ ألف إنسان، وخلال هذه الفترة صار لي هونججي واحدًا من أهم أفراد الجيل الناشئ من أساتذة التشيجونج، وقدَّمَ عملَه في منتديات مختلفة من خلال جمعية البحث العلمي للتشيجونج في الصين، المرخَّصة من قِبَل الدولة، ومُنِح لقبَ «أستاذ التشيجونج للعام» في مؤتمر بكين للصحة عام ١٩٩٣. واتبع عمله أيضًا أعضاء مؤثِّرون في الحزب الشيوعي الصيني، شأنهم شأن زعماء مهيمنين في جيش التحرير الشعبي.

خلال هذه الفترة، صاغ لي مجموعةً من المعتقدات، عُرِفت باسم «فالون دافا»، طوَّرها إلى واحدٍ من أكثر الكتب مبيعًا. وفي يناير ١٩٩٥ نُشِر البيان الرئيس لتعاليمه بعنوان «جوان فالون» رسميًّا من مطابع البث الإذاعي والتليفزيوني الصيني. ومن المؤشرات الدالة على قُرْبِ لي من النظام الصيني حقيقةُ أن كتابه أُعلِن عنه من مسرح وزارة الأمن العام (بحلول منتصف التسعينيات من القرن العشرين، ساد الاعتقاد بأن نصوصه كانت أكثر مبيعًا من نصوص دنج شياوبنج). يضع لي تمارينَ التنفس والتأمل في الفولون جونج في إطار الثقافة والتقاليد الصينيتين القديمتين، مستندًا إلى البوذية والطاوية. ولكن كتاباته ومحاضراته مَصُوغة في الوقت ذاته بمصطلحات ما بعد حداثية، لدرجة أننا يمكن أن نربطها بثقافة هوليوود الشعبية أكثر من التقليد الصيني: نشاط الكائنات الفضائية على الأرض، ونبوءات نوستراداموس، بينما يستند أيضًا إلى كتاب إريش فون دانيكن (١٩٧٠) بعنوان «عربات الرب» وافتراضه بأن البشر هم أحفادُ الفضائيين الناقصون.

من حيث الأصل، ارتبطت الفولون جونج ارتباطًا وثيقًا بالدولة، شأنها شأن منظمات التشيجونج الأخرى. لكن بحلول عام ١٩٩٥، كانت البيئة تتغير فيما يخص التشيجونج. أطلقت الدولة حملةً واسعةَ النطاق ضد «العلم الكاذب»، أدَّت إلى تغريمات واعتقالات لعدد من أساتذة التشيجونج المشهورين، وبحلول عام ١٩٩٦ كانت استراتيجيةٌ عابرةٌ للإدارات، بتنسيق من وزارة الدعاية، تدبِّرُ ترتيباتٍ لتأكيد سيطرة الدولة على التشيجونج. وفي إطار هذه العملية ألغت جمعيةُ البحث العلمي للتشيجونج في الصين تسجيلَ جمعيةِ البحث العلمي في الفولون جونج (التعبير المؤسسي عن الفولون جونج) في نوفمبر ١٩٩٦؛ وهو ما كان يعني عمليًّا جعل الفولون جونج غير مشروعة. وفي أعقاب ذلك، سعت الجمعية بلا جدوى لتبعيةِ لجنةِ الأقلية الوطنية، وفي وقتٍ لاحق الاتحاد البوذي في الصين.

ومن عام ١٩٩٧، بدأ يظهر على الملأ أيضًا دليلٌ على تغيُّر رأي الحكومة في الفولون جونج، مع ظهور مقالاتٍ في صحف الجيش وغيرها ذاتِ طابع انتقادي للفولون جونج ومؤسِّسها. ونُشِر انتقاد من هذا النوع، يدحض منافع الفولون جونج وشرعيتها، في مدينة تيانجين في مارس ١٩٩٩، مؤديًا إلى احتجاج الممارسين في المدينة على الطريقة التي وُصِفت بها الحركة في الصحافة، ومُطالَبتهم بسحب المقال. اعتُقِل نحو ٤٠ ممارسًا بتهمة ممارسة التمارين خارج مكاتب الصحيفة، ونشر لافتات تدعو إلى سحب المقال المُسِيء، وكانت هذه الاعتقالات هي ما أدى إلى تظاهرة ٢٥ مارس ١٩٩٩ خارج جونجنانهاي. وصل الممارسون في الرابعة صباحًا، وبقوا حتى العاشرة ليلًا، مطالبين بمقابلةٍ مع كبار القادة الحكوميين، للدفاع عن الحركة، وعن ممارستها، وقُرْبَ نهايةِ اليوم وافَقَ رئيسُ الوزراء جو جونججي على مُقابَلة وفد، انصرف بعدها الممارسون بسلام.

في الفترة التالية لهذا الحدث، اشتدَّت معارضة الحكومة للحركة. وفي أواخر يوليو، أُعلِن أن الفولون جونج هي وعدد من منظمات التشيجونج غير مشروعة، مع تمرير لجنة التسيير التابعة للمؤتمر الشعبي الوطني قانونًا لقمع الديانة البدعية، أو على نحو أعم، التعليم البِدعي (سييجياو). وفي هذه الأثناء وُصف احتجاج جونجنانهاي في إعلام الدولة الرسمي بأنه «أخطر حدث سياسي» منذ أزمة تيانانمن قبل ذلك بعشر سنوات («جنمين جيباو»، ١٣ أغسطس ١٩٩٩، مقتبس في تونج ٢٠٠٢). ووُصِمت الفولون جونج بأنها «معتقد شرير». وبنهاية العام احتُجز نحو ٣٥ ألف إنسان، وفق أرقام رسمية، خلال محاولتهم الاحتجاج على الحظر، وكانت أولى الوَفَيات المبلغ عنها في الاحتجاز الشرطي في أكتوبر من العام ذاته. وقبيل نهاية العام التالي، وثَّقت منظمة العفو الدولية وفيات نحو ٧٧ شخصًا أثناء احتجازهم لدى الشرطة، بينما تضمنت أولى المحاكمات التي عُقدت في نهاية عام ٢٠٠٠ عقوبات بالسجن لمدة تراوحت بين عامين و١٢ عامًا. واستمرت حملة القمع؛ فمع منتصف العقد التالي أُرسل ما لا يقل عن ٥٠٠٠ ممارس إلى معسكرات اعتقال: ووثَّقت منظمة العفو الدولية مئات حالات التعذيب، كما سجَّلت أيضًا اللجوء المتزايد للمستشفيات النفسية للتعامل مع الممارسين المعتقلين.

على الرغم من الموارد الفائقة التي عبأتها الدولة، استمر الممارسون في الدفاع عن ممارستهم. وفي داخل الصين، حدث هذا من خلال عروض علنية متفرقة. وهذا واحد من الأسباب الأساسية للحضور الطاغي لضباط مكتب الأمن العام بالزي الرسمي أو المدني في ميدان تيانانمن، من أجل العمل السريع على منع أي مظهر علني لممارسة الفولون جونج أو نشر أي لافتات تدافع عن الحركة. وكانت ثمة أفعال أكثر إدهاشًا مثلما حدث في سبتمبر ٢٠٠٢ ويونيو ٢٠٠٣ مع اختراق «سينوسات»، القمر الاصطناعي التليفزيوني الرئيسي للصين والسيطرة عليه، في أعقاب الاختراق الناجح الأسبق لواحدة من كبريات شبكات البث التليفزيوني بالكوابل في الصين، وهو الحدث الذي شهد إدانة ١٥ شخصًا والحكم عليهم بالسجن لمدد تصل إلى ٢٠ عامًا. يدعم هذه الأفعال الإعلامية حضور رئيسي على الإنترنت لمواقع الفولون جونج التي اختُرقت هي ذاتها من قبل الوكالات الصينية التي لم تكن ترمي فقط لحظر المواقع، ولكن لتدميرها أيضًا؛ مثال واضح لما تسميه راند «الحروب الشبكية».

في حالة الفولون جونج، احتُجز آلاف الناس، وعُبئ آلاف الشرطيين، ووقعت أشكال احتجاج مختلفة عبر الصين، على الرغم من القمع المتواصل والشديد. لكن الأمر الواضح أن الفولون جونج ليست مثالًا لحركة «اجتماعية» غربية، وأن أنماط تنظيمها وأفعالها لا تتوافق مع نماذج «المجتمع المدني» الغربية. كيف نبدأ في استكشاف ما تطرحه هذه الحركة؟ انبثقت الفولون جونج مما أصبح يُعرف باسم «تشيجونج جي» (هَوَس التشيجونج) الذي بدأ في الصين في ثمانينيات القرن العشرين. وهنا نحتاج أن نبدأ مع الخبرة المتجسدة الحاضرة في التشيجونج.

الأجساد والمبادئ الحضارية

التشيجونج هي حركة تربية تجمع بين أساليب التنفس والتحرك والتأمل، وهي إحدى أهم الحركات الثقافية التي تطورت في الصين في الثمانينيات. ورغم أن لفظ «تشيجونج» يظهر في بعض النصوص التاريخية، فمعناه المتداول حديث جدًّا؛ إذ يدخل اللفظ إلى اللغة الصينية في سياق الصراع على الطب التقليدي الصيني في عقد الخمسينيات، حينما أُسِّست المعاهد الطبية لتدريب المعالجين على التشيجونج (هسو ١٩٩٩). شكَّل هذا الطريقة التي يترجم بها اللفظ إلى الإنجليزية عمومًا — على أنه «أسلوب تنفُّس»، على عكس المعنى الأدق وهو «ممارسة لتربية النفس». تشتمل التشيجونج على تنظيم «العالَم الداخلي» للمرء من خلال التحكم في إيقاع التنفس وتنشيط تدفقات التشي (الطاقة) داخل الجسد (تشيبر ١٩٩٣: ١٣٤).

يؤكد مؤرخ الحضارات المقارنة الفرنسي تيري زاركوني (٢٠٠٣: ٥٠) التباين بين فلسفة الشيء الغربية، وفلسفة التنفس الصينية. كما يلحظ زاركوني، العلاقة الغربية بالجسد علاقة إشكالية، مع فهم الجسد على أنه يجسد الشر أو الخطيئة، بدلًا من اعتباره وسيطًا للخبرة الفلسفية أو الروحية بالعالم. هذا الافتقار إلى الاهتمام بالجسد واضح جدًّا في علوم الاجتماع الغربية المختصة بالحركة الاجتماعية، المتأثرة بقوة بأشكال التضاد المسيحي بين العقل والجسد، مع تركيزها على الإدراك، والمعتقدات، والمصالح. أما التشيجونج فتكشف عن نموذج معقد للتجسُّد، نموذج له دلالات مهمة للطريقة التي نفكر بها في الحركات والفعل، بدلًا من تعريف «الحركة الاجتماعية» على أنها تمثيل لفئة ما؛ فهي تهيئنا للسؤال عن «حركات الاستشفاء» التي تفعل في العالم وتحس به من خلال الجسد.

يستكشف جوزيف ألتر (١٩٩٣) نشأة حركة مبنية على تمارين جسدية ظهرت بين المصارعين في الهند في مرحلة ما بعد الاستعمار. في الحقبة الاستعمارية، عاش هؤلاء المصارعون حياة قائمة على «الأكْهارا» أو ساحة اللياقة البدنية؛ فضاء مادي وتصوري مصنوع من عناصر الطين، والهواء، والماء، والأشجار. وإذ يُوجَّه المصارعون عَبْر هذه العناصر الطبيعية، يكونون جزءًا من نظام رمزي؛ نظام يؤكد قوة أميرهم الراعي وتناغمه، وأولوية الجسد المتدفق على جمود الجسد الإنجليزي المستعمِر. غير أن قدوم الاستقلال تسبب في تراجع الأمراء، وتعامُل المصارعين على نحو متزايد مع دولة فاسدة مبتدئة ومفتقرة إلى الكفاءة في فترة ما بعد الاستعمار. وبدلًا من المحافظة على أجسامهم المتدفقة والفعالة، تنتج خبرة عالم ما بعد الاستعمار البلادة والوهن، خبرة تأخذ فيها كينوناتهم الذاتية المجسَّدة في التفكك، متحللة من فاعليتها وتماسكها وقوتها. في هذا السياق يستكشف ألتر تطور حركة بين المصارعين استجابة لتجزُّؤ ما بعد الاستعمار هذا؛ حركة مبنية من خلال ممارسة الجسد. في محاولة فهم هذه الحركة يواجه ألتر:

يوتوبيا متصوَّرة على أساس مادي وجسماني. لا فلسفة ولا عقيدة، فقط شاعرية القوة الكامنة في الطين، والماء، والطعام، والتمارين … يواجه المصارعون قوة الدولة في أكثر مستوياتها بدائية، بجعل اللياقة البدنية شكلًا من أشكال الاحتجاج السياسي والإصلاح المدني. (١٩٩٣: ٦٤-٦٥)

تتحرز الخبرة التي يصفها من فهم الحركات على أنها اجتماع بلدة بلا نهاية.

الجسد وسيط للكينونة في العالم. ويتجلى هذا في الصين خصوصًا في التمثيلات الفنية. يؤكد جون هِي (١٩٩٤) الفرق بين التقليد الكونفوشي حيث يمثَّل الجسد بلُغة العلامة والطقس الاجتماعيين، وبين التقليد الطاوي؛ حيث يُفهم الجسد بلغة تركيزات التشي وتدفقاتها. ويمكن توضيح مقولة هِي من خلال عملَيْن فنيين شهيرين. الأول رسم لإمبراطور التشينج (انظر http://www.allempires.com/empires/qing/yongzheng.jpg).

في الحالة الأولى، جسد الإمبراطور يكاد لا يظهر. نرى رداءً ووضعًا، يشيران إلى المكانة والمركز في النظام الاجتماعي. وفي الحالة الثانية، الناس المسافرون صغار الحجم؛ وهم على طريق، مقزَّمون بفعل العالم الطبيعي، وخصوصًا الجبال والجداول. تبيِّن اللوحة نظرة المُشاهِد، من الناس الصغار إلى الكون الكلي الذي يتجلى في شكل الجبل. ركز التقليد الكونفوشي على التنظيم المفصَّل للسلوك الاجتماعي؛ حيث يُفترض أن يكون لكل شخص مجموعة من الأدوار (زوج، زوجة، أب، ابن، ابنة، مدرس، تلميذ، وهكذا)، ولكل دور واجبات تفصيلية تؤدَّى. ويمكن فهم التقليد الطاوي جزئيًّا بوصفه رد فعل مضاد لهذا التنظيم المفصَّل، وباعتباره اهتمامًا بأساليب التربية، بحيث يستطيع الممارس أو الخبير تحقيق مكانة رفيعة من خلال القدرة السامية على الوصول إلى الطاو أو الطريق، وهو شيء لا يستطيع الوصول إليه أولئك الذين لم يمروا بهذه التربية.

ينطوي هذان التقليدان على طريقتين للكينونة في العالم «من خلال» الجسد موصوفتين في اللوحتين المشار إليهما من قبل. ويكتب جيان شو:

يحمل الجسد الكونفوشي، من خلال الملابس والزينة التي يرتديها وأدائه في الطقوس، علامات لها معانٍ معينة. أفعال الجسد الطقوسية وحركته خلال المراسم الاجتماعية هي دلالات تعبِّر عن مراكز الفاعلين؛ ولذا فهذه العلامات قادرة على تثبيت النظام التراتبي أو التسبب في أشكال متغيرة من العلاقات الاجتماعية. وإذ يشترك الجسد الكونفوشي باستمرار في الأنشطة الاجتماعية، فهو جسد عام بقدر كبير. أما الجسد الطاوي فهو في المقابل متَّحد مع الطبيعة، عالَم مصغَّر للكون، يمكن أن يجد فيه المرء كل مصادر هذا الكون؛ ولذا يُفهم الجسد من وجهة نظر الطاويين على أنه يشتمل على وسائل التحرر والكمال الإنسانيين. ويعني اكتشاف تلك الوسائل استخدام أساليب التربية الجسدية التي تتغلغل في الطاقة الحية الجسمانية، وتجمع بين هذه الطاقة والطاقة الكونية، بما أن كلتيهما تنبعان من التشي … تربية الجسد الطاوي شأن شخصي؛ يؤديها الأفراد بخصوصية وانعزال. (شو ١٩٩٩: ٩٦٩)

جسد الإمبراطور مختفٍ وراء الوسوم الاجتماعية التي تزين السطح. أما أجساد المسافرين فتطغى عليها الجبال والصخور العظيمة التي تُفهم على أنها تركيزات للتشي، حيوية الكون التي هي أهم من سطح الأجساد المغلقة. يلحظ هِي أن أهمية كلا هذين التقليدين تساعدنا على فهم غياب التمثيلات العارية في الفن الصيني. وينبهنا هذان العملان الفنيان للأبعاد الحضارية لطرائق الكينونة في العالم، وهما يؤكدان في المقام الأول أهمية مفهوم «التربية» بصفته شكلًا من أشكال الفعل. يبرز أيزنشتات (١٩٩٩) التباين بين الحضارات التوحيدية — المسيحية، واليهودية، والإسلامية — التي تمتلك جميعها ميولًا قوية نحو إعادة بناء النظم السياسية والاجتماعية، والحضارة الكونفوشية المتوجِّهة بالقدر نفسه نحو تغيير هذا العالم، ولكن بدلًا من أن يكون ذلك من خلال برنامج للتغيير عبر النظام السياسي، فهو من خلال «تركيز قوي على المسئولية الفردية وعلى التربية الخُلُقية للفرد» (١٩٩٩: ٥٢). وبينما يُبرز الفهم الكونفوشي للتربية السياق الاجتماعي، يركز الفهم الطاوي، كما يؤكد هِي، على تربية الجسد للوصول إلى الطاقة الجسمانية، ومن خلال ذلك إلى الائتلاف مع الطاقة الكونية. الجسم الكونفوشي جسم اجتماعي؛ حيث يُشكَّل المركز الاجتماعي من خلال الطقس العام. أما في حالة الطاوية فيُحقَّق الوصول إلى القوى الكونية من خلال الذهاب إلى الداخل، داخل الجسد؛ حيث الجسد الطاوي هو «جسد داخلي ينعكس على الخارج» (سو ١٩٩٩: ٩٦٩). كلتا الممارستين الكونفوشية والطاوية تبحثان عن التوازن والاتساق؛ تسعيان إلى تأكيد أن المبادئ الناظمة للعالم الدنيوي تمتثل لمبادئ العالم الكوني، وهي الدينامية التي يضعها آيزنشتات في مركز الحضارات. وفي الوقت ذاته، يؤكد هذان النمطان من الخبرة المجسَّدة التوترات داخل الحضارات، واستحالة افتراض تصورات صلبة وكلية عن التقليد (ديرليك ٢٠٠٣). وبالفعل، تشكِّل التوترات بين هذين الشكلين من أشكال التجسيد موقعًا حاسمًا من مواقع الصراع حول الخبرات الصينية الخاصة بالحداثة.

يضع آيزنشتات الحركات داخل الصين في سياق توجُّه «مادي» كونفوشي. ويقارن ما بين هذا وما بين الحركات التي نشأت في الهندوسية، والبوذية التي انبثقت منها. مثل هذه الحركات كانت روحية، متضمنة «زهدًا في العالم الدنيوي وتركيزًا على إعادة بناء الخبرة الداخلية للمؤمن» (١٩٩٩: ١٦). غير أن مثل هذه الحركات كانت لها آثار بعيدة ليس فقط على المجال الديني، ولكن أيضًا على الأطر المؤسسية الأوسع، ومنها تنظيم الحياة السياسية والاقتصادية، بينما لم تكن مع ذلك متوجهة نحو إعادة بناء المراكز السياسية. يؤكد آيزنشتات الفارق في حالة الحركات المتوقع أن تنشأ في إطار التقليد الكونفوشي، الموسومة بتوجه «مادي» قوي، وخصوصًا الناظرة إلى الدولة والنظام السياسي لتطبيق رؤًى مثالية. ويربط آيزنشتات ما بين هذا وبين حقيقة أن حامل الموضوعات الكونفوشية الرئيس كان طبقة المتعلمين، التي كانت جماعة اجتماعية انبثقت منها النخب الفكرية والثقافية والسياسية في الصين. ونتيجة ذلك، كانت ثمة حركة سياسية لانتقاد النظام السياسي كامنة في الجماعة الاجتماعية التي شكلت النظام في الواقع. ولهذا، لم يتطور في الصين الفصل الواضح بين الدين والدولة، ولم يتطور ذلك في ثورات دينية كما حدث في أوروبا. غير أن التقليد الكونفوشي أَوْلَى اعتبارًا قويًّا للمسئولية الفردية والتربية الخُلُقية للفرد، وكما يزعم آيزنشتات، يمكن أن يصبح هذا مرتبطًا بنزعات روحية قوية على المستوى الشخصي. وبينما يركز التقليد الكونفوشي على أن تُستخدم السلطة السياسية لتحقيق التناغم بين الطاوات (الطرق)، يُبرز التقليد الطاوي ثلاثة أنماط من الطرق: الطاو الإنساني (أو الاجتماعي)، والطاو الطبيعي، والطاو العظيم. ويتضمن التقليد الطاوي النأي عن الأولوية الكونفوشية للأدوار والواجبات، بينما تتضمن فكرة التربية صورًا غير لغوية للوصول إلى المعرفة؛ إذ تشمل الأشكال المبكرة من الممارسة الطاوية التنفس والصوم وعقاقير الهلوسة، وربما التأمل (هانسن ٢٠٠٣)؛ وهي طرق للمعرفة تتعارض مع الطرق الإدراكية واللغوية.

الأجساد والثورة

خلال خمسينيات القرن العشرين ترابط عددٌ من الممارسات التقليدية للتربية الجسدية، وأطلق عليها وصف «التشيجونج» الرسمي في سياق النقاشات الأوسع عن المكانة العلمية للطب التقليدي الصيني. أبرز هذا الاعترافُ الرسمي الأساسَ العلمي والمنافع الجسدية القابلة للقياس الناتجة من الممارسات الصينية التقليدية، وأعاد في هذا السياق تعريفها على أنها ممارسات متعلقة ﺑ «الصحة»، أصبحت لهذا السبب غايات بحد ذاتها، مفصولة عن هدف التربية الأشمل. لكن سرعان ما صارت ممارسات الجسد هذه أسيرة تغيرات أوسع مؤثرة على موقع الجسد في الصين ما بعد الثورية.

في كتاباته الأولى، أولى ماو أهمية كبيرة لصحة الجسد وعافيته، بالنظر إلى اقتران صورة الأجساد الضعيفة والهزيلة بمقولة «رجل آسيا المريض» بوصفها رمزًا لاضمحلال الصين (سو ١٩٩٩). كان بناء جسد جديد هدفًا مركزيًّا للنظام الذي استولى على الحكم عام ١٩٤٩. والاحتفاء بالجسد العفي النشط هو موضوع متكرر في كتابات ماو؛ حيث أطلق ماو الثورة الثقافية بالسباحة في نهر اليانجتزي. كان هذا الجسد الماوي جسدًا جماهيريًّا، مكونًا على نحو متزايد من خلال الممارسة المشتركة علنًا، مع انطلاق الدولة في بناء جسد يمكن أن يخدم الاشتراكية، في المقام الأول من خلال العمل والخدمة العسكرية (برونل ١٩٩٥: ٥٨). كان ماو يرتاب ارتيابًا عميقًا في أي محاولة للانسحاب من بنائه، معتبرًا هذا محاولة إقطاعية أو نخبوية لرفض الجسد الجماهيري العفي النشط الذي كان يُبنى من خلال الاشتراكية. في صين ماو، كما يزعم شو (١٩٩٩: ٩٧١)، اختفت الأجساد الخاصة الفردية تمامًا؛ حيث صارت تربية الجسد في ظل «التأميم الجسماني» أداة لتشكيل الأمة؛ حيث أضحت التربية الخاصة في التقليد الطاوي مستوعَبة في ممارسة طقوسية وعلنية للتدريب، هادفة إلى تشكيل الجسد الجماهيري؛ حيث تختفي الذات في المجموع.

اتخذت هذه المحاولة لتقويض المجال والخبرة الخاصَّيْن طابعًا جذريًّا في الثورة الثقافية، وهي فترة امتدت بين عامي ١٩٦٦ و١٩٧٦، متضمنة صدمة عنيفة وغير قابلة للتنبؤ لعشرات الملايين من الصينيين. فُكِّكت الأسر، وعانى الملايين من التهجير الداخلي، وفُقد التوظيف مدى الحياة. واستُوردت أساليب الانتقاد من الاتحاد السوفييتي، وكانت تعني أن الأفراد يمكن أن يتعرضوا لانتقاد شرس ومستدام، يؤدي إلى العنف، أو العقاب الجسدي، أو التعذيب الذي تديره العائلة أو زملاء العمل، بينما يمكن توقع أن يكونوا هم أنفسهم بالقدر نفسه جزءًا من إدارة مثل هذا الانتقاد. لم يكن أحد تقريبًا بمأمن من احتمال تقويض عالمه. يصف عالم الاجتماع الصيني تو وي-مينج هذ الخبرة بأنها «إبادة أيديولوجية»، لم تقوض فقط أشكال التنظيم الاجتماعي، ولكن أيضًا القدرة على تشكيل علاقات بين الأشخاص: بلغ التدمير الذي شكلته الثورة الثقافية حتى أشكال الدماثة المتجلية في التعبيرات المهذبة من قبيل «صباح الخير»، أو «معذرة»، أو «شكرًا»، التي كان من اللازم إعادة تعلمها في الفترة اللاحقة (وي-مينج ١٩٩٧).

كانت هذه فترة قدوات قُدِّمت إلى السكان للاحتذاء بها. تحلل عالمة الأنثروبولوجيا، جوديث فاركوار (١٩٩٦)، حالة لي فنج، وهو عضو في جيش التحرير الشعبي، ولد عام ١٩٤٠، ولقي حتفه في حادث في عام ١٩٦٢. في العام التالي لوفاة لي فنج، اتخذه ماو رمزًا للاقتداء، واحتُفي بلِي بوصفه نموذجًا للعمال المتجردين من ذواتهم، الذين كان من شأنهم وهم في رحلةٍ بالحافلة على سبيل المثال أن ينظفوا الحافلة، ويقرءوا الصحف على هؤلاء الذين لا يستطيعون القراءة، ويعقدوا نقاشًا سياسيًّا عن فكر ماو، ويعتنوا بالأطفال. وكما تمضي القصة، استوعب لي عمل ماو بقلبه، ودائمًا ما كان يتجاوز حصص الإنتاج. صار رمزًا للشخصية الجمعية التي تخيلتها الدولة الصينية، الاشتراكي النمطي (فاركوار ١٩٩٦) المستهدَف أن يكون نموذجًا للتقليد، والمحتفى به في الكتب، واللافتات، والأفلام. كان هدفُ لي أن يكون «ترسًا في آلة الاشتراكية». وبعد وفاته، جُعل مثالًا لما يمكن أن نسميه «الالتزام المتجرد من الذات». وبوصفه مثالًا للفضيلة، كما تلحظ فاركوار، لم يمتلك لي سيرة حياة. لم يمُت شابًّا وحسب (مثالًا للتضحية)، ولكنه لم يتزوج ولم يكن له أطفال، وهي سمات مؤثرة في الثقافة الصينية. لي، حرفيًّا، مجرَّد من ذاته. اليوم، عاد، هذه المرة في الفضاء الإلكتروني؛ حيث يمكن استكشاف حياته، مدمجة الآن في ثقافة تجارية حيث «يُمجَّد الثراء» (www.leifeng.org.cn).

شرعت الثورة الثقافية في مطاردة التقليد وتدميره. وفي خضم الثورة، أُعلن أن التشيجونج خرافة شعبية («مِيشِين» بالصينية) وحُظِرت ممارستها. لكن الفترة اللاحقة شهدت انفجارًا في ممارسة التشيجونج، مع وصول عدد الممارسين بالتأكيد إلى نحو ٥٠ مليونًا، بمنتصف ثمانينيات القرن العشرين. يفترض جيان شو (١٩٩٩) أن التوترات التي ظهرت بخصوص التشيجونج خلال هذه الفترة هي مفتاح لفهم الثقافة والمجتمع الصينيين، ليس فقط في الحقبة اللاحقة للثورة الثقافية، وأن الصراع الراهن بشأن الفولون جونج يشير إلى الأهمية المستمرة لهذه التوترات.

كيف تتذكر الأجساد

أعقبت الثورة الثقافية مباشرة فترة انفتاح، موسومة بتدفق الأسى والانتقاد إلى الحد الذي بدا عنده أن هذا يتطور إلى حركةٍ مطالِبة بالديمقراطية. في عام ١٩٧٩ تحركت الحكومة الصينية لإنهاء هذه الحركة الناشئة، مسكتة ذكرى الأحداث المروِّعة التي تضمنتها الثورة الثقافية، من خلال إقامة «نسخة مرخصة» وزَّعت اللوم بشأن ما نجم من عَقدٍ من الترويع على «عصابة الأربعة». وكما يفترض عالمَا الأنثروبولوجيا الطبية كلاينمان وكلاينمان، قطع هذا الفعل الطريق تمامًا على إمكانية التعبير السياسي، ليس فقط عن الانتقاد، ولكن عن الأسى أيضًا. ويلحظان أن هذا الانسداد السياسي أعقبه سريعًا انسداد ثقافي أيضًا. وشهدت السنوات التالية مباشرة للثورة الثقافية ووفاة ماو عام ١٩٧٦ طفرة في الأعمال الأدبية التي تدرس موضوعات الصدمة، وكذلك مسرحيات عن أشباح عادت لتطالب بالديون؛ تعبيرات ثقافية أُنهيت منذ أواخر العام ١٩٧٨.

وفي هذه المرحلة شرع كلاينمان وكلاينمان في دراسة مستفيضة للمرض في الصين، حينما واجها انتشار حدوث أشكال معينة من المرض والمعاناة، وخصوصًا الدوار (أو الترنح)، والإرهاق، والألم. ويفترضان أن انتشار حدوث هذه الأشكال من المعاناة لم يكن صدفة، ولكن ينبغي فهمه في سياق الصدمة المرتبطة بالثورة الثقافية. ويفترضان أن الدوار يحظى بأهمية خاصة في المجتمع الصيني؛ فهو تعبير عن فقد التوازن والتناغم الأساسيين للصحة. ويتخذ الدوار أيضًا شكل الترنح، وهو خبرة الوقوع أو الخوف من الوقوع. كانت الثورة الثقافية مرحلة شهدت فقدان شرعية المؤسسات الرئيسية في المجتمع الصيني، زمنًا لم يكن من الممكن لأحد الشعور فيه بالأمان في المؤسسات الجوهرية مثل وحدات العمل الجماعي، وكتائب الإنتاج، والأخلاقية الكونفوشية، وحتى الأسرة. يفترض كلاينمان وكلاينمان (١٩٩٤) أن خبرة الحياة فيما كان بمنزلة نظام أخلاقي منهار كانت بالنسبة إلى كثير من الناس مدوِّخة حرفيًّا، خبرة يمثل فيها الدوار الشائع «تجسيد الاغتراب»؛ حيث كان الإحساس العارم بالسقوط أو الخوف القهري منه تعبيرًا عن حالات الصعود والهبوط غير القابلة للتنبؤ التي يمكن أن يعانيها المرء في سياق الثورة الثقافية. أبرزت أهميةَ الدوار بالقدر نفسه دراساتٌ أحدث بشأن المرض في الصين في سياق المطالَبات بمجتمع تحديثي سريعًا، مقترنة بخبرة تخلُّف المرء عن أقرانه في العمل، أو التعامل مع المطالب الجديدة الملقاة على عاهل النساء، أو التعامل مع الضغوط المتزايدة بفعل التنافس الاقتصادي. وفي هذا السياق، يربط بارك وهينتون ما بين الدوار وبين خبرات التنافر في الظروف التفاعلية الشخصية، والعملية، والمجتمعية، حيث يعاني المرء المحنة الخارجية في صورة فقدان اتزان داخلي (٢٠٠٢: ٢٣١). ومن وجهة نظر هؤلاء الكتَّاب أيضًا، فالدوار هو «عرَض نموذجي» في الصين:

يحمل الدوار — وهو عرَض شائع، وإن كان يُغفَل عادة، لمتلازمات الإنهاك العصبي أو الإرهاق المزمن في الغرب — دلالة مميزة في المجتمع الصيني؛ حيث يؤكد التقليد الطبي الصيني أهمية التوازن والتناغم باعتبارهما عنصرَي صحة لا غنى عنهما ودالَّين. فشعور المرء بالدوار (أو بالترنح؛ لا يميز المرضى الصينيون بين العرَضين) يعني أنه غير متزن، أو يعاني إعياء، أو غير مرتاح. فُهم الدوار من قِبَل مبلِّغينا على أنه تجسيد للغربة؛ أي المعنى المحسوس بتراجع الشرعية في عوالمهم المحلية. لقد كان نظام العوالم المحلية الأخلاقي المحطَّم يبعث على الدوار حرفيًّا. ومعنى شعور المرء بالدوار هو أن يعيش ذكرى الصدمة مرارًا. (كلاينمان وكلاينمان ١٩٩٤: ١٧٥)

يشير كلاينمان وكلاينمان إلى عَرضين آخرين مرتبطين بالنموذج المعرفي، وهما الإرهاق والألم. فالحدوث المنتشر للإرهاق وما يقترن به من وهن معوِّق في المرحلة التالية للثورة الثقافية، كما يزعمان، كان يدل على إنهاك المصادر الحيوية، على استنزاف الفاعلية الشخصية والجمعية الناجمين من ساعات الاجتماعات التي لا نهاية لها المنفقة على النقد. في النظرية الطبية الصينية التقليدية، تُعبر هذه الخبرات من فقدان الطاقة أو الحيوية عن فقدانٍ أو انسدادٍ في تدفق الطاقة الحيوية أو التشي. ولا يقتصر تأثير هذه المعاناة من تراجع الحيوية على علاقة الجسد بالنفس فقط، ولكنه يمتد إلى القدرة على إقامة العلاقة بالآخرين أيضًا (جوانكشي وونج). كانت أشكال «الألم» التي واجهها كلاينمان وكلاينمان في بحثهما هي في الغالب معاناة الصداع، وآلام الظهر، والتقلص، وهي خبرات فسَّراها على أنها أحاسيس بالانسحاق والضغط.

ومن وجهة نظر كلاينمان وكلاينمان، فهذه الأنماط من الألم والمعاناة البدنية شكل من أشكال الذاكرة الاجتماعية، ذاكرة معاشة من خلال الخبرة المجسدة. وفي تطوير هذا الرأي، استندا إلى عمل بول كونرتون الذي يستكشف الطرائق التي تتذكر بها المجتمعات. يشير كونرتون إلى ثلاث طرائق مهمة تُنقَل بها ذكريات المجتمعات؛ أولًا: من خلال الكتابات والنصوص الثقافية، من قبيل الكتب العظيمة أو الآثار، ثانيًا: من خلال الطقوس التذكارية التي تفهم الماضي على أنه «قصة حياة جمعية» (١٩٨٩: ٧٠)، وأخيرًا: من خلال أشكال الممارسة الجسدية. وفي تطوير هذا الرأي، يستكشف كونرتون طريقة وصف هذا النشاط الاجتماعي والثقافة ونقلهما في أشكال من التجسيد. مثلًا، وصف الأدوار الاجتماعية للرجال والنساء بالطرائق التي يمكن أن يجلس بها الرجال والنساء، أو يمشون، أو في استخدامهم اللمس والإيماء. يُعبَّر عن السلطة والرتبة من خلال هيئة الشخص، كما يحدث غالبًا حينما ننظر إلى مجموعة من الناس يتحدثون، فنستطيع أن نلحظ مَن يمتلك سلطة ومَن لا يملكها من طريقة شَغْل الحيِّز (١٩٨٩: ٧٣). ولهذا، يُصِر كلاينمان وكلاينمان على أننا لا يمكننا أن نستكشف الحياة الاجتماعية وفقًا للتضاد بين الفردي والجمعي. وبدلًا من هذا، يفترضان أننا بحاجة إلى استكشاف الحياة الاجتماعية وفقًا لتصنيف «الخبرة»، وهو ما يُعرِّفانه على أنه «مجموعة من العمليات الاجتماعية التي تخلق معًا وسيطًا للتفاعل يتدفق للخلف وللأمام عبر الفضاءات الاجتماعية للمؤسسات والجسد-الذات» (كلاينمان وكلاينمان ١٩٩٤: ٧١٢). وفق هذا الرأي، «السؤال الكبير عن كيفية ربط الجسد بالمجتمع هو أيضًا سؤال عن المنطقة الحدية بين الذاتية والنظام الرمزي، الفاعلية والضبط الاجتماعي، الخبرة والتمثيل» (١٩٩٤: ٧٠٨). لا يفترض كلاينمان وكلاينمان ببساطة أن التحول أو التيه الاجتماعيين يُنقَلان داخل الجسد؛ فأعراض المعاناة الاجتماعية كما يفترضان هي:

أشكال ثقافية من الخبرات المعاشة. هي ذكريات معاشة. تصل ما بين المؤسسات الاجتماعية والجسد-الذات، باعتبارهما الوسيط الجسماني-المعنوي عبر-الشخصي للعوالم المحلية … لا تمثل الأجساد المعاد تشكيلها بفعل العمليات السياسية هذه العمليات فقط، ولكنها تحسها باعتبارها الذاكرة المعاشة للعوالم المعاد تشكيلها. (١٩٩٤: ٧١٦)

أما عالم الأنثروبولوجيا الألماني توماس أوتس فيحلل تطور التشيجونج بوصفها حركة ثقافية جماهيرية في أعقاب القمع الذي حدث عام ١٩٧٩. يبرز أوتس أبعاد «الهوس» و«الحمى»، وكلاهما مصطلحان استُخدما مرارًا في الصين لوصف المشاهد الاستثنائية المقترنة بتطورها. يفترض أوتس أن التشيجونج ينبغي فهمها باعتبارها خبرةً بذاتٍ شعورية (١٩٩٤: ١٣٠)، في سياق أُسكِت فيه الجسد. ويقتبس عن أحد الممارسين:

شعرتُ بتيار من التشي مغادر للأرض، يرفعني عاليًا ثم يدور بي في اتجاهات مختلفة. تدربتُ ثلاثة أيام؛ ولذلك شعرت بالثقة بالذات ولم أقاومه. فجأة، دفعتني قوة للخلف؛ فتعثرت وسقطتُ على ركبتَيَّ؛ وحينئذٍ أصبحت مذعورًا. أردت أن أنهي الجلسة، ولكن قبل أن أتمكن من النهوض لف بي انفجار طاقة آخر، ودار بي دورانًا. مرارًا، حاولت أن أتوقف ولكن لم أنجح أبدًا. وحينئذٍ، للمرة الأولى في كل تلك السنوات، أصبحت أدري بحزني وصدمتي. أجهشت بالبكاء. ويا لها من راحة! (أوتس، ١٩٩٤: ١٢٧)

هذه قصة عن الجسد بوصفه وسيطًا، عن مواجهة ذاكرة مجسَّدة، عن خبرة يكون فيها الجسد ممرًّا إلى النفس. تتضمن التشيجونج تعلُّم «التنفس» — ليس باستخدام الرئتين وحسب، ولكن باستخدام الأعضاء الأخرى أيضًا، بطريقة تسمح للفاعل الإنساني بالإحساس بتدفق التشي وقوتها. وكما يزعم كونجيليم «إيقاع التنفس أحد وظائف وعينا بكوننا في العالم» (١٩٨٩: ١٦٨)؛ وهو يلعب دورًا تأسيسيًّا في «توليد الشعور وخبرته في السياق الاجتماعي» (ليون ١٩٩٤: ٨٤؛ كلاهما مقتبسان في تشين ٢٠٠٣أ: ٨-٩). وتشير نانسي تشين (١٩٩٥) إلى بُعد حاسم في تطور حركة التشيجونج؛ إذ تبرز الطبيعة الشعبية للممارسة. تشتمل تمرينات التشيجونج على تمرينات الاسترخاء التي تتنفس فيها مجموعة نقاط على امتداد الجسد، بالمعنى الحرفي، التشي التي تشكل العالم. ونتيجة ذلك يصبح الجسم «أداة إدراك» (تشين ١٩٩٥: ٣٥٨) لا تحس بالعالم وحسب، ولكنها تخلق أيضًا فضاءات خاصة في مشهد اجتماعي. من خلال التشيجونج، يصبح الممارس متصلًا بجسده:

و من خلال نقاط الطاقة التقليدية هذه التي تربط الجسد بكونٍ خارج الأجواء الحضرية المباشرة للدولة الصينية … تعاد صياغة الذات بصفتها كائنًا شخصيًّا بعيدًا، أو مفصولًا جسديًّا، عن الدولة … تتجاوز صلات العقل-الجسد بمصدر قوة آخر، خاص بنظام كوني، الحدود المألوفة للدولة. (تشين ١٩٩٥: ٣٥٨)

التشيجونج جي وظهور الفولون جونج

انبثقت الفولون جونج من «حمى التشيجونج» التي بدأت في الفترة اللاحقة مباشرة لوأد حركة الديمقراطية الوليدة عام ١٩٧٩ التي انبثقت باعتبارها نقدًا للثورة الثقافية، إذ امتلأت المتنزهات بأناس يمارسون أشكالًا مختلفة من التشيجونج (أوتس ١٩٩٤). ظهر «أساتذة التشيجونج»، مالئين ملاعب كرة القدم، مع الجماهير التي أرادت أن تتعلم أساليب التشيجونج، وأن ترى أيضًا أدلة من الأحداث المشهودة، إن لم يكن معجزات. وخلال أواخر الثمانينيات ذكرت تقديرات أنه كان في الصين نحو ٦٠ مليون ممارس للتشيجونج؛ رقم مهم رمزيًّا؛ إذ يقارب عدد أعضاء الحزب الشيوعي، مع افتراض المراقبين أن قوة التشيجونج كانت آخذة في منافسة قوة الحزب ذاته. وخلال هذا العقد شكلت التشيجونج أساس أكثف شبكة في الصين من الاتحادات والمنظمات الشعبية التي لا تخضع مباشرة لسيطرة الدولة (بالمر ٢٠٠٣: ٤٧٢)، «ربما أكبر حركة جماهيرية في الصين المعاصرة خارج سيطرة الحكومة المباشرة» (شياويانج وبني ١٩٩٤).

اتسمت الفترة التالية للثورة الثقافية ووأد حركة الديمقراطية التي تلتها ببحث في كثير من مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية لاستعادة الصلة مع الهوية والثقافة الصينيتين، وهو تحرك شجعه الحزب الشيوعي ووجهه. حذر دنج شياوبنج من «التلويث الخارجي»، مشيرًا إلى الأفكار الأجنبية على أنها «ذباب» يجب منعه من الدخول. كان هذا التوجه المحلي رد فعل على تدمير الثقافة والتقاليد الصينية الذي حدث أثناء الثورة الصينية. مثلت الأهمية المتزايدة لحركة التشيجونج، شأنها شأن الحركات الثقافية التي تطورت خلال هذه الحقبة، إمكانية خسارة محتملة لسيطرة الدولة على العملية، على نحو أدى إلى اهتمام متزايد بتنظيم نطاق واسع من الممارسات، من الفنون إلى التشيجونج.

في هذه المرحلة الأولى، شابهت بنية الفولون جونج بصفتها تنظيمًا بنيةَ الحزب الشيوعي الصيني، عاكسة بقدر كبير متطلبات التسجيل في مستويات متنوعة، من المقاطعات إلى بكين. واتخذ هذا شكل بنية تراتبية ذات هيكل قيادة واضح ومركزي نسبيًّا، مكونًا من «محطات أساسية»، و«محطات إرشادية»، ومواقع ممارسة، تتوافق مع البنية الرأسية للحكم الجهوي والإقليمي والمحلي. ومثل الدولة الصينية تمامًا، غالبًا ما وجدت محطة بكين أو المحطة الرئيسة صعوبة في ممارسة ضبط فعال على البنية الفرعية للتراتبية، من خلال ثلاث لجان للعقيدة والمنهج، وللإمدادات والعمليات، وللدعاية. كانت هذه اللجان مسئولة عن نشر ما تطور كمبدأ، محدِّدة الأتباع ذوي القدرات الخاصة، ومنظِّمة البحث المتعلق بالجسد البشري، ومراقِبة التدريب والتعليم والممارسة في المستويات المختلفة.

وعلى الرغم من هذا الانطباع بالاندماج التراتبي، تحدِّد دراسة جيمس تونج (٢٠٠٢) التفصيلية لبنية الفولون جونج بنية مرنة نوعًا ما، حتى خلال هذه الحقبة الأولى حينما كانت الفولون جونج مسجلة رسميًّا. لم يكن للتنظيم نظام لدفع الرسوم الإلزامية، ولا وسائل مؤسسية للفصل بين الأعضاء وغير الأعضاء، ولا طقوس انضمام ولا تخريج (تونج ٢٠٠٢). ومع ذلك، فعلى مر هذه الفترة الأولى، حينما كانت مسجلة قانونيًّا، طورت الفولون جونج قدرة تنظيمية ملموسة لتلبية حاجات المشاركين الذين ازدادت أعدادهم بسرعة. في مقاطعة ووهان، مثلًا، باعت نحو ٤٫٣ ملايين نسخة من الكتب، وأكثر من ٦٨٠ ألف منتج فيديو (تونج ٢٠٠٢)، وهو ما كان يستلزم درجةً من التنظيم شبيهة بما يحظى به ناشر متوسط الحجم. وعلى مدى الفترة من عام ١٩٩٢ إلى ١٩٩٥، تحولت الفولون جونج من حركة محلية إلى حركة قومية، بينما في أواخر عام ١٩٩٤ أبلغ لي جمعية أبحاث التشيجونج في الصين أنه كان ينفصل عن برامج التدريب لكي يتفرغ لدراسة البوذية، ولكتابة نص يمكن أن يلعب دورًا حاسمًا هكذا في توسع الحركة.

وحالَما لم تعد المنظمة مسجلة، لم يكن لها خيار منذ عام ١٩٩٧ إلا أن تتنازل عن مكاتبها، ونظامها الإداري القومي، وقيادتها. غير أن أعداد الناس الذين كانوا يمارسون الفولون جونج ظلت تتزايد بسرعة؛ ولذا صُبَّ التركيز على الاتصالات غير الرسمية، من خلال الهاتف والبيجر في البداية، وتبع ذلك الإنترنت. يصف تونج النمط الجديد بقوله:

قُلِّصت قيادة الفولون جونج العليا إلى مجلس إدارة بلا أقسام شركاتية، بابوية دون الجهاز التنفيذي المساعِد للبابا، لجنة دائمة لمكتب سياسي دون أمانة الحزب ومجلس الدولة. أصبحت الإدارة المركزية في حدها الأدنى، وظائف قيادتها وسيطرتها معطلة، وأصبحت الاتصالات ذات الاتجاهين نادرة، بينما اكتسبت الوحدات المحلية استقلالية عقدية وتنفيذية وسياسية متزايدة. (٢٠٠٢: ٦٦٠)

وكما تذكر باتريشا ثورنتون (٢٠٠٢)، ربط الكثير من أساتذة التشيجونج الذين ظهروا في عقدَي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين مشكلات الصحة المدرَكة لأتباعهم بالمشكلات الاجتماعية، ويُفهَم ذلك بالفعل داخل منبت ثقافي يعتبر الجسد نموذجًا مصغرًا للكون، يُفهم وفق معايير توازن التدفقات، مقابل مفهوم الجسد الآلي المحدود في الثقافة الغربية الكلاسيكية. وتزعم ثورن (٢٠٠٢) أن نصوص الفولون جونج صريحة للغاية في هذا الشأن؛ إذ تقدم «تشخيصًا للدولة الصينية، يُحمِّل المسئولية الأخلاقية عن الأمراض الاجتماعية التي تتخذ شكلًا جسديًّا للدولة-الحزب، ثم تصف مسارًا للعلاج يستعدي الممارس الفرد ضد الأسس الأخلاقية للنظام» (٢٠٠٢: ٦٧٤). تفسَّر الاعتلالات والأسقام المزمنة من قبيل الاكتئاب والإرهاق وفقدان التوازن بأنها تعبيرات عن عالم فقد توازنه. ويتم التصدي على نحو صريح للتفاوتات المتزايدة التي أخذت تُنتجَ على مدار التسعينيات في المجتمع الصيني؛ إذ يقول لي إن التنافس الشديد يؤدي إلى «جروح عاطفية»، تاركًا الناس «متحسرين، ومتعبين، ومفتقرين للتوازن الذهني» عاجزين عن النوم، ومعرَّضين لكل أنواع الأسقام (لي هونج ١٩٩٩: ١٢٨–١٣٠).

جوهر كتابات لي هونججي هو واجبات الصدق والطيبة والحِلم، وبينما لا يتحدى لي بصراحة دور الحزب الشيوعي الصيني، فكتاباته تنافس بوضوح نمط ادعائه (الحزب) السلطة:

سمة الصدق-الطيبة-الحِلم المميزة هي ميزان الكون الذي يميز الطيب من الخبيث … وبصفتي ممارسًا، على المرء أن يتبع هذه السمة المميزة للكون لهداية ذاته بدلًا من معيار الناس العاديين! (لي هونججي ١٩٩٩)

«ميزان الكون» الذي يدعي لي الوصول إليه، ويستطيع أتباعه أن يصلوا إليه من خلال نظام تدريبات وتأمل، لا من خلال إرشاد الحزب الشيوعي، هو ما يقدم أساسًا لتدبير الحياة.

الخيال والرغبة والشفاء

تفهم التحليلات المهمة مثل تحليل ثورنتون التشيجونج على أنها تشكل مجال خبرة لا تسيطر عليه الدولة. وهذا بعد رئيسي بجلاء، لكن فهم التشيجونج من حيث الأساس بصفتها شكلًا من أشكال الفعل موجهًا ضد الدولة يعكس بقدر كبير إطارًا يضع الحركات داخل عدسة الدولة-المجتمع. ويبدو لي أن هذا النموذج من المقاومة الجسدية أو البدنية للدولة يُغفل أحد أبعاد التشيجونج المهمة، وهو بُعد معبَّر عنه تعبيرًا مميزًا في ممارسة الفولون جونج: ألا وهو الباطنية والسحر.

بدأنا هذا الفصل بقصة «جيني» التي قابلتها بعد عامها في المعتقل بفترة ليست بالطويلة. شاركَت في تظاهرات الطلبة عام ١٩٨٩، بالذهاب إلى ميدان تيانانمن في أغلب أيام الحركة، ولكنها لم تحضر بسبب التزام عائلي في اليوم التي اقتحمت فيه الدبابات. وتمكنت من مغادرة بكين، وعادت إلى استئناف دراستها حينما أعيد فتح الجامعات. لكن خلال حكيها قصتها التي أفضت إلى ممارستها الفولون جونج، لا تذكر مباشرة الوفيات العنيفة لأصدقائها في الميدان. لم تكن قصتها عما كان يحدث في تلك الفترة قصة عن صعود الحركة الديمقراطية وتدميرها، ولكن عن بحثها عن الأشكال الباطنية للمعرفة. تتحدث عن الإثارة التي أحسَّتها بصفتها طالبة تدرس منهج دراسات عليا يستكشف القدرات الخارقة، في حالة ولد من مقاطعة نائية يستطيع أن يقرأ بأذنيه (حينما توضع بجوار أذنيه ورقة مكتوبة، يستطيع أن يسمع الكلمات). تُعزِّز تطورات كهذه من فكرتها عن العلم، ولكنها تشير في الوقت ذاته إلى حدوده، قائلة: «بعد هذا المنهج الجامعي، آمنتُ بأن القدرات الخارقة موجودة، ولكن العلم لا يملك القدرة على تفسيرها.» شرعت جيني في دراسة الكتابات الباطنية الصينية، وخصوصًا «الييجينج» (كتاب التغيرات)، متوصلة إلى النقطة التي قررت عندها أنها هي نفسها تحظى بقوى خارقة: «وصلت إلى النقطة التي تمكنتُ عندها من التنبؤ بدقة تامة بأشكال معينة من الأحداث. تنبأتُ مثلًا، بأنني سأعاني مخاضًا عسيرًا.» وتبعت ولادة طفلها الثاني اللاحقة حادثة مهددة للحياة. عوفيت في النهاية، ولكنها تصف إحساسها بأنها حبيسة:

بعد ذلك، كنت ضائعة تمامًا. فكرت بيني وبين نفسي بأنني حتى لو كنت أستطيع التنبؤ بكل شيء، فلم يكن بإمكاني تغيير أي شيء. ما جدوى الدراسة؟ وهكذا تجاهلت هذا كله. واكتفيت بمكافحة اعتلالات صحتي. فقدت قدرتي على العمل طوال أربع سنوات.

تواصل جيني لتسرد كيف بدأ أحد أعضاء العائلة ممارسة تمرينات الفولون جونج عام ١٩٩٧، وكيف أعطاها قريبها هذا كتب هونججي. «قرأتها كلها مرتين، وحينئذٍ، فجأة أصبح لكل تساؤلاتي السابقة إجابات. في هذه الكتب! ولذا كان الأمر من وجهة نظري طبيعيًّا تمامًا. بدأت الممارسة.»

كانت ممارسات التربية في الفكر الطاوي الكلاسيكي طريقًا إلى الخلود والآلهة. وفي الصين المعاصرة، مثل هذه التمارين ليست مجرد شكل ممارسة أو نظام تمرينات صحيين. بالنسبة إلى كثيرين من الممارسين، الباطن في داخلهم، ولا سيما في حالة الفولون جونج. تشير جيني إلى أن لي هونججي يصف في الكتب حضور الكائنات الفضائية والعليا (التي هو أحدها) على الأرض، ويكتب أنه وُجد دليل على وجود مفاعل نووي في أفريقيا منذ مليوني عام، ظل يعمل لمدة ٥٠٠ ألف عام، مُظهرًا الوجود الأسبق لمثل هذه الكائنات. ويدَّعي لي في المقابلات القدرة على الارتفاع في الهواء، ويشي بأن كثيرًا من الأساتذة الآخرين لديهم قوًى مماثلة، مقدمًا على سبيل المثل الساحر ديفيد كوبرفيلد.

تُبرز أهمية الباطنية والسحر المتجلية في المقام الأول في الفولون جونج إلى أي مدى تحتوي التشيجونج على تشكيل فضاء فانتازي (شو ١٩٩٩). من وجهة نظر كثير من علماء الاجتماع، يمثل نمو التشيجونج والاهتمام الشعبي بالسحر والخوارق إحياءً للتدين والمعتقدات الشعبيين، ويمكن اعتباره تعبيرات عن اللاعقلانية والقيد الاجتماعي في سياق التغير الاجتماعي السريع. ولكن ينبغي أن نحذر مثل هذه الروايات الوظيفية؛ فنبذ الجسد الجماهيري المنهمك في السياسة اتخذ شكل إعادة التمركز على الجسد الشخصي الفردي، المتجلي في الحركات الثقافية التي تطورت في الفترة اللاحقة للثورة الثقافية مثل «أدب الجريح»، بينما كانت الموضوعات الباطنية مقترنة اقترانًا وثيقًا بلُغة الاحتجاج المتجلية في مسرحيات الأشباح التي تطورت أيضًا في الزمن نفسه. وشهدت النقاشات الكثيفة في الصين خلال الثمانينيات عمليةً رُئي فيها أن التشيجونج تشير إلى قيود العلم الحديث ونمط العقلانية التحديثية التي جسدتها الدولة الصينية. مثلت التشيجونج، كما يفترض شو فانتازيا، مقدمة إمكانية الشفاء فيما وراء حدود العلم. وبينما زودت الناس بأدوات للتربية والتفرد، أفلتت التشيجونج من سيطرة الدولة. في هذا السياق:

رُقيت التشيجونج من أداة طبية إلى موقع تكنولوجيا للنفس، مزودة بدرجة عالية من القوة، ومموقعة بين العلم والنزعة الباطنية. لغز التشيجونج ولغتها السحرية وطبيعتها اللاعقلانية وليس حقيقتها العلمية جعلت ممارسة التشيجونج شعبية؛ المعتقدان المرتبطان، بأنها تشفي حيث يعجِز الطب، وبأن الناس من خلال تدريب التشيجونج يمتلكون طريقًا إلى تطوير أنفسهم معنويًّا وحيويًّا، يتواطآن لإنتاج هوية ثقافية محتملة مبنية على فراغ «تقليد مفقود». ومن وجهة نظر كثير ممن يمارسون التشيجونج؛ لأن التشيجونج تحقق خيالهم الجامح، ولأن إيمانهم بالتشيجونج يشكل مَن هم، فإن التعرض للحيل السحرية لن يعني الكثير. (شو ١٩٩٩: ٩٨٥)

الذاتية والشفاء والسحر

ظهرت التشيجونج وتطوُّرها في هيئة الفولون جونج في الصين في سياق الطفرة التي شهدتها حركات الاستشفاء وممارساته. ومن تفسيرات هذه الطفرة تقديم رواية وظيفية؛ بالتحديد، ظهرت هذه الحركات في سياق الإصلاحات ذات التوجه السوقي في الصين التي فككت نظامها الصحي العام بالتدريج. ومن هنا فتطور حركات الاستشفاء هو نتاج لنهاية الرعاية الاجتماعية العامة، وخصوصًا الرعاية المجانية في المستشفيات، ويمكن فهمها بوصفها معادِلات ذرائعية لأشكال الرعاية الصحية التي كانت تُلغَى نتيجة إصلاحات السوق. لكن ثمة مشكلات مهمة في هذه المقولة. فالهوس بالتشيجونج ظهر في أوائل الثمانينيات، قبل أن يبدأ تفكيك النظام الصحي العام بفترة طويلة. لكن الأهم هو حدوث تحول عميق في معنى الاستشفاء، لا ينحصر في البحث عن مكافئ وظيفي للنظام الصحي العام الماوي.

تحاول جوديث فاركوار (١٩٩٦) استكشاف هذا التحول بالمقابلة بين نمطين من الاستشفاء توَصِّفهما وفق مفهومي «التمثيل» و«التجسيد». ترى نموذج الاستشفاء الذي تصفه بمعايير التمثيل واضحًا في رمز لي فنج الذي ناقشناه سابقًا، الاشتراكي النمطي الذي يصلح أن يكون نموذجًا فعالًا للاستيعاب ضمن الشخص الجمعي. تبرز فاركوار أهمية نمط الذاتية المجرَّد من الذات هذا؛ حيث إن لي فنج غير متجسِّد، هو تمثيل للشخصية الجمعية المتخيَّلة من قبل الدولة الاشتراكية الصينية. وتقابل هذا بأنماط الاستشفاء الناشئة في الصين المعاصرة حيث تستعرض مثلين. في الحالة الأولى الدكتورة وونج، وهي طبيبة تعالج باللمس، مستخدمة الضغط لفتح مسارات تدفق التشي في جسد المريض، والثانية هي حالة الدكتور يونج، وهو طبيب يستخدم العِرافة، معتمدًا على «كتاب التغيرات» والمعلومات عن تاريخ ميلاد مرضاه لفهم سبب أعراض من قبيل الدوار أو الأرق. كلاهما مثالان لحركة واسعة في الصين المعاصرة تتبنى أشكالًا تقليدية للعلاج. ولكن بدلًا من افتراض أن هذا إنما يعكس غلق المستشفيات العامة، تبرز فاركوار الطريقة التي يرفض بها هذان الشكلان من الاستشفاء التعميم أو التفسيرات الجمعية، ويكثفان بدلًا من ذلك التفسيرات الخاصة والظَّرفية، سواء من خلال الإحساس الفريد باللمس بين المريض والمعالِج، أو من خلال التشكيل الفريد لميلاد كل شخص. المهم هنا كما تفترض فاركوار هو أشكال الاستشفاء التي تنطوي على صورة معينة من النجاعة، متضمنة ما يسميه الصينيون «اللينج» أو «اللينجهوو»، وهما كلمتان شائعتان، تترجمان إلى «سحر» أو «نجاعة» (١٩٩٦: ٢٤٦). يصور هذا اللفظ مهارة الطبيب وحساسيته وسرعة استجابته التي تنبني عبر سنوات الممارسة. ينطوي نموذج الصحة الاشتراكي النمطي على أطباء قابلين للتبادل، يقدمون خدمة بالنيابة عن الدولة — اللينج مستبعدة. أما في أشكال الاستشفاء الناشئة التي تستكشفها فاركوار فاللينج مركزية: «تتراكم اللينج في موضع شخصية مجسدة. حضورها وتمددها في موضع محدد يتجلى في تدفق الحظ الطيب إلى هذا الموقع» (١٩٩٦: ٢٤٦).

تبرز فاركوار الأهمية المتزايدة لمثل هذا السحر أو «للينج» لممارسات الاستشفاء، وخصوصًا في المناطق الريفية من الصين. بدلًا من أن تفترض أن أهمية «اللينج» تنتج من الصعوبة المتزايدة في الوصول إلى الخدمة الطبية في الصين المعاصرة، تفترض أن مثل هذا السحر ينطوي على «طرائق للمعرفة والفعل». وهذه الأفكار مقنعة من جهة لأنها كانت مرفوضة بشدة من قبل نظامٍ مستهجَن الآن، ومن جهة أخرى لأن «فاعليتها، وسحرها يربطان الناس العاديين بمصادر القوة الطبيعية» (١٩٩٦: ٢٥٢). ما يحدث هنا كما تؤكد هو خبرة بالتفريد أو «نزعة فردية تحت التأسيس». ولكنها، كما تؤكد، لا تفضي إلى نوع النزعة الفردية الذي نألفه بالمعايير الغربية، كما يتجلى في «الجسد «الكلاسيكي» المحدَّد والمنفصل الذي ينطوي عليه خيال البرجوازية (ستاليبراس ووايت ١٩٨٦)، حامل سيرة الحياة الوحيدة التي لا تتغير، الآلة الحاسبة العقلانية للوسائل الملائمة لغايات الاهتمام الذاتي» (فاركوار ١٩٩٦: ٢٥١). بدلًا من هذا، تفترض أن ممارستَي الاستشفاء هاتين، المبنية إحداهما على اللمس والاستجابة للمس، والأخرى على وضع المُعاني في وضع فريد في المكان والزمان، تؤديان إلى ما تقترح علينا أن نفكر فيه بأنه «شخصية مكثفة» لكلٍّ من المعالجين والمرضى.

التجسد والفاعلية والحركة

بينما كانت الأشكال الأصلية من التربية الذاتية الطاوية تمارَس في نطاق شخصي، اتخذت حركة التشيجونج التي ظهرت في الصين خلال الثمانينيات شكل الممارسة علانية، وهو ما ورثته عن نظام الممارسة الماوي. وبينما تتضمن الفولون جونج واحدة من أكثر الإشارات تطورًا إلى الباطن من بين ممارسات التشيجونج هذه، فكثير من أشكالها يعكس الخبرة الماوية. وهناك تماثلات واضحة بين لي هونججي المعلِّم وبين ماو جيدونج القائد: تتجلى هذه في التمثيلات البصرية للي التي تعكس نظيرتها عند ماو (النظرة الفوقية، والنظر بعين العطف إلى أتباعهما، وما إلى ذلك) (بني ٢٠٠٢). ادعى ماو قوًى خارقة كما يفعل لي. وكما ذُكِر سابقًا، عكست البنية الأصلية للفولون جونج نظيرتها لدى الحزب الشيوعي الصيني. وحينما اخترق نشطاء الفولون جونج أنظمة التليفزيون عام ٢٠٠٢ و٢٠٠٣ كانت رسالتهم هي «الفولون جونج جيدة». استجابة انعكاسية لتأكيد النظام أن الفولون جونج سيئة. وبدا أن الأفعال في ميدان تيانانمن كانت تعكس حضور الدولة: في فبراير ٢٠٠٢ حاول المحتجُّون نشر علم للفولون جونج بجوار سارية علم الصين الوطنية في مدخل الميدان، بينما حاول آخرون تعليق صورة عملاقة لوجه لي هونججي فوق صورة وجه ماو العملاقة التي تشرف على الميدان (بيري ٢٠٠١). لا يوجد نقاش نقدي أو تفسير لكتابات لي؛ ولكنها تُناقَش من أجل أن يستوعب الأتباع بمزيد من العمق المعاني المتضمَّنة، تمامًا كما كانت كتابات ماو تُدرَس بدلًا من أن تُحلَّل وتُنتقَد. وثمة اتساق واضح بين ماو بصفته كائنًا أعلى وبين القوى التي يدعيها لي هونججي. ووفقًا لبيري، في الفترة اللاحقة للقمع الوحشي للفولون جونج، تطورت علاقة تقليدية بين الحزب الشيوعي الصيني وبين الفولون جونج. أعلن الحزب أن الفولون جونج هرطقية مقابل إعلانه نفسه أرثوذوكسيًّا، معرِّفًا الفولون جونج صراحة بأنها خصم. وهناك توازٍ مع ظهور النقابات المهنية التي تبنَّت بطرق عدة أبعادًا أساسية من النظام الصناعي كانت تعارضها، من قبيل التراتبية، والبيروقراطية. ولكن في النقابات المهنية نجد أيضًا حركة مترسخة في أشكال التضامن، وخُلُقًا مبنيًّا على العمل. بغض النظر عن سماتها شبه الطائفية التي برزت في الفترة التالية للقمع، هل يوجد نوع ما من الحركة داخل الفولون جونج؟

يؤكد فهم الفاعلية، الذي كان أكثر ما يكون تأثيرًا في نظريات الحركة الاجتماعية، القصديةَ، والتحكم المتزايد في الذات، والاستقلالية، والتحرك باتجاه الحرية (أسد ٢٠٠٣). الجسد حسب هذه الرؤية إما هامشي، وإما يجب التغلب عليه كما يفترض زاركوني. لكن في الخبرات التي استعرضناها حتى الآن، يُحقَّق النفاذ إلى العالم، وإلى الآخر، وإلى الذات، وإلى الذاكرة من خلال الجسد. نموذج «الحركة الاجتماعية» الذي يُفهَم فيه مصطلح اجتماعي بمعنى «سياسات الأعداد الكبيرة»، هو نموذج محدود الفائدة، على ما نزعم، في فهم أشكال الحركات التي ظللنا نستعرضها في هذا الفصل. ما استعرضناه حتى الآن من الأفضل فهمه بوصفه «حركة استشفاء» حافلة بالتوترات والتناقضات. نحتاج إلى وجود نوع من التجسيد الاتصالي هنا. تحكي جيني:

حينما تمارس، تتغير الطاقة داخل نفسك، وفي الخارج، ومن حولك. وحينما يمارس أناس أكثر معًا، تعمل حقول طاقتهم معًا؛ وبذلك يكون حقل الطاقة الكلي أقوى … كنت أمارس ذات مرة مع آلاف الأشخاص، ويمكنك الشعور بالطاقة من حولك.

من وجهة نظر لي، لا ينحصر الهدف من التربية في تغيير خبرة التجسيد في تدفق التشي، ولكنه يشمل تطوير سمات الشخص الخُلُقية. تُطوِّر كتابات لي هونججي مفهوم «الكارما» البوذي، الذي يفهمه على أنه شكل من الجوهر السلبي الأسود في الكون وداخل الجسد. ومن وجهة نظر لي، لا يقتصر هدف التمارين على أن يصبح المرء واعيًا بالتشي، ولكنه يشمل أيضًا إخراج هذه الكارما ماديًّا من الجسد؛ خبرة الألم الذي يحسه ممارِس ما، وخصوصًا في المراحل الأولى من التمرين؛ حيث يكون البقاء في وضع واحد مدة طويلة صعبًا، تُفسَّر على أنها إخراج لمثل هذه الكارما ماديًّا. والعيش بأسلوب سيئ يعد عامل جذب يسحب هذه الكارما إلى الجسد، بينما تعني الحياة وفق المبادئ التي طورها لي في كتاباته المرتكزة إلى الصدق والطيبة والحِلم أن الممارِس أو المتربي سيستوعب طبيعة الكون ويتقدم نحو مرحلة الكائن المستنير، أو البوذا.

للطقس حضور قليل في الفولون جونج. ولعل هذا يعكس مدى تجريد الصين من الطقوس على مر القرن العشرين، بفعل تعاقب حكومات خائفة من الأنظمة الرمزية التي لا تتحكم بها. أُغلِقت المعابد في الصين في ظل حكم التشينج عام ١٩٠٠، وهو قرار استمر فيه الحزب الشيوعي. لا تشتمل الفولون جونج على طقوس انضمام، ولا طقوس للتطور من «مرتبة» في التربية إلى أخرى. أساس الفولون جونج الممارسة. لا معابد لها، كما قد نتوقع في السياق الصيني، وبدلًا من ذلك، تمارَس التمرينات على الملأ، على نحو يعكس الإرث الطاوي. ولا توجد بأي معنًى شعيرة تُفهم على أنها إعادة تشريع أو تمثيل لمحتوًى رمزي. وكما يؤكد بيرجدوف (٢٠٠٣)، المهم بصدد تمرينات الفولون جونج هو ما تحققه؛ تحديدًا إقصاء الكارما من الجسد، والنفاذ إلى تدفُّقات التشي الكونية. الفولون جونج شكل من الممارسة التقويمية لا الاعتقادية. وبهذه الصفة، تشتمل الفولون جونج على شكل أدائي من الفعل المجسَّد، يهدف إلى طرد الكارما؛ ولا يُعنَى بالتعبير الرمزي عن المعتقَد (بيرجدوف ٢٠٠٣: ٣٤١). ومن هنا، بينما نوقشَت كتابات لي، يحذر بيرجدوف عن حق من فكرة أن الناس «يؤمنون بها»، كما لو أن الإيمان مكوَّن من حالة داخلية من الفكر توجِّه الفعل (حول ظهور مفهوم «المعتقَد» وقيوده، والمشكلات المقترنة بتمييز الأرثوذكسية على الممارسة التقويمية، انظر أسد ٢٠٠٣). هذه في المقام الأول هي الحال في التقليد الطاوي؛ حيث الممارسة الجسدية التي يمكن فهمها بوصفها «ضبط نغمة» الجسد بحيث يمكنه أن يؤدي «الموسيقى السماوية» (انظر تشيبر ١٩٩٣ وخصوصًا الفصل العاشر). داخل هذا التقليد، لا يمكن الوصول إلى الحقيقة العميقة إلا من خلال الجسد، لا باعتبارها مجموعة من الافتراضات أو المسلَّمات الإدراكية (جيرادو ١٩٨٣).

عولمة التشيجونج

حدثت عولمة الفولون جونج على نحو متزامن عبر «مشاهد» أو تدفقات خبرة مختلفة (أبادوري ١٩٩٦). لثلاثة منها أهمية مميزة: المشاهد الإثنية المكوَّنة من تدفقات الناس؛ والمشاهد الفكرية، وخصوصًا مجالات تداوي العصر الجديد والحركات الدينية الجديدة؛ والمشاهد التكنولوجية، وعلى رأسها الإنترنت.

بدأت ممارسة الفولون جونج تنتشر خارج حدود الصين قبل أن يبدأ القمع، ممدِّدة النموذج الذي جرى تطويره بالفعل في الصين نفسها، مع ترحال لي هونججي، مقدِّمًا أحاديث، وموضحًا أساليبه للجماهير المكوَّنة من شبكات الجاليات الصينية في أوروبا، وأمريكا الشمالية، وأستراليا. يمكن رؤية لي، شأنه شأن غيره من أساتذة التشيجونج، على أنه رائد أعمال، يسافر لترويج منتجه. ونظرًا للتدقيق المتزايد اعتبارًا من أواسط التسعينيات، أعاد أساتذة التشيجونج توطُّنهم خارج بكين، سواء في المقاطعات أو عبر البحار. وكما تفترض تشين، شجع المنطق التجاري المحرِّك لهذه الجماعات على التوسع؛ ولهذا انتقل لي إلى نيويورك بحلول عام ١٩٩٧، قبل عامين من القمع الذي وجِّه إلى الفولون جونج.

لعبت الجاليات الصينية دورًا حاسمًا في تطوير الفولون جونج. نيويورك هي أحد أماكن تركز الجاليات الصينية الرئيسية في أمريكا الشمالية، وتؤكد دراسة ماس (١٩٩٩) للمجتمعات الصينية في الولايات المتحدة أهمية الأفهام التقليدية للصحة والمرض، وخصوصًا معنى أن الطب الغربي يركز على الأعراض (وأنه فعَّال في معالجة الحالات الحادة من المرض)، بينما الطب التقليدي الصيني أكثر نجاعة بوصفه طريقة لفهم اعتلالات الصحة المزمنة والاستجابة لها. كان الداء ودواؤه، بوصفهما من طرق المعرفة والفعل والكينونة في العالم، في صلب الطاوية منذ أن وُضع نظامها في القرن الثالث (ستريكمان ٢٠٠٢)، والنتيجة أن الممارسات والثقافات الصحية هي مميزات حاسمة للهوية الثقافية الصينية؛ حيث لا تكون الصحة مسألة إصلاح الجسد/الآلة، ولكن طريقة للكينونة في العالم. ولذلك، حينما وصل لي هونججي إلى نيويورك التحق بمجتمع شكَّله بقوة ما يسميه ما (١٩٩٩) «ثقافة الصحة» بوصفها سمة مميزة للثقافة الصينية.

الصحة من أوضح المجالات التي لا تؤدي العولمة فيها إلى التجانس، ولكن إلى أشكال جديدة من التهجين، على ما يتضح من نقد الطب الحيوي، والاستخدام المتزايد لممارسات من قبيل الوخز بالإبر والتشيجونج في معالجات السرطان، إلى حد زعم فرانك وستولبرج (٢٠٠٤) أننا نشهد «عولمة الطب الآسيوي». لا يعكس هذا فقط دراية متزايدة بقيود نموذج الطب الحيوي، ولكن أيضًا علاقة متغيرة بين المريض والمرض والمُعالِج في الغرب أيضًا: بدلًا من علاج المرض بصفته فئة (مع اختزال المريض بشدة إلى دور المراقب)، يوجد لجوء متزايد لشخصنة المعالَجات. ومن ثم، بينما كانت الفولون جونج تُهاجَم في الصين بوصفها إقطاعية وظلامية، كانت الحركات الثقافية المهمة في الطب الغربي تسرِّع من وتيرة عولمة الممارسات الاستشفائية الآسيوية، بينما «تغرِّبها» في الوقت ذاته، على ما نشهده في كلمات خبيرة أمريكية في التشيجونج ذات تدريب صيني: «إعطاء الأفراد القوة ليقرروا ويديروا صحتهم ومصيرهم هو سر الشفاء الحق» (إيفي بوي يي تشو ٢٠٠٣). وهكذا يصبح اعتناق التشيجونج جزءًا من حركة ثقافية أوسع ﻟ «تمكين» الفرد.

يتكون قسم مهم من الفولون جونج في الغرب من مهاجرين صينيِّين على درجة عالية من التعليم، من القطاعين المالي والعلمي على وجه الخصوص. يعتنق كثيرون من المذكورين الفولون جونج بصفتها «تكنولوجيا الذات». «إنها أسمى بكثير جدًّا من التشيجونج» كما قالت جيل راشلين، وهي مستشارة علاقات إعلامية، «يمكن أن تساعدك التشيجونج جسديًّا، ولكنها لا تبقى معك، وتتجاوز الفولون جونج الجسد بمساعدتها إياك على الارتقاء بتفكيرك وعقليتك» («نيويورك تايمز»، ٢٩ أكتوبر ١٩٩٩). من بين العلماء والباحثين يظهر مفهوم أساسي عابر بين التشيجونج والعلم؛ حيث تُفهَم أفكار الطاوية عن الحيوية أو موسيقى السماء أو النسيم بصفتها «طاقة»، كما نشهده في كلمات طالب دكتوراه في علم المناعة: «التشيجونج مؤسسة على علم لا نفهمه بالكامل.»

انتقلت الفولون جونج إلى الغرب في الوقت الذي أضحت فيه أفكار من قبيل «طاو الفيزياء» جزءًا من ثقافة العصر الجديد الخلفية تُبرز موضوعات من قبيل وحدة كل الأشياء وتجاوز الأضداد، ثقافةٍ تركيبية تجمع بين الطاوية والبوذية والزن و«الفكر الصيني» مع «الفيزياء الجديدة» (كابرا ١٩٨٤). تزعم الحكومة الصينية أنها تدافع عن «الروح العلمية والإنجاز العلمي» حينما تهاجم الفولون جونج، موحية بأن الاهتمام بالممارسة يعكس ميراث الصين الإقطاعي، «نوعًا من اللاوعي الذي يمكن ملاحظته بقدر أكبر في كبار السن» (بيبلز ديلي، ١٨ مايو ٢٠٠٠). غير أن الخلط الراهن بين العلم والصوفية كان معناه أن توصيفات الفولون جونج باعتبارها إقطاعية ومعادية للعلم (بيبلز ديلي ٧ أغسطس ٢٠٠٢) كان لها تأثير محدود خارج الصين؛ حيث لا يثير الدهشة أن نسبة عالية من مواقع الفولون جونج موجودة على وحدات خدمة جامعية.

الإنترنت: شخص إلى شخص

تواصل الناس فيما بينهم. قالوا: «سأذهب. ماذا عنكم؟» حينئذٍ، قال آخرون «سأذهب أنا أيضًا.» ولأن الجميع يستفيدون جدًّا من التمرينات فقد شعروا بأن من واجبهم أو مسئوليتهم حماية مبادئ الممارسة. وهكذا كان الأمر فقط بفعل الناس: أُخبرك، فتخبره، فيخبر الآخرين، وهكذا. كذلك، كان ذلك اليوم يوم أحد؛ ولذا قال الناس «حسنًا. إنه يوم أحد. أستطيع أن أذهب.» أدهشني أن أرى أناسًا كثيرين هناك؛ لأننا لم نخطط أو نُحْصِ كم يمكن أن يحضروا، قال الناس وحسب «أحب أن أحضر.» كنت سعيدة لأنه كان هناك أناس كثيرون جدًّا. فكرت «يجب أن تنتبه الحكومة: ثمة كثير من الناس هنا.»

جيني، واصفةً كيف توصَّلت إلى المشاركة في تظاهرة يوم ٢٥ أبريل ١٩٩٩، خارج مجمع جونجنانهاي الحكومي

يصور الإعلام الصيني الحكومي الفولون جونج وكأنها منظمة متكاملة وتراتبية تقود محاولات لقلقلة النظام العام من بعد. غير أنه بقدر ما يمكن إعادة بناء أحداث ٢٥ أبريل، تتفق هذه الأحداث بقدر أكبر مع الرواية التي قدمتها جيني. كان هدف فعل ٢٥ أبريل هو الدعوة إلى رد الاعتبار عقب نشر مقال يدين الفولون جونج، وما تلا ذلك من اعتقال نحو ٤٠ ممارسًا احتجُّوا قبل ذلك بيومين في تيانجين. هذا الشكل من أشكال الفعل الذي يلتمس من مسئولي الحكومة رد الاعتبار على المظالم الجماعية كان هو أيضًا النمط الأساسي للفعل الذي استخدمته حركة الطلاب قبل ذلك بعقد، خلال احتجاج تيانانمن (إشكريك وواسرستورم ١٩٩١؛ وانظر أيضًا ناثان ١٩٨٥). تجمَّع ممارسو الفولون جونج خارج المدخل إلى جونجنانهاي نفسه الذي دعا فيه الحرس الأحمر في ١٩٦٧ بنجاح إلى الإطاحة بالرئيس ليو شاوتشي.

أكد الكثير من مراقبي الفولون جونج على أهمية الإنترنت. غير أن وسيلة الاتصال الأساسية التي نظمت الحدث في أبريل ١٩٩٩ كانت الهاتف. وبينما يبدو واضحًا أنه كانت هناك دعوة من القادة المقيمين في بكين للممارسين لكي يتقدموا بالتماس ضد اعتقال ممارسي الفولون جونج في تيانجين، فلم تكن خطوط الاتصال رأسية أبدًا؛ إذ كان الناس من مختلف المناطق يتصل بعضهم ببعض، على نحو يشبه كثيرًا ما وصفته جيني (انظر تونج ٢٠٠٢، الذي يعيد بناء الشبكات المنخرطة في الحدث من خلال روايات منشورة رسميًّا)، ومع ذلك، ففي الفترة اللاحقة لحظر الفولون جونج، تأكدت أهمية الإنترنت لتطورها المتواصل. تسمح الإنترنت للممارسين المحتملين بتنزيل كتابات لي هونججي دون تكلفة. يمكن للناس المحتمل أن يكونوا مهتمين أن ينزلوا ملفات فيديو مضغوطة تشرح كيفية أداء التمرينات. إذا أردت أن تعلم بأماكن جلسات التمرين ومواعيدها في حيِّك، فالإنترنت تفصِّل مواقع الممارسة وأوقاتها بالنسبة إلى مئات المدن في أوروبا وأمريكا الشمالية وآسيا (مقدمة أسماء أناس وأرقام الاتصال بهم هاتفيًّا فيما يتعلق بكل موقع ممارسة) (http://www.falundafa.org/world.htm). تجتمع شبكة الإنترنت والجاليات الصينية معًا لتفسير العولمة السريعة للحركة. وهذا واضح في حالة شارون، وهي من الناس المؤثرين في حركة الفولون جونج في هونج كونج. تعمل شارون لصالح بنك تمويل دولي، وتعلمَتْ ممارسة الفولون جونج من أختها أثناء المعيشة مع أسرتها في شيكاغو. غادرت أسرتها الصين مهاجرةً إلى الولايات المتحدة في الثمانينيات. ونزَّلت أختها كتاب لي من الإنترنت، وبدأت الممارسة في الولايات المتحدة؛ حيث بدأت شارون في الممارسة هي أيضًا قبل أن تتبوأ منصبها المالي الرفيع في هونج كونج.

تؤكد دراسة جوبين يانج للجالية الصينية الافتراضية على المدى الاستثنائي لشبكات الإنترنت الصينية، مفترضًا أن هذه الشبكات تشكل «مجالًا عامًّا يتخطى الحدود القومية» (٢٠٠٣)، مقدمًا ما يشير إليه أبَّادوري (١٩٩٦: ٣) بأنه موارد جديدة وضوابط جديدة لبناء الذوات المتخيَّلة والعوالم المتخيَّلة. والموضوعات التي نواجهها في أماكن أخرى حاضرة في خبرة الإنترنت هذه. وتعتبر ثقافة الإنترنت شخصية؛ إذ يشير المستخدمون بعضهم إلى بعض بصفة «صديق نت»، لا «مستخدم نت»، وتبرز الثقافة أبعادًا شخصية من الخبرة تتجلى مثلًا في الأهمية الاستثنائية لمجموعات الدردشة الهادفة إلى بناء صداقات، وعلاقات شخصية، وكذلك الاقتران والمواعدة. ثقافة الإنترنت هي ثقافة أفراد شخصيين أكثر مما تشكل مجالًا عامًّا أو «فواعل جمعيين».

السحر والدين والنزعة التلفيقية

تنشئ ممارسة التشيجونج علاقة بين الجسم والذاتية. ويرتبط هذا في حالة الفولون جونج بمطلب الحياة وفق واجبات الصدق والطيبة والحِلم، التي تُترجَم من حيث الأساس في علاقات شخصية. ولكن في الوقت ذاته، تجمع نصوص لي هونججي موضوعات من البوذية والطاوية وأبعادًا من ثقافة العصر الجديد من قبيل الاهتمام ﺑ «الطاقات»، وخبرات التحرر من الجسد، والقدرات الخارقة، والتنبؤ بالمستقبل، والارتقاء في الهواء، وما إلى ذلك. تعكس هذه الجوانب «الخارقة» الأبعاد المهمة لهوس التشيجونج في الصين في الثمانينيات؛ حيث اعتاد أساتذة التشيجونج أن يملئوا الملاعب وأن يفتنوا الجماهير بقدراتهم مثل الارتقاء في الهواء وعرض التشي وما إلى ذلك؛ وهي أبعاد مهمة من الثقافة الشعبية الصينية.

تشير عولمة التشيجونج إلى تحول أشمل في مبادئ الدين والإيمان. ويبرز مانويل كاستلز (٢٠٠٠) التراجع الطويل المدى للتراتبية بوصفها شكلًا من أشكال التنظيم في المجتمع الشَّبَكي. بينما يؤكد عالم الاجتماع التشيلي كريستيان باركر-جوموسيو (٢٠٠٢) على تداعيات هذه العملية من حيث أنماط الأديان؛ حيث يلحظ الانحلال المؤسسي المتزايد للأديان، والأهمية المتزايدة لنزعات التلفيق الدينية-السحرية. في مثل هذه الصور الناشئة من صور السحر، التي تتراوح من الغنوصية إلى التنبؤ بالمستقبل والتنجيم، رمز الكاهن (بصفته وسيطًا بين المدنس والمقدس) غائب، بينما «الرؤية الكونية» لمثل هذه الأسحار الجديدة هي رؤية لعالم تحكمه الأرواح والطاقات. وثمة جماعتان هما الأكثر ارتباطًا بمثل هذه السحر الجديد: أولئك الذين يمتلكون خلفية علمية ويعيشون في عالم العلم والتكنولوجيا، وأولئك المنتمون إلى الجماعات الهامشية. هاتان الجماعتان تمثلان الحاملين الأساسيين للفولون جونج؛ الناس المنخرطين في العلوم والتكنولوجيا والناس الأكبر سنًّا الذين يتعاملون مع أمور الصحة.

عولمة الفولون جونج جزء من توسع أكبر لكل ما هو سحري وباطني. ويزعم باركر-جوموسيو أن هذا ينبغي فهمه في سياق التحول إلى المجتمع الشبكي. تنطوي عقلانية المجتمع الصناعي على قوانين إقصائية (التصنيف على أساس «أ» أو ليس «أ»)، وهو نمط من التنظيم يتضمن دوران البضائع والخدمات والناس مفضيًا إلى حدود مقررة بوضوح، من حيث الفضاء والأنظمة الرمزية. يفترض باركر-جوموسيو (كما فعل ماكس فيبر) أن الأشكال المؤسسية في المجتمع الصناعي هي لهذا السبب تراتبية. ويجلب التحول إلى مجتمع شبكي الأهمية المتزايدة لتدفقات الاتصال والمعلومات، متضمنًا أشكالًا من قواعد الاتصال إدراجية (وليست إقصائية)، ومتساهلة مع التنوع. ويؤدي هذا إلى أشكال من التنظيم مبنية على الخلايا والشبكات، متميزة بالواجهات والتداخلات المتعددة، ونقاط التلاقي والتقاطع. وهذا الانتقال إلى الشبكة بوصفها أساس التنظيم الاجتماعي يعني أن الحدود تتشوش، بما يُفضي إلى تحلل الحدود الواضحة من حول «الأديان».

استعرض طلال أسد ظهور مفهوم «الدين» بصفته مجالًا رمزيًّا محددًا في أوروبا خلال القرن الثامن عشر، وهو ما كان جزءًا من تحول أكبر كثيرًا يتضمن «نوعًا جديدًا من الدولة، نوعًا جديدًا من العلم، نوعًا جديدًا من الشخص القانوني والمعنوي» (أسد ١٩٩٣: ٤٣). وكما يفترض أسد، فالتصور المفاهيمي المحدد للدين الذي ظهر ليدعي مكانة الفئة الكونية، يعكس في الواقع تحولات جوهرية في الفهم الذاتي للمسيحية الذي حدث في أوروبا على مر القرنين السابع عشر والثامن عشر، وهو فهم «يؤكد أولوية المعتقد باعتباره حالة عقلية، لا باعتبار أنه يشكل نشاطًا في العالم» (١٩٩٣: ٤٧). ونتيجة لذلك، اتخذ الدين شكل مجال محدد على نحو معترف به، بينما كان يُفهم في الوقت ذاته بوصفه كونيًّا؛ كل المجتمعات، كما كان يقال، كانت تمتلك بالتساوي مثل هذا المجال المحدد؛ ولذا فالتحولات في المسيحية الأوروبية تصلح أساسًا لنموذج كوني ﻟ «الدين».

يزعم باركر-جوموسيو أن كثرة الوصلات ونقاط الالتقاء تفضي إلى تحلل المجال الديني الذي ظهر في أوروبا على امتداد القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. لا يعني هذا نهاية الدين، ولكن التحلل النسبي ﻟ «التخوم» التي كانت تفصل في وقت سابق بين الدين وغير الدين. ويعني هذا في المجتمعات الغربية تشوش الفصل الذي كان واضحًا في وقت ما بين الدين والسحر، كما يتجلى في الأشكال الجديدة من التنسك، والبحث عن المعجزات، والأهمية المتراجعة للمؤسسات والأدوار الوسيطة كالقساوسة. ولكن بالإضافة إلى عملية إضعاف التخوم هذه، يرى باركر-جوموسيو أنه كما كان هناك «توافق انتقائي» بين القيم الأخلاقية البروتستانتية وبين الرأسمالية الصناعية (القيمة الأخلاقية للعمل، والجهد، والادخار، وما إلى ذلك)، فهناك توافق مماثل يفترضه بين الثقافات الجديدة للعلم-التكنولوجيا والأهمية المتزايدة لما يسميه «السحر الجديد» في الثقافة العالمية. اقترنت الحداثة الصناعية بانتصار نموذج العقلنة، مقابل الخرافة والمعرفة والحكم الشعبية؛ حيث انبثق العلم الحديث من تقاليد من قبيل الخيمياء والسحر (كما يتجلى في الدَّين الكبير الذي يحمله مؤسسو العلوم الحديثة مثل نيوتن للخيمياء)؛ ثم الشروع في إنكار هذه التقاليد باعتبارها غير عقلانية. كان العلم الحديث الذي تطور ذا نزعة عقلانية، مادية، ميكانيكية، وإمبريقية، ووضعية، بادئًا بإقصاء فعل الذات العارفة وخبرتها لصالح الحالة الموضوعية للمعرفة (بريجوجين وستينجرز ١٩٩٧). ويفترض باركر-جوموسيو أن العلم المعاصر متأثر بقدر متزايد بموضوعات السحر، على ما يتجلى في الافتتان بكسر القيود، والبحث عن إمكانات كانت في وقت من الأوقات تُقرَن بالسحر، من قبيل التغلب على قيود الحياة والموت. يشير علماء الجينيات مثلًا إلى الجينوم البشري بأنه «الكتاب المقدس»، «كتاب الحياة»، أو «الكأس المقدسة» مفترضين أننا نقابل في «الدي إن إيه» الخلود والإله (اسْفِيه ٢٠٠١). يقول باحث هارفارد المتخصص في علم الحشرات، إدوارد أو ويلسون إنه بدلًا من أن نرى الدين تحل محله عقلانية العلم، ﻓ «العلم دين متحرر، واضح … طريقة أخرى لإشباع النهم الديني» (ويلسون ١٩٩٧: ٧).١

يؤكد المختصون بالصين على تحلل مجال «الدين» في ذلك البلد؛ إذ يبرزون على وجه الخصوص فعل الدولة التي رغبت تاريخيًّا في الحد من توسع البوذية والطاوية، تحت حكم عائلات السونج (٩٦٠–١٢٧٩ ميلاديًّا) والمينج، والتشينج (١٣٦٨–١٩١١ ميلاديًّا)، وهي عملية تواصلت واشتدت في ظل النظامين القومي والشيوعي. وفي القرن العشرين، استمر هذا؛ حيث استهدف غلق المعابد وحظر المهرجانات المحلية تدمير ممارسة عبادة الأسلاف. ويفترض مؤرخو الدين الشعبي في الصين أن النجاح الواضح لهذا المشروع الذي تقوده الدولة سرَّع من ظهور «تديُّن حديث معبَّر عنه من خلال الالتزام الطوعي الفردي، ومن خلال المسارات الشخصية في الحركة» (بالمر ٢٠٠٣).

المبادئ المجسَّدة

في هذا الفصل ظللنا نحاول التعامل مع ما يصفها دارسو الصين بأنها «ربما تكون أكبر حركة جماهيرية في الصين الحديثة خارج السيطرة المباشرة للحكومة» (شياويانج وبيني ١٩٩٤). ليس في مركزها الحديث، ولكن الخبرة المجسَّدة، وأشكال الممارسة التي يكون فيها الجسد مَعْبرًا إلى الذات، وإلى الآخر. وبدلًا من أن يكون الجسد عقبة، فهو شكل من الحضور في العالم، طريق للانتقال إلى عوالم خفية من علم آخذ في العقلنة، طريق حسي وشعوري؛ حيث لا يمكن تحقيق الفهم إلا من خلال الخبرة المجسَّدة. أشكال الاستشفاء التي تأملناها تستجيب لخبرات الفقد والمعاناة والأسى المتصلة بمعاني الإعياء، المؤدية إلى أشكال من الممارسة لا تهدف إلى بناء «هويات جمعية»، بل أشكال من «شخصانية مكثفة» وما يمكننا تسميته «شخصانية جسمانية مكثفة».

انتشر هذا سريعًا على الصعيد العالمي من خلال مسارات عدة: مبادئ علاقة الشخص بالشخص سهلتها ثقافة الإنترنت؛ ثقافة الاستشفاء هي ثقافة لها صدًى مميز في الثقافة الصينية؛ بينما كان تشوش الحدود بين العلم وبين كل ما هو باطني في صورة السحر الجديد يعني تغلغلًا فعالًا لهذه الحركة بين الجماعات العلمية المتعلمة، مسرِّعًا من عولمتها. الانطباع الأقوى الذي يمتلكه غير المتخصص في الصين في محاولته فهم هذه الحركة هو البحث عن حيز خاص، وخبرة خاصة، وهو بحث يعاش من خلال فكرة «التربية» التي تنجَز من خلال شكل من الممارسة المجسَّدة التواصلية. الباطني والغريب يلعبان دورًا مهمًّا في هذه الخبرات، ولكن ليس ضمن الفهم الغربي ﻟ «المعتقَد» الذي يحدِّد «الفعل». بدلًا من ذلك، يفتح الباطني والغريب مجالًا من الخيال، ربما كاشفًا في هذا الصدد عن خبرات للذاتية مماثلة لغيرها مما نستكشفه في هذا الكتاب. لا تملك حركة الاستشفاء هذه في جوهرها الفئات المنتصرة للهوية الجمعية والفواعل الرشداء، ولكن خبرات شخصية بالفقد، والتجسد، والغموض والسحر.

هوامش

(١) لا تتضح هذه النزعات في العلوم الطبيعية وحدها، ولكن في العلوم الاجتماعية أيضًا. في فرنسا، مثلًا، عام ٢٠٠١، منحت جامعة باريس المرموقة درجة دكتوراه في علم الاجتماع لأطروحة تدافع عن التنجيم بصفته علمًا اجتماعيًّا. كتب الرسالة (التي أشرف عليها ميشيل مافيسولي) واحد من أشهر مُنَجِّمي فرنسا، لا ينشر فقط عمودًا أسبوعيًّا في أكثر المجلات التليفزيونية الأسبوعية تداولًا في هذا البلد، ولكنه عمل بصفته المنجِّم الذي يشير على الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران («شهادة منجم تثير مخاوف العلماء»، مجلة «ساينس» ٢٩٢ (٥٥١٧) (أبريل ٢٠٠١): ٦٣٥).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤