كلمة تقديم

هي كلمة أردتُ بها أن أُقدِّم إلى القراء مُترجِم هذا الكتاب قبل الكتاب نفسه؛ لأنَّه إذا كان الكتاب مُشتمِلًا على معرفة عِلمية قد يحسن تحصيلها، فعمل الأستاذ المُترجِم هنا مُنطوٍ على قيمة خُلُقية سامية تَستحِق الذِّكر والإشادة، هي قيمة الوفاء — وفاء تلميذ لأستاذه.

أمَّا الكتاب في أصله الإنجليزي فهو الرسالة التي حصلتُ بها — منذ ربع قرن — على جائزة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة لندن؛ وأذكر أنِّي عند عودتي عندئذٍ إلى مصر، تفضَّل أستاذي المرحوم محمد شفيق غربال — وكان يومئذٍ وكيلًا لوزارة التربية والتعليم — فأشار على الوزراء بطبعها على نفقتِها، وطُبعَت على نطاق غاية في الضيق، كاد أن يَقتصِر على بضع هدايا تُرسل إلى الجامعات.

ومضت السنون، وغابت الرسالة عندي في أَخفى حنايا الإهمال والنِّسيان، حتى انتبهت على تلميذي وصديقي الأستاذ الدكتور إمام عبد الفتاح وهو يَحمل إليَّ مخطوطًا به ترجمتها إلى العربية، راجيًا أن أُراجع الترجمة قبل نشرها.

لقد أحسستُ خلال المراجعة بشعور عجيب، كان بغير شك خبرة فريدة بالنسبة إليَّ؛ إذ أحسست بمزيج يختلط فيه الشعور بأنِّي أقرأ نفسي وأقرأ سواي في آنٍ واحدٍ؛ لأنَّني لم أنفك أثناء القراءة مُوافقًا ومخالفًا، ترى هل يكون الإنسان إنسانًا أكمل لو ظلَّ عشرات الأعوام ثابتًا على فكرة بعينها؟ أم أنَّ الكمال مرهونٌ بالصدق وحده، سواء اقتضى هذا الصدق ثباتًا على الفكرة أو انقلابًا عليها؟ والحمد لله الذي أنعم عليَّ بصفة الإخلاص لنفسي، أقف عند الفكرة التي أومن بصدقها، غير عابئ بهجمة الناقِدين.

قرأتُ كتابي من جديد، ولكن في صورة عربية، بعد خمسة وعشرين عامًا من تأليفه، فوجدتني ثابتًا على مضمون الدعوة، وما مضمونها إلَّا حرية الإنسان وقُدرته على الخلق والإبداع، فما زلتُ حتى هذه اللحظة أومن إيمانًا راسخًا بأنَّ الإنسان كائن مُريد حُر في اختيار ما يُريده؛ وأنَّه — دون سائر الكائنات — ليس حصيلة سلبية للعناصِر الخارجية المحيطة به، بل هو مُبدِع خلَّاق، يأتي بالجديد الذي يُضاف إلى الوجود خلقًا جديدًا، يكون له فضله، وعليه تبعته.

غير أنِّي — مع بقاء هذا الأساس مَكينًا ثابتًا — قد اتخذت بإزائه وسائل ليست هي الوسائل التي اتخذتها منذ ربع قرن، حين أنشأتُ هذه الرسالة العِلمية؛ فقد رأيت عندئذٍ أن أُعارض اتجاهين فكريين في تحليلهما للنفس البشرية، هما مذهب هيوم في المعرفة، ومذهب السلوكيين في ميدان علم النفس، على حين أنِّي اليوم أبدأ من هذَين الأساسَين لأُقيِّم فكري، ذاهبًا معهما إلى آخر ما يستطيعان أن يَبلُغا بي في تحليل الإنسان، فأنا مع هيوم في وجوب أن تُردَّ الأفكار العقلية إلى مصادرها الحسية، وإلَّا كانت أوهامًا لا تُفيد، وأنا كذلك مع السلوكيِّين في ردِّ السلوك كله إلى أفعال مُنعكِسة تظل تتعقَّد وتتركَّب بالارتباطات الشَّرطية على طريق النشأة والتربية طوال السنين، على أنِّي مع الأخذ بهذَين المذهبَين في تحليل المعرفة والسلوك، أعتقد أنَّهما لا يَستنفِدان الإنسان كله، بل تبقى من الإنسان بقية مُلغِزة تستعصي على التحليل، هي على وجه التحديد البقية التي يكون منها الإنسان، الفرد، المتميز، المريد، الحر فيما يريد، المبدع الخلَّاق.

فالنتيجة التي أصل إليها اليوم هي نفسها النتيجة التي وصلت إليها فيما مضى، وإن اختلفت خطوات البرهنة والتدليل.

وأحسب أنَّ ما سوف يَلفِت نظر القارئ المتفحص هو هذا التبايُن الذي قد يبدو شديدًا بين وجهين لرجل واحد: فها هو ذا قد عُرِف عند طلبته وقُرائه بشيء نظري شكلي خالٍ من كل مضمون فكري، يُسمَّى بالوضعية المنطقية، تُنادي بطرائق للتحليل دون أن تُضيف للناس فكرة إيجابية تحلُّ لهم إشكالًا، لكنَّنا نراه في هذا الكتاب يَتكلَّم عن الإنسان، وكأنَّه قد جمع في بوتقة واحدة عدة فلسفات مُعاصِرة: الظاهراتية، والوجودية، والتطورية البرجسونية، فكيف يُريدنا أن ندمج هذين الوجهين في رجل واحد؟

ولستُ أرى هذا التبايُن كلَّه بين الموقفَين، وكل الفرق — كما أراه — هو فرق بين منطق التحليل حين يكون مجرَّدًا، وهذا المنطق التحليلي نفسه حين يدخل ميدان التطبيق، فهذه الرسالة في حقيقة أمرها إنْ هيَ إلَّا موضوع استخدمت في بحثه أدوات التحليل، التي من شأنها أن تُفتِّت الفكرة المجملة إلى عناصرها البسيطة، فتُلقي ضوءًا على مُحتواها، حتى إذا ما عهدنا إلى وضعها في السياق، كانت أقدر على توصيلنا إلى نتيجة أو نتائج.

وأترك الكتاب وما فيه لنقدِ الناقِدين، لأعود إلى صديقي صاحب الترجمة، فأشكر له هذا الجهد الذي عاناه، وإنِّي لأعلمُ الناس به؛ لأنَّني أعلم كم كان الأصل الإنجليزي مُركزًا مُكثَّفًا، وكم يصعب عند الترجمة أن تجمع بين أمانة النقل والمحافظة على الصورة الأصلية في تركيزها وتكثيفها. فللأستاذ الدكتور إمام عبد الفتاح إمام شكرٌ منِّي على وفائه، وشكرٌ على جهدٍ مُجهد بذله، وشكرٌ ثالث على أن طلبَ إليَّ مراجَعة ترجمته، ولم تكن في الحق، بحاجة إلى مراجعة، لكنَّها فرصة سعيدة التقيت به فيها مرة أخرى في عالم الفكر، كما التقينا كثيرًا عدة مرات سبقت، التقاء زميلَين، برغم ما قد يظنه الظَّانون، بل ما قد يظنه هو نفسه، من أنَّ لقاءنا كان لقاء طالب بأستاذ؛ وله منِّي الدعاء المُخلِص بالتوفيق والسداد.

زكي نجيب محمود

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤