الفصل التاسع

التشكيلات الإسلامية للذات

تُبرِز دراسات الحركات الإسلامية المعاصرة لحظتين: يشير كيبل إلى فترة أولى تبلغ الذروة مع الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩، مركِّزًا على الحشود الجماهيرية، والنضالية الإسلامية، والبحث عن هوية إسلامية جمعية، تبعتها ما يسميها فترةَ «الأسلمة من أسفل». وبينما تنبِّهُنا استعارةُ «من أعلى» و«من أسفل» إلى تحوُّلٍ في النموذج المعرفي، فهي خادعة؛ إذ توحي باتجاهين على امتدادِ مسار «إعادة الأسلمة» نفسه. يلحظ بيات (٢٠٠٢) تحولًا مماثلًا من أشكال الفعل الأسبق التي تركِّز على كيان سياسي إسلامي إلى أشكال الفعل الناشئة التي تُبرِز التديُّنَ الشخصي والأخلاق. ومن وجهة نظره، فهذه الحركات الجديدة القائمة على ممارسات التديُّن تتضمن «تنحيفَ السياسة». في مقابل ذلك، تفترض عالمة الاجتماع التركية نيلوفر جول أن مثل تلك التحولات في مبادئ الفعل تنطوي على تركيزٍ على ما تسمِّيه «التشكيلات الإسلامية للذات والسياسة الجزئية المقترنة بها». وهي تُبرِز أساليبَ اللغة، والخبرةَ الجسمانية، والممارساتِ المكانية (جول ٢٠٠٢: ١٧٤)، التي تفترض أنها تكشف عن خيالات اجتماعية جديدة تحوِّل المجالَ العام إلى سياقٍ غير غربي. هذا التضادُ السافر في أُطُر التفسير مركزيٌّ حينما تُحلَّل الحركات الإسلامية في سياق العولمة. وهو على المحك، خصوصًا في واحدة من أهم هذه الحركات، وهي ممارسة ارتداء الحجاب. ويجابهنا الاشتباك مع هذا بأسئلة عن التجسد، والخبرة والفعل الجسمانيَّيْن، وبطبيعة الخبرة العامة. في هذا الصدد، تُثار الأسئلةُ عن عالَمية الغرب، وعن الفاعل المستقل، وعن نموذج الحرية الذي يُبنَى فيه هذا؛ مما ينصرف إلى صلب طريقة تفكيرنا في الحركات.

الحجاب: المقاومة والتقليد والحداثة؟

توجد ممارسة ارتداء الحجاب في مجتمعات كثيرة، متخذةً معانِيَ مختلفة، من ممارسة القوة في الصين إلى انكشاف الفقراء، إلى النظرة إلى الآخَر في اليمن (انظر الجندي ١٩٩٩ لنظرة عامة). طالما كان الحجاب وعلاقته بمنزلة النساء في المجتمع علامةً حاسمة على العلاقة بين المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة وبين الحداثة. وفيما يخص علمنةَ الأنظمة وتحديثها وتغريبها، كان الحجاب علامةً على التخلف والعجز عن التحديث. في تركيا، حظرت الحكومة الكمالية التحديثية في عشرينيات القرن العشرين الطربوشَ التقليديَّ الذي كان الرجال يرتدونه، والبرقعَ الذي كانت النساء يرتدينه؛ اعتبرتهما رمزَيْن للتخلُّف العثماني، وحاولت استحداثَ قبعةٍ من القش للرجال وبونيه للنساء. تركيا من البلدان القليلة التي تُصدر تشريعات بشأن أردية الرأس المناسبة للرجال، باستحداثها القبعة الأوروبية بديلًا من الطربوش. وبطريقة مماثلة في إيران، أُعلِن أن الحجابَ غيرُ قانوني عام ١٩٣٦، واستحدَثَ النظامُ التحديثي السلطوي القبعةَ البهلوية عام ١٩٢٧ (شبيهة بالقبعة العسكرية الفرنسية). واصَلَ الحظر الكمالي للطربوش التقليدي ممارساتٍ تشريعيةً سابقة من الحقبة العثمانية، حينما كانت الفرامانات تُصدَر مقررة قواعد ملابس النساء في المجال العام (جول ١٩٩٦: ٧٢). ولم تشنَّ المعركةَ ضد الحجاب الدولُ التحديثية السلطوية وحدها. في مصر عام ١٩٢٣ شنت حركةٌ من نساءِ الطبقة العليا، منخرطةٌ في الكفاح الوطني ضد القوة الاستعمارية البريطانية، حركةً ضد الحجاب. ومن وجهة نظر هدى شعراوي، مؤسِّسةِ الاتحاد النسائي المصري في العشرينيات، ترافقت القومية والعلمانية وفتح المجال العام أمام النساء جميعًا مع الصراع ضد النقاب. وكان نجاح هذه الحركة بمكان، حتى إن ملابس نساء الطبقة الوسطى في القاهرة والمراكز الحضرية في معظم القرن العشرين كانت غربية (ماكليود ١٩٩٢).

تقول نيلوفر جول (١٩٩٦) إن ما هو على المحك هنا أكثر من مجرد رمز للتحديث الغربي. كانت الحكومة الكمالية في تركيا تهدف إلى تحوُّل ثقافي جذري يشكِّل الذاتية المتجسِّدة هي أيضًا. ربما لم يكن استحداثُ قبعةِ القش والبونيه ناجحًا، لكن الإصلاحات الكمالية لم تنظر إلى استحداث القبعات والبونيهات فقط، ولكنها شملت أيضًا فكرة الأزياء ذاتها، التي هي — كما أكَّدَ عالِمُ الاجتماع الألماني جورج سيمل في بداية القرن العشرين — احتفاءٌ بالجديد، بالتغيير، باللحظي. وترافق مع هذا تحوُّل في التجسد، في طرائق الكينونة في العالم، مرتبطًا خصوصًا مع الاستخدام الشائع للكورسيه (المشد النسوي للخصر). تؤكِّد نورا سني التحوُّلَ في أشكال اللباس المرتبطة بأنماط أجساد الحقبة العثمانية، الطرية، والمنحنية، والمستديرة، والممتلئة المقترنة بالأرائك والجسد المسترخي، التي حل محلَّها في وقت قصير جسدٌ جديد، فارع، ونحيف، وطويل، مع إبراز الطول باستخدام حزام على الوسط، الذي صار الآن أنحل، وإبرازه بقدر أكبر بحملِ مِظلَّة طويلة عموديًّا قريبًا من الجسد (سني ١٩٩٥). لكن لم تكن واضحةً بعدُ كيفيةُ الكينونة في العالم والتواصل بهذا الجسد؛ تقتبس جول من مشارِكةٍ في رقصة في أوائل الثلاثينيات في العاصمة التركية أنقرة: «لا يعرف أحدٌ بعدُ طريقةَ السلوك، ولا طريقةَ الخروج، ولا طريقةَ الرقص، ولا ما يفعله بعينَيْه، ويدَيْه، ورأسه» (جول ١٩٩٦: ٦٦). كان هذا مطمورًا بمسائل الطبقة والجغرافيا. تبنَّتِ النخبُ التغريبية أشكالًا حديثة من اللباس والتجسيد، بينما استمرت النساء في المناطق الريفية في ممارسة ارتداء الطُّرَح، وبدا أن مسألة الطُّرَح تصاغ في إطارِ جدلٍ أوسع عن العلاقة بين التقليد والتحديث، والدين والعلمنة، والمدينة والأقاليم، والنخب والطبقات الشعبية. غير أن مسألة الحجاب عاودت الظهور منذ الثمانينيات، في تركيا كما في بلدان أخرى، أساسها الاجتماعي حضري، لا ريفي، مكوَّن من شابَّات مهنيَّات، وطالبات جامعيات. في عام ١٩٩٩، أُخْرِجت نوراي كانان بزيرجان، وهي امرأة في الثالثة والعشرين، من قِبل الشرطة من امتحانٍ في جامعة تركية مرموقة، واتُّهِمت ﺑ «تعطيل تعليم الآخرين»؛ إذ كانت قد حضرت امتحانًا نهائيًّا وهي مرتديةٌ طرحةً إسلامية رفضت خلعها؛ فحُوكِمت، وأُدِينت، وحُكِمَ عليها بالسجن ستة أشهر، وهي العقوبة التي عُدِّلت لاحقًا إلى غرامة. أدى تأثيرُ هذا الحدث إلى مقاطعةٍ للامتحانات، مع تشابُهاتٍ للتأثير على الحياة الأمريكية نتيجة فعل روزا باركس، وهي خيَّاطة أمريكية من أصل أفريقي، رفضت في أكتوبر ١٩٥٥ أن تتخلى عن مقعدها في حافلة في مونتجمري، ألاباما، حينما أُمِرت بذلك من أجل راكب أبيض في الحافلة.

تستكشف دراسة أرلين ماكليود (١٩٩٢) الشهيرة ﻟ «الحجاب الجديد» بين نساء الطبقة الوسطى الدنيا في القاهرة في ثمانينيات القرن العشرين، قرارَ الحجاب الذي اتخذته العاملاتُ المكتبيات في مدينةٍ لم يكن فيها الحجابُ يُمارَس على نطاقٍ واسع لعقود؛ وتفترض أن هؤلاء النسوة قابعاتٌ بقدرٍ كبير في وظائفَ لا أفقَ لها، في قطاعٍ عام متورِّم وواهن، مُمزَّقات بين الضروراتِ الاقتصادية للتوظيف بأجر، وثقافةٍ تَعتبر البيتَ المكانَ الملائم للنساء. وتفترض ماكليود أنهن في «مأزق مزدوج»؛ فهُنَّ يحصلْنَ على مكاسب اقتصادية محدودة نسبيًّا من خلال العمل، بينما يتعرَّضْنَ لتعليقات رافضة من الجيران أو حتى لتحرش الرجال في المجال العام أو في العمل. ويمثِّل استعمالُ النقاب — كما تفترض — استراتيجيةً لإعادة الاعتبار لمكانتهن بصفتهن مراكزَ قيِّمةً للأسرة والحياة المحلية (إذ يؤكد النقابُ أنهن في عملٍ مأجور من أجل أُسَرِهن، لا من أجلهن)، دون مُساوَمةٍ على قدرتهن على مغادرة المنزل وكسب الدخل؛ ولذا فهن قادراتٌ على المُطالَبة بالاحترام المستحق للنساء في المجتمع التقليدي المصري، بينما يشاركن في التوظف في الوقت ذاته. يحاكي هذا التحليلُ الدراساتِ الاجتماعيةَ للمجتمعات السكانية التي تتراوح «فيما بين» التقاليد والحداثة، المتجلية على وجه الخصوص في خبرات الهجرة؛ حيث تُعِيد جماعة مستبعدة من مزايا الاتجاه السائد بناءَ أشكالٍ تقليدية من التنظيم الاجتماعي.١ تفترض ماكليود أن النقاب ليس رفضًا للمجتمع الحديث، ولا هو اعتناقٌ كلي للتقاليد، ولكنه «مُحاوَلة بالغة الانتقائية لإعادة الحيوية لبعض المُثُل القديمة وإبرازها» (١٩٩٢: ٥٥٥). وهذه المواءمةُ الانتقائيةُ للتقاليد تفيد بوصفها مصدرًا يتيح للنساء المشاركةَ في المجتمع الحديث. تُبرِز ماكليود التباسَ الاستراتيجية، الذي ينمُّ عن قبولِ تغلغلِ النساء في مجال الرجال العام.
ثمة تشابهات بين هذه المحاولة لتحديد شكل محدود وملتبس من أشكال الفاعلية في «الحجاب الجديد» ومقولة عالمة النفس الاجتماعي ميرفت ناصر (١٩٩٩). تفترض ناصر وجود تماثلات بين أنماط الفاعلية المتبدية في الحجاب وبين الفاعلية التي تراها حاضرة في فقدان الشهية العصابي. كلٌّ من فقدان الشهية العصابي و«الحجاب الجديد» يمكن فهمهما بوصفهما تشكيلًا لأنظمة من الرسائل المرسَلة من خلال الجسد، وفي الحالتين، تجمعان بين الطاعة والاحتجاج من خلال الامتثال، والنظام الخُلُقي، ومعارضة/رفض الفرص المتاحة للنساء. ووفق هذه الرؤية، يتكوَّن الحجاب مثل فقدان الشهية العصابي، من:

إحلال التحكم بالذات محل التحكم الفعال في العالم الذي توجد فيه النساء. يعكس كلٌّ من فقدان الشهية العصابي والحجاب صراعًا داخليًّا، ويعبران عن الضيق، وهما رمزان للصراع الذي يشبه الاعتزال، والتمرد الذي يتخذ شكل الامتثال، والمقاومة المتخفية في صورة إذعان … الصراع الأخلاقي والتطلع إلى النقاء اللذان نجدهما لدى المصابة بفقدان الشهية العصابي ينعكسان في العودة الطوعية للشابة إلى الحجاب. تسعى كلتاهما تحقيق هدفيهما المختلفين خارجيًّا ولكنهما متماثلان نفسيًّا ومقبولان ثقافيًّا باستخدام الامتثال المتعصب والقهري. وكلاهما يرمزان لإنكار المرأة ذاتها، وتحكُّمها بذاتها، بالإضافة إلى بحثها عن التقبُّل الذاتي … وهما شكلان من أشكال المقاومة المحتجبة التي تستخدمها النساء الممزقات بين التقاليد والحداثة. (١٩٩٩: ٤١٠-٤١١)

غالبًا ما تولي قصص التحول المنشورة على الإنترنت، وخصوصًا في المجتمعات الغربية (حيث أغلب المتحولين إلى الإسلام نساء) في الواقع أهمية للحجاب وللتغير الذي يُحدثه في علاقة الرجال بالنساء. وعلى الرغم من قلة هذه القصص، فلها أهمية ملحوظة. تقدم شابَّة الرواية التالية:
قبل الإسلام، سبق لي أن جربتُ ارتداء الطَّرحة خارج البلدة كي أرى ما سيكون عليه رد فعل الناس. ولدهشتي، وجدت الخبرة كلها إيجابية جدًّا. كان الرجال حَيِيِّين ومحترمين وشعرت بالراحة في أني لا أنافس النساء الأخريات؛ قررت ارتداء الحجاب على الفور. وبعد ثمانية أشهر، نطقتُ بالشهادة (صرت مسلمة). (كريمة http://www.leedsnewmuslims.org.uk/new_muslims/personal.asp)
وفي قصة تحوُّلها للإسلام تصف ناهد من كندا خبرتها السابقة من الانشغال المتواصل بالوزن والمظهر. يحررها قرار ارتداء الحجاب أو الطَّرحة من هذا:

منحني ارتداء الحجاب التحرر من الانتباه المتواصل لذاتي الجسدية؛ لأن مظهري ليس عرضة للتدقيق العام، وجمالي، أو ربما افتقاري له، أُخرِج من نطاق المناقشة العامة. لا أحد يعرف ما إذا كان شعري يبدو كما لو أني زرت صالونًا للتوِّ، وما إذا كانت لدي ترهلات أم لا، أو حتى ما إذا كنت عندي علامات شد خفية. الشعور بأن على المرأة أن تلبي معايير الذَّكَر المستحيلة للجمال مرهق، وغالبًا ما يكون مهينًا. ينبغي أن أعرف، أمضيت سنوات مراهقتي كلها أحاول أن أفعل هذا. كنت على حافة النهام العصابي، وأنفقت الكثير من المال، لم أعوِّل على الجرعات والمستحضرات على أمل أن أكون سيندي كروفورد التالية … لن تحقق النساء المساواة بالحق في تعرية نهودهن على الملأ، كما قد يرغب بعض الناس في أن يصدقنه. المساواة الحقيقية ستُجنى فقط حينما لا تحتاج النساء إلى عرض أنفسهن لينلن الانتباه، ولا يحتجن إلى الدفاع عن قرارهن بحفظ أجسادهن لأنفسهن. (ناهد مصطفى، «جلوب آند ميل»، ٢٩ يونيو ١٩٩٣)

الموضوع الثابت الذي يعتمل في هذه الروايات هو موضوع يُفهم فيه الحجاب على أنه أداة لمقاومة هيمنة الذَّكر. وهو يتيح الوصول إلى الموارد الثقافية: سواء التقاليد في حالة مصر، أو على نحو متناقض نوعًا ما باعتباره وسيلة لتحقيق شكل حديث من أشكال المساواة؛ حيث يصل الرجال والنساء إلى المجال العام بالمعايير ذاتها. تبني هذه الروايات قصص الحجاب وفق نمط من الفاعلية يمكن فهمه على أنه مقاوَمة للهيمنة الذكورية. وهي توحي بأنه لو لم يشكَّل العالم بفعل هذه الهيمنة لما كانت هناك حاجة إلى الحجاب. والنتيجة أن المعنى الديني لهذه الممارسة مهمش. يُفهم الدين فقط على أنه مخزن للقيم التقليدية (على النحو الذي فهمه جيدنز) يمكن تعبئته انتقائيًّا لمناقشة الأشكال الجديدة من الهيمنة التي تسم الحداثة، في سياق «يعمل فيه الحجاب بصفته رمزًا داخل منظومة» (ماكليود ١٩٩٢: ٥٥٦).

هذه المقاربات إزاء حركات الحجاب مهمة؛ إذ تحاول أن تدرك وجود شكل من أشكال الفاعلية، يتباين مع الروايات التي ترى مثل هذه الحركات فقط من منظور استيعاب المنشقين في جماعة؛ حيث يعاد دمجهم اجتماعيًّا بالتدريج، ويصيرون (بعبارة تذكرنا بأدبيات الحركات الاجتماعية التي استعرضناها) فاعليها القابلين للنشر. وتضع أطر التقاليد مقابل الحداثة، أو الأنثوي مقابل الذكوري، الحجاب في نموذج هوية علمانية؛ والنتيجة أنها لا تعترف بأي دلالة للحجاب بوصفه ممارسة دينية. تتبنى هذه التحليلات نموذجًا «للمقاومة» نألفه كثيرًا، وهو نموذج معرفي لا تطرح فيه ممارسة التديُّن أي أسئلة جديدة.

التديُّن والاستبطان: الموروثات الغربية

تعرضنا في مواضع مختلفة من هذا الكتاب لأبحاث عالِم الاجتماع يورجن هابرماس الشهير، وخصوصًا فهمه لبنية المجال العام في المجتمعات الأوروبية. رأينا أنه يُعلي من شأن المناقشة أو التحدُّث على حساب الحسِّي، أي الأبعاد المجسَّدة من الحياة الاجتماعية. وهو يولي مثل هذا الاهتمام للنقاش لأنه يضع هذا في مركز ما يسميه العقلانية الاتصالية، التي يعتبرها، مثل فيلسوف التنوير، كانت، أساس الأفراد المستقلِّين الحديثين، أي الأفراد الذين تحرروا من قيود التقاليد والدِّين. ومن وجهة نظره، فالمجال العام الحديث والفرد المستقل الحديث ينبثقان كلاهما من الصراع لتحرير المجتمعات والأفراد من قيود الدِّين. كان هذا التحليل الذي نشر للمرة الأولى في ألمانيا عام ١٩٦٢، رياديًّا في الطريقة التي حاول بها فهم بنية المجال العام في أوروبا. لكن البحث التاريخي منذئذٍ أبرز مدى مبالغة رواية هابرماس في التركيز على النقاش العقلاني الكانتي، وعلى الأساس العلماني لهذه الحركة أيضًا. وكما تؤكد المؤرخة الأمريكية مارجريت جيكوب، فإن ما أصبح هو الفهم الأرثوذوكسي الهابرماسي لظهور المجال العام يتجاهل المكانةَ الجوهرية لتديُّن الفاعلين المعنيين. وهي تفترض أن الثقافة الغربية التي انبثق منها التنوير، شكَّلتها بعمق روحانية جديدة تتبدى في أشكال جديدة من الخبرة الدينية المتجلية في الطائفة المنهاجية في بريطانيا، والتَّقَويَّة في ألمانيا، وفي ظهور الماسونية؛ بتركيزها كلها على الفرد، وسعيها إلى إحياء الالتزام الفردي بالمسيحية (جيكوب ١٩٩١، ١٩٩٢). وكما تكتب جيكوب، فإن أفراد هابرماس «علمانيون بقدر مبالغ فيه … المنتج الثانوي لنسخة كانتية مثالية للتنوير.» وتؤكد أنه بدلًا من تبنِّي هذه النسخة من الفرد المستقل العلماني، فنحن بحاجة إلى أن نفهم «مركزية التحول الديني المعتمل في تاريخ الحداثة» (١٩٩٢: ٧٧). تدرس جيكوب كثافة هذه الحركات الدينية؛ إذ تتحاور مع العلم والعقلانية الجديدة؛ وإذ تشكل أشكالًا جديدة من التآلف الاجتماعي، مثل الماسونية التي ظهرت في سياق انهيار الطوائف الصارمة الأقدم؛ وإذ تتداخل مع الحركات الثقافية الأخرى، مثل ظهور الرواية وطريقتها الجديدة في مخاطبة الشخص الداخلي؛ وإذ تجمع موضوعات من الوثنية مع المسيحية (بطرق تذكِّر بحركات العصر الجديد المعاصرة). أما إدموند لايْتِس (١٩٨٦) فيبرز المكانة المركزية للجسد، والحسِّية، والجنسية في الحركات البيوريتانية التي ظهرت في هذا السياق. ويؤكد المؤرخ البريطاني إي بي طومسون (١٩٦٣) الدور الحاسم للحركة المنهاجية في التحولات الثقافية المفضية إلى قيمة أخلاقية جديدة من كرامة العمل، لعبت دورًا حاسمًا في ظهور حركة العمال البريطانية. تبرز هذه التحليلات كلها أهمية محاولة فهم الحركات الدينية بوصفها عملية إبداع أخلاقي وثقافي واجتماعي، وليست مجرد ناتج من عامل آخر. في حالة الحداثة الأوروبية، ليست هذه الحركات الدينية تعبيرات عن «التقاليد»، أي رد فعل دفاعيًّا ضد الحداثة. فقد اشتبكت مع العلم، وغالبًا ما افتُتِنت بالعقلانية، على نحو مشوِّش للحدود أحيانًا، ومثال ذلك الأبرز هو عمل نيوتن، الذي درس الخيمياء، واعتقد بأن الجاذبية كانت تعبيرًا عن إرادة الله النشطة في الكون. لعبت هذه الحركات الدينية — كما يوضح تشارلز تيلور (١٩٨٩) — دورًا حاسمًا في بناء طرائق الكينونة في العالم، مؤدية دور «مصادر الذات»، وبناء أشكال جديدة من الاستبطان كان لها دور حاسم في إحياء أشكال جديدة من الثقافة العامة. حركات التديُّن هذه وأشكال الخبرة الداخلية المنتَجة من خلالها لهما أهمية حاسمة في نشوء الحداثة الغربية.

الأمر الصادم في ضوء هذا هو الطريقة التي يختزل بها كثير من التحليل المعاصر لحركات التديُّن الإسلامية هذه الحركات إلى تعبيرات علمانية عن المقاومة؛ أي الدفاع عن التقاليد ضد الحداثة، أو خبرة خضوعها لسيطرة منظومات وحشية مثل طالبان في أفغانستان. يعكس هذا سياقًا سياسيًّا وفكريًّا خاضعًا لهيمنة وفاق ممتد من محافظين مثل برنارد لويس أو صامويل هنتنجتون (٢٠٠٤) إلى ديمقراطيين راديكاليين مثل جون كين، ينظر إلى الإسلام إما باعتباره «حضارة فاشلة»، وإما باعتباره تعبيرًا عن تقليد يدعو إلى العنف. غير أن من الواضح محدودية هذه المقاربة، وخصوصًا في عالمٍ آخِذ في العولمة؛ حيث لا تكون الأديان مُجتَمعات في حالة دفاع عن النفس، ولكنها، على نحو متزايد، تدفُّقات منهمرة من الخبرة والمعنى. ووفق هذه الرؤية، يمكن أن تعيد الخبرة الداخلية تشكيل المجالات العامة. تشير حالتان إلى الأبعاد الحاسمة لمثل هذا النموذج المعرفي الناشئ: الأولى من واحد من أفقر المجتمعات في العالم، السنغال (التي أعلنت الأمم المتحدة أنها من أقل بلدان العالم تنميةً في عام ١٩٩١)؛ والثانية من مركز للتدفقات العالمية، القاهرة.

الأصولية المعولمة والخبرة الشخصية

في السنغال، البلد الغرب أفريقي، البنية الاجتماعية ممتزجة بعمق مع الطرق الإسلامية الصوفية المبنية من حول معلمين دينيين يحتلون موقعهم بالوراثة (فيلالون ١٩٩٩). ومنذ الثمانينيات، شهد البلد حركة تديُّن إسلامية مهمة، متركزة على وجه الخصوص وسط الطلاب والمجتمعات السكانية الحضرية، معتنقة الإسلام السني، وناقدة للتقليد والثقافة الصوفيَّين السائدَيْن. وكان من أهم تعبيراتها حركة الشابَّات اللاتي بدأن بممارسة الحجاب (فيالون ١٩٩٩). ولكن بينما هي من أفقر البلدان على وجه الأرض، فالحياة في الفضاء الجغرافي في السنغال تشكلها على نحو متزايد التدفقات العالمية. تتغلغل تدفقات السلع، متيحة أشكالًا من الممارسة مبنية على أساس إمكانية الحياة في مكان آخر، وراء الحدود: من الموسيقى والفيديوهات الهندية إلى الراب والهيب هوب. وتتيح مقاهي الإنترنت إمكانية للخيال وممارسته، كما يفعل ذلك تداول الكتب، وأشرطة الكاسيت، وأشكال الوسائط الأخرى. حركة الشابَّات الممارسات للحجاب، شكلتها بالقدر نفسه هذه التدفقات من الخيال والتوق إلى أشكال أكثر أصالة تنتمي إلى الحياة في البلدان العربية، إلى اللباس، من الحجاب المذيَّل بالدانتلا من جنوب شرق أفريقيا إلى الشادور الإيراني (أوجيس ٢٠٠٢). الخيال شيء أساسي للممارسة الاجتماعية، ويصاغ هذا على نحو متزايد وفق مرجعيات خارج الحدود.

تعيد دراسة إيرين أوجيس (٢٠٠٢) الإثنوجرافية المتأنية للشابَّات المسلمات في داكار بالسنغال بناء المسار المتبَع لارتداء الحجاب. وتؤكد مقابَلاتها تحديدًا مدى ما ينطوي عليه هذا من قلق وارتياب وحساسية عميقة لمعارضة الأصدقاء والأسرة، والزعماء الدينيين في كثير من الحالات، ودراية حقيقية بالعواقب المتضمنة مثل الكف عن لعب رياضات معينة، والاستهزاء بهن من أصدقاء المدرسة. وبدلًا من أن يعكسن ثقافة مجتمعهن مدافعات عن التقاليد، تتبنى هذه الشابَّات بوضوح صيغًا من الإسلام السني تتعارض مع كلٍّ من القومية السنغالية وصيغ الإسلام الصوفي التقليدية. وهن جزء من ثقافة عالمية من الإسلام الجامع، مقترنة بتدفقات السلع، والأفكار، والناس، تنبع أصولها من خارج السنغال، وخصوصًا من البلدان العربية. ويبرز هذا مدى اشتمال العولمة على تدفقات ثقافية من أماكن مختلفة، وهي في هذه الحالة الهند والبلدان العربية، لا من مراكز الرأسمالية العالمية وحدها. تزعم أوجيس أنه يتعذر فهم الفعل الذي تتخذه الشابَّات من خلال الحجاب على أنه ببساطة ناتج عن سبب واحد أو أكثر، سواء أكان تراجع القومية، أم الأزمة الاقتصادية، وهكذا. وعلى الرغم من أهمية هذه العمليات الأوسع، تبرز دراسة أوجيس أهمية ممارسات التديُّن ذاتها: غرس التواضع، والصلاة المنتظمة، وتعلم القرآن. يقود كلٌّ من ذلك الشابَّات إلى معارضة الآباء والأقران والأساتذة في المدرسة والجامعة، والأصدقاء، والمجتمع. تؤكد روايات هؤلاء الشابَّات التردد والصراع الفرديين، ومبادئ التضحية الشخصية. تتفق رواية أوجيس مع نموذج آلان تورين عن «تشكيل الذات»: الخبرة الذاتية المبنية في مواجهة المجتمع، وفي مواجهة السوق.

تَنتُج حركة التديُّن هذه، شأنها شأن حركات التديُّن الأوربية التي حدثت حينما وُلدت الحداثة، من أشكال جديدة من الخبرة الداخلية. وبينما تحدث في سياق شبكات اجتماعية، فإن خبرة تحوُّل هؤلاء الشابَّات هي عملية تتخذ طابعًا فرديًّا بدرجة عالية، متطلبة كلًّا من «التأمل والحزم» (أوجيس ٢٠٠٢: ١٦٥). الشابَّات اللاتي تقابلهن أوجيس ناقدات لنظام سياسي جامد وفاسد، تمامًا بقدر النموذج المرابطي من الإسلام الصوفي. وهن ناقدات لما يمكن أن نسميه «نموذج هوية» ممثَّلًا بقوة في السنغال في إرث الرئيس سنجور، وأفكاره عن «الزنوجة»، أو البحث عن ثقافة وهوية أفريقيتين أصيلتين. توجد النقاط المرجعية الأساسية لهؤلاء الشابَّات خارج السنغال. وليست هذه «مجتمعًا» ولا حركة «تقليدية»، ولكنها شكل من أشكال الحركة العالمية، وفي القلب منها بناء أشكال الخبرة الشخصية.

التدين المجسَّد والذاتية المجسَّدة

تظهر أفكار مماثلة في حركة المساجد المعاصرة بين نساء القاهرة (هيني ٢٠٠٢؛ بيات ٢٠٠٢؛ سالفاتوري ٢٠٠٠). هذه الحركة مؤسسة على ممارسات جزئية مجسَّدة: الصلاة، ومراعاة الشعائر، والتباحث حول المجالات العامة بتواضع، وجلسات التلاوة والدراسة، والنقاش حول معاني النصوص الدينية. وهي تقع ضمن عملية أشمل في الإسلام، تنطوي على تراجع الأشكال التقليدية من السلطة المرتكزة على الباحثين المؤهلين رسميًّا، وظهور زعماء ومعلمين جدد ومتعلمين ذاتيًّا في الغالب. في هذه الحالة، زعيمات حركة التديُّن بين النساء في القاهرة من النساء أنفسهن، ولا تمتلك غالبيتهن مؤهلات إسلامية معترفًا بها رسميًّا.

تَدرس صَبا محمود (٢٠٠١ب، ٢٠٠٣، ٢٠٠٤) ممارسات الحجاب والصلاة والتربية الخلقية، الناشئة داخل هذه الحركة. وحجتها الرئيسة — وهي حجة على قدر عظيم من الأهمية لمهمة إعادة النظر في الحركات اليوم — هي أنه لا يمكن اختزال ممارسات التديُّن هذه إلى منطق رمز أو هوية، كما لو كان من المفترض فهم الحجاب بطريقة ما على أنه تمثيل لثقافة جماعة أو مجتمع أو هويته. تحاول الأحزاب القومية والإسلامية في الواقع أن تحوِّل الحجاب إلى رمز للهوية الجمعية أو القومية. وتقتبس محمود من عادل حسين، وهو أحد زعماء حزب العمل الإسلامي، الذي يحاول إقامة هذه البنية للحجاب:

في هذه الحقبة من الإحياء [الإسلامي] والافتخار المجدَّد بأنفسنا وبماضينا، لمَ لا نفخر بالرموز التي تُميِّزنا من البلدان الأخرى [كالحجاب]؟ لذلك نقول إن الشرط الأول هو أن يكون اللباس متواضعًا. لكن لماذا لا يمكننا أن نضيف شرطًا ثانيًا، وهو أننا نفضل أن يكون هذا اللباس استمرارًا لما ابتدعناه في المنطقة، شأنه شأن الساري الهندي؟ … لماذا لا يمكن أن نمتلك لباسنا الخاص الذي يعبر عن لياقتنا، وهي من متطلبات الإسلام، شأنه شأن الجمال الخاص الذي سيكون سمة مجتمعنا الذي برع في الفنون والحضارة؟ (يورك ١٩٩٢، في محمود ٢٠٠٤: ٥٢)

حسب هذا الوصف، مبادئ الهوية هذه مألوفة لنا؛ الحجاب رمز، وهو يمثِّل ويُعَدُّ مطلبًا علمانيًّا بالاعتراف بالمجتمع القومي. لكن محمود تزعم أن هذا فهمٌ مفروض من الخارج، يعجز عن التقاط البُعد الأكثر أهمية في ممارسة التديُّن هذه. ما هو مهم — كما تقول — ليس الحجاب باعتباره «رمزًا»، باعتباره تمثيلًا للهوية، ولكن الحجاب باعتباره شكلًا من أشكال الفعل المجسَّد، جزءًا من عملية مجسَّدة أكبر تُبنى من خلالها ذات ورعة، وخصوصًا من خلال ممارسات الصلاة، وتلاوة القرآن، والسلوك المتواضع. تتجلى هذه الممارسات خصوصًا في الحجاب، المرتكز على الجسد؛ ثمة ممارسات تكون الخبرة الجسمانية مركزية فيها، تتشكل من خلال الصلاة، ومن خلال التصرفات المعلنة، وصور أخرى من التجسيد مثل تعلُّم التباكي أثناء الصلاة. مثل هذه الخبرات الجسمانية، كما تقول محمود، «لا «تعبر» عن الذات وحسب، ولكنها «تشكِّل» الذات التي يفترض أنها تدل عليها» (٢٠٠٣: ٨٤٢؛ والتشديد في النص الأصلي).

التقطت أمل هذا المعنى؛ إذ تحكي عن خبرة ارتدائها الحجاب، لا بمعايير تمثيل هوية، ولكن بوصفه طريقة لخلق ذاتية «حيية» أو متواضعة:

اعتدتُ أن أفكر أنه رغم أن الحياء مأمور به من الله، فإذا تصرفتُ بحياء فسيكون ذلك بالنفاق؛ لأنني لم أشعر به حقًّا في قرارة نفسي. وهكذا، ذات يوم وأنا أقرأ الآية ٢٥ من سورة [القصص] أدركت أن الحياء كان من الأعمال الصالحة، وبالنظر إلى الافتقار إلى الحياء، «كان عليَّ أن أخلقه أولًا»، أدركت أن صُنْعه في نفسك ليس نفاقًا، وأنه في النهاية يتعلم داخلُك أن يمتلك الحياء» أيضًا … وهو يعني أن تجعلي نفسك حييَّةً، حتى لو كان يعني إنشاءه … وفي النهاية أدركت أنه حالما تفعلين هذا، ينطبع معنى الحياء في النهاية على داخلِك. (محمود ٢٠٠٤: ١٥٦-١٥٧؛ التشديد مضاف)

وتصف نعمة، وهي متحدثة أخرى إلى صبا محمود، الأمر المهم بطريقة مماثلة:

في البداية، حينما ترتدينه [الحجاب]، تشعرين بحرج، ولا تريدين ارتداءه لأن الناس سيقولون إنك أكبر، ولست جذابة، ولن تتزوجي، ولن تجدي زوجًا أبدًا. لكن يجب أن ترتدي الحجاب، أولًا لأنه أمر الله، ثم مع الوقت لأن داخلك يتعلم أن يشعر بالحياء في غياب الحجاب، وإذا خلعتِه يشعر كيانك الداخلي بأنه غير مرتاح في غيابه. (محمود ٢٠٠٤: ١٥٧)

تتحدث منى، وهي محاوِرة ثالثة، عن الصلاة والشعائر المتضمنة بالطريقة ذاتها. تتحدث عن الصعوبات المتضمَّنة في الاستيقاظ مبكرًا لصلاة الفجر، قائلة إن التغلب على هذه الصعوبات يمكن بدوره أن يشكل مجالات الحياة الأخرى، وفي هذه الحالة، المجالات الدنيوية، مثل تجنب الغضب من الأخت، أو استخدام لغة بذيئة. الصلاة، ومن ضمنها تطوير القدرة على الاستيقاظ حين شروق الشمس للصلاة الأولى، تُفهم على أنها:

اكتساب ملَكات خلقية معينة وتهذيبها … فالأفعال الدينية واللفظية التي تؤدَّى مرارًا، على وجه النية الصحيح، تعمِّق السلوك في النهاية مع حواس المرء لدرجة أن قدرة المرء على إطاعة الله لا تكون مسألة إرادة المرء، ولكن تصدر مقدمًا وتلقائيًّا تقريبًا دون جهد، من سجيَّة ورعة. في هذا الفهم، تتصل النية، وهي شيء نربطه بالسريرة، مع أفعال الخارج الجسدية بطريقة لا يمكن معها تصور انفصام الاثنين. (محمود ٢٠٠٣: ٨٥٠)

يحاول محمود التفكير فيما تحويه هذه الأشكال من ممارسات الجسد بالاستناد إلى دراسة بيير هادو للتمارين الروحية، التي يصفها بأنها «ممارسات يمكن أن تكون جسدية، كما في الأنظمة الغذائية، أو خطابية كما في الحوار والتفكر، أو حدسية كما في التأمل لكنها جميعًا يُقصَد بها أن تتسبب في تعديل الفاعل الذي مارسها أو تحويله» (هادو ٢٠٠٢: ٦، في محمود ٢٠٠٤: ١٢٢). ينطوي هذا الفهم لممارسة الجسد على البعد عن نموذج التمثيل؛ فممارسات الجسد لا تُفهَم في المقام الأول باعتبار أنها تعلن عن هوية، ولكن باعتبارها أشكالًا من العمل تهدف إلى بناء ذاتٍ خلوقة أو أخلاقية، وتربيتها. وكما تفترض محمود، فهذا الفهم ««يقلب التوجيه المعتاد من الحياة الداخلية إلى الحياة الخارجية» التي يتجلى فيها اللاوعي بصيغ جسدية» (٢٠٠٤: ١٢٢، التشديد مضاف).

يؤكد طلال أسد مركزية الجسد بوصفه «مادية حية» مقابل جسد ينبغي للذات أن «تتغلب عليه» أو تسيطر عليه. وفق هذه الرؤية، يمكن فهم هذا الشكل من أشكال الممارسة على أن الذات تَصير هي الجسد، وإعادة تشكيل الذات من خلال إعادة تشكيل الجسد:

تُعَد مادية الجسد الحية وسيلة أساسية لتشجيع ما تُعرِّفه مثل هذه التقاليد بأنه سلوك فاضل وتثبيط ما تعتبره رذيلة. دور الخوف والرجاء، الهناء والألم، مركزي لمثل هذه الممارسات. ووفق رؤية الجسد الحي هذه، كلما يمارس المرء الفضيلة تصبح أسهل … وكلما ينغمس المرء في رذيلة يصعب عليه أن يفعل فعلًا فاضلًا. (٢٠٠٣: ٨٩-٩٠)

بذلك المعنى، ثمة ذاكرة مجسَّدة مكونة من خلال الممارسة الجسمانية، بينما تصنع مثل هذه الممارسة الجسمانية إمكانية خُلُقية. ومن وجهة نظر أسد، توضِّح مكانة الألم والفاعلية في كلٍّ من التقاليد المسيحية والإسلامية هذه النقطة. بدلًا من قبول فهمٍ للتجسيد تتجنب فيه الذات الألم، وتنشد اللذة (علاقة ذرائعية بالجسد)، يفترض أسد أنه في أشكال الممارسة المقترنة بهذه التقاليد الدينية يمكن للفاعلين:

استخدام الألم لخلق مساحة للفعل الخُلُقي تعبر عن هذا العالم التالي … لا يشكل الألم مجرد دليل مفحِم على الخلفية الجسمانية للممارسة، ولكنه أيضًا طريقة لتشكيل الوضع المعرفي ﻟ «الجسد». وبالمثل إمكانياته الخُلُقية. (٢٠٠٣: ٩١)

كما يلحظ زاركوني، اعتبرت مدرسة كاملة في الدراسة الأكاديمية الغربية أن الجسد عقبة ينبغي التغلب عليها، مولية أهمية للعقل المتجرد من الجسد، لا للجسد. والنظر إلى حركة التديُّن على أنها شكل من أشكال «تمثيل» الهوية أو «المطالبة بالاعتراف» تعجز عن فهم ما هو على المحك في مثل تلك الممارسة الجسمانية. يوجد بوضوح شكل من الفاعلية متضمنًا هنا شكلًا من التأثير على الذات يمر عبر التأثير على الجسد وموقعه في العالم. وفي هذه الحالة، كما تفترض محمود، لا يصدر الفعل من الأحاسيس الطبيعية (نموذج شخصي التوجه)، ولكن من الأفضل فهمه على أنه يخلقها. التجسد المتجه للخارج لا يُفهم على أنه تمثيل للحالة الداخلية أو تعبير عنها. بالعكس، يُفهم السلوك المجسَّد باعتباره أداة تربية وتغيير لأشكال الخبرة الداخلية. ولا يُبنى هذا على الفصل بين الجسد والعقل؛ حيث تمثل الحالات الداخلية بفعل أو مظهر خارجي. ولا يستهدف هذا الشكل من أشكال الفاعلية من حيث الأساس «المعتقَد»، بالمفهوم الإدراكي للدين باعتباره نظام معتقدات. بدلًا من ذلك، فهذا شكل من أشكال الفعل يهدف إلى إنتاج شكل من الفاعلية المجسَّدة، طريقة للكينونة في العالم من خلال الجسد تُفهَم على أنها أخلاقية وموافقة لإرادة الله، ولتكون قادرة على الوصول إلى النقطة التي يجعل عندها الانحرافُ عن هذا الكيانَ كلَّه قلقًا، في عملية تصفها محمود بأنها:

علاقة تكوينية متبادلة بين تعلُّم الجسد وإحساس الجسد … [شكل من الممارسة المجسدة] فيها يشكل السلوك الخارجي للجسد كلًّا من الإمكانية والوسيلة التي يُدرَك من خلالها الداخل … لا يعبر شكلٌ جسدي متواضع (الجسد المتحجب) عن قرارة النفس وحسب، ولكنه هو الوسيلة التي تُدرَك بها … لا تفهم مرتادات المسجد الجسد على أنه علامة على ما تضمره النفس، ولكن على أنه وسيلة لتنمية القدرة الكامنة في النفس … تعامل مرتادات المسجد الجسد على أنه وسيط للذات أكثر منه علامة عليها. (محمود ٢٠٠٤: ١٥٨–١٦٦)

تزعم محمود في دراسة أشكال الجسمانية المتضمَّنة في حركة تديُّن النساء أن الأمر الحاسم هو ««العمل» الذي تؤديه الممارسات الجسدية في صنع فاعل، وليس «المعاني» التي تشير إليها» (٢٠٠٤: ١٢٢؛ التشديد في النص الأصلي). بينما قد يكون هذا مثيرًا من وجهة نظر عالم الأنثروبولوجيا، فهل له تداعيات خارج جدالات المتخصصين؟ في سياق الحركات ومبادئ الفعل التي نبحثها، له تداعيات. إنه يدفعنا لإعادة النظر في أفهامنا للفعل، والذات المتجسِّدة، وأشكال الخبرة العامة ومبادئها التي تظهر تبعًا لذلك.

التجسد والذات وطرق المعرفة: ما وراء التمثيل

تعطي الثقافة والتاريخ الغربيان أولوية للعقل ولفعل العقل على الجسد الذي يُفهم على أنه «بليد وسلبي وساكن» (جورداش: ١٩٩٣: ١٣٦). ويفترض توماس جورداش أن هذا أدى إلى هيمنة ما يسميه نموذجًا معرفيًّا «نصوصيًّا وتمثيليًّا» يتجلى على وجه الخصوص في أفهام الثقافات على أنها نظام رمزي أو «نص»؛ حيث يتخذ فعل المعرفة شكل فهم هذه العلامات، نموذج معرفي يشكِّل الطريقة التي أرادت بها أشكال المعرفة الغربية أن تفهم العالم، من ليفي شتراوس وجيرتس إلى دريدا وفوكو. هذا النموذج المعرفي السيميوطيقي/النصي هو في قلب فهم الفعل على أنه القدرة على التمثيل، متحولًا إلى مجموعة مبادئ أحادية للكينونة في العالم. نلقى هذا النموذج المعرفي في صميم الفهم المعاصر للحركة الاجتماعية؛ حيث يُفهم فعل الحركة على أنه «عَرْض عام» يمثل مجتمعًا سكانيًّا أو فئة (تيلي ١٩٩٧)، أو أنه استعراض للهوية (هيذرينجتون)، أو فعل التمثيل الذي يوجِد الفئة (بورديو). هذا الفهم للفعل على أنه تمثيل رمزي هو في قلب نموج الهوية للحركات الاجتماعية. تمامًا مثل بورديو، وهوبز من قبله، تتشكل الحركات الاجتماعية من وجهة نظر عالم الاجتماع رون آيرمان من خلال فعل التمثيل؛ حيث المشاركة الوجدانية والانتماء على سبيل المثال «يُمثَّلان ويُعزَّزان من خلال العلامات والرموز، والأزرار، وقطع اللباس، والأعلام، والإعلانات، وغيرها مما هو مفعم بقيمة رمزية. وتمثل هذه «نحن» للمشاركين، وكذلك تمييز هذه الجماعة بالنسبة إلى «الآخرين» وفي مواجهتهم» (آيرمان ٢٠٠٢: ٨؛ التشديد مضاف). ويتضمن مثل هذا «الاستعراض للهوية» «بناء شخصية الآخر» حيث نجد في مركز الحركة الاجتماعية ما يعتبره هيذرينجتون «أشكالًا رمزية من المقاومة لذرائعية الحياة الحديثة وعقلانيتها» (١٩٩٨: ١٠٣).

يشكل هذا النموذج المعرفي التمثيلي طريقة تفكيرنا في الحركات والفعل من الأعماق، وتمامًا مثل أساس أي بناء، فغالبًا ما يكون خفيًّا. وبوصفه أساسًا خفيًّا، لا نمنحه انتباهًا كبيرًا، مفترضين أن الفعل بوصفه تمثيلًا، هو فئة أحادية وعامة. يتتبع أسد ظهور هذا المفهوم الحديث عن «الفعل الرمزي» من خلال إعادة بناء الطريقة التي أصبح الطقس يفهم من خلالها على أنه «أنواع من السلوك التمثيلي» (أسد ١٩٩٣: ٦٠)، وهو يفعل هذا من خلال بحث ممارسة الطقس في التقليد المسيحي في القرون الوسطى للأنظمة الدينية؛ حيث كان الطقس شكلًا من الفعل يُفهَم وفق النظام الأخلاقي؛ حيث لم تكن طقوس مثل الصلاة أو الصيام أو القداس رموزًا تحتاج إلى التأويل، «ولكنها قابليات تُكتَسب وفق قواعد يسنُّها أولئك الذين يتولون السلطة». في هذا السياق الديني، كان «الطقس» قاعدة للسلوك تتشكل من «كل الممارسات السابق وصفها، سواء أكانت تتعلق بالطريقة الملائمة لتناول الطعام، والنوم، والعمل، والصلاة، أم تتعلق بالطبائع الأخلاقية والمهارات الروحية الملائمة»، مع كون الهدف هو تنمية الفضائل لتكون «في خدمة الله». تضمَّن هذا التعلمَ من خلال التقليد من حيث الأساس، ولا سيما لكل أشكال الممارسة المجسَّدة. وفي هذا السياق، لم يُفهم الطقس بمعايير «السلوك التمثيلي»، ولكن تربية «البنى الخلقية للذات» (١٩٩٣: ٦٣).

يتضمن ظهور شكل حديث من الذات دراية متزايدة بالفرق والتوتر بين الذات الداخلية وبين ما أصبح يُفهم على أنه تجلياتها الخارجية. وضع نوربرت إلياس (١٩٩٤) هذا في قلب ما يسميه «عملية التمدين/التحضر»، مبرزًا تحولًا في صور الضبط الاجتماعي، تنتقل فيه هذه من النسق المطلق، وتنشئ ثقافة ووعيًا جديدين بالضبط الذاتي. يبرز إلياس على نحو خاص أهمية تنمية الأساليب والقواعد المتعلقة بآداب السلوك، وخصوصًا في البلاط الفرنسي، التي يزعم أنها تعبيرات عن الأشكال الجديدة من الضبط الذاتي. ويشير أسد إلى التغيرات التي كانت تحدث في إنجلترا في عصر النهضة، وكانت تشكلها على نحو متزايد الدراية بالتوتر بين الذات الداخلية وبين الشخص الخارجي. ويرى أسد تأثير هذا على وجه الخصوص في الدراما في ذلك الوقت، بينما يبرز جرينبلات المكانة المتصاعدة في البلاط الإليزابيثي للأدلة الإرشادية وأشكال التعليمات الأخرى التي تؤكد أهمية «الرياء» و«الادعاء» (١٩٨٠: ١٦٣، في أسد ١٩٩٣: ٦٧). وفي هذا السياق، «اعتمدت الذات في هذه الحالة على صون المسافة المعنوية بين أشكال السلوك العامة، وبين الأفكار والمشاعر الخاصة» (أسد ١٩٩٣: ٦٧). أصبح التمثيل شيئًا يمكن تعلُّمه والتلاعب به. لا يُفترض بذلك أن التآمر والخداع كانا غائبين قبل عصر النهضة. على العكس من ذلك، وعلى أساس فهم جديد للتوتر بين الذات الداخلية والذات الخارجية، «كانت ممارسات التمثيل (وسوء التمثيل) تصير في ذلك الوقت أهداف المعرفة النظامية في خدمة القوة» (أسد ١٩٩٣: ٦٨). ويقع هذا الفهم للتمثيل، الذي شكَّل أساس الأدلة الإرشادية الجديدة، في قلب فهم نيقولو مكيافيلي لمعنى القوة.

المسألة المهمة هنا هي أن ندرك أن ما نعتبره اليوم «سلوكًا تمثيليًّا»، مقترنًا في المقام الأول بالطقس، هو نتاج مسار. يمكن فهم حقبة النهضة على أنها مرحلة تحوُّل. كان قناع عصر النهضة، ورقصة البلاط في العصر الإليزابيثي، مظهرَيْن من مظاهر القوة، ولكن ليس ما نفهمه الآن على أنه «سلوك تمثيلي». فالملك والحاشية شاركوا، وكانت الرقصة تأكيدًا للقوة لا محاكاةً لها (أسد ١٩٩٣: ٦٩). لكننا لا نجد في هذه الحقبة مولد الأدلة الإرشادية «السلوك التمثيلي» فقط، بل نجد أيضًا أدلة للتصوير الرمزي، كانت «تفسَّر بصرامة»: «لم تقدم عملية التفسير هذه مجرد معانٍ سلطوية، ولكنها عرَّفت الأشياء بوصفها رموزًا» (١٩٩٣: ٦٩). لم يظهر هذا الفهم للمعنى بمعايير ما هو تمثيلي فقط في سياق مجتمع البلاط؛ يفترض أسد أنه يكمن في الطرق الجديدة لدراسة التأويلات الإنجيلية المسيحية الناشئة في ذلك الوقت، في سياق حركات دينية أشمل، رغبت على نحو متزايد في فهم النصوص الدينية وفق أنظمة مختلفة للمعنى.

يشير هذا إلى فهم جديد للطقس ظهر مع مولد الحداثة، من اعتبار الطقس فعلًا مجسَّدًا بهدف التربية الخلقية، إلى اعتبار الطقس تعبيرًا رمزيًّا يمكن أن يُقرَأ، ومهيأً للإدراك. في هذه العملية، يظهر الدين على أنه فئة عامة، يفهمها المفكرون الغربيون بمعايير المعتقَد، لا الفعل. يتتبع أسد منشأ هذه العملية من صياغة كانْت للمفهوم العام ﻟ «الدين» إلى مقولة كليفورد جيرتس (١٩٧٣) بأن «الدين هو نظام من الرموز»، مؤكدًا الرؤية التي اقترحها دوركيم وفرويد بأن من المفترض فهم الأديان باعتبارها تمثيلات جمعية. ومن وجهة نظر جيرتس، تصبح مهمة عالم الأنثروبولوجيا هي حل هذه الرموز أو «قراءتها». ووفقًا لرؤية أسد يتوازى هذا مع التحولات الحادثة في الثقافة الغربية، ومنها الفهم الجديد للخبرة الداخلية وللتمثيل الخارجي. وعلى الرغم من ادعاءات العالمية التي تمتد من كانْت، يقول إن هذا الفهم للديني باعتباره أنظمة رمزية ومعتقدات هو فهم «حديث، مسيحي مخصَّص؛ لأنه — ولدرجة أنه — يبرز أولوية المعتقَد باعتباره حالة عقلية، لا باعتبار أنه يشكل النشاط في العالم» (١٩٩٣: ٤٧).

كان من شأن هذا الفهم للتمثيل الرمزي أن يؤثر بقوة في الأنثروبولوجيا البريطانية.٢ يفترض أعلام بارزون أنه من خلال الطقس، أمكن تشكيل المجتمعات وتعريفها في مواجهة تجاوزات العقلانية الذرائعية: أكد فيكتور تيرنر مكانة الطقس في صراع المشاعيات ضد النظام الذرائعي، وهو تحليل يعيد استخدامه اليوم هيذرينجتون حينما يؤكد دور «بنية المشاعر الرومانسية» في الحركات المعاصرة التي «ترغب في نوع من كلية الحياة اليومية، وتتحدى الذرائعي الكامن خلف تشظِّيها» (١٩٩٨: ١٠٩). من خلال التمثيل الرمزي، أو الهوية، تتحقق مثل هذه الكلية. ومن هنا تنبع الأهمية البالغة التي توليها كتابات الحركة الاجتماعية ﻟ «الهوية الجمعية».

يفهم النموذج المعرفي النصوصي أو التمثيلي الفعلَ بمعايير الرمزي، القدرة على التمثيل التي من خلالها يؤسَّس الاجتماعي. ومن المهم للغاية أن نفهم مدى تغلغل هذا بعمق في الأفهام الغربية للحداثة وآخَرها. درَس دوركيم الطقوس المجسَّدة لما اعتبرها مجتمعات بدائية، ورأى هذه على أنها تعبيرات عن الانفعال، عن أناس يتحمسون بشدة بسيل من الشغف، مذاب في نوع من خبرة الحشود المتمثلة في الفوضى والإثارة، وحديثي عهد بالتحول. من وجهة نظر دوركيم، كان المتجسد والتمثيلي على طريق اتخذ فيه الانتقال من البدائي إلى الحداثي شكْل نوعٍ من حرية كانْتية، مفترضًا أنه «كلما تحررنا من حواسِّنا … كنا أشخاصًا» (دوركيم ١٩١٢/ ١٩٩٥ : ٢٧٥). تؤكد أولوية التمثيلي التي يبرزها جورداش داخل نماذج الفعل الأولوية التطورية للتمثيلي على المجسَّد، والعلماني على الديني. وبالقدر نفسه، من وجهة نظر فرويد، يعلو الإدراكي والرمزي على المجسَّد الذي يفهمه بمعايير الدوافع والطاقات و«الروحاني»: ممارسة مجسَّدة تُفهَم على أنها أدنى من الممارسة الأرقى التصورية والتمثيلية. ويلحظ ستاريت (١٩٩٥: ٩٥٣) أن رؤية فرويد للعلاقة بين الفكر والفعل استندت إلى فهمه «الأنظمة الدنيا» حيث فهم الفعل على أنه يتطور (على مستوى الفاعل الشخصي والأنماط المجتمعية) ويتقدم نحو طاقات ترميز متعاظمة، وهذه مقولة طورها في كتابه «الطوطم والتابو». ووفْق هذا الرأي، تصدر أفعال المجتمعات والأطفال في البداية من التجسيد، ويطورون بالتدريج قدرة على الترميز.

يبرز ستاريت (١٩٩٥: ٩٥٣) تأثير هذا الإطار التصوري في المواجهة الاستعمارية؛ فحينما وُوجه الإداريون والمعلمون الاستعماريون بممارسات المصرين في التعلُّم، أحبطهم مدى اشتمال هذه الممارسات على شكل من أشكال التجسيد والخبرة الجسمانية؛ إذ قارنوا هذا بنمط التعلم التصوري الأوروبي. ومن هنا أُحبطوا حينما وُوجهوا بما اعتبروا أنه تأرجُح وضوضاء بلا معنى، حاضران في خبرات تعليم الدروس، مقارنة بثبات الدارس الأوروبي ونظامه وأخلاقياته؛ اعتُبر النظام الديني نظامًا للمعتقدات الجامدة والمحظورات، مقابل العقل والأخلاقية في المسيحية، على نحو يُبرز فهمًا جسمانيًّا للخطيئة مقابل المفاهيم الأخلاقية المجردة. رأى هؤلاء الإداريون أنفسَهم يصارعون ثقافة الانتشاء والحسِّية، مقابل ثقافتهم التي فهموها بمعايير الزهد الداخلي والتيقُّظ الصامت. وفُهِمت هذه الاختلافات على أنها تُظهر مسارًا تطوريًّا من التجسيد إلى التصوُّر، بالتوازي مع رؤية العالم لدى فرويد. فُهم أن المجتمعات ترتقي من المجسَّد والنشط إلى التأملي والرمزي، وكذلك كانت عملية ظهور السمات الفردية والنمو البيولوجي: فعل الطفل أولًا من خلال التجسيد، ثم تطوير القدرة على الترميز لاحقًا. لم تُعتبَر صور الفعل المجسَّد التي واجهها الإداريون الاستعماريون في مصر مختلفة وحسب، ولكن بدائية على مسار تطوري ينتقل من المجسَّد إلى الرمزي. اعتقد فرويد بأن هذه المشاعر والانفعالات يمكن السيطرة عليها في النهاية بالرقابة والتأويل «ومن ثم منح الأولوية للعقلانية في تشكيل الفاعل العلماني الحديث» (أسد ٢٠٠٣: ٦٩). شكَّل هذا الطرح بعمق الطريقة التي ظللنا نفكر بها في الحركات الاجتماعية. تعكس مقابلة تيلي ما بين الفعل المباشر (التظاهر، والمحاصرات، وغيرها) وبين الاتحادات، هذا الفهم التطوري للعلاقة بين المجسَّد والعقلاني. أحدهما يتضمن ممارسة التمثيل؛ والآخر لا يتضمنها.

المستمع المتجسِّد

يؤكد التقليد الممتد من كانْت عبر دوركيم وفرويد إلى هابرماس على التشاور العقلاني؛ حيث يكون تجرد التشاور هو مصدر عموميته الكامنة. ويُعلي هذا من شأن روايات المجال العام المُعرَّف على أساس النقاش العلماني المتجرد من المحلية الذي يشكل بدوره الطريقة التي نفكر بها فيما يشكل حركة اجتماعية؛ حيث تُعرَّف الحرية من منطلق ممارسة المنطق، وهذا ما عبرت عنه بوليتا ببلاغة في تصويرها للحرية على أنها اجتماع بلا نهاية. ويولي هذا أولوية للفاعل المتعقل في المجال العام. مهم أن ندرك أن هذا الفهم للغة غير متجسِّد. وهكذا يمضي هابرماس في محاولة فهم الفعل الاتصالي من خلال إعادة بناءٍ منطقية لنظرية اللغة، معتمدًا على عمل لغويين من أمثال تشومسكي؛ حيث تُفهم اللغة بوصفها منظومة رموز. والمدهش في رواية المجال العام هذه هو الافتقار إلى الاهتمام بخبرة الاستماع وتصورها.

توجد خبرة الاستماع هذه في قلب دراسة تشارلز هيرشكيند (٢٠٠١أ، ٢٠٠١ب، ٢٠٠٤) لممارسة حركات التديُّن للدعوة. ولكن بدلًا من أن يركز على الوعاظ، يركز هيرشكيند على خبرة الاستماع؛ حيث يفترض أن هناك شكلًا مهمًّا من أشكال الفعل المجسَّد الأخلاقي؛ فِعْل يكمن في أساس شكل من أشكال المجال العام. وينصبُّ تركيزه على ممارسات الاستماع التي تشكل جزءًا من حركة التديُّن، المقترنة في المقام الأول بالدروس المسجلة على أشرطة الكاسيت للوعاظ الإسلاميين المشاهير (الخطباء) التي صارت من أوسع الوسائط المستخدمة انتشارًا من قبل الطبقات الوسطى والوسطى الدنيا في القاهرة منذ السبعينيات (التي أنتجتها نحو ست شركات مرخصة، وأُنتِجت مرات لا تحصى؛ لدرجة أن عدد النسخ المتداوَلة يقدر بالملايين)، وكانت تذاع من المحلات، والورش، والمواصلات العامة، والمقاهي، وسيارات الأجرة. يركز هيرشكيند على خبرة الاستماع إلى هذه الدروس. يجب أن ينجح الواعظ أو الخطيب الجيد في إيقاظ جمهوره من حالة البلادة، ويجب أن يجعلهم يركزون على الطريقة التي يَحْيَوْن بها، والترهيب والترغيب المتعلقَيْن بالآخرة، ويجب أن يمزج الروايات القرآنية بحيوات المستمعين اليومية. لكن فعل الاستماع ليس فعل استيعاب وحسب، فهو أقل ما يكون شبهًا بالتدبُّر بالمعنى الكانتي/الهابرماسي لممارسة منطقٍ محتمل أن يكون عامًّا. على العكس من ذلك، يجب أن يستجيب المستمعون عاطفيًّا من خلال الاستماع؛ يجب أن يحسوا بالخوف، والرهبة، والسلام، والقرب من الله؛ إذ يوصف هذا بمعايير السكينة أو السلام الداخلي. لكن هذا يستلزم أشكالًا تفاعلية من الاستجابة للدرس، تتضمن مجموعة من الأفعال ذات المغزى؛ كالصلاة على النبي كلما يذكر اسمه، والاستغفار. أحيانًا ما تكون هذه الاستجابات بصوت مرتفع؛ وفي أحيان أخرى تتضمن هذه تحريكًا صامتًا للشفاه، أو همسات. ويستلزم هذا الاستماع بدوره تدريبًا على أشكال من السلوك والتركيز مرتبطة بالإنصات للقرآن، والحفظ، والتجويد (هيرشكيند ٢٠٠١ب: ٦٣١). يؤكد هيرشكيند أن ما هو على المحك هنا ليس عملية تنفيس نفسي (حيث تتسرَّب المشاعر الداخلية التي قد تكون خطرة، في نوع من الفهم الروحي الفرويدي للضغط والتحرر)، ولكنه يتضمن، على العكس من ذلك، شكلًا من أشكال الفعل المجسَّد؛ حيث يشتمل الاستماع على أكثر من القدرة على تذكر نص أو قصة، ولكن حيث:

لا تكمن المعرفة بهذه الصيغ السردية الإسلامية في القدرة على تلاوة نص ما وحسب، ولكن أيضًا في أداء ملامحه الاختلاجية والإيمائية والعاطفية، والحالة المجسدة للنص بوصفة ذكرى … ومن خلف محتواه المرجعي، يمكن النظر إلى الدرس على أنه أسلوب لتدريب إيماءات الجسد وانفعالاته، وتعبيراته المادية وتلوُّناته، وإيقاعات تعبيره وأساليبها … تشي القصص بالعادات الأخلاقية وتنظيم المهارات الحسية والحركية الضرورية لإعمار العالم بطريقة تُعَد ملائمة للمسلمين. (هيرشكيند ٢٠٠١: ٦٣٦-٦٣٧)

هذا فهم للاستماع لا يمكن اختزاله إلى حالة عقلية، ولا تكون الإيماءات والحركات وطرق الإلقاء التي هي مركزية في مثل هذا الاستماع تمثيلية لحالة داخلية؛ على العكس، هذا الشكل من الاستماع هو فعل يفترض أن يشكل الخبرة الداخلية.

هذا الاستماع — كما يزعم هيرشكيند — هو شكل من الخبرة الحسية المكتسَبة، تمامًا كما نتعلم أن نستمع إلى الموسيقى (أن نميز اللون، والمزاج، والإيقاع، وأن نفهم مقطوعة موسيقية وفق ما يأتي وما جاء بطريقة تخلق فضاءً مُعرَّفًا بمعايير التذكر والتوقع). خبرة الاستماع إلى الموسيقى، وخبرات الحركة، واللون، واللمس، والشعور لا يمكن إنتاجها بطريقة إدراكية، ولكنها بدلًا من ذلك «تكون مؤسسة على خبرة الجسد الفعلية الحسية بوصفه مركَّبًا من القدرات الإدراكية الحسية المصقولة ثقافيًّا» (هيرشكيند ٢٠٠١ب: ٦٢٩). وبطريقة مماثلة، ينبغي فهم فعل الاستماع إلى الدرس بوصفه ممارسة، أو أشكالًا من العمل، تربِّي الذات.

الإسلام والمواطَنة والمجال العام

يضع الفهم الكانتي/الهابرماسي المجال العام في التواصل العقلاني الذي يحمل بفضل عقلانيته إمكانية جعله كونيًّا — وهي مقاربة طالما شاعت للغاية في نظريات الديمقراطية التشاورية (درايزك ٢٠٠٢) حيث نلقى «حلم عصر التنوير بخلق حقل خالص من السياسة التي يحكمها خطاب المنطق المُذاع في المجال العام» (سالفاتوري ٢٠٠٤: ١٠٢٨). يصاغ هذا المنطق المتجرد من الجسد بمعايير التمثيل وسيادة الرمزي/التمثيلي على الجسماني. ولا يمكن تحقيق صفة العموم لهذا المنطق إلا على أساس تجريده، أي حالته المتجردة من التجسد. يلحظ هيرشكيند الطرق التي يتضمن بها تشكيل الدولة المصرية الحديثة ومفهوم المواطنة الذي يقترن بها مثل هذا التجريد للمستمع الأخلاقي. داخل التقليد الإسلامي، لا يعتبر القرآن فقط مصدرًا سلطويًّا؛ بل هو مصدر للجمال والتعجب، يُتَوَّصل إليه من خلال الاستماع، جسديًّا وليس فقط — ولا حتى في المقام الأول — من خلال الإدراك.

ثمة تشابهات هنا فيما يتعلق بالطرق التي يمكننا أن نتأمل من خلالها لوحة بصفتها عملًا فنيًّا يجب الإحساس به. وعمل ذلك بطريقة أخرى سيكون بمنزلة المساواة بين الاستماع إلى أغنية وقراءة كلماتها. وكما يفترض هيرشكيند، يعني هذا أن التقليد الإسلامي يولي أهمية أقل كثيرًا إلى فن الخطابة والإقناع (القواعد والأساليب التي قد يوِّظفها متحدث ما لاستثارة مشاعر الجمهور)، ما يوليه لنشاط المستمع (٢٠٠٤)، مبرزًا طرق الاستماع التربوية التي تسمح للفاعل بالإحساس بما قد يمكننا تسميته الجوانب الشعرية للنص. وهكذا يتضمن الاستماع قلب الإنسان ومجمل الجسد، على خلاف التدبُّر في أوجه الرجاحة العقلانية لحجة ما. داخل هذا التقليد، «يُميَّز الاستماع بوصفه النشاط الحسي الأكثر أساسية للسلوك الأخلاقي» (٢٠٠٤: ١٣٦). بينما توصل التقليد المسيحي منذ القديس أوجستين إلى فهم الخطابة على أنها ذرائعية؛ حيث لا توجد علاقة ضرورية بين البلاغة وبين الصدق، أُسِّس التقليد الإسلامي على «وحدة جوهرية لما هو جمالي وما هو حقيقي» (هيرشكيند ٢٠٠٤: ١٣٦). لا يمكن تحقيق الوصول إلى الحقيقة دون إحساس بجمال الرسالة؛ ومن هنا أهمية فاعلية المستمع والخبرة الجسمانية للاستماع.

ما تداعيات هذا الفهم فيما يخص الفضاء العام؟ يلحظ هيرشكيند أن إعادة تشكيل الوعظ والاستماع التي صاحبت تطور الدولة المصرية على مر القرن العشرين تضمنت سعي الدولة على نحو متزايد إلى السيطرة على الوعظ؛ حيث أصبحت متأثرة على نحو متزايد بالنماذج الناشئة في برامج الاتصالات الغربية، مع تركيز جديد على أن يوظِّف الخطباء «فنَّ تلاعبٍ خطابي محايدًا يرسِّخ في مستمعيه الآراء والتوجهات التي ستشكِّل المصريين الحديثين» (٢٠٠٤: ١٤٠). وفي مركز هذه العملية خبرة استماع متغيرة. في نموذج الوعظ الكلاسيكي، يخضع كلٌّ من الواعظ والمستمع لنظام الكلمة وقوتها وجمالها؛ فعلاقة الخطيب بخطابه ليست علاقة ذرائعية صرفًا. «بدلًا من ذلك، يخضع لنظامها، مطوِّعًا صوته وفق مقتضيات الكلمات التي يتلوها، مانحًا لها نطقها الحقيقي الطبيعي. وبإنجاز ذلك، تنتهي مهمته، بينما تبدأ مهمة المستمع» (٢٠٠٤: ١٤١).

ينطوي صعود الدولة المصرية ونمط المواطنة المرتبط بها — كما يزعم هيرشكيند — على نوع جديد من الاتصال العام؛ نوع يطور فيه الخطيب علاقة ذرائعية بكلماته (متأثرًا على وجه خاص بنظرية الاتصال والعلاقات العامة)، ويرغب في إعلام جمهورٍ ما والتلاعب به، والجمهور مجرَّد من فاعليته. وحالما أصبح الخطاب الإسلامي مدمجًا باطِّراد في تشكيل الدولة، سعى هذا إلى تجريد الاستماع من فاعليته الجسمانية. ورغبت الدولة في خلق نمط جديد من المستمع؛ مستمع يُفهَم على أنه المستقبِل السلبي للاتصالات العامة. يكتب هيرشكيند:

اليوم، تتحسر المقالات في الصحافة الوطنية الخاضعة لسيطرة الحكومة مرارًا على الممارسة المستمرة للتقاليد التي تربِّي «تبجيلًا للكلمة المقدسة» وانتباهًا للخصائص الصوتية للغة على حساب الرمزي. يتجاوز الاستماع الوسائل العقلانية، كما يُزعَم، نافذًا مباشرة إلى جوهر الفلاح الأمي الهش. أما القراءة فهي — على خلاف ذلك — تشجع التأمل المعقْلَن والموافقة المعقْلَنة. وجد النقد الأوروبي في القرن التاسع عشر لسطحية الممارسات الإسلامية وتصنعها سوقًا جديدة في هذا السياق؛ المسلمون المحكومون بالتقاليد، كما يقال، منشغلون أكثر مما ينبغي بالسطح والأمور الخارجية: الصوت وأصوات التلاوة، وحركات الجسد الموصوفة في الصلوات، وقواعد الصيام والتطهُّر، التي تعرِّف جميعها نوعًا من الحياة غير متوافق مع أنماط أكثر تحسينًا وتطورًا من العقل والفهم والورع. (هيرشكيند ٢٠٠٤: ١٧٦)

تعطي الرؤية الاستعمارية، أو رؤية الإداريين، أو رؤية فرويد، الأولوية للرمزي، الذي يُفهَم على أنه مرحلة في التطور الاجتماعي والشخصي تتقدم وراء المجسَّد؛ حيث يُحتَّم على أحد أنماط الاستماع أن يحل محل الآخر. يفترض هيرشكيد أن المطروح هنا ليس تمثيل مراحل في التطور الاجتماعي، ولكنه «سياسة الاستماع»:

أحد المحاور التي تتمركز حولها الانقسامات في المجتمع المصري يُعنَى تحديدًا بمسألة ما إذا كان الجانب المقدس من القرآن يكمن في الكلمة المادية ذاتها أم فقط في معناها الرمزي كما يُكتشَف من خلال إعمال الفهم الإنساني. يسمح نموذجا اللغة بنظم تفسيرية شديدة الاختلاف، هياكل قوةٍ مرتبطة بمشروعات اجتماعية وسياسية متباينة. (٢٠٠٤: ١٤٦)

يلح هيرشكيند على أن ما هو على المحك هنا ليس تضادًّا بين نموذجَي التفسير «الحرفي» و«الرمزي»، ولكن نموذجان متباينان للفاعلية؛ من جهة، فنموذج استماع يقع فيه الصوت في مركز «الممارسات التي تكتسب الذات من خلالها الفضائل التي تُمكِّن من الفعل الخُلُقي»؛ ومن الجهة الأخرى «فهم تعبيري للغة؛ حيث يُدرَك الحديث على أنه أداة مادية لاستخراج معنًى غير مادي» (٢٠٠٤: ١٤٨).

وبدلًا من فهم التطور الجاري للدعوة وحركة التديُّن الأوسع بمعايير انهيار الثقافة العامة أو تقلُّصها، تكشف دراسة هيرشكيند عما يسميه «سياسة الاستماع»، الأساس ﻟ «جمهور مضاد إسلامي». شهد تحديث مصر على مدار القرن العشرين تبني القوميِّين فهمًا غربيًّا للاتصال، مع دمج المساجد في تشكيل جمهور مؤسَّس على التلاعب بالرأي؛ حيث تكون العلاقة بين المتحدث والصوت ذرائعية على نحو متزايد. ويفترض هيرشكيند أن التطور المعاصر للدعوة وممارسات التديُّن لا يمثل بقدر كبير تراجعًا للسياسة؛ مثل ظهور نموذج مضاد من الاتصال كامن في مراكز التعليم، واتحادات الوعظ، والعدد المتزايد من المساجد الخاصة (انظر جافني ١٩٩٤)، ودور النشر، وممارسات الاتصال المتنامية على نحو استثنائي المبنية على تداول أشرطة الكاسيت الصوتية للوعاظ. ويحدث هذا الشكل من الاتصال في المحادثات بين الأصدقاء، من النقاش بشأن ما إذا كان من الجائز الصلاة في المقابر، أو إرسال تبرعات إلى البوسنة.

هذا الجمهور المضاد لا يتوسط «بين» الدولة والمجتمع، كما يفعل «المجتمع المدني» المتصوَّر على أساس التاريخ الأوروبي المركزي. وكما يقول هيرشكيند:

لا تحدث ممارسة الدعوة داخل ذلك المجال من الحياة الترابطية الذي يشار إليه بالمجتمع المدني، ولا تعمل على مناصرته. على العكس، تتخذ رواية الداعية موضعها داخل الإطار الزمني لأمة إسلامية، ويكون لها علاقة بتعاقب الأحداث الذي يميز نمط تاريخيتها. (٢٠٠١: ١٧)

من جهة، ثمة تركيز على عالم الحياة: المجتمع المحلي، ومبادرات المساعدة الذاتية، واللباس، والتواضع بوصفها طرائق لتوسط العلاقات، والحضور في المسجد والصلاة. ومن الجهة الأخرى، إشارة إلى الأمة، أي خبرة مجتمع تتجاوز الزمن المتجانس وحدود القومية. ليس فقط أن هذا النوع من الجمهور المضاد لا يعمل وسيطًا بين الدولة والمجتمع، ولكن أن الدولة أيضًا ليست وسيطًا بين المحلي والعالمي. لا يوجد إحساس بالمستويات (الجزئي، والوسيط، والكلي) ولا بِكَون أحد المستويات يمثله غيره.

إعادة التفكير في الاستقلالية والفاعلية

ينبغي فهم التصور الحديث للفاعلية كما يفترض طلال أسد في إطار ما يسميه «أنثروبولوجية العلماني»، الوعي الجديد بسيادة الفاعل الإنساني الذي انبثق من حركات الإصلاح الديني في أوروبا، وخصوصًا فهم «وحدة القديسين». يؤدي هذا إلى فهم للفاعلية؛ حيث السيادة والحرية الطبيعيتان للفاعلين الحديثين ستقودانهم إلى الرغبة في الحرية (٢٠٠٣: ٧١). يُتَرجم فهم الفاعلية هذا إلى فهم المجال العام على أنه مجال من التشاور العقلاني؛ حيث تُمارَس ملَكة العقل النقدية. يلعب فهم الفاعلية هذا دورًا أساسيًّا في الطريقة التي فهمنا الحركات بها على أنها جزء من عملية التحديث العلماني المفضية إلى المزيد من الحرية.

ينبهنا هذا إلى مدى كون الطريقة التي نشعر بها بالزمن ناتجًا اجتماعيًّا، يشكل طريقة فهمنا لكل من الفاعلية ومفهوم الحركة. يدرس الفيلسوف الألماني راينهارت كوزيلك (١٩٨٥) ظهور ما نعرفه الآن بأنه «زمن تاريخي»؛ إذ يصف الإحساس بالزمن في أوروبا ما قبل الحداثية بأنه «تراكمي». كان التاريخ وفق هذه الرؤية تسلسُلَ أحداث. كان هذا الإحساس «التراكمي» بالزمن موحَّدًا وثابتًا، مركَّزًا على جِدَّة حدثٍ بالنسبة إلى حدث آخر، مع ميل إلى النظر إلى أي زمن غير زمن المرء ليجد ما كان جديدًا (كوزيلك ١٩٨٥: ٢٤٠). منذ القرن الثامن عشر في أوروبا، بدأ يتطور وعي جديد بالزمن، وعي يبدأ في تفسير الماضي والحاضر والمستقبل، بمعايير التقدم، ويبدأ في وضع المجتمعات والثقافات على خط متصل. أتاح هذا إحساسًا جديدًا بالحاضر باعتباره موضعًا مُحدَّدًا بين الماضي والمستقبل، مكان يمكن أن تظهر فيه خبرات جديدة. بينما بحلول أواسط القرن الثامن عشر، شكَّل إحساسٌ بالتسارع التاريخي الوعي بالزمن. يلتقي هذا الفهم للتقدم والتزامن مع الأفهام الجديدة لسياسة الأعداد الكبيرة؛ ليعززا أفهام التغير التاريخي والمفهوم الحديث للحركة أيضًا. لكن هذه الخبرة الجديدة بالزمن، كما يؤكد تشارلز تيلور، كانت متجانسة؛ لم يكن بإمكان الحداثة أن تمتلك إلا معمارًا زمنيًّا موحَّدًا، معمارًا علمانيًّا حصريًّا.

بوسعنا أن نُدرِج حركات التديُّن داخل هذه الزمنية. يمكن فهمها على أنها «مقاومة» (ومن ثم فهي موضوعة داخل الزمن الحديث)، وهو نمط من التحليل، كما تلحظ كارين ورنر (١٩٩٨: ٣٩)، يعمم الأصولية، ويضعها داخل الحداثة باعتبارها شكلًا من معاداة الحداثة؛ أو يمكن وضعها في إطار مقابلة الأنثروبولوجيا البريطانية بين التعبيري والذرائعي (الكلي والمتشظي)، وهكذا تُعرَّف باعتبارها تعبيرات عن «الهوية الجمعية». بطرق مختلفة، تدعو كلتا هاتين المقاربتين إلى مفهوم «المقاومة» الذي يضع الفاعل «داخل تاريخ علماني للتحرر من كل التحكم القسري» (أسد ٢٠٠٣: ٧٢-٧٣). وتضع مثل هذه التحليلات حركات التديُّن داخل العالم الخالي من الحدود وفي إطار تجانسه الزمني. لتضمين هذه الحركات داخل الزمن العام يجب أن نفهمها داخل نموذج الفاعلية الذي تُبْنى عليه، حركة علمانية باتجاه الحرية (تصبح تعبيرات عن الهوية الجمعية، وطرقًا لإدارة التوتر بين التقليد والتحديث، أو تعبيرًا عن الكلية في مواجهة التشظي).

تشتبك صَبا محمود مع هذه المسألة مباشرة. أولًا، هذه الحركة لا يمكن فهمها داخل «اللغة المسطحة» لمقاومة السيطرة. ولا يمكن تحليل هذه الحركة بمعايير فئات الحقوق، والتمثيل، والاعتراف؛ أي مبادئ حركات الهوية. ليس هذا شكل الحركة المنخرطة في «صنع الادعاءات على الدولة خصوصًا، وعلى الكيان الجمعي الاجتماعي عمومًا»، على أساس خصائص مشتركة معينة، يعتبرها المشاركون أساسية لتعريفهم الذاتي بصفتهم جماعة (محمود ٢٠٠٤: ١٩٢). يكشف تأثير حركة المساجد عن رؤية لا تتعلق فيها السياسة بمجرد الطرح العقلاني للحجج والمبادئ الخُلُقية، ولكنها تصدر من مستويات الكينونة والفعل بين الذوات (٢٠٠٤: ١٥٢). ليست هذه حركة هوية جمعية، تدعي وتطالب بحقوق من أجل فئة اجتماعية. إن فَهْم فئات الفرد العقلاني الاستقلالي على أنها ضد المجتمع وثقافته هو بمنزلة الفشل في إدراك أنه في قلب هذه الحركة توجد «ممارسات لتشكيل الذات» (محمود ٢٠٠٤: ١٩٤) لا تمكن رؤيتها في روايةٍ لتاريخ علماني للفاعل السيد الحر الساعي على الدوام إلى التمكين. نواجه هنا صورة من صور التشكُّل الذاتي، ولكنها ليست مصوغة في إطار مبادئ السيادة العلمانية.

الفضاء المعقد والزمن المعقد

لدراسة هذه المسألة يقترح طلال أسد أن نهيئ أنفسنا للتفكير بمعايير «الفضاء المعقد» و«الزمن المعقد». ولكي نفعل هذا، يستند إلى عمل عالم الأديان جون ميلبانك، ويفترض أن كلًّا من التقاليد المسيحية القروسطية والإسلامية أدركت أن الفضاء المعقد أسبق وجودًا من فضاء الدولة القومية الأبسط، وأنه نتيجة لذلك «لا تستطيع الدولة الحديثة (ولم تستطع أبدًا) احتواء كل ممارسات مواطنيها، وعلاقاتهم، وولاءاتهم (أسد ٢٠٠٣: ١٧٩). ويربط أسد ما بين فرضيتين:

على خلاف عالَم الدول القومية العلماني الحديث، أدركت المسيحية القروسطية والإسلام تعددية في الأواصر والهويات المتداخلة. لم يكن متوقَّعًا من الناس دائمًا أن يخضعوا لسلطة واحدة ذات سيادة، «ولم يكونوا هم أنفسهم فاعلين أخلاقيين ذوي سيادة. (٢٠٠٣: ١٧٩؛ التشديد مضاف)

كان نشوء الفهم الحديث للسيادة مرتبطًا بالمفهوم الكالفيني ﻟ «مجتمع القديسين» الذي عَلْمَنَه لوك. وبينما يمكن إدراك فَهْم «سياسة الهوية» باعتباره توسيعًا لهذا المنطق، فالخبرات الإسلامية التي نحللها هنا تتعارض معه؛ فهي تنبذ نمط الحصرية الذي يشير إليه تشارلز تيلور؛ فبتقييدها استقلالية الفاعل تقيد استقلالية الدولة.

يشي هذا بالتوقف عن فهمٍ ما للمجالات العامة المقامة على أساس العقلانية، والخطابية، والاستقلالية. تمامًا، كما يدخل المستمع المتجسِّد في توتر مع الفهم الجديد للاتصال الرمزي في المجال العام في مصر، يدخل زمن الجسد في توتر مع تزامنية الأمة. وكما يفترض أسد:

زمنية الكثير من الممارسات التي تضرب جذورها في التقاليد (أي الوقت الذي تستلزمه كل ممارسة زمنية لتكتمل وتنضج، الماضي الذي تصل إلى داخله، وتعيد مواجهته، وتعيد تخيله، وتمدده) لا يمكن ترجمتها إلى زمن السياسة القومية المتجانس. ذكريات الجسد، وأحاسيسه ورغباته تفلت بالضرورة من التوجه العقلاني/الذرائعي لمثل هذه السياسة. (أسد ٢٠٠٣: ١٧٩-١٨٠)

الشخصنة والعولمة

هذا الفهم للدعوة مرتبط بمفهوم الأمة، أو المجتمع الإسلامي. تاريخيًّا، وحاليًّا لا تتوافق الأمة مع حدود الدولة القومية، ولا تنسجم مع الخبرة الأوروبية؛ حيث نشأ شكل جديد من المجال العامِّ في وقت ظهور الدولة الحديثة، مفهومًا على أنه «بين» الدولة والمجتمع. وبوصفها شكلًا من الممارسة، فالدعوة هي مشخصنة ومعولمة معًا. العولمة مرتبطة بحركات المجتمعات السكانية وتقنيات الاتصال، المتجلية في طريقة تداول أشرطة الكاسيت من البوسنة إلى الأردن إلى الولايات المتحدة. لكنها في الوقت ذاته، مؤسسة في الممارسات الجزئية، أشكال البر أو فعل الخير الموجهة إلى جار المرء، أو إلى المكان أو البيئة التي يعيش فيها المرء ويتفاعل مع الآخرين، في الحي، وخلال الترحال. وكما يفترض سلفاتوري:

من الناحية التكنولوجية، تشتمل الأمة الإسلامية على كل المسلمين، ولكنها تحتفظ بدرجة ما من الصلابة حيث يكون «الآخر» في المقام الأول هو الجار الذي يعتقد المؤمن أنه مسلم جيد أو يساعده عند اللزوم ليصبح كذلك. «ومن خلال هذه الرابطة الجزئية» التي تأخذ غالبًا شكل الخطاب الأخلاقي تؤسَّس الأمة. (سلفاتوري ٢٠٠٤: ١٠١٥؛ التشديد مضاف)

يُقرِّب هذا ما بين التقسيمات: العام والخاص، الديني والعلماني؛ ومن ثم بين حدود الدول القومية. مسائل التواضع، والعلاقة بين الرجال والنساء على الملأ، وممارسة الصلاة، بدل أن تبقى في المجال الخاص، يُضفى عليها طابع سياسي، وباعتبارها موضوعًا للنقاش العام، تصبح عقبة أمام فصل الدولة الحديثة ما بين المجالَين الخاص والعام (هيرشكيند ٢٠٠١أ). تكشف هذه الحركات عن أشكال جديدة من الحجاج العام بشأن طرق الحياة المتسمة بالمساواة النسبية لأولئك المعنيين (الرجال والنساء مدعوان كلاهما للمشاركة في الدعوة)، ولا يمكن فهمها داخل مسار ليبرالي من التقليدي إلى الحديث، أو باعتبارها مقاوَمة لهذا. هذه الحركة، كما تؤكد صبا محمود، هي «خارج حدود تصور تقدمي ليبرالي»، غير أنها تجادل بأنها شكل ثمين للازدهار الإنساني، لا تنبغي مقاربته بطريقة تستأنس وتستوعب (على النحو الذي يفعله تحليل الحداثة مقابل معاداة الحداثة) أو النظر إليه على أنه عالم حياة مؤقت، محكوم عليه بالموت (٢٠٠٤: ١٩٩).

هوامش

(١) في السياقات الحضرية مثلًا، سيُضفِي استبعادُ المجتمعات السكانية المهاجرة طابعًا ذرائعيًّا على التقليد، وخصوصًا أشكال الشرف والحماية؛ لمُوازَنة افتقار أحياء المهاجرين إلى التنظيم. هذا أساس الأشكال الكلاسيكية من العصابات الحضرية (ماكدونالد ١٩٩٩).
(٢) ليس بالضرورة دون صعوبة. يضرب أسد مثلًا عملَ عالِم الأنثروبولوجيا البريطاني ألفريد جل الذي يحاول أن يطبق فهم كلود ليفي-شتراوس للنظام الرمزي على الممارسة الطقوسية لشعب اليوميدا في غينيا الجديدة. يشتكي جل: «لم أجد من بين مُخبِرِيَّ اليوميديين أحدًا يرغب في مناقشة معنى رموزهم على اعتبار أنها رموز «تعني» شيئًا آخر أو فكرة أخرى غير الأشياء الراسخة في أنفسهم. والواقع أنني وجدت أنه يستحيل حتى طرح السؤال عن المعنى في اليوميدا؛ لأنني لم أتمكن من اكتشاف أي كلمة من اللغة اليوميدية تتوافق مع كلمة «يعني» أو «يرمز».» (جل ١٩٧٥: ٢١١).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤