الفصل الثامن

الإسلام العالمي: أهو آخِر الحداثة؟

طالما شكَّلت الأفهامَ السائدة عن الحداثة بعمقٍ نظريات التحديث، متضمنةً فكرةَ التقدم، وزيادة الحرية الفردية؛ حيث يتحرر الأفراد من قيود التقليد والمجتمع، وهي عملية تُنتِج العلمنة؛ حيث يتقلص حجم الدين، أو يصير على نحوٍ متزايد محدودًا بالحياة الشخصية والمعتقدات الخاصة. ولعل هذا الفهم بلغ ذروتَه في الخمسينيات، لكنه كان بوضوح جزءًا من الفهم الذاتي الغربي منذ عصر التنوير. وكان من المفكرين مَن تَبنَّى حركةَ التحديث مثل ماركس، ومنهم مَن تحسَّرَ على موت المجتمع مثل تونيز. كما بُني هذا الفهم الذاتي أيضًا في مقابل الآخَر؛ إذ بُنِي فهمُ ماركس للمادية التاريخية ونظريته عن التطور في مقابل ما سمَّاه «الاستبداد الشرقي» القائم في نمط الإنتاج الآسيوي، الذي قصد به أن المجتمعات الآسيوية كانت مجتمعات لا تاريخية.

وبعد قرن، نشر دانييل ليرنر كتابَه الشهير «موت المجتمع التقليدي» (١٩٥٨)؛ حيث ادَّعى أن كل المجتمعات مشتركةٌ في العبور من التقليد إلى المجتمع الحديث، وحيث يؤكد أن العملية الحاسمة الضرورية لحدوث التحديث هي خصخصةُ المعتقَد الديني. ويطور ليرنر أيضًا نظريته في إطار العلاقة بالآخَر، مركِّزًا على الشرق الأوسط والمجتمعات التي يكون فيها الإسلام دينَ الأغلبية، مدَّعيًا أن هذه المجتمعات تواجِه خيارًا قاطعًا، يعتبر «التحديث ومكة» متضادين. وبينما تطلَّعَ ماركس إلى البنية الاقتصادية ليفسر فشلَ التحديث، جادَلَ ليرنر بأنه من الممكن فهْمُ إخفاقِ مجتمعٍ ما في التحديث بإخفاقه في التحوُّل إلى العلمانية. ووفق هذه الرؤية، كان التحديثيون علمانيين بحكم التعريف، وتبنَّى هذه الرؤية برنارد لويس، المؤرخ البريطاني، رائد دراسات الشرق الأوسط الأمريكية، الذي اعتقد أن المسار الوحيد إلى التحديث في تلك المنطقة كان هو المسار الذي اتخذته تركيا الكمالية؛ حيث فرضَتِ الدولة والجيش معًا نموذجًا للتحديث الغربي على المجتمع؛ يتجلى مثلًا في التحوُّلِ من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية، وحظر ارتداء أغطية الرأس علنًا. واستحدث مثل هذا الحظرَ لاحقًا شاه إيران أيضًا.

كان لويس، المُعجَب بتركيا العلمانية، هو مَن سكَّ مصطلح «صدام الحضارات» — وإن كان قد سبق استخدامه من قِبَل المبشِّرين البروتستانت الأمريكيين في الشرق الأوسط في عشرينيات القرن العشرين (بولييت ٢٠٠٤) — الذي استخدمه صامويل هنتنجتون (١٩٩٦) وأشاعه. يبسط لويس مقابَلةَ ليرنر بين مكة والتحديث، مروِّجًا مقولةً ذات طابع وظيفي؛ حيث يؤكد أن البنى الاجتماعية والأعراف التقليدية تصدَّعت، غير أن المجتمعات الإسلامية فشلت في أن تتحدَّث. وانهيارُ القديم الذي أعقبه فشلُ الجديد هو مصدرُ «سخط المسلمين» الذي يؤدي إلى «صدام الحضارات» (لويس ١٩٩٠). واضحٌ في مقولة لويس فكرةُ أن الإسلام حضارة فاشلة، لم تنجح في تحقيق الفصل بين العام والخاص، الفرد والمجتمع، الدين والثقافة، وهو الفصل الذي تَميَّزَ به الغرب العلماني. وهذا الوصف للإسلام باعتباره الآخَرَ الفاشلَ يتغلغل في أعماق الثقافة الغربية، ولا يقتصر على المحافظين السياسيين بأي حال. يصف المُنظِّرُ السياسي البريطاني ﻟ «المجتمع المدني العالمي»، جون كين، التاريخَ الإسلامي على أساس أنه «سعيٌ إسلامي إلى التفوُّق العالمي» (٢٠٠٣: ٤٢)، وهو سعيٌ «أحبطته» أوروبا، «تاركةً الكثيرَ من المسلمين بذاكرةٍ متطلِّعة لا تزال قويةً حتى اليوم؛ وعي حي بإنجازات الإسلام التاريخية المذهلة، مصحوب برفض قبول العالَم الحالي» (٢٠٠٣: ٤٢-٤٣).

هذا التصوُّر للتحديث شكَّلَ بعمقٍ العلاقةَ بين علماء الاجتماع وبين الحركات الإسلامية. وفي أغلب الحالات، كان يعني تجاهلَ الحركات والخبرات الإسلامية جمعاء؛ لأن معظم علماء الاجتماع فهموا الحركاتِ الاجتماعيةَ باعتبارها تحديثية؛ ومن ثَم متعلمنة بحكم التعريف. بَدَا هذا غنيًّا عن الإثبات، في حقبةٍ ما بعد استعمارية تسودها الحركاتُ والزعامات القومية والعلمانية، مثل: ناصر في مصر، وجبهة التحرير الوطني في الجزائر، وحزب البعث في سوريا والعراق، أو منظمة التحرير الفلسطينية (كيبل ١٩٩٤: ١٤). وبقي هذا الموقف حتى أزمةِ القومية العربية التي جلَّاها انتصارُ إسرائيل في حرب ١٩٦٧.

فُهِمت الحقبةُ اللاحقة لأزمةِ هذه الحركات القومية على نحوٍ واسع بمعايير «أسلمة المُخالِفين» (كيبل ١٩٩٤). يَعتبر كثيرٌ من المراقبين، ومن الفاعلين السياسيين أيضًا، أن الإسلامَ هو المعادِلُ للتعبيرات الأسبق عن القومية، الذي يحلُّ محلَّ الموضوعات العروبية المقترنة بجيل ناصر. ويفترض بول لوبك وهو يكتب من داخل منظور العملية السياسية، أن الحركات الإسلامية «تتستر بغطاء المقاومة القومية للهيمنة الأجنبية بلا منافِس، بفضل قمعِ اليسار العلماني. والأكثر أن مثل هذا الحَراك أسهلُ من المهمة التي تواجِه اليسارَ السياسي، ما دام أنه:

لا يحتاج المناضلون لشرح المفاهيم التأسيسية لهيجل أو ماركس أو لوك؛ فالجميع يعرفون مفردات البديل الإسلامي، الذي يفهمونه بالفعل باعتباره ثقافةً محلية … بالاستحواذ استراتيجيًّا على غطاء القومية المناهِضة للإمبريالية، وهو خطاب كان يسيطر عليه رسميًّا القوميون العلمانيون والحركات اليسارية على نحوٍ حصري، أصبحت النزعة الإسلامية هي أكثر حركةٍ اجتماعية معادِية للنُّظُم اتساعًا ونضاليةً في العالَم. (٢٠٠٠: ١٦٠، ١٦٣)

من هذه الرؤية، يُعَدُّ الإسلام تعبيرًا عن ثقافةٍ وهويةٍ قوميتَيْن، ويعبِّر عن تفضيلٍ للأداة التقليدية لتحقيق التغيير الاجتماعي، وهي الحزب السياسي. ومن وجهة نظر مراقبين آخَرين، مع ذلك، تعني أزمةُ القومية أزمةَ إمكانيةِ التحديث ذاتها.

ولذا يشيع النظر إلى الحركات الدينية بوصفها ردَّ فعلٍ دفاعيًّا ضد العولمة، تأكيدًا للخاص ضد العام. يتضح هذا من نموذج «هوية المقاومة» الذي يصوغه مانويل كاستلز؛ إذ يجادل بأن «الله، والأمة، والأسرة والمجتمع سيقدمون نواميسَ خالدة ولا تُخرَق، سيُبنى عليها هجوم مضاد» (كاستلز ١٩٩٧: ٦٦). يردِّد هذا التحليل نموذجًا تكرَّرَ في الثقافة الغربية، وهو تحديدًا الدفاعُ عن المجتمع وثقافته ضد منطق السوق المعتدية، كما يتجلى في التقليد الرومانسي الألماني، أو علم الاجتماع التونيزي، أو في عمل كاستلز الأسبق عن المدينة العالمية (١٩٨٣)، الذي يفترض فيه أن المجتمعات المحلية ستنشئ جيوبًا دفاعيةً لحماية أنفسها من العالمية. في مقابلة كاستلز ما بين الحركات العالمية المحتملة (حقوق الإنسان، النسوية، البيئة) والحركات الدفاعية (الإثنية، والقومية، والدينية)، وجَدَ أنَّ الحركات الدفاعية مناهِضةٌ للحداثة وسلطوية؛ حيث تتخذ العلاقةُ بالمعنى شكلًا تكون فيه «غيرَ قابلةٍ للمُعالَجة … بل يجب طاعتها واتباعها فقط» (كاستلز ٢٠٠٠: ٢٢). هذه الرؤية ردَّدَها أنطوني جيدنز الذي كتب:

كيف تُعرِّف الأصولية؟ الأصولية تقليدٌ مولعٌ بالقتال مبدئيًّا، حبيسٌ في أنظمة الاتصال الحديثة … الأصولية تقليدٌ يدافع عن نفسه في عالَم لم يَعُد من الممكن فيه الدفاع عن التقاليد بطريقة تقليدية … الأصولية هي تقليدٌ منقًّى. (جيدنز ١٩٩٩: ٦-٧)

نواجه هنا تكرارًا للمقابلة ما بين الحداثة والتقليد، بين المجتمع والمجتمع المحلي: من وجهة نظر جيدنز هذه مقابلة بين «الكوزموبوليتانيين» و«الأصوليين».

يفترض سيدني تارو على نحوٍ مثير للاهتمام أن الإسلام نشأ في الواقع بوصفه حركةً عالمية، غير أنه استمرَّ في تقديمِ ما يُضارِع الكاريكاتير:

جديرٌ أن نتذكر أن أقوى حركةٍ عالَمية في أوائل التسعينيات لم تكن مكوَّنةً من أنصار البيئة أو نشطاء حقوق الإنسان الغربيين المتصلين وديًّا بحركات الشعوب الأصلية في العالم الثالث، ولكن من الأصوليين الإسلاميين الراديكاليين الذين قتلوا المطربين الشعبيين وضربوا النساءَ اللاتي تجوَّلْنَ سافرات. (١٩٩٨: ٢٤٢)

الحضارات: التداخلات والحدود والحواف

مقابل هذا النموذج السائد الخاص بالمركز ومقاومته، تُبرز دراسات الحضارات المقارنة مدى تداخل الحضارات عبر المواجهات التي لا يمكن فهمها فقط، أو حتى مبدئيًّا، بمعايير الصراع والصدام. ويبرز مؤرخ الحضارات المقارنة، تيري زاركوني (٢٠٠٣)، تحديدًا مدى الأهمية التي حظي بها مثل هذا التبادل، ملاحظًا أن أول «صدام حضارات» في القرن الثالث عشر الميلادي، هو الذي اكتشف الأوروبيون من خلاله، بفضل العرب، وعبر الإسلام، التراث الإغريقي لأفلاطون وأرسطو، والكيمياء، والرياضيات، والفلك، والطب. يتجاوز مدى هذا التبادل دور الحضارة الإسلامية بصفتها مخزنًا أو ناقلًا للحضارة الإغريقية والكلاسيكية. وفي قاهرة القرن الرابع عشر، التي كانت حينئذٍ رأس المال الفكري للعالم، طور ابن خلدون الشمال أفريقي (١٣٣٣–١٤٠٦)، باستكشافه صعود مجتمعات إسلامية مختلفة واضمحلالها، أول مفهوم للتاريخ غير الديني؛ إذ مثَّل عملُه ميلاد الفهم الحديث للتاريخ. كان من شأن هذا الوعي بالعصر الحديث أن يلعب دورًا مهمًّا في ميلاد الحداثة، مثله مثل تلك الأجزاء من أوروبا التي تفاعلت بالقدر الأكبر مع الخبرة الإسلامية، على رأسها الدول-المدن الإيطالية. ويلحظ زاركوني كذلك «الشخصية» الغربية للإسلام: من الناحية الجغرافية، بفضل موقعه إزاء آسيا؛ ومن الناحية الثقافية إذ ينشأ الإسلام من تقليد إبراهيمي وإغريقي معًا (مدين بعمق لأرسطو وللفلسفة الإغريقية، وعلى رأسها نموذجها الاستنباطي-الافتراضي الذي يشكل معمار القانون والثيولوجيا الإسلاميَّيْن). يزعم زاركوني أن أجزاءً مهمة من الخبرة الإسلامية تتطور في حضارات تخومية أو وسيطة بين الفرس، والساسانيين، والعالم التركي-الإيراني، التي كانت لها لغات هند-أوروبية، والتي تقع من الناحية الثقافية في الغرب. ويشير زاركوني أيضًا إلى الالتقاء بين الإسلام والحضارات الشرقية للصين والخبرة الهندوسية؛ حيث تتخذ نواتج هذا التلاقح في النهاية طريقها إلى الغرب. وتبقى أبعاد مهمة من الخبرة الإسلامية متأثرة بعمق بالخبرات الشرقية كذلك، من الأساس الكونفوشي والطاوي للمسلمين الصينيين، ومن الأساس الهندوسي للمسلمين الهنود والإندونيسيين، والأسس البوذية والأرواحية والشامانية للإسلام التركي؛ تلعب دورًا أساسيًّا في التقليد الصوفي الباطني للإسلام (زاركوني ٢٠٠٣). انتشرت هذه الابتكارات عبر العالم الإسلامي، من معمار الأديرة البوذية المبني من حول ساحة مركزية ليرتقي ﺑ «المدرسة»، إلى الأصول البوذية للجماليات الأدبية الفارسية، بينما يمزج الإيجور المسلمون في الشينجيونج في أقصى غرب الصين ما بين الطب العربي والإغريقي وبين الأسلوب الصيني للعلاج بالأعشاب. ودخلت اليوجا العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر، مرتبطة بخبرات الترانيم والتنفس التي تطورت في الأخويَّات الصوفية الهندية، وانتشرت من خلال الممارسات الصوفية (زاركوني). تتواصل هذه التداخلات حتى الوقت الراهن، ولا تخلو من تنازع وصراع، كما في النقاشات بشأن اليوجا في مصر حاليًّا.

يطور المؤرخ الأمريكي ريتشارد بولييت رأيًا مماثلًا من خلال تقديم موضوع «الحضارة الإسلامية-المسيحية» (٢٠٠٤). ويجادل بقوة ضد فكرة صدام الحضارات، مقترحًا أن من الأفضل فهم المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والمجتمعات ذات الأغلبية المسيحية في أوروبا الغربية وأمريكا بوصفها جزءًا من الحضارة نفسها. ويزعم أن التطور التاريخي للمسيحية والإسلام يتوازيان عن قرب ويتواصلان لدرجة أنههما يُفهَمان على النحو الأمثل بوصفهما نسختين من «نظام ديني اجتماعي» مشترك (٢٠٠٤: ١٥). ويضع أرماندو سالفاتوري الدين الذي دعا إليه محمد داخل «النمط الغربي» المستند إلى التسامي، ومختلفًا عن النسخ الآسيوية من الحضارات المحورية التي لا تقوم على فكرة المتسامي. نلقى في الإسلام التوتر المحوري بين النظام الكوني والعالم الدنيوي، مفضيًا إلى فكرة «مساءلة» الحكام أمام الله، أو شرع الله؛ وهو مصدر للاضطراب وللتوتر، ومن مسببات التغيير التاريخي. كان أتباع النبي يتفاعلون مع الإيمان والمجتمع الجديدين، على أساس تصميم الفرد على اتباع الإله الواحد ونبيه. لم يعودوا أعضاءً في قبيلة وحسب، ولكنهم كانوا أيضًا مجتمعًا أسمى، وهو «الأمة»، مبرَّرًا بمفاهيم التسامي؛ حيث كان الجميع متساوين من حيث المبدأ، بينما نشأت في الواقع سلسلة من التراتبيات على أساس القرب من النبي (سالفاتوري ١٩٩٧: ١٨).

كان ظهور الإسلام وتطوره عملية ديناميكية، كما كان الأمر في الحركات الأخرى التي كان من شأنها أن تصير ديانات. يشير سالفاتوري إلى التوتر داخل الحركة التي أسسها النبي؛ حيث تظهر في القرآن كلمة «الله» ٢٦٩٧ مرة، وكلمة «دين» (السلوك على نحو قويم أمام الله) ٩٢ مرة، بينما يتكرر مصطلح «الإسلام» المحدد بصفته اسمًا ثمان مرات فقط. وما هو أكثر تكرارًا هو الفعل المشتق «أسلم» بمعنى «أن يسلم المرء ذاته بالتزام تام». ويتكرر الانتصار التدريجي لمصطلح «إسلام» كثيرًا فيما بعد، نتيجة العملية التاريخية المعقدة، وفي فترة أحدث كثيرًا، عاكسًا ظهور مفهوم «الدين» داخل أوروبا، في سياق ظهور العلم الحديث (أسد ١٩٩٣)؛ حيث صار التوتر «المحوري» بين هذا العالم وما بعده يصاغ مجددًا باعتبار أنه توتر بين مجالين، ديني وعلماني (سالفاتوري ١٩٩٧: ٢٤). وفي هذا السياق أيضًا تظهر الفكرة الحديثة بأن الدين يتكون من سلسلة من «المعتقدات» المشخصنة، وحيث يتطور المفهوم العام الحديث للدين بوصفه عملية تنظيم لهذه المعتقدات؛ وهو تطور في المسيحية يشكل أساس الفهم الأنثروبولوجي الحديث للدين باعتباره نظامًا رمزيًّا (أسد ١٩٩٣).

يؤكد باحثو الأديان المعاصرة الطريقة التي تماثلت فيها عمليات تحول أحدث عبر المذاهب الدينية. يلحظ عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي روبرت هفنر (١٩٩٨) تماثلات مهمة بين التجديد الإسلامي والهندوسي وبين تجديد البروتستانتية الذي حدث في وقت مبكر في القرن العشرين. ويطوِّر عالم السياسة الفرنسي أوليفييه روي (٢٠٠٤) مقولة مشابهة؛ إذ يشير إلى العمليات الرئيسية النشطة في الإسلام المعاصر، وخصوصًا خصخصة الاعتقاد وتراجع الأشكال المعترف بها من السلطة الدينية (وهو موقف يصفه بولييت بأنه أزمة السلطة الدينية)، وهي تطورات وتوترات تتجلى بالقدر نفسه في المسيحية المعاصرة.

يمكننا أن نربط مسألة الحضارة بالنقاشات الراهنة حول العولمة، وهي النقاشات التي تركز على نحو متزايد على التدفقات العالمية، الأشكال الناشئة من السيولة، والتعقيد (أوري ٢٠٠٢)، وتداخل أشكال مختلفة من المشاهد (المشاهد الإثنية، والمشاهد المالية وما إليها). ويفترض بولييت أن عمليات الابتكار والتحول الرئيسية في الإسلام تحدث فيما يسميه «مواقف الحافة»، ليست هذه بالضرورة على الهامش الجغرافي للإسلام، ولكن في مناطق الالتقاء بتقاليد أو حضارات أخرى. لعبت مثل هذه المناطق تاريخيًّا دورًا محوريًّا في تطور الإسلام، من جمع أحاديث محمد، ومرورًا بظهور المدارس في المناطق المتاخمة للبوذية، أو ظهور التقليد والممارسة الصوفيَّيْن؛ فيما أصبح تركيا.

شيوع جديد

الإسلام المعاصر هو مثل مدهش لما يشير إليه أوري بأنه «تعقيد عالمي»؛ شبكات تدفقات، ورموز، واتصالات، وخبرات. ويبرز آيكلمان النمو الاستثنائي المقترن بالإسلام الذي يشهده مجال عام ناشئ، مشيرًا إلى عمليات حاسمة: انتشار التعليم العالي، والأهمية المتزايدة للسفر والانتقال، وانتشار وسائل الإعلام الجديدة والقديمة عبر العالم ذي الأغلبية المسلمة وما وراءه؛ تتنوع ما بين المطبوعات والإذاعة، والتليفزيون، وأشرطة التسجيلات المرئية والمسموعة، والسي دي، والدي في دي، والإنترنت. وهذا جزء من انفجار في الثقافة الشعبية للمسلمين، من الموسيقى إلى القصص الخيالي المثير، وخصوصًا القصص الخيالي الرومانسي (لنظرة عامة، انظر أندرسون وآيكلمان ١٩٩٩؛ جول ٢٠٠٢). ويؤكد أندرسون إلى أي مدًى لا يتسق هذا مع نموذج الإعلام الجماهيري القائم على عدد صغير من المرسِلين وعدد كبير من المستقبلين، ولكنه ينطوي على لغات جديدة، وأصوات جديدة، وكذلك جماهير جديدة.

يفترض آيكلمان «أن معنًى جديدًا من معاني الشيوع آخذ في الظهور عبر الدول ذات الأغلبية المسلمة، والمجتمعات المسلمة خارجها» (٢٠٠٠). لكننا بحاجة إلى تمييز ما يحدث هنا من النماذج التي هيمنت على العلوم الاجتماعية؛ فالمقاربة الذائعة الشهرة التي طورها عالم الاجتماع الألماني يورجن هابرماس أُسست على رواية مثالية لظهور المجال العام في أوروبا، رواية تبرز تطور المقاهي ونوادي النقاش في المدن الأوروبية التي يزعم هابرماس أن التصور الحديث للمجال العام انبثق منها.

ويفترض جون أندرسون أن بإمكاننا أن نأخذ هذه الفكرة، ويقترح، بِناءً على نظرية بنديكت أندرسون (١٩٩١) عن المجتمعات المتخيَّلة، نموذجًا أقل استنادًا إلى الخصائص البنيوية للغة، ولكنه بدلًا من ذلك يقترح أن نركز على مفهوم «الرحلات الكريولية» وهو مفهوم يتيح لنا أن نتجاوز المنظمات غير الحكومية الدولية، وكذلك المجتمعات الثابتة؛ لنستكشف بدلًا من ذلك الشيوع بمعايير عمليات الانتشار، أو نطاقات الاتصال التي يدخلها الناس ويغادرونها. وهذا تحول واجهناه في أماكن أخرى: تحول عن نموذج المجتمع إلى نموذج التواصل. يحاكي هذا تحليل بيتر ماندافيل لما يسميه «الإسلام العبرمحلي». تنتشر مثل هذه المجالات العامة عبر البلدان ذات الأغلبية المسلمة، وكذلك فيما بينها وبين المناطق الأوسع للأقليات المسلمة. يقدم أندرسون مثال محامٍ في الأردن يشرح أنه من خلال الإنترنت يستطيع أن يجد تعبيرًا عن الإسلام غير متاح له في مسجد حيِّه أو من الشيوخ المحليين، وهو موقف ينطبق بالقدر نفسه سواء في فيرجينيا أم هامبورج أم القاهرة (أندرسون ٢٠٠٣).

تشي هذه الروايات أننا بحاجة إلى التحرر من متضادات العالمي مقابل المحلي، أو الكوني مقابل الأصولي، وأن نتحرر من فهم مسبق للحركات الإسلامية بوصفها تقليدًا دفاعيًّا، وأن نكون مستعدين لاستكشاف إمكانية العمليات الجديدة والدينامية. ويعني هذا التفاعلَ مع عملية إعادة تشكُّل أوسع (أسد ١٩٩٦) حيث يمر الإسلام كغيره من الديانات بعملية تجرد من المؤسسات. كما يؤكد بولييت، سلطة الزعامات الدينية الرسمية آخذة في الضعف، تماما كما نشهد في ديانات أخرى بالمثل. وتعني سلطة «العلماء» الآخذة في الاضمحلال تحولًا حاسمًا؛ حيث تُبنَى معاني الإسلام على نحو متزايد من قبل فاعلين سياسيين وحركات ثقافية أكثر مما تبنيها مؤسسات دينية (جول ٢٠٠٠). وهنا، يكتسب تحليل خبرة الحركة السلفية أهمية بالغة.

السلفية الجديدة مقابل التقليد: الخبرة السلفية

دائمًا ما تظهر حركات الإحياء والإصلاح الدينيَّيْن في سياقات تغيير واضطراب اجتماعيَّيْن وثقافيَّيْن وسياسيَّيْن أوسع، كما قد نتوقع، إلى حد أن تكون الأديان والخبرة الدينية من الطرق المهمة للكينونة في العالم، وأن تكون طرقًا مهمة تُحس من خلالها المسافة الفاصلة بين العالم وبين المتسامي. ميلاد الحداثة الأوروبية مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحركات الدينية؛ حيث أصبحت رؤية الخلاص المستقبلي الحاضرة في الديانة المسيحية معلمنةً من خلال الثورات الإنجليزية والفرنسية والأمريكية (وسابقتها في الثورة الألمانية ضد إسبانيا) (آيزنشتات ١٩٩٩). يفترض آيزنشتات أن الديناميات المتضمَّنة في التجديد الإسلامي مختلفة، رابطًا هذا بعمليات التوسع الجغرافي للإسلام.

توضح هالة فتاح (٢٠٠٣) أثر توسع الوهَّابية الذي أفضى إلى تشكيل المملكة العربية السعودية عام ١٩٣٢؛ من حيث حث الحركات الإسلامية الأخرى في العالم الإسلامي، وخصوصًا إحياء التقليد السلفي، الذي طالما كان له حضور ممتد، وخصوصًا في العراق. كان هذا التقليد مؤسسًا على علماء ووعاظ يدافعون عن سُنَّة «السلف الصالح»، المسلمين الصالحين في العصر الإسلامي المبكر. تلقت هذه الحركة دفعة قوية من كتابات جمال الدين الأفغاني (١٨٣٩–١٨٩٧)، وهو عالم وفيلسوف وسياسي وُلِد في إيران وتُوُفِّيَ في تركيا، بعد أن أمضى زمنًا كبيرًا في كلٍّ من باريس وأفغانستان (كما يشي اسمه)؛ حيث أصبح مشاركًا في القتال ضد الاستعمار البريطاني. آمن الأفغاني بأن الحضارة الإسلامية مهددة تهديدًا خطيرًا من الإمبريالية الأوروبية؛ إذ اعتقد بأن الإسلام صار ضعيفًا ومتحللًا، وملوثًا بالثقافات والتقاليد المحلية. وافترض أن الرد على الاستعمار الأوروبي ينبغي أن يُبنى على إعادة الالتزام بإسلام النبي؛ ولهذا دعا إلى حركة تجديد بالعودة إلى أصول الدين. ومن وجهة نظر الأفغاني، كان أي تفسير صحيح للقرآن والحديث (الأفعال والأقوال المنسوبة إلى النبي) متوافقًا تمامًا مع العلم الحديث والتفكير العقلاني، ومن شأنه أن يشجع على المثابرة، والعمل الجاد، والاقتصاد، بما ييسر تنمية الحضارة العقلانية والرأسمالية والديمقراطية. وكان اقتناع الأفغاني الجوهري هو بأن تحديث الإسلام كان يستلزم عودة إلى أصوله. الحق أن تحديث الإسلام لا يمكن أن يحدث إلا من خلال «التأصيل» (تيرنر ٢٠٠١).

سرعان ما اتخذت هذه الحركة الدينية والثقافية طابعًا دوليًّا، وهي مثال للمشهد الإثني الذي يصفه أبَّادوري. انتشر الإصلاح الإسلامي الوهَّابي على سبيل المثل إلى سومطرة سريعًا، جلبه إلى الجزيرة الزعماء الدينيون في مكة خلال الحقبة التي احتُلَّت فيها للمرة الأولى عام ١٨٠٣. وعند عودتهم إلى سومطرة شرع هؤلاء الزعماء في تطهير الإسلام من تساهله مع العادات المحلية مثل مصارعة الديكة، وتدخين التبغ، بينما طولب الرجال بارتداء العمامة، والنساء بتغطية وجوههن على الملأ. وكما في السعودية اتخذ هذا الدفع باتجاه التنقية شكل الهجوم المسلح على القرى، وأدى إلى إضعاف البنية الاجتماعية التقليدية، في سياق تحديث المجتمع؛ حيث فتحته النخب المتطلعة إلى الخارج للتجارة (دوبين ١٩٨٣). تطورت موجة تالية من السلفية في جاوة من عام ١٩٠٠ مع الهجرة العربية إلى هذه الجزيرة. الحركات الدينية ليست دفاعية ومحلية التوجه، مقابل الكوزموبوليتانيين العالميين، ولم تبدأ التدفقات العالمية مع السفر جوًّا.

الجذور الغربية للاتجاه السلفي

مهم أن ندرك أن هذا الإسلام التحديثي لم يكن مجرد استراتيجية ضد السيطرة الغربية. يُظهر بحث نوا سالومون المهم في السودان بوضوح كيف أراد النظام الاستعماري البريطاني من عام ١٨٩٨ إلى ١٩١٤ أن يمحو البنى الاجتماعية والثقافية ما قبل الاستعمار، مستهدفًا على وجه الخصوص الإسلام الصوفي، وشكل الحكومة المقترن به، وهو المهدية المؤسسة على قوة «المهدي». وشرعت الإدارة الاستعمارية في خلق تمييز بين الإسلام الصحيح والإسلام الباطل؛ إذ حظرت زيارة ضريح المهدي (دمرت الضريح في واقع الأمر، وبددت عظامه)، وقمعت ممارسات أخرى مقرونة بالمذهب الصوفي. رأت الإدارة البريطانية الممارسات الصوفية فظة، وهمجية، وحسية، بينما اعتبرت أن حركة الإصلاح السلفية القائمة في السودان من خلال المصريين ومساعِد الأفغاني، محمد عبده، مؤسَّسة على تفسير فقهي للنصوص. ويبين سالومون أن اللورد كرومر، حاكم مصر من ١٨٨٣ إلى ١٩٠٧، ساند بفعالية تطور الحركة السلفية بوصفها نسخة الإسلام الأكثر تكيفًا مع متطلبات التحديث. لم يسعَ تأثير الاستعمار إلى العلمنة، ولا إلى فرض المسيحية، ولكن إلى الحكم من خلال الدين:

لم يستلزم تأسيس دولة علمانية انسحاب الدين إلى المجال الشخصي، ولكن أن يدخل الدين المجال العام بأسلوب شديد الاختلاف عما كان من قبل. فمن خلال الدين، لم يعد تأسيس القانون والحكم كما كان في الثيوقراطية المهدية، حُوِّل الدين إلى سلاح مهم للحكم النظامي. كان إضفاء الطابع الشخصي على الدين هو بالضبط ما خشيه البريطانيون؛ لأن ذلك كان يعني إسلامًا خارج سيطرتهم. وبدلًا من ذلك، حاول البريطانيون خلق جمهور إسلامي جديد ليحل محل جمهور الصوفيين والنظم الخلاصية الشعبية في السودان. (سالومون ٢٠٠٣: ٢٩)

مورس الحكم الاستعماري وإعادة تشكيل المجتمع السوداني بطرق متميزة «من خلال» الإسلام بدعم الإصلاح السلفي.

عمومًا، اتخذت الحركة السلفية شكل حركة تديُّن، ولم تهدف إلى تغيير الأنظمة السياسية. غير أن تغيرات مهمة حدثت خلال القرن العشرين أفضت إلى تأسيس النزعة الإسلامية السياسية المعاصرة. يلعب كاتبان دورًا محوريًّا، وكلاهما يوجدان في سياقات حرجة. السيد أبو الأعلى المودودي (١٩٠٣–١٩٧٩)، عالم دين إسلامي، في منطقة حيدراباد، وهي إحدى المناطق ذات الأغلبية المسلمة الأساسية في الهند، في وقت التقسيم، كتب ووعظ عما سمَّاه انحطاط المجتمع الإسلامي حينما واجهته الخبرة الهندوسية. يؤكد المودودي أهمية الفعل السياسي، ودعا إلى إنهاء الاختلاط مع الأديان الأخرى. وكما يؤكد الكاتب التونسي عبد الوهَّاب المؤدِّب (٢٠٠٣)، يعرض المودودي تحولًا راديكاليًّا في قراءة القرآن، مقدمًا مفهوم السيادة السياسي الحديث، ومجادلًا بأن «السيادة ليست إلا لله». والعواقب هي صدع راديكالي: فهم حديث للمجال السياسي يدخل الفكر الإسلامي؛ ونتيجة ذلك، يصبح السِّياسي مُعرَّفًا على أساس المقدَّس. هذا الابتداع طوره بقدر أكبر مثقف مصري وعضو في «الإخوان المسلمين»، وهو سيد قطب (١٩٠٦–١٩٦٦). اعتبر قطب في كتاباته — فيما شعر بأنه موقف أزمة، وبالتحديد انتصار أيديولوجية ناصر القومية العربية العلمانية في مصر — أن العالم المعاصر فاسد لدرجة أنه يمثل حالة «جاهلية»، الحالة التي كان عليها العالم قبل تجلِّي الله من خلال الإسلام. وفي هذا السياق، يعيد قطب بطريقة جذرية تشكيل واحدة من البنى المفاهيمية الجوهرية للإسلام. ما قبل الوحي إلى النبي وما بعده. نُقل هذا التقسيم، وهو علامة على تحول جذري في طرائق الكينونة في العالم، من القرن السابع إلى الزمن المعاصر.

كان قطب ناظر مدرسة، مغرَّبًا، وُلد في قرية صغيرة انتهى لاحقًا إلى اعتبارها غارقة في الجهل بسبب الخرافة الشعبية. كتاباته المبكرة، مثل تلك التي كتبها الأفغاني، منغمسة في نوع من النزعة الرومانسية والحيوية التي انبثقت منها الفاشية الأوروبية. في كتابه «الإسلام والعدالة الاجتماعية» يبتدع رؤية لعالم مترابط عضويًّا، تجمعه الإرادة:

تصدر كل المخلوقات من إرادة فاعلة شاملة مطلقة، تشكل وحدة متكاملة، كل جزء فردي في تناسُق مع سائر الأجزاء … وهكذا إذًا، فالوجود كله وحدة تتكون من أجزاء مختلفة؛ له أصل مشترك، وتدبير وغرض مشتركان، بحكم صدوره عن الإرادة الواحدة المطلقة الكاملة. (١٩٧٠: ١٩، ٤٩)

يُبرز عزيز العظمة (١٩٩٦) الدَّيْن الذي يدين به هذا التوجه الإسلامي السياسي للثقافة والأيديولوجيات الأوروبية. لم يطور الأفغاني موضوعاته الأساسية بوصفه عالمًا دينيًّا في مدينة قُم المقدسة، ولكن في القاهرة وإسطنبول وباريس مستلهمًا بكثافة من المدرسة الرومانسية الأوروبية: رومانسية هردر الحيوية، وإرادة روسو العامة. وهو يعتمد على مفهوم الصراع من أجل البقاء، الدارويني، مفترضًا أن أي أمة لا يمكنها أن تنموَ قوية إلا بإضعاف الآخرين، وناظرًا إلى انحطاط المجتمعات على أنه نتيجة إضعافها من قبل طوائف داخلية. ولذا، كما يفترض، فحضارة العرب المسلمين الكلاسيكية أضعفتها الطوائف الباطنية، على نحو سمح بهزيمتها من قبل الحملات الصليبية والمغول، بينما أُضعِفت الإمبراطورية العثمانية داخليًّا بفعل المُصْلِحين التغريبيين. يشير العظمة إلى التماثلات بين مفهوم الأمة العضوي الحيوي هذا ونموذج الفعل السياسي الذي ألهمه، وتطور الفاشية الأوروبية التي انبثقت من المنبت الفكري ذاته.

يتضح فضل النظرية السياسية الأوروبية بالقدر نفسه في عمل قطب؛ فهو ينظِّر دور الطليعة استنادًا إلى اللينينية. وكتاباته حافلة بالإشارات إلى القيم الصحية، وتحلل الأمم والضعف، والقيم العقيمة. وكلها تعبيرات عن افتتانه بكتابات الفاشي الفرنسي أليكسي كارل، الكاتب الذي يستشهد به مرارًا، ويقتبس منه إطار تحليل عامًّا (انظر العظمة ١٩٩٣: ٣٠). تصير «قوانين الحياة» الواجب اتباعها عند كارل شرع الله بعد تأويله وفق مصطلحات الشريعة. وكما يلحظ العظمة (١٩٩٣: ١٢) الشريعة ليست قانونًا، ولكنها مفهوم عام عن «النظام الحسن» شبيه في معناه بالنوموس أو الدارما. يعيد قطب صوغ الشريعة، مسبغًا عليها طابعًا أوروبيًّا بإدراكها على أنها قانون يجب تطبيقه، وواضعًا إياها داخل تقليد الفكر الرومانسي الأوروبي؛ حيث تصير المعادِل ﻟ «قوانين الحياة» (مفهوم الحيوية واليوجينية العائد إلى القرن التاسع عشر). أهمية هذا الدَّيْن للفاشية الأوروبية متجلية أيضًا في مكانة معاداة السامية في الفكر الإسلامي المعاصر، وهي بالقدر نفسه منتَج من منتجات الفكر الرومانسي اليميني الأوروبي.١ لا ينشد قطب عودة إلى يوتوبيا ما قبل حداثية. تُظهِر كتاباته عن الوقت الذي أمضاه في أمريكا كم هو متأثر بعمق بالقوة التكنولوجية الفائقة للغرب، تمامًا مثل الأفغاني. وهو يريد أن يفصل القوة التكنولوجية من الثقافة الغربية، ويطوِّعها لخدمة التحول في النظام الاجتماعي الذي يتصوره.

يبرز مدى هذا التبادل تمامًا كم هي خرافة فكرة التطور الحضاري المنعزل. لكن هذه الخرافة مدعومة بقوة في البلدان التي شكلتها الأيديولوجيات الإسلامية. يستكشف التونسي عبد الوهَّاب المؤدِّب (٢٠٠٢) إفقاد الذاكرة الإجباري الذي يجتاح المجتمعات الإسلامية المعاصرة. ويحكي قصصًا عن طلاب الدكتوراه في الإنسانيات الذين يجهلون تمامًا درجة التداخل فيما بين الثقافات الإسلامية والغربية. ليس فقط التبادل بين العالم الإسلامي والغرب هو ما كان يتعرض للمحو من المناهج التعليمية، ولكن أيضًا قرون من التاريخ والثقافة. الشعر عن الجسم والحس والجمال، وهو أحد المنجزات الثقافية العظيمة لبغداد القرن الحادي عشر، الذي كان في يوم ما مصدر عار بالنسبة إلى الغرب، يُحرَق الآن أو يدمَّر. من أعظم القصص في الألفية الأولى «ألف ليلة وليلة»، وهي مجموعة من القصص، كُتبت بالعربية، ومسرحها الهند، وفيها ترغب الأميرة المتزوجة حديثًا شهرزاد أن تمنع زوجها الملك (الذي يتزوج من عذراء يوميًّا ثم يقتلها حتى يتزوج مجددًا) من قتلها بتسليته بحكاية في كل أمسية. الكتاب حافل بقصص عن الخير والحكام الطغاة، والجن الطيبين والأشرار، والجنس، والعنف، والمسائل الروحية. وبينما أضيف شخصيات أثناء ترجمته إلى الفرنسية في القرن الثامن عشر، فمعظم القصص هي حكايات شعبية فارسية وهندية وعربية. ورغم اعتباره واحدًا من أهم كنوز التاريخ الإنساني، فالكتاب محظور في السعودية ومصر. يمتد فقدان الذاكرة هذا إلى التاريخ ما قبل الإسلامي أيضًا كما يتضح في تدمير تماثيل بوذا في باميان في أفغانستان، بينما في السعودية تُطمس البقايا الأثرية التي تسبق أسلمة البلد بالخرسانة على نحو منتظم (المؤدِّب ٢٠٠٣). وتأتي التمويلات السعودية للمدارس الإندونيسية مع تغييرات في المناهج، تشتمل على محو التاريخ والثقافة الإندونيسيَّيْن من المناهج المدرسية. وهنا نجد شكلًا آخر من الزمن المتجانس.

ثمة تماثلات واضحة بين النزعة الإسلامية السياسية وبين الثورة الثقافية في الصين، ظاهرة في الطريقة التي شرع فيها الحرس الأحمر في تدمير الآثار، ورغبتهم في محو ماضي الصين الكونفوشي. بخلاف كونها حركة ثقافية ترغب في إعادة تأسيس التقاليد المحلية؛ فالنزعة الإسلامية السياسية هي حركة تحديث مناهضة للتقاليد؛ فهي تريد للقانون أن يحل محل العادات (تمامًا مثل البريطانيين في السودان)، وهذا بُعد تعزَّز على مر القرن العشرين. وكان مؤسِّساه، جمال ومساعده المصري عبده، منفتحَيْن بوضوح على أبعاد أوسع من الخبرة الإسلامية، مثل الباطنية الصوفية، كما تجلى من التوافق الشديد بينهما المعبر عنه في اللغة الصوفية (ريد، في ووثناو ١٩٩٨). وكما رغبت الحركة السلفية على نحو متزايد على مر القرن العشرين في التطهر من الشوائب الثقافية، فإنها صارت على نحو متناقض أكثر اعتمادًا على المصادر الفكرية الغربية. وثمة توازٍ في الطريقة التي اعتنقت بها الماوية مذهبًا أوروبيًّا آخر، وهو اللينينية؛ لتحديث الصين وتطهيرها من ماضيها الكونفوشي.

المجتمع اللامدني

عاد قطب إلى مصر من الولايات المتحدة، وانضم إلى «الإخوان المسلمين». وكانت الإخوان مثالًا لمنظمة حداثية كلاسيكية، مبنية تراتبيًّا، وتعمل مثلما تعمل بيروقراطية مكوَّنة من بنية معقدة من الأفرع، والمفوضين، والتمثيل. وإذ أسسها في مصر عام ١٩٢٨ حسن البنا لمقاومة الإمبريالية البريطانية، كانت الإخوان متأثرة بعمق بالثقافة الحداثية. كانت في البداية أقرب إلى نادي شباب، بتركيزها على الصحة واللياقة، ولكنها طوَّرت بالتدريج مجموعة متنوعة من المنظمات، وتوصلت إلى التركيز على الفعل السياسي، وعلى استخدام الدولة للتغلب على الإمبريالية البريطانية والاتصال بتراث مصر الإسلامي. وسرعان ما تمددت الإخوان إلى بلدان أخرى في الشرق الأوسط، وبقيت طوال نصف قرن هي النقطة المرجعية النموذجية المعرفية والنموذج للمشروع السياسي الإسلامي: تنظيم بيروقراطي يهدف إلى تحول اجتماعي من خلال الاستيلاء على الدولة، مازجًا بين الأنشطة الخيرية المكثفة وبين الحضور في نقابات مهنية (وأبرزها النقابات العمالية)، بالإضافة إلى التنظيم المحلي، مصحوبًا بتطوير حزب سياسي. ويلحظ فيكتوروفيتش (٢٠٠٠) أن دراسات الحركات الاجتماعية في بلدان الشرق الأوسط ركزت تركيزًا كبيرًا على الجماعات المنظمة رسميًّا، مع اتخاذ «الإخوان المسلمين» نموذجًا. ويفترض أن هذا بسبب أن الإخوان تتوافق توافقًا حميمًا مع النماذج الكلاسيكية لتنظيم الحركة الاجتماعية، التي كانت مهمة في علم اجتماع تعبئة الموارد الأمريكي، على ما يبدو أنه يؤكد مقولة ويليام جامسون (١٩٧٥) بأن نجاح الحركة يتوقف على التنظيم في المقام الأول.

أما ديانا سينجرمان فتلحظ أن مثل هذا التركيز على الجماعات المنظمة رسميًّا، المركزي بالنسبة إلى مقاربة «السياسة المستمرة» للحركات، بتركيزها على الفاعلين والقضايا «العامِّين»، وتحديد حضور الحركات من خلال «التفاعل الجمعي، العام، المتفرق» (سينجرمان ٢٠٠٤: ١٤٩) الموجَّه نحو المجال العام، له تأثير يحد من طريقة فهمنا للحركة والفعل في سياق البلدان ذات الأغلبية المسلمة. وتبين دراسة آصف بيات (١٩٩٧) لما يسميه «المجتمع اللامدني» أو سياسة «الناس اللارسميين» في الشرق الأوسط، التي تدرس العراق بعد ثورة ١٩٧٩، ومصر، الفكرة نفسها. في إيران ما بعد الثورة، بينما كان الثوريون يسيرون في الشوارع، تطورت حركات من سكان العشوائيات بين فقراء الحضر، مع استيلاء العائلات على وحدات سكنية نصف مشطبة، وتجديدهم إياها، شارعين — حينما عجزوا عن الحصول على خدمات الدولة كالإمداد بالماء — في استخدام آليات جهودهم الذاتية لشق الطرق، وفتح العيادات الصحية، وبناء المساجد والمكتبات، وفتح جمعيات استهلاكية. ومن وجهة نظر بيات، بناء على البقاء يومًا بيوم، «كانت تتشكل طريقة جديدة وأكثر استقلالية للمعيشة، وتسيير المجتمع وتنظيمه» (١٩٩٧: ٥٤). ويَلحظ اتجاهًا مماثلًا نشطًا، يرتبط بالحصول على الوظائف في الفترة ما بعد الثورية في إيران. مبدئيًّا، اتخذ الفقراء العاطلون وفاقدو الوظائف من الطبقة الوسطى «فعلًا جمعيًّا مؤثرًا للمطالبة بالعمل، والرعاية، والتعويض» (بيات ١٩٩٧: ٥٤). وبينما أدى هذا إلى تغيير ملموس، استمرت البطالة الكثيفة والتشغيل غير الملائم. ومن هنا يلحظ بيات تحولًا في أشكال الفعل:

بعد استنفاد الفعل الجمعي، تحول الفقراء العاطلون إلى الأسرة، والعشيرة، والأصدقاء؛ من أجل المساندة. لكن تدفَّق الكثيرون بقدر أكبر في شوارع المدن الكبيرة لتأسيس أنشطة مساعدة استقلالية، مشاركين في البيع في الشوارع، والبيع الجائل، وخدمات وصناعات الشوارع. أقاموا ظليَّات بيع، ودفعوا عربات، وبنَوْا أكشاكًا. وأضيئت المشروعات بتوصيل الكابلات إلى أبراج الكهرباء الرئيسية. وأحال تعاونهم الجمعي أرصفة الشوارع إلى أماكن تسوق ملونة ونابضة … وهذه الأنواع من الممارسات الحضرية ليست استثنائية؛ فهي تحدث في كثير من المراكز الحضرية في العالم النامي يوميًّا. (١٩٩٧: ٥٤)

يلحظ بيات أن القاهرة في التسعينيات، مثلًا، احتوت على أكثر من ١٠٠ مجتمع من النوع الذي يصفه. وهذه الأشكال من الفعل والحركة لا تتفق إطلاقًا مع التركيز على المنظمات غير الحكومية، والاتحادات، والمنظمات التي صارت مهيمنة للغاية في دراسات «المجتمع المدني». فهذه الدراسات تُعلي من شأن الاتحادات في المجتمع المدني؛ ونتيجة ذلك «تميل إلى التهوين أو الإغفال تمامًا للمجموعات الكاسحة من الأنشطة غير المؤسسية والهجينة التي هيمنت على السياسة في المناطق الحضرية في كثير من البلدان النامية.» (بيات ١٩٩٧: ٥٥) ما نواجهه هنا ليس التنظيم، ولكنه أشكال من الحضور المشترك المجسَّد ناجم عن الوجود في الشوارع ذاتها أو شغل المماشي ذاتها.

تُكرِّر دراسة كوينتان فيكتوروفيتش (٢٠٠٠) للحركة السلفية في الأردن موضوعات مثيلة. بينما مرت «الإخوان المسلمون» بتراجع بطيء، مرت الحركة السلفية بنمو ملموس منذ الستينيات. وباعتبارها شكلًا من أشكال الحراك كامنًا في شبكات غير رسمية، تبرز دراسة فيكتوروفيتش مدى انتشار السلفية من خلال التحوُّل الشخصي المعلَن عنه من خلال الشبكات الشخصية. بذلك المعنى، فبنية الحركة السلفية لا ممركزة، ومتشظية، تتطور من خلال الشبكات السائلة أو العلاقات الشخصية، بلا تراتبية أو تنظيم رسميَّيْن، ومبنية بدلًا من ذلك على أساس تكتلات متداخلة حول مُعلِّمين مختلفين يؤدون دور نقاط الاتصال في الشبكات. وبينما يتفاوت المعلمون المختلفون بوضوح في المكانة والقوة التي يحظَوْن بهما، فما من مُعلِّم يستطيع أن يتحدث «بالنيابة» عن الحركة؛ لأنه بينما توجد حركة، فهي ليست حركة تفعل بأسلوب جمعي عبر الأفراد. ثقافة الحركة السلفية هي ثقافة تركز على الدراسة والبحث الشخصيَّيْن، البحث عن معلِّم، وتكرار المحاضرات لمعلمين مختلفين؛ للعثور على أولئك الذين يحللون مسائل يعتبرها الطالب مهمة. يفترض فيكتوروفيتش أن هذه البنية هي نتيجة «الخيار الاستراتيجي المستنير بتقويمات عن الفاعلية التكتيكية للمنظمات الرسمية» (٢٠٠٠: ٢٣٦). غير أن هذا النمط يبدو لي أنه يشير إلى تحولات أهم في مبادئ الخبرة، تتجلى بمجرد أن نتعامل مع أهم حركة عالمية داخل الإسلام، وهي حركة التدين الشخصي.

هوامش

(١) تقدم الصفحة الرئيسية لحماس نسخة من «بروتوكولات حكماء صهيون»، وهي وثيقة الغرض منها كشف المؤامرة اليهودية للسيطرة على العالم، كتبتها الشرطة السرية في روسيا القيصرية. لمزيد من المعلومات عن العلاقة بين معاداة السامية والإسلامية، انظر فيفيوركا ٢٠٠٥ب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤