المقدمة

بقلم  جاك تاجر

عاشت المسيحية في مصر في جو ساده الاضطراب والقلق، ولا غرابة حينئذٍ إذا رأينا الكُتَّاب والمؤرخين قد عكفوا مبكرين على سرد تاريخها.

ولم نعتمد في دراستنا على المؤلفات التي وضعت حديثًا لتناولها بوجه عام الناحيتين الروحية والدينية من تاريخ الكنيسة المصرية، وإهمالها الناحيتين السياسية والاجتماعية من ذلك التاريخ، فهي إذًا قد اقتصرت على معلومات عابرة عن العلاقات بين الأقباط والمسلمين.

وإذا استثنينا كتاب الأب «رينودو» Renaudot، لاحظنا أن بقية المؤلفات قد أغفلت ذكر المصادر التي استقت منها الأخبار والحوادث فأصبحت قاصرة عن توجيهنا في أبحاثنا، فضلًا عن أن كثيرًا من النظريات والحجج التي أريد التدليل بها أصبحت باطلة بعد أن اكتشفت حديثًا أوراق البردي.١
والواقع أن المسألة القبطية لم تدرس دراسة وافية إلا في «دائرة المعارف الإسلامية»٢ رغم اكتفاء المسيو «جاستون فييت» بطرحها على بساط البحث في أسلوب مقتضب، وعدم تناوله العصر الحديث ابتداء من الحملة الفرنسية، لضيق المقام أفرد له، إلا أنه دعَّم بحثه القيم بقائمة غنية بالمصادر القديمة والحديثة اتَّخذناها أساسًا لبحثنا.

أما الكتب العربية، ونذكر منها على سبيل المثال «تاريخ الأمة القبطية» ليوسف منقريوس، وغيرها من الدراسات الثانوية المتشابهة لها، فقد كُتبت بأسلوب أقرب إلى الجدل منه إلى الروح العلمية.

وخلاصة القول؛ إن شعب مصر لم يعرف تاريخ العلاقات بين المسلمين والأقباط إلا عن طريق الأقاصيص والحوادث التي شوهتها الأحقاد القديمة، ونقلها أو بالغ فيها أناس لم يعتمدوا على النطق السليم في تفكيرهم، وسنحاول اليوم بقدر الاستطاعة أن نبين بوضوح الحقيقة، مهما كانت مريرة، وفي الوقت نفسه نكشف عن الأسباب الأصلية لأهم الحوادث.

فهذه الدراسات لا تهدف كما يتصور بعض الناس، إلى إذكاء نار عداوات قديمة، لما حوته من خصومات أو أحداث أليمة؛ ذلك لأن الأهواء الدينية في الشرق لم تفقد من حدتها بين المسلمين والأقباط في الطبقتين الوسطى والسفلى، وإن كانت فاترة في الظاهر، فإن القلق المكبوت ما زال جاثمًا رغم التصريحات الرسمية وحسن استعداد رؤساء الأمة وقاداتها في التعاون الصادق لإزالة ما في النفوس من ضغائن ليتحد العنصرين؛ إذ إن الاتحاد أول الأسس المتينة لاستقلال البلاد.

وفي هذا الوقت الذي تفكر فيه الجامعة العربية في توسيع رقعة نشاطها وضم جميع الشعوب الإسلامية تحت رايتها على اختلاف أجناسهم، وفي هذا الوقت الذي يحبذ فيه نخبة من المسلمين بعث الإمبراطورية العربية القديمة من مرقدها، فإنا لا نشك إطلاقًا في ترحيب عدد كبير من أقطاب السياسة بكل ما يساعدهم على فهم الأوضاع الصحيحة، وتوجيه تفكيرهم في سبيل المحافظة على الوئام بين الأغلبية المسلمة والأقلية المسيحية، وإذا تعذر علينا اقتراح حلول لهذه المسألة، فلنحاول على الأقل دراسة بعض وجوهها.

هوامش

(١) نذكر بين المؤلفات الحديثة ذات الطابع العام: «تاريخ البطاركة» للأب رينودو (باللغة اللاتينية)، و«تاريخ كنيسة الإسكندرية» للأب فانسليب (Vansleb) (باللغة اللاتينية)، و«تاريخ كنيسة الإسكندرية» للأب جورج ماكير (Macair) (باللغة الفرنسية)، و«تاريخ بطريركية الإسكندرية» للمؤلف نيل (Neale) (باللغة الإنجليزية)، و«مصر المسيحية» للأب «فاولر» (Fowler) (باللغة الإنجليزية)، و«تاريخ كنيسة مصر» لباتشر (Bulcher) (باللغة الإنجليزية)، و«تاريخ بطاركة الإسكندرية» لجان ماسبيرو (Maspero) (باللغة الفرنسية).
(٢) طبعة ليدن باللغة الفرنسية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤