الفصل الأول

النفس

(۱) تعريف النفس ضروري للنظرية التي تقول إنَّ الإنسان مُجبَر ذاتيًّا أو مُجبَر عن طريق نفسه. (۲) يُمكِن أن تنقسم النظريات المُمكنة عن النفس إلى مجموعتَين رئيسيتَين: نظريات «مركزية» ونظريات «لا مركزية» – «هيوم» و«واطسن» كمُمثلين للنظريات الأخيرة. (٣) نظرية هيوم التي تقول إنَّ النفس حزمة من الإدراكات الحسية. (٤-١٣) نقد نظرية هيوم. (٤) هيوم يستخدم فكرة العقل ومع ذلك يُنكر وجوده. (٥) نظرية هيوم لا تُفسِّر إدراك الأشياء التي رتَّبت في نظام معين. (٦) وهي أيضًا لا تُفسِّر الحكم. (۷) وهي تفشل في تفسير كيفية إدراك إحساسين يوجدان معًا حين يعرف الشخص المُدرِك أنَّهما اثنان. (۸) نحن لا نَنتبه إلى جميع الانطباعات التي تطبع حواسِّنا. (٩) الانطباع وحده لا يستطيع أن يُشير إلى واقع يُجاوزه. (۱۰) نظرية هيوم ليست مُقنِعة حين تقول إنَّ الفكرة الكلية هي فكرة جزئية تُمثِّل أفكارًا أخرى. (١١) هذه النظرية تجعل الاستدلال مستحيلًا. (١٢) لن يكون هناك هُوية. (١٣) منهج الاستبطان ليس هو المنهج الصحيح لاكتشاف وجود النفس، المنهج الصحيح لهذا الغرض هو المنهج الجدلي. (١٤) النظرية السلوكية. (١٥-١٧) نقْد السلوكيِّين. (١٥) التَّفرقة بين السبب الداخلي والسبب الخارجي. (١٦) صيغة (م – س) لا تكفي، الصيغة تتحوَّل إلى (م – ك – س). ولكنَّها لا تزال غير مُقنِعة. يجب أن تتحوَّل إلى (ك.م.س). (۱۷) منهج الملاحظة الخارجية لا يصلح لاكتشاف النفس. (۱۸) النظريات المركزية تَنقسِم قسمَين: (أ) النظريات التي ترى أنَّ المركز عبارة عن نفس تقوم بعملية التوحيد. (ب) والنظريات التي ترى أنَّ المركز جانب معين من محتويات خبرة الفرد نفسها. (۱۹) وجهة النظر الأخيرة. (٢٠-٢١) نقد هذه الوجهة من النظر: (۲۰) لا يُمكن أن نرسم خطًّا فاصلًا بین ذلك الجانب من الخبرة الذي تَعتبره هذه النظرية مركزًا أو محورًا، وبين الجوانب الأخرى التي نَعتبرُها هامشًا لهذا المحور. (۲۱) هذه الوجهة من النظر لا تستطيع أن تُفسِّر تكوين التصورات أو إصدار الأحكام، أو القيام بالاستدلال. (۲۲) النظرية التي ترى أنَّ المركز نفْس مُوحدة تعود بدورها فتنقسم قسمَين: (أ) النظرية التي تقول إنَّ النفس موجودٌ بسيطٌ مُستقلٌّ عن الجسم. (ب) النظرية التي تقول إنَّ النفس هي مبدأ الوحدة. (۲۳) عرض النظرية القائلة بأنَّ النفس كائن بسيط ونقدها. (٢٤) النفْس هي مبدأ مُوحِّد، إنَّها الفعل المتضمَّن في الانتباه. لا يُمكن تصوُّر الانتباه بغير موضوع، النفس هي ثنائية الانتباه والموضوع الذي ننتبه إليه. (٢٥) الوضع الصحيح للجسم في حالة الانتباه هو جزء من عملية الانتباه، لكن لا هو سبب الانتباه ولا نتيجته. (٢٦) ليس الانتباه ملَكة يمكن أحيانًا أن تتعطَّل، الانتباه مُستمر حتى أثناء النوم. (۲۷) الانتباه بوصفِه فعلًا فهو واحد باستمرار، أمَّا التغيُّر فهو يطرأ على موضوع الانتباه وحده. (۲۸) جميع الوقائع السيكولوجية يُمكن ردُّها إلى مقولة واحدة بعينها هي مقولة الفعل مع تنوع في موضوعات هذا الفعل. (٢٩) لا يُوجد شيء اسمه «اللاانتباه». (۳۰) تصنيف الانتباه إلى انتباه إرادي وانتباه لا إرادي تصنيف خاطئ، فهو يَفترض أسبقية الإرادة على الانتباه، لكن العكس هو الصحيح. (۳۱) نفع الكائن الحي هو الذي يُحدِّد اتِّجاه الانتباه. يجب أن يفهم هذا النفع بمعناه الضيق والواسع معًا. (۳۲) نحن الذين نصنع اطراد الطبيعة نتيجة لما يَنتقيه الانتباه. (۳۳) النشاط المُتضمَّن في عملية الانتباه هو الذي يُوحِّد بين الإحساسات المتعدِّدة في إدراك واحد، ومِن هنا تأتي وحدة الذات، ووحدة الموضوع على السواء. (٣٤) لحظة الانتباه هي الحاضر، وهي: تتألَّف من «ما قبل وما بعد»، لكنَّها لا تَتألَّف من الماضي والمستقبل. (٣٥) التَّفرقة بين الانتباه المستمر المتصل وأفعال الانتباه. (٣٦) الفرد ككل هو الذي ينتبه. (٣٧) لا يُمكن أن نرسم خطًّا فاصلًا بين الانتباه وموضوعه. العلاقة بينهما تشبه العلاقة بين العمل في حالة الأداء The doing، والعمل وقد انتهى The dead. (٣۸) تصوُّر الجسم المُنتبِه يحلُّ مشكلة العلاقة بين العقل والجسم. (٣٩) الانتقاء شرط ضروري للغرضية، والغرضية هي الخاصية المميزة للنفس أو الذاتية … Selfhood (٤۰) الخصائص العامة التي تُميِّز الإنسان بوصفه موجودًا عاقلًا يُفسِّرها الانتباه كلها. (٤١) العمليات النوعية الخاصة مثل التجريد، والحكم، والاستدلال، تَعتمِد أساسًا على الانتباه. (٤٢) الانتباه يُفسِّر وحدة الذات واستمرارها.
(١) يبدو أنَّه من الضروري في بحث يذهب فيه صاحبه إلى أنَّ الإنسان مُجبَر ذاتيًّا، أعني مجبر عن طريق «نفسه»، أن يُفسِّر لنا طبيعة «النفس» بأوضح طريقة مُمكنة. ويبدو أنَّ صعوبة مثل هذه المحاولة سوف تظلُّ قائمة طالما أنَّ «الإجابة النهائية أو الكاملة» لتساؤلنا عن المعنى الدقيق الذي ينبغي أن تُفهم به النفس: «لن نستطيع بلوغها إلى أن يأتي ذلك اليوم الذي تُحلُّ فيه جميع المشكلات النظرية.»١ غير أنَّ القول بأني مُجبر ذاتيًّا أو مُجبَر عن طريق «نفسي» لن يكون له قيمة كبيرة ما لم يكن لديَّ فكرة واضحة — كبرت أو صغرت — عن حقيقة هذه النفس. وإذا كانت الكلمة الأخيرة في هذا الموضوع لم يقلها أحد بعد، فلا بد لي مع ذلك أن أقول ما أفهمه من لفظ جعلت منه أساسًا للبحث كله. وسوف يُلاحِظ القارئ أنَّني أستخدم خلال الصفحات القادمة كلمات: «النفس» أو «الذات»، و«العقل»، و«الخبرة» بمعنى واحد.
(٢) يُمكن أن نُقسِّم النظريات المُمكنة عن النفس إلى مجموعتين رئيسيتين، نُطلق عليهما على التوالي — فيما يرى برود Broad — اسم «النظريات المركزية» و«النظريات اللامركزية». يقول برود: «أعني بالنظرية المركزية تلك النظرية التي تنسب وحدة الذهن Mind إلى موجود جزئي معيَّن — هو المركز — يرتبط بعلاقة لا تماثلية مشتركة مع جميع الحوادث الذِّهنية mentals events٢ التي يمكن أن يُقال عنها إنَّها حالات لذهن معين، ولا يرتبط بمثل هذه العلاقة مع أيَّة حوادث ذهنية لا يُمكن أن يُقال عنها إنَّها حالات لهذا الذهن.» وأعني بالنظرية اللامركزية تلك النظرية التي تُنكِر وجود أي مركز معين من هذا القبيل، وتنسب وحدة الذهن إلى أنَّ أحداثًا ذهنية معيَّنة ترتبط فيما بينها ارتباطًا مباشرة بطرق خاصة ومتميزة، وأنَّ هناك أحداثًا ذِهنية أخرى لا ترتبط بالأحداث السابقة بتلك الطرق الخاصة التي ارتبطت بها الأحداث السابقة بعضها ببعض.٣

ويبدو أنَّه من المُناسِب أن نَنتهي أولًا من مناقشة النظرية التي ترى أنَّ من المُمكن تفسير وحدة النفس أو الذات دون افتراض مركز موحَّد، ويُمكِن أن نأخذ «هيوم» و«واطسن» كمثلَين نموذجَين لصورتين مُختلفتَين للنظرية «اللامركزية»؛ استخدم الأول الاستبطان «أو التأمل الباطني» منهجًا للبحث، بينما استخدم الثاني منهج الملاحظة الخارجية للسلوك.

(٣) يرى هيوم أنَّ: «إدراكات العقل البشري بأَسرِها تنحلُّ من تلقاء نفسها إلى نوعَين مُتميِّز أحدهما عن الآخر؛ وهما: «الانطباعات» و«الأفكار». وينحصِر الفرق بين هذَين النوعين في درجات القوة والحيوية اللتين تطبعان بهما العقل ويلتمسان بهما الطرق إلى فكرِنا وشعورنا: فأمَّا الإدراكات التي تردُ إلينا بأبلغ القوة والعنف فلنا أن نُسمِّيَها «بالانطباعات»: وإنِّي لأجمع تحت هذا الاسم كل إحساساتنا وعواطفنا، وانفعالاتنا عندما تظهر للمرة الأولى في النفس. وأمَّا لفظة «الأفكار» فأعني بها ما يكون في التفكير والتدليل العقلي من صور خافتة لتلك الإحساسات والعواطف والانفعالات.»٤ والانطباعات والأفكار «تتشابهان» في كل شيء آخر، ما عدا درجة القوة «والحيوية»٥ فالأفكار هي انعكاس للانطباعات، والقاعِدة التي تَنطبِق بغير استثناء هي أنَّ «كل فكرة بسيطة لها انطباع بسيط يُشبهها: وكل انطباع بسيط له فكرة تُقابله.»٦ وينتهي هيوم من هذا الربط المستمر بين الإدراكات المتشابهة إلى القول بأنَّ هناك صلة قوية جدًّا بين الانطباعات والأفكار، وأنَّ وجود أحدهما له أثر قويٌّ على وجود الآخر. ومثل هذا الترابط المستمر. لا يُمكن أبدًا أن ينشأ بمحض الصدفة، لكنَّه يُبرهن بوضوح على اعتماد الانطباعات على الأفكار، وعلى اعتماد الأفكار على الانطباعات. وإذا أردت أن أعرف في أيِّ جانب يقع هذا الانطباع، فما عليَّ إلَّا أن أتدبَّر النظام الذي تَظهر فيه الانطباعات لأول مرة: وسوف أجد، بالخبرة المُستمرة، أنَّ الانطباعات البسيطة يكون لها — باستمرار — الأسبقية على أفكارنا المُقابلة لها، لكنَّها لا تظهر مُطلقًا في نظام مضاد … والاتصال الدائم بين إدراكاتنا المتشابهة برهان مُقنع على أنَّ الواحد منهما علَّة للآخر، وأسبقية الانطباعات دليل مُقنع أيضًا على أنَّ انطباعاتنا علة لأفكارنا لا على أنَّ أفكارنا هي سبب انطباعاتنا.٧
ومعيار صواب فكرة من الأفكار هو — تبعًا لنظرية هيوم — إمكان تعقبها إلى الانطباع أو الانطباعات التي نشأت. ويقول هيوم، تطبيقًا لهذا المقياس على فكرة النفْس الموحِّدة، إنَّه لا وجود لمثل هذه الفكرة: «وإلَّا فمِن أي انطباع حسي أمكن لهذه الفكرة أن تجيء؟ … ذلك لأنَّه لو كانت فكرة النفس قد نشأت عن انطباع واحد معين للزم أن يظل ذلك الانطباع على حاله دائمًا لا يتغيَّر إبان فترة حياتنا كلها؛ لأنَّ المفروض في النفس أن يكون وجودها قائمًا على هذا النحو، ولكن ليس هناك انطباع واحد متَّصف بالدوام وعدم التغير، فالألم واللذة، الحزن والسرور، والعواطف والإحساسات، كلها يتبع بعضها بعضًا، ويستحيل عليها أبدًا أن يتحقق لها الوجود كلها دفعة واحدة، وإذن فلا يُمكن لفكرة النفس أن تُستَمَدَّ من أحد هذه الانطباعات أو من غيرها، وبالتالي فليس هناك فكرة كهذه.»٨
وهكذا نجد أنَّ منهج الاستبطان، الذي استخدمه هيوم، لم يُساعِده في الكشف عن النفس الموحِّدة التي ترد إليها الإدراكات الجزئية المختلفة: «… إنَّني إذا ما أوغلت داخلًا إلى صميم ما أُسمِّيه «نفسي» وجدتني دائمًا أعثر على هذا الإدراك الجزئي أو ذاك، … لكنَّني لا أستطيع أبدًا أن أمسك ﺑ «نفسي» في أي وقت بغير إدراك ما، كما أنِّي لا أستطيع أبدًا أن أرى شيئًا على الإطلاق فيما عدا ذلك الإدراك …»٩
وهكذا انحلَّت النفس التي استبطنها هيوم إلى مجموعة من الانطباعات والأفكار التي يرتبط بعضها ببعض بطريقة خاصة، ويَستدعي بعضها بعضًا وفقًا لقوانين معينة. وما العقل «إلَّا حزمة أو مجموعة من الإدراكات يعقب بعضها بعضًا في سرعة هائلة لا يُمكن تصوُّرها، وهي في حركة وتدفُّق لا ينقطعان … فالعقل أشبه ما يكون بالمسرح، تتعاقَب عليه الإدراكات المختلفة الكثيرة تعاقبًا سريعًا، واحدًا في إثر واحد، وهي لا تفتأ في مرورها هذا السريع يختلط بعضها ببعض لتتكوَّن منها تركيبات، لا نهاية لاختلافها، ولا حد لصنوفها وأوضاعها، حتى لنستطيع أن نجزم بأنَّ «النفس» لا تكون نفسًا واحدة بسيطة مدى لحظة واحدة من زمن، كلَّا ولا هي تؤلِّف «هوية» واحدة تجمع العناصر المختلفة … على أنَّ تشبيهنا العقل بالمسرح لا ينبغي أن يُضلِّلنا، إذ ليس العقل إلَّا الإدراكات المتوالية، دون أن يكون لهذه الإدراكات مكان معين لظهورها.»١٠
(٤) يُمكن أن تُثار ضد هذه النظرية اعتراضات كثيرة؛ فهي لا يُمكِن أن تكون مُقنعة؛ فلقد أباح هيوم لنفسِه أن يستخدم فكرة العقل بوصفه كائنًا له وجود مُستقل، رغم أنَّه يُنكر عليه هذه الصفة. فهو يقول إنَّ الانطباعات والأفكار: «يَطبعان العقل» ويلتمسان الطريق إلى فكرنا أو شعورنا. وهو كذلك يتحدَّث عن الانطباعات كما تظهر «في النفس». حقًّا إنَّ فكرة العقل بوصفِه صفحة بيضاء Tabula Rasa قد تكون مسئولة عن الفصل بين الذات ومُحتواها النفسي، وهو انفصال قد يؤدِّي إلى تجاهل الذات تمامًا وإدراك الحالات الذهنية بوصفها الجانب الوحيد المقبول. لكن الصفحة البيضاء نفسها لا يُمكِن أن تكون أكثر من تجريد، إذ في اللحظة التي تبدأ فيها الحياة الشعورية الواعية فإنَّ هذه الصفحة لا يُمكن أن تظل بعد ذلك بيضاء، ومن هنا كان الإحساس مستحيلًا بدون الذات الواعية، لكن العكس صحيح أيضًا، أعني أنَّ الذات الواعية بدون الخبرة لا وجود لها، والحق أنَّ استخدام كلمة «الصفحة» ذاتها لوصف العقل هو استخدام مُضلِّل، حتى ولو سلَّمنا بأنَّ هذه «الصفحة» لا يُمكن أن تكون «بيضاء» على الإطلاق. وسوف نفهم العقل في هذا البحث — كما سنوضِّح بعد قليل — على أنَّه الفرد منتبهًا إلى شيءٍ ما، أعني أنَّه الكائن الحي كما يعمل بطريقة معينة.

(٥) لا يُمكن أن تكون الانطباعات والأفكار هي كل ما هنالك. فافرض مثلًا أنَّني تلقيت انطباعًا عن عدد من الحصى مرتبة بنظام معين، فكيف يكون في استطاعتي أن أدرك ترتيبها في هذا النظام لو كان الانطباع (مُضافًا إليه انعكاسه الفكري) هما كل ما عندي؟ إنَّ فكرة الترتيب في نظام معيَّن ليست — يقينًا — جزءًا من الإحساس بما هو كذلك. وقد يَعترض مُعترض فيقول: إنَّ المُعطى الحسِّي نفسه له شيء من النظام الداخلي، وهذا صحيح، لكن القول بأنَّ هذا المُعطى الحسِّي المعيَّن له لون من النظام الداخلي شيء، وإدراك هذا النظام بما هو كذلك شيء آخر مختلف عنه أتمَّ الاختلاف. ويَكفي للبرهنة على ذلك أن نقول: إنَّه ليس من الضروري لكل شخص خَبُرَ هذا المُعطى الحسِّي أن يدرك مثل هذا النظام؛ لأنَّ إدراك ترتيب حبات الحصى في نظام معين يحتاج إلى مقارنة أماكن هذه الحبات بعضها ببعض، وعملية المقارنة هذه تحتاج إلى شيء آخر فوق الأشياء التي نُقارن بينها أو أعلى منها. والواقع أنَّنا حين نقول إنَّ حبات الحصى مرتبة على شكل مثلث، فإنَّنا في هذه الحالة لا نُكوِّن «تصوُّرًا»، وإنَّما نصدر حكمًا، وإصدار الحكم فعل يحتاج بالضرورة إلى فاعل.

(٦) في استطاعتنا أن نتصوَّر الانطباعات والأفكار وهي تتشكَّل في قضايا، لكن من الصعب أن نتصوَّر كيف يُمكن إصدار حكم على هذه القضايا بدون فعلَي الإثبات والنفي. ومثل هذه الأفعال — كما أشرنا الآن توًّا — تفترض بالضرورة وجود فاعل. وبأي معنى شئت أن تفهم به الحكم؛ فأنت مُضطرٌّ لافتراض وجود شخص هو الذي أصدر مثل هذا الحكم، بحيث يقبل — أو يرفض، أو يعلق — الحكم على القضية المطروحة أمامه. صحيح أنَّ هيوم كان حذرًا؛ فاحتاط لنفسه من مثل هذا النقد، فذهب إلى أنَّ الحكم نوع من الإدراك.١١ فالحكم الإيجابي عنده: «ليس إلَّا تصوُّرًا قويًّا سريعًا لفكرةٍ ما، كما لو كنت تقترب إلى حدٍّ ما من انطباع مباشر.»١٢ لكن الحكم لا يُمكِن أن يكون مجرَّد القوة والحيوية لفِكرة ما أو لعدة أفكار. لأنَّ مثل هذه الأفكار ليسَت إلَّا أحداثًا نفسية، أعني مجرد مضمون فكري، في حين أنَّ الحكم: «فعل يُشير مضمونه الفكري إلى واقع يقع وراء هذا الفعل.»١٣ ولو كان كل انطباع عبارة عن فكرة — وكل ما عندنا عبارة عن فكرة — بالغًا ما بلغت حيويتَها — فإنَّنا لن نستطيع أن نَنفي أو أن نُثبت شيئًا.١٤ وإذا كان الحكم مُستحيلًا بغير فاعل يُجاوز المضمون الفكري، فسوف تُصبح المعرفة بدورها مستحيلة؛ ذلك لأنَّ القضايا وحدها لا تكون معرفة، لكنَّها تُصبح معرفة حين نُثبتها أو ننفيها، أو بمعنى آخر حين نُصدِر عليها أحكامًا.١٥

(٧) وفضلًا عن ذلك فلو كنَّا لا نملك سوى الانطباعات والأفكار وحدها، فمن أين نعرف أنَّ هناك إحساسين مختلفَين يُوجدان معًا إذا ما صادفتنا مثل هذه الحالة؟ افرض مثلًا أنَّني أنظر إلى إحدى الصور، وأستمع إلى أنغام الموسيقى في آنٍ معًا، فلو أنَّني كنت على وعي بأنَّهما إحساسان مختلفان، فإنَّ هذا الوعي نفسه دليل على وجود شيء آخر غير الإحساسين هو الذي مكَّنَنِي من أن أعرف أنَّهما إحساسان اثنان وليسا إحساسًا واحدًا.

(٨) من الواضح أنَّنا لا نَنتبه إلى جميع الانطباعات التي تطبع الحواس في لحظة معيَّنة، لأنَّ انتباهنا ينتقي منها انطباعًا معينًا. فأنا — مثلًا — لم أكن أدرك الانطباع الحسي لما أرتديه من ثياب إلى أن وجَّهت انتباهي إليه الآن فقط، مع أنَّ هذا الانطباع كان موجودًا طوال الوقت، لكني لكي أعيه؛ كنت في حاجة إلى توجيه انتباهي إليه. ومنذ دخلت قاعة المكتبة، واتخذت فيها مجلسي، وساعتها لا تنقطع عن الدق الرتيب الخافت المتتالي بشكل منتظم ومطرد. لكني لم أكن أسمع هذه الدقات الخافتة لأنِّي لم أكن قد انتبهت إليها، على الرغم من أنَّ الموجات الصوتية التي تُحدِثها هذه الدقات لم تنفكَّ عن طرق طبلة أذني. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: مَنْ ذا الذي يختار هذا المُعطى الحسِّي أو ذاك — دون بقية المعطيات — ليكون موضوعًا للانتباه؟ لا يُمكن أن تكون الإحساسات، بما هي كذلك، هي التي اختارت نفسها بنفسها، بل لا بدَّ أن يكون هناك شيء غيرها هو الذي قام بهذا الاختيار.

(٩) إذا كانت الانطباعات والأفكار هي وحدها ما تتضمَّنه عقولنا فسوف يكون مُستحيلًا عليها أن تعني شيئًا، أي إنَّها ستَفقِد قيمتها بوصفها رمزًا يُشير إلى شيء آخر غير وجودها ومضمونها، فنحن حين يكون لدينا انطباع أو فكرة، ندرك ما هي that it is وماذا تعني what it is١٦ لكن الانطباع بذاته أو الفكرة وحدها لا يُمكِن أن تدلنا على ما تُمثِّله في العالم الواقعي، وبعبارة أخرى، الانطباع بذاته أو الفِكرة وحدها لا تعني شيئًا، فهي ليست سوى إشارة أو رمز، ولا بد أن يكون هناك فاعل يُجاوز هذه الإشارة ويعلو عليها، هو الذي يُفسِّر لنا ما ترمز إليه. وفضلًا عن ذلك فقد يكون لدينا انطباعان متشابهان أتم ما يكون التشابه، ويكون لهما — مع ذلك — معنيان أو أكثر مختلفان أتمَّ الاختلاف. انظر مثلًا إلى الرمز الرقمي ٢٣، إنَّه قد يعني «ثلاثة وعشرين»، أو قد يعني «خمسة» إذا كنتُ أقصد جمع العددين، وقد يعني «ستة» إذا كنتُ أقصد ضربهما. ومع ذلك فالانطباع واحد في جميع هذه الحالات. ألا يدلُّ ذلك على وجود شيء فيما وراء الإحساس هو الذي يُضفي عليه المعنى في كل حالة من الحالات؟
(١٠) يرى هيوم في تفسيره لفكرة «الكلية» — مسايرًا باركلي — أنَّ «جميع الأفكار الكلية إن هي إلَّا أفكار جزئية رُبطت باسم معيَّن يخلع عليها دلالة أوسع مدى، ويجعلها تستثير — إذا ما لزم الأمر — أفرادًا أخرى شبيهة بها.»١٧ وهو كذلك: إنَّ كل شيء في الطبيعة فرد مُتميِّز بفرديته، فمن السخف أن نَفترض وجود مُثلث في الطبيعة دون أن تكون لأضلاعه وزواياه مَقادير معلومة معينة بالنسبة بعضها إلى بعض، وإذا كان مثل هذا الافتراض سخفًا في دنيا الأشياء والواقع، فسخف بالتالي أن تقول ذلك عن «فكرة» المثلث.١٨ وأقل ما يُمكن أن يُقال ضد هذه النظرية، التي ترى أنَّ الفكرة الكلية لا بد أن تكون في ذاتها فكرة جزئية اختيرت لتكون مُمثِّلة لسائر الأفراد، أن نسأل السؤال الآتي: تُرى من أين جاءت فكرة «التمثيل» هذه؟ إنَّنا إذا ما استخدمنا مقياس هيوم نفسه للزم أن نقول إنَّ هذه الفكرة لم تُستمَدَّ من انطباع حسِّي يُقابلها؛ ومن ثم فلا وجود لها. ومن ناحية أخرى — مُكرِّرين ما سبق أن ذكرناه — إنَّنا لا نستطيع أن نعرف أنَّ موضوعات معينة متشابهة، أو أنَّه يُمكن أن يُمثِّلها فرد جزئي من بينها — اللهمَّ إلَّا إذا ما قارنا بعضها ببعض، لكنَّ المقارنة — كما سبَق أن رأينا — تحتاج إلى شيء آخر — يُجاوز الأشياء التي نقارن بينها.
(١١) لو صحَّت نظرية هيوم فسوف يُصبح الاستدلال مُستحيلًا: «كل استدلال يتألَّف من عنصرين. فهو أولًا عملية Process، وهو ثانيًا نتيجة Result. والعملية هي إجراء نُقيِّم به تركيبًا معينًا، وهي تتناول معطياتها، وبعملية بناء فكري تؤلِّف بينهما في كل واحد. وأمَّا النتيجة فهي إدراك علاقة جديدة داخل هذه الوحدة unity١٩ ولكي نركب مقدمتين أو أكثر في كل واحد فلا بد أن تكون هناك نقاط اتصال والتقاء أو علاقة بین هذه المقدمات، أعني أنَّ أطراف هذه المقدمات Terminal التي علينا أن نركب بينها في كل واحد لا بد أن تكون نقاطًا واحدة. وهكذا نجد أنَّه في حالة «أ – ب» و«ب – ﺟ» يتحد فيهما حدٌّ واحد هو «ب» بحيث يكون مشتركًا بينهما، ولهذا ترانا نربط بينهما على النحو التالي «أ – ب – ﺟ»: «وإذا ما حوَّلنا مقدماتنا إلى كل واحد بهذا الشكل أمكن لنا أن ننتهي إلى النتيجة بمجرد اختبار المقدمات وحدها. فلو كانت «أ – ب – ﺟ – د» صادقة من حيث مطابقتها للواقع، فإنَّنا في هذه الحالة نستطيع أن نجد في «أ – ﺟ» أو «أ – د» أو أيضًا «ب – د» علاقات لم نكن نعرفها من قبل … إنَّنا في البداية نقوم بعمل معين في معطياتنا، وهذا العمل هو البناء أو التركيب، ثم بعد ذلك عن طريق الاختبار نكتشِف ونَنتقي علاقة جديدة، وهذا الحدس هو النتيجة.»٢٠ وإذا أردنا أن نَضرب مثلًا على ذلك قلنا: «لو أنَّ هناك ثلاثة أوتار هي أ، ب، ﺟ، ضُرِبت في وقتٍ واحد، واستمعنا إليها فوجدنا أنَّها جميعا تُحدِث نغمة واحدة، فإنَّ من الصعب أن نستدل من ذلك أنَّ كُلًّا منها كانت تُساير الأخرى في نغمتها. لكن اضرب أولًا الوتر أ، ب، ثم اضرب ثانيًا ب، ﺟ، فإنَّه في استطاعتي — في هذه الحالة، إذا لم يكن هناك اختلاف في النغمة بين أ، ب، وإذا لم يكن ثمة اختلاف بين ب، ﺟ — أقول في استطاعتي في هذه الحالة أن أنتهي إلى تكوين مجموعة مثالية في تناسقها هي أ، ب، ﺟ مُؤتلِفة ومتحدة تمامًا عن طريق التشابه في نغمة واحدة. وهذه المجموعة عبارة عن مركب ذهني. وإذا كان ثمة إدراك تحليلي أكثر من ذلك فإنَّه يُضيف في هذه الحالة أنَّ أ، ﺟ مؤتلِفتان في نغمة واحدة.»٢١ وتبدو وجهة نظر «برادلي» هذه مُتَّفقة مع وجهة نظر هيوم، فلقد ذهب هيوم إلى أنَّ «جميع أنواع الاستدلال العقلي لا تَعتمِد إلَّا على شيء واحد هو المقارنة، واكتشاف تلك العلاقات … التي قد تكون قائمة بين شيئين أو أكثر. ويُمكن أن نقوم بمثل هذه المقارنة: إمَّا حين تكون هذه الأشياء كلها ماثلة للحواس في وقتٍ واحد، وإمَّا حين لا يكون شيء منها ماثلًا أمام الحواس، أو حين يكون شيء واحد فقط هو الذي يمثل أمامها، وحين تكون الأشياء ماثلة بعلاقاتها أمام الحواس نُسمِّي ذلك إدراكًا أكثر مِمَّا نُسميه استدلالًا عقليًّا.»٢٢

وإذا كان كل استدلال يَعتمِد على حدس لعلاقات جديدة بين الأشياء، علاقات لم نكن نعرفها من قبل، علاقات لم تكن ماثلةً لحواسِّنا أبدًا، وبالتالي لم تكن قطُّ جزءًا من أيِّ انطباع — إذا كان الاستدلال على هذا النحو، فسوف يُصبِح مُستحيلًا إذا ما حصرنا أنفسنا في نطاق الانطباعات وانعكاساتها الفكرية وحدها.

(١٢) إنَّ أيَّة نظرية عن العقل لن تكون كافية — يقينًا — ما لم تُفسِّر تفسيرًا مقنعًا وحدة هذا العقل واتصاله، حتى ولو لم نستطع البلوغ بهذه الوحدة أو هذا الاتصال إلى درجة الكمال. ومعنى ذلك أنَّ ترابط العقل الأفقي والرأسي،٢٣ لا بد أن يُوضع موضع الاعتبار، وأن يُدرس دراسة جادة.

لقد كان هيوم واضحًا كل الوضوح في نظرته إلى الهوية الشخصية، فليس ثمة انطباع عن «النفس» يُمكن أن تنشأ عنه فكرة الهوية البسيطة المتحدة مع نفسها، ونحن لا نكون على وعي تام إلَّا بالإدراك الجزئي فحسب. ومن ثم كان الإنسان حزمة أو مجموعة من الإدراكات الحسية المختلفة التي تعقب الواحدة منها الأخرى في تدفق مستمر وحركة دائبة. وخيالنا هو الذي يجعلنا نُخطئ فنظن أنَّ تعاقب الموضوعات المترابطة هو ذات في هوية مع نفسها.

ونظرية هيوم — كغيرها من النظريات اللامركزية — تَفهم وحدة العقل على أنَّها وحدة نسق أو نظام، لا وحدة نواة. فهناك مجموعة من العلاقات ذات خصائص معيَّنة تقع بين الحوادث الذهنية من جهة، وبين الشرائح المُتتابعة لتاريخ الفرد من جهة أخرى، وهذا هو ما يُشكِّل الوحدة المستعرضة والوحدة الطولية للنفس أو الذات — على التوالي. فإذا ما أخذنا قطاعًا عرضيًّا في مجرى الشعور عند الفرد، وجدنا أنَّ الحوادث الذهنية المختلفة التي توجد معًا في لحظة معينة من لحظات الخبرة، ترتبط فيما بينها ارتباطًا خاصًّا، حتى إنَّها تُكوِّن لنفسها وحدة ذات خصائص معينة متميزة. ولو أنَّني من ناحية أخرى فحصت كل تسلسل للقطاعات العرضية التي تُشكِّل تاریخي الماضي، لوجدت أنَّها يرتبط بعضها ببعض بطريقة متشابهة، لدرجة أنَّ نسق العلاقات الفريد لا بد أن يطبع الفرد بطابعه.

وإذا كان هذا التفسير لوجهة نظر هيوم سليمًا، فلا بدَّ أن ننظر إلى الضمائر الشخصية على أنَّها تُشير إلى مجموعة خاصة من العلاقات، لا إلى مراكز لهوية ذاتية، لكن الضمائر الشخصية في هذه الحالة مثل: أنا، وأنت، وملكي … إلخ، إلخ، سوف تفقد كل معنى لها. صحيح أنَّ البرهان الذي يعتمد على الضمائر الشخصية ليس برهانًا حاسمًا في إثبات وجود مراكز لهوية ذاتية، وهي المراكز التي نَفترض أنَّ هذه الضمائر تُشير إليها. وأنا أُسلِّم بذلك. إذ قد يعترض معترض — وله الحق في ذلك — فيقول إنَّنا حين استخدمنا هذه الضمائر لم نكتشف في البداية وجود مركز يُوحِّد بين الحالات الذهنية المختلفة، ثم أطلقنا عليه اسمًا معينًا، لكنَّنا فعلنا العكس، أعني استخدمنا أولًا الاسم لتسهيل عملية الاتصال بين الناس، ثم بدأنا بعد ذلك في البحث عن موجود يُفترض أنَّ الاسم يُشير إليه. وقد يُقال من ثمَّ إنَّ الضمائر الشخصية ليست إلَّا تسمية على غير مسميات misnomers استُخدمت على سبيل التيسير، لا لأنَّها ضرورية. ومع ذلك فأنا أشعر أنَّه من المُرجح جدًّا أن يكون الاستخدام الذي لا مفر منه للضمائر دليلًا على وجود ذات لها هوية أيًّا كان معنی هذه الذات. ولقد قام «ریموند هویلر R. whecler» بدراسة تجريبية كان هدفها البحث عمَّا إذا كان من الممكن استبطان مثل هذه الذات. وانتهى إلى أنَّ الأشخاص الذين أجرى عليهم التجربة قد فشلوا — عن طريق استخدام الاستبطان — في اكتشاف أي لون من هذه الذات التي لا تقبل التحليل.٢٤ غير أنَّ تقارير الأشخاص المفحوصين الذين قاموا بعملية الاستبطان في تجارب «هويلر» صيغت في عبارات مثل: «سألت نفسي» و«حالتي الخاصة» … إلخ، إلخ، واستخدام الضمائر الشخصية بصورها المختلفة قد لا يكون بالطبع — كما سبق أن ذكرنا — أكثر من لغة مناسبة أو وسيلة سهلة لا ينبغي أن نستنتج منها أيَّة نتائج فيما يتعلق بوجود ذات أو نفس. لكن يبدو لي أنَّنا ينبغي أن نقول على الأقل إنَّه طالما أنَّ أولئك الذين ينكرون أنَّهم خبروا الذات قد مارسوا ميزة استخدام كلمات تعني بوضوح الاعتراف بوجود الذات، فلا شك أنَّ هناك احتمالًا سيظلُّ قائمًا، وهو أنَّه يُمكِن أن يكونوا قد خبروا فعلًا — بطريقة ما — ذلك الذي يُنكرونه من الناحية الشكلية. وبعبارة أوضح: إنَّنا لا نستطيع أن نرفض وجود الذات رفضًا قاطعًا اللهم إلَّا إذا كان من الممكن أن نُعبِّر عن أنفسنا تعبيرًا تامًّا لا نستخدم فيه إلَّا الحوادث الذهنية دون أن نلجأ بعد ذلك إلى استخدام الأشكال المختلفة للضمائر الشخصية. ومن ناحية أخرى فسوف نُبيِّن بعد قليل أنَّ الاستبطان ليس هو المنهج السليم، الذي يصلح لاكتشاف الذات، ذلك لأنَّ ما نتوقع أن نكشف عنه باستمرار من خلال الاستبطان هو هذه الحالة أو تلك من الحالات الذهنية، أمَّا الكشف عن الذهن نفسه فينبغي ألَّا نتوقَّع أبدًا أن نصل إليه بهذا المنهج.

(١٣) لقد أعلن هيوم أنَّه كلما حاول أن يستبطن «نفسه» فإنَّه «يعثر» باستمرار على حادثة ذهنية معينة بدلًا من هذه «النفس»، ومن هنا استنتج أنَّه ليس لدينا معرفة بشيء اسمه «النفس». لكن القول بأنَّ «النفس» — أو الذهن — لا يُمكن أن تخضع للاختبار عن طريق الاستبطان قد يُظهرنا — لا على أنَّه ليس هناك ذهن أو نفس — بل على أنَّ هيوم استخدم منهجًا خاطئًا حين اختار الاستبطان منهجًا لاكتشاف النفس أو الذهن. ولو أنَّنا فشلنا في استبطان الذهن بما هو كذلك، ألا يُمكن أن يكون في استطاعتنا مع ذلك أن نُدركه باستخدام المنهج الجدلي؟ والمنهج الجدلي يعتمد على فحص ما يتضمَّنه موقف من المواقف، بحيث ننتهي إلى القول بأنَّنا لا نستطيع أن نُنكر هذا المضمون بغير الوقوع في التناقض. وذلك يعني أن نتناول بالدراسة والفحص بعض المواقف السيكولوجية لنرى أنَّنا نناقض أنفسنا إذا ما أنكرنا وجود الذهن كشيء تتضمَّنه هذه المواقف، وفي هذه الحالة نُضطرُّ إلى إثبات وجود الذهن.

وإذا ما أخذنا الآن عبارة هيوم وطبقنا عليها هذا المنهج فسوف نجد ما يلي: يقول هيوم «إنَّني إذا ما توغلت داخلًا إلى صميم ما أُسمِّيه «نفسي» وجدتني أعثر دائمًا على هذا الإدراك الجزئي أو ذاك … إنَّني لا أستطيع أبدًا أن أمسك ﺑ «نفسي» في أي وقت بغير إدراك ما، كما أنِّي لا أستطيع أبدًا أن أرى شيئًا على الإطلاق فيما عدا هذا الإدراك.»٢٥ لكن قوله بأنَّه يتوغَّل داخلًا إلى صميم نفسه، معناه أنَّه ينتبه إلى نفسه، أعني أنَّه ينتبه إلى الحالة النفسية التي يتصادف وجودها لحظة الفحص، فما الذي يُشير إليه هذا الانتباه إن لم يكن يُشير إلى الذهن أو العقل؟ إنَّ وجهة النظر التي يعرضها هذا البحث على نحو ما سنَعرف فيما بعد هي أنَّ الذهن Mind عبارة عن ثنائية لا تنفصم بين الانتباه وموضوعه. ومهما قيل في معارضة هذه النظرية، وبأي معنى شئت أن تفهم به «الذهن»، فلا بد من النظر إلى الانتباه على أنَّه وظيفة هذا الذهن. وعلى ذلك فكلَّما «توغل» هيوم داخل نفسه فإنَّه ينتبه، ومن ثمَّ فهو يَفترض مقدمًا وجود الذهن.

وسوف نُلاحظ أنَّ المنهج الجدلي الذي نقترحه هنا لإدراك الذهن هو نفسه المنهج الذي استخدمه «دیكارت» حين أثبت وجود نفسه بوصفها عملية تفكير. فديكارت لم يزعم أنَّ الذهن موجود لأنَّه اكتشفه عن طريق الاستبطان، لكنَّه زعم وجوده لأنَّه اكتشف أنَّه مُتضمَّن في موقف معين كان يقوم بفحصه، ووجد أنَّ إنكار الذهن لا يعني سوى إعادة إثباته من جديد؛ فنحن أثناء عملية الاستبطان نكون على وعي مباشر بالحالة النفسية التي نقوم بفحصِها، لكنَّنا بالإدراك الجدلي الذي نقترحه هنا لاكتشاف الذهن، نستنتج وجوده لأنَّنا نجد أنَّه من الضروري أن يكون متضمَّنًا في المواقف السيكولوجية.

ولهذا فنحن لا نستطيع أن نُوافق هيوم فيما ذهب إليه؛ من أنَّ الذات لا وجود لها؛ لأنَّ الاستبطان لم يُظْهِر له هذه الذات أو النفس عارية؛ ذلك لأنَّ الذات، تُدْرَك من خلال الحالات التي تخضع للاستبطان، لا من حيث هي حالة بین هذه الحالات. إنَّك لا تستطيع أن تعزل الانتباه لكي تدركه بالاستبطان؛ إذ لو فعلتَ ذلك لكنت تَعزل الانتباه عن طريق الانتباه — وهو دور.

(١٤) والمدرسة السلوكية لون آخر من ألوان النظريات اللامركزية عن النفس؛ فقد حصرت هذه المدرسة نفسها في دراسة أنماط السلوك التي يُمكن أن يُشاهدها المُلاحظ الخارجي، ورفضت الاستبطان منهجًا للبحث، مُعتمِدة في ذلك على التجارب المحكمة التي أجراها «بافلوف Pavlov» على الفعل المنعكس الشرطي، دون أيَّة إشارة إلى ما يُسمَّى بالشعور. وزعم السلوكيون أنَّ العلوم الطبيعية قادرة على تفسير جميع وقائع السلوك التي نلاحظها، وأنَّه ليس ثمة ما يُبرِّر أن نفترض وقائع السلوك التي نلاحظها، وأنَّه ليس ثمة ما يُبرِّر أن نفترض وقائع للسلوك البشري لا يمكن أن نعرفها إلَّا بطريقة أخرى غير المشاهَدة الخارجية، وما دام الذهن، من حيث هو ذهن، لا يُمكن ملاحظته فقد استبعدوه.
وكل سلوك، بالغًا ما بلَغ تعقده — كالعمليات التي نُطلق عليها اسم التفكير مثلًا — يُمكن عند هذه المدرسة أن يَرتدَّ في نهاية تحليله إلى وحدات من «مثير - استجابة» أو في صيغتها الرمزية «م – س». وهم يستخدمون هذه الصيغة الرمزية لإظهار اعتماد الحركة على المثير. و«م» ترمز إلى «المثير»، و«س» ترمز إلى الاستجابة. وواضح تمامًا أنَّ هذه الصيغة ناقصة أشد النقصان، فهي تفترض أنَّ «م» مُثير معيَّن، يعقبه باستمرار «س» أي استجابة معينة، بغض النظر عن الكائن الحي الذي يُثيرُه هذا المثير. مع أنَّنا نجد الناس في حياتهم اليومية يستجيبون استجابات مختلفة لنفس المُثير، ويستجيب الفرد الواحد استجابات مختلفة للمثير الواحد في أوقات مختلفة. خذ مثلًا جماعة المسافرين في عربة، يسيرون وسط واد صغير: «هذا الوادي بمعنى ما من المعاني واحد بالنِّسبة لهم جميعًا، فهو جزء من بيئتهم المشتركة. لكنَّك ستجدهم يَختلفون في استجاباتهم له، فهذا واحد منهم، وهو فنان، يبدأ في عزل الموضوعات الموجودة أمامه بعضها عن بعضٍ ليرسمها، في الوقت الذي يَرقب فيه شخص آخر — سمَّاك — بسرور كبیر برك الصيد التي يكثر فيها السمك، بينما يهتم شخص ثالث — عالم جيولوجيا — بمراقبة منظر الشاطئ الرملي والأماكن المتحجِّرة، أو يقف متأملًا بعض الكتل الصخرية.»٢٦
(١٥) ويَجمُل بنا هنا أن نُفرِّق بين نوعين من الأسباب؛ فهناك أسباب داخلية وأسباب خارجية. فإذا كان سبب التغيرات التي تحدث في موضوع معين يكمُن داخل هذا الموضوع نفسه، قُلنا إنَّ السبب في هذه الحالة داخلي. أمَّا إذا كانت التغيرات ترجع إلى ظروف خارجية، قُلنا إنَّ السبب في هذه الحالة خارجي. فإذا ما وضعت شرارة فوق «بارود» فأحدثت انفجارًا، قُلنا إنَّ الشرارة، في هذه الحالة، هي السبب الخارجي للتغير الذي حدث، وهو الانفجار. لكن الشرارة لا يُمكن أن تكون هي السبب «كله»؛ لأنَّنا لا نحصل على هذه النتيجة «أي الانفجار» إذا ما وضعنا الشرارة على الفحم مثلًا. ومعنى ذلك أنَّ تركيب البارود نفسه هو الجانب الآخر من السبب، وهو ما نُسمِّيه بالسبب الداخلي. وقل مثل ذلك حين يسلك الكائن الحي بطريقة معينة، فقد ننظر إلى بعض العوامل الخارجية على أنَّها السبب الخارجي لهذا السلوك، لكن تكوين الكائن الحي نفسه لا بد أن يوضع موضع الاعتبار بوصفه السبب الداخلي لهذا السلوك؛ لأنَّه قد لا يسلك كائن حي آخر نفس هذا المسلك مع وجود هذه العوامل الخارجية نفسها. يقول جيمس وورد٢٧ في هذا المعنى: «إنَّ ضوء الغروب الذي يُرسل الدجاجة لتبيت في حظيرتها، يجعل الثعلب يشرع في التجوال في الغابة بحثًا عن فريستِه، وزئير الأسد الذي يجمع بنات آوى، يُشتِّت الأغنام ويفرقها.»٢٨ بل إنَّك لتجدُ أنَّ الكائن الحي الواحد نفسه يستجيب استجابات مختلفة للمُثير الواحد في بعض الظروف المقبلة؛ لأنَّ أساس السلوك، وأعني به التكوين الداخلي للكائن الحي، قد تغيَّر ولم يعد كما كان من قبل.

(١٦) ومن هنا فإنَّ صيغة «م – س» تُصبِح غير كافية لتفسير وقائع السلوك؛ لأنَّ التكوين العضوي للفاعل لا بدَّ أن يدخل جزءًا من السبب. ومن ثم فحرف «ك»، الذي يُمثِّل الكائن الحي، لا بد أن يدخل في الصيغة التي تتحوَّل بناء على ذلك إلى «م – ك – س» أي «مثير – كائن حي – استجابة»، وهي تعني أنَّ الاستجابة يُحدِّدها المُثير والكائن الحي.

غير أنَّ ترتيب العناصر في هذه الصيغة لا يزال غير مُقنع. ذلك لأنَّ الفرد لا يبقى ساكنًا في انتظار سلبي حتى يأتي المُثير ليُثيره. لكنَّه على العكس، يَنتقي من البيئة المحيطة المثير الذي يُلائم طبيعته. وهو يجعل من المُثيرات التي تحافظ على وجوده موضوعًا للاشتهاء والرغبة. ومن المُثيرات التي تؤدِّي هذا الوجود موضوعًا للكراهية والنفور، أمَّا الموضوعات التي تبقى بعد ذلك، أي الموضوعات المحايدة، التي لا تضرُّ ولا تَنفع، فهو يقف منها موقف اللامبالاة. والفرد بهذا الانتقاء والاختيار يُحدِّد البيئة الخاصة التي تُناسبه. وعلى ذلك فبدلًا من ترتيب الصيغة السابقة «مثير – كائن حي – استجابة»، هناك الآن تعديل مقترح، بحيث تُصبح هذه الصيغة على النحو التالي: «كائن حي – مثير – استجابة».٢٩ فالكائن الحي يُعبِّر عن نفسه من خلال الأشياء الموجودة في بيئته، وهو يتحرَّك حركة تلقائية، يستخدم البيئة في تحقيق ذاته؛ فالشيء الذي يقع خارجنا لا يكون في البداية مصدر سلوكنا، لكنَّه يُستدعى ويُحدد فحسب الطريقة التي نُعبِّر بها عن أنفسنا بالتفصيل في أيَّة مناسبة معيَّنة؛ أي إنَّه يُزودنا بالقنوات التي يجري خلالها سلوكنا التلقائي.

(١٧) لقد أخذ السلوكيُّون بمنهج البحث المستخدم في العلوم الوضعية — بدعوى أنَّهم علماء وضعيون — وحصَرُوا أنفسهم بدقة فيما يُمكِن أن نلاحظه. وبالتالي فإذا زعمت أنَّ هناك «نفسًا» هي التي تُضفي على أنماط السلوك وحدتها وتجعلها تنتمي إلى شخص له هوية ذاتية، فإنَّهم سوف يعارضون هذا الزعم على أساس أنَّه لا يُمكن أن يخضع شيء كهذا الذي تزعمه للملاحظة الخارجية. غير أنَّ ما سبق أن قلناه حين تعرضنا بالنقد للمنهج الاستبطاني بوصفه منهجًا يُستخدم في الكشف عن الذهن، يُمكن أن نُعيدَه هنا على منهج الملاحظة الخارجية الذي استخدمه السلوكيون. فالقول بأنَّ النفس «أو الذهن. والمعنى واحد» لا تخضع للدراسة الموضوعية يُظهرنا على أنَّ المنهج الذي نأخذ به في الكشف عن هذه النفس منهج خاطئ أكثر مما يُبرهن على عدم وجود النفس. وسوف تكون هناك تساؤلات لا حدَّ لها إذا ما قلنا إنَّ منهجًا واحدًا بعينه هو الذي ينبغي أن يُطبَّق في جميع أفرع المعرفة، بغض النظر عن طبيعة الموضوع الذي ندرسه. ومن المُسلَّم به أنَّنا لا نستطيع أن نجعل العقل أو الذهن بارزًا أمام أعيننا للملاحظة الخارجية. لكن لا يزال في استطاعتنا مع ذلك أن نُدركه على أنَّه مُتضمَّن بالضرورة في المواقف المختلفة التي ندرسها في سياق البحث العلمي نفسه. ولنضرب لذلك مثلًا نوضِّح به ما تعنيه حالة علم النفس السلوكي نفسه حين يدرس موقفًا من المواقف النفسية:

إنَّ عالِم النفس السلوكي الذي يريد أن يحصر نفسه في أنماط السلوك، لا يستطيع أن يفعل ذلك. ما لم يكن قادرًا على عزل نمط السلوك الذي يريد دراسته من السياق المحكم للكائن الحي والبيئة. وعزل موضوع الدراسة هذا لا يكون ممكنًا إلَّا إذا وجَّه انتباهه نحو الجانب المطلوب دراسته. وهو جانب لا يُمكن أن ينفصل بالفعل عن الكائن الحي الذي يشمله، والباحث بتعديل انتباهه يستطيع التركيز على شيء واحد في لحظة معيَّنة. إنَّ معطيات البيئة معقَّدة إلى أقصى درجة، ولهذا فإنَّ العالِم لكي يَدرُس جانبًا واحدًا أو عنصرًا واحدًا من هذا التعقيد العيني، لا بدَّ له بالضرورة من أن يعزله عن بقية الجوانب أو العناصر. وهذا العزل قد لا يكون مُمكنًا فعلًا إلَّا في الفكر وحده. وتلك هي الحال نفسها إذا ما أردنا أن نعزل نمطًا من أنماط السلوك عن بقية التفصيلات. ولكي نخلق نوعًا من أنواع الخلاء حول نمط من أنماط السلوك بحيث يبدو عاريًا تمامًا من التفصيلات التي تُغلفه، فإنَّك لا بد أن تُجرِّد هذا النمط بفضل انتباهك الانتقائي. ومن هنا كان الانتباه موجودًا في كل خطوة من الخطوات التي يقوم بها الباحث في بحثه، وهذا يعني — بعبارة أخرى — أنَّنا نفترض مقدمًا وجود ذهن الباحث، وإنكار وجوده يعني أنَّنا نُناقض أنفسنا.

(١٨) اتضح لنا حتى الآن قصور النظريات اللامركزية، وبقي علينا أن نُناقش النظريات المركزية، وهي تَنقسِم بدورها قسمين «أ» النظرية التي ترى أنَّ النفس موجود جزئي، أو نوع من الموناد monad، أو «أنا» خالصة، أو موجودة بسيط، وتجعل منه مركزًا. «ب» النظرية التي لا تفترض وجود شيء آخر غير محتويات الخبرة، ثم تقتطع من هذا المحتوى شريحة تفترض فيها الدوام وتعتبرها المركز.

(١٩) وترى النظرية الأخيرة — في أكثر صورها اتساقًا — أنَّ النفس تتكوَّن من محور داخلي للشعور يعتمد أساسًا على ما يُسمَّى ﺑ «الحساسية الحشوية»، أي مجموعة الإحساسات الغامضة للتركيب الجسمي كله. ويُقال لنا إنَّ هذه الكتلة من الشعور البدني تبقى على الدوام إمَّا بلا تغيُّر على الإطلاق، أو مع تغيُّر طفيف جدًّا. وتعتمد مثل هذه النظرية في تفسيرها للوحدة الطولية للفرد على القول بأنَّ قدرًا معيَّنًا من تلك النواة الداخلية للشعور، تبقى كما هي بلا تغيير أو قريبًا من ذلك. أي إنَّ محور شعوري البدني في لحظة ماضية هو نفسه محور شعوري البدني في لحظة حاضرة أو لحظة مُقبلة. وإذا ما أخذنا قطاعًا عرضيًّا في هذا الحبل المطرد للشعور البدني، وجدنا أنَّه على علاقة محدَّدة بالحوادث الذهنية المنوَّعة. وهذا ما يُكوِّن الوحدة العرضية للفرد. والواقع أنَّ هذه النظرية تقع في مُنتصَف الطريق بين النظريات التي ترى أنَّ النفس موجود أعلى من الخبرة، وبين النظريات التي تُنكر وجود النفس باعتبارها مركزًا، فهي من ناحية تُسلِّم بضرورة وجود مركز، لكنَّها من ناحية أخرى تعتبر هذا المركز جانبًا من محتويات الشعور، وهو بالتالي لا يُجاوز هذه المحتويات ولا يعلو عليها.

(٢٠) والآن: هبْ أنَّنا أردنا أن نُحلِّل خبرة الفرد في لحظة من اللحظات، بحيث نُقسِّمها إلى محور دائم للإحساسات، وهامش قابل للتغير، كما تقول هذه النظرية: فأين يُمكِن يا ترى أن نَرسم هذا الخط الفاصل بين المحور والهامش؟ ما هي هذه النواة التي يُقال عنها إنَّ البيئة لا تؤثر فيها قط تأثرًا ملحوظًا؟ «ما هي ماهية الذات التي لا يُمكن أن تتغير على الإطلاق …! الطفولة، والشيخوخة، والمرض والجنون، انبثاق خصائص جديدة، واندثار خصائص قديمة، إنَّه لمن العسير حقًّا أن نضع حدًّا لتغير الذات وتبدُّلها … ويضيع هذا المخلوق في أوهام: فقدان الذاكرة، تحوُّل المزاج: مشاعر مريضة في قلب وجوده ذاته — ألا يزال بعد ذلك كله هو الشخص الذي له تلك الذات التي نعرفها.»٣٠
إنَّ الاعتراض الذي وجَّهه هيوم لفكرة النفس بصفة عامة، يبدو أنَّه يُصبِح اعتراضًا حاسمًا وقاطعًا إذا ما وجَّهه إلى هذه النظرية، أعني نظرية: الكتلة المركزية للشعور بصفة خاصة: «وإلَّا فمن أي انطباع حسي أمكن لهذه الفكرة أن تجيء؟ ذلك لأنَّه لو كانت فكرة النفس قد نشأت عن انطباع واحد معين، للزم أن يظل ذلك الانطباع على حاله دائمًا لا يتغير إبان فترة حياتنا كلها، لأنَّ المفروض في النفس أن يكون وجودها قائمًا على هذا النحو، ولكن ليس هناك انطباع واحد مُتصف بالدوام وعدم التغير، فالألم واللذة، والحزن والسرور، والعواطف والإحساسات، كلها يتبع بعضها بعضًا، ويستحيل عليها أبدًا أن يتحقَّق لها الوجود كلها دفعة واحدة. وإذن فلا يمكن لفكرة النفس أن تُستمَدَّ من أحد هذه الانطباعات أو من غيرها، وبالتالي فليس هنالك فكرة كهذه.»٣١
(٢١) وفضلًا عن ذلك فإنَّ هذه النظرية — فيما يبدو — لا تستطيع تفسير التصورات والأحكام والاستدلالات؛ لأنَّه إذا كان التصوُّر عبارة عن فكرة كلية جُردت من الأفراد الجزئية، فمن ذا الذي يقوم بمقارنة هذه الأفراد بعضها مع بعض لكي يُجرِّد الكيفيات والخصائص التي يتألَّف منها التصوُّر؟ قد يُقال إنَّ الكلي هو جزئي ممثل لبقية الجزئيات، لكنَّا سبق أن رفضنا هذا الزعم في مناسبة سابقة.٣٢ ومن ناحية أخرى: مَنِ الذي يصدر الحكم؟ هل محور الشعور هو الذي يُثبِت، وينفي، ويُعلِّق قضية من القضايا؟ أضف إلى ذلك أنَّنا لا نستطيع أن نتصوَّر كيف تستطيع هذه الكتلة من الإحساسات أن تُدرك العلاقات الجديدة بين عناصر الخبرة، أو كيف يُمكن أن تقوم بعملية استدلال. وإذا ما عجزت نظرية من النظريات عن تفسير هذه الجوانب الأساسية عند الإنسان، فإنَّها لا يُمكِن أن تكون نظرية مقنعة.

(٢٢) سبق أن استبعدنا النظريات اللامركزية لأنَّها غير كافية، وهي تلك النظريات التي تردُ النفس إلى مجموعة من الحالات، دون أي مركز مُوحِّد يوجد بغض النظر عن مجموعة العلاقات الخاصة بين هذه الحالات.

ورفضنا أيضًا إحدى صور النظرية المركزية، وهي تلك النظرية التي تقبل وجود مركز موحِّد، لكنَّها تعتبره الكتلة الشعورية البدنية المتصلة والمطردة. ونحن مِن ثمَّ مُضطرُّون إلى الأخذ بنظرية تُسلِّم بوجود مركز، لكنَّها ترفض أن يكون هو نفسه جانبًا من جوانب الخبرة.

ومثل هذا المركز يُمكِن تصوُّره بإحدى طريقتين؛ الأولى أن نتصوَّره على أنَّه موجود بسيط، أو كائن لا زماني، أو روح قائمة في البدن، ومُرتبط به ارتباط الجواد بالعربة! (إذا ما استخدمنا التشبيه الأفلاطوني الجميل). والثانية أن نتصوَّره على أنَّه مبدأ للوحدة، يكمن وراء خبرة الفرد دون أن ينفصل عن هذه الخبرة، بحيث يُصبح قانون الكائن الحي نفسه، يُنظِّم طرقه في الإدراك والتفكير والفعل، لكنَّه ليس له وجود بمعزل عن الكائن الحي.

(٢٣) أمَّا التصوُّر الأول للنفس، أعني تصوُّرها على أنَّها موجود بسيط. فلا شك أنَّه يمتاز بقدرته على حل مشكلة الهوية الذاتية للفرد، لكنَّه من ناحية أخرى يُورِّطنا في مشكلات لا حلَّ لها.
  • أولًا: سوف نَعجز عن تفسير العلاقة بين النفس والجسم تفسيرًا مُقنعًا؛ لأنَّهما يُصبحان كائنين من طبيعتَين مختلفتين أتمَّ الاختلاف.
  • ثانيًا: سوف تبدو النفس في هذه الحالة لا ضرورة لها، أو على الأقل بغير نفع واضح: «إذا ما جعلنا هذه الوحدة Unit٣٣ شيئًا مُتحركًا في حركة موازية لحياة الإنسان، أو بالأحرى شيئًا لا يتحرك، وإنَّما يقف حرفيًّا في علاقة مع التنوعات التي تتعاقب على حياة الإنسان، فإنَّ ذلك لن يُساعدنا كثيرًا، وسوف تكون نفس الإنسان — في هذه الحالة — زائدة تقريبًا كنجمه في السماء (إن كان له نجم) الذي ينظر إليه من علُ دون أن يكترث كثيرًا، إذا ما فني هذا الإنسان.»٣٤
  • ثالثًا: إذا ما افترضنا أنَّ هناك تيارًا مستمرًّا لمجرى خبرة الفرد، وعلى طول هذا المجرى توجد وحدة هي التي نُسمِّيها بالنفس، فإنَّنا إذا ما أخذنا بهذه النظرية ننجرف يقينًا إلى إحراج منطقي: «فإذا كان الموناد يملك التنوُّع كله الذي نجده عند الفرد أو جانبًا معينًا منه، فإنَّ علينا في هذه الحالة، حتى إذا ما وجدنا في ذلك هوية الذات، أن نُوفِّق بين هذا التنوع وبساطة الموناد. وإذا كان الموناد من ناحية أخرى يقف معزولًا إمَّا بغير خصائص على الإطلاق، أو بخاصية واحدة منعزلة، فإنَّه قد يكون شيئًا جميلًا في حد ذاته، لكن من السخف أن نُسمِّيه نفسًا.»٣٥
(٢٤) تبقى نظرية واحدة هي القول بأن النفس الموحِّدة ليست موجودًا بسيطًا مستقلًّا، لكنَّها فعل بواسطته يجمع الفرد ما يبدو أنَّه يساعده في حفظ وجوده. هذا الفعل هو المبدأ الموحِّد لمحتويات خبرة الفرد، بحيث تكون واحدة في أيَّة لحظة، رغم تعدد المحتويات وتنوعها، إنَّه الشرط الذي بدونه تصبح الرغبة والنفور، والانتقاء والرفض، أمورًا مستحيلة. وبدون افتراض من ناحية أخرى لا يستطيع الفرد أن يشعر ويدرك ويفكِّر. إنَّه الصورة، أعني الخاصية الأساسية للفاعل السيكوفيزيقي، التي تجعله ينتقي العناصر — مادية كانت أو روحية — التي لا غنى عنها لوجوده. وفي كلمة واحدة: المركز الموحِّد: هو الفعل المتضمن في عملية الانتباه.٣٦
غير أنَّ الانتباه لا يُمكن تصوُّره دون موضوع، سواء أكان هذا الموضوع داخليًّا أم خارجيًّا. ومن هذه الثنائية: الانتباه إلى شيء ما تتألَّف نظرتنا إلى النفس، فالانتباه هو الجانب الذاتي، وما نُنبِّه إليه هو الجانب الموضوعي. والنفس هي وحدة «الذات والموضوع» أو هي ثنائية «الصورة والمادة»، والصورة هي فعل الانتباه. والمادة هي الموضوع الذي يقع عليه الانتباه. ومن الواضح أنَّ الجانبين لا يُمكن أن ينفصلا، على الرغم من أنَّهما يُمكن أن يتمايزا. فالفرد المنتبه وموضوع انتباهه يتضمَّن كل منهما الآخر، والواحد منهما مُستحيل بدون الآخر. وهذان الجانبان — الجانب الذاتي والجانب الموضوعي — لازمان لتكوين الخبرة أيًّا كان نوعها: منهما تبدأ الخبرة، وبهما معًا تستمر، وليس في استطاعتنا مطلقًا أن نُحللهما ونردهما إلى فرد منتبه بدون موضوع، أو إلى موضوع بدون الفرد المنتبه. فالجانبان متضامنان، وكل منهما يتضمَّن الآخر، والصفحة البيضاء Tabula Rosa التي تحدث عنها «لوك Locke» لم تكن أبدًا بيضاء في يوم من الأيام، كلَّا، ولا كانت صفحة بالمعنى السلبي المتقبل Passive لهذه الكلمة، لكنَّها كانت باستمرار: يفعل — ينتبه (أي فعل الانتباه).
(٢٥) ويتَّخذ الجسم في حالة الانتباه وضعًا خاصًّا، أو موقفًا معينًا إزاء الموضوع الذي ننتبه إليه، وهذا هو السبب في أنَّ الانتباه يكون في الغالب مصحوبًا بحركات معينة للجسم. لكن هذه الحركات لا هي سبب الانتباه ولا هي نتيجته، وإنَّما هي جزء منه، فهي تُعبِّر عنه تعبيرًا مكانيًّا. فمن المألوف في حالة الانتباه أن يَميل المرء إلى الأمام، أو أن يُدير أُذنه تجاه مصدر الصوت، أو أن يَرفع حاجبَيه أو يخفضهما … إلخ. وهذه الحركات الجسمية تجعل عملية الاختيار أو الانتقاء مُمكنة، وهي العملية التي تُعتبر الخاصية الجوهرية للانتباه. إذ عن طريق الوضع المناسب للجسم يُحدِّد الفاعل المجال الذي يَنتبه إليه وسط البيئة المحيطة به. والانتباه الإيجابي لموضوع معيَّن يصحبه بالضرورة قمع لجميع الجوانب الأخرى. والجانبان الإيجابي والسَّلبي للانتباه يُسهلهما الوضع الصحيح الذي يتَّخذه الجسم أثناء عملية الانتباه. ومثل هذا الوضع المناسب يعمل كعامل انتقاء، فيُفضِّل التقاط أشياء معينة، ويمحو في نفس الوقت موضوعات أخرى: «إنَّ البحث عن شيء معين يتخذ وضعًا يسهل الاستجابة لرؤية هذا الشيء والتعرُّف عليه. والإصغاء يتَّخذ وضعًا يُسهِّل الاستماع لأصوات معينة. ومن ثمَّ فإنَّ الإصغاء بإمعان قد يسد عليك الطريق إلى ملاحظة شيء مفقود، يجعلك لا تُلاحِظ الأصوات التي لا بد أن تجذب انتباهك في وقت آخر. وباختصار فإنَّ الاستعداد والتهيؤ لعمل ما، هو في نفس الوقت عدم استعداد وعدم تهيؤ بالنسبة لأعمال أخرى.»٣٧

(٢٦) الانتباه ليس ملَكة بالمعنى الذي يُنْظَر فيه إلى الفرد على أنَّ لديه «قدرة» أو «قوة» أو ملَكة الانتباه هي التي تجعله قادرًا على الانتباه، بمعنى أنَّه إذا ما انتبه بالفعل — فإنَّ ذلك يَحدُث بمساعدة تلك الملكة الموجودة بالقوة، بل إنَّ الذات لا تكون ذاتًا إلَّا لأنَّها تنتبه فعلًا وباستمرار. انظر إلى نفسك في أيَّة لحظة وسوف تجد أنَّ هناك شيئًا يشغل انتباهك، سواء أكان هذا الشيء إحساسًا أم فكرة أم شعورًا … إلخ. وليسَت هناك لحظة واحدة في حياة الفرد يُمكِن أن تخلو من الانتباه خلوًّا تامًّا. فالجسم الذي لا ينتبه — ولو أدنى انتباه — هو جسم لا نفس له. وحتى في حالة النوم وغيرها من الحالات اللاشعورية؛ يكون الفرد مُنتبهًا إلى مضمون موضوعي، ولا يهمُّ مدى الضآلة التي يكون عليها هذا المضمون. ولو أنَّ حواس النائم كانت مُوصَدة تمامًا، عن العالم الخارجي لكان معنى ذلك أنَّ أكثر الأصوات ضجيجًا لن يُوقظه. ويجمل بنا هنا أن نُلاحظ أنَّ الأم النائمة قد لا توقظها حركة المرور الكثيفة التي يعلو ضجيجها خارج نافذة غرفتها، في حين أنَّه من المرجَّح جدًّا أن توقظها أقل حركة يُحدثها طفلها، وهذا لا يعني فقط أنَّ الانتباه مُستمر أثناء النوم، لكنَّه يعني أيضًا أنَّ الانتقاء والاختيار لما هو هام وضروري موجود في مثل هذه الفترة التي يغيب فيها الوعي الكامل.

والواقع أنَّ الإدراك قد يكون من الضآلة بدرجة تجعلنا لا نُلاحظه، وهذه الإدراكات التي غالبًا ما لا نشعر بها هي التي يُسميها «ليبنتز» بالإدراكات الضئيلة … petites perceptions ويُوضح لنا ليبنتز هذه الإدراكات الضئيلة بصوت البحر الذي نَسمعه حين نكون بجوار الشاطئ: «إنَّنا لكي نسمع هذا الصوت كما يحدث لنا عادة، فلا بدَّ لنا من أن نسمع الأجزاء التي يتألَّف منها الصوت كلها، أعني أن نسمع الأصوات التي تُحدثها كل موجة على حدة، على الرغم من أنَّ كل صوت من هذه الأصوات يبلغ حدًّا من الضآلة، بحيث لا يُمكن أن يُسمَع إلَّا من خلال التركيبة الجمعية التي تأتلِف فيها هذه الأصوات بعضها مع بعض، ومعنى ذلك أنَّنا لا نستطيع في حالة زمجرة البحر أن نسمع الأصوات لو أنَّنا عزلنا الموجة التي أحدثتها عن غيرها ولاحظناها بمفردها. ذلك لأنَّ حركة هذه الموجة وحدها لا بد أن تُحدث فينا أثرًا غاية في الضآلة، ولا بد أن يكون لدينا إدراك لكل صوت من هذه الأصوات بالغًا ما بلغت ضآلته، وإلَّا لما كان لدينا إدراك لمائة ألف من الأمواج، ذلك لأنَّ اللاشيء لو تكرَّر مائة ألف مرة لما أصبح شيئًا.»٣٨
(٢٧) عملية انتباه إذن عملية مُستمرَّة ومتَّصلة. والقطاع العرضي للذات في أيَّة لحظة من اللحظات يَتألَّف من الجانب الذاتي للانتباه والجانب الموضوعي لمجال الانتباه. ومِن الواضح أنَّ عملية الانتباه بوصفِها فعلًا لفاعل سيكوفيزيقي هي دائمًا شيء واحد. وهي هي نفسها؛ إذ لا توجد اختلافات كمية أو كيفية بين الحالات المختلفة للانتباه. وقل مثل ذلك في أي فعل بما هو كذلك؛ فالرؤية واحدة باستمرار وهي هي، والمرئيات هي التي تختلف وتتنوع. والسمع واحد دائمًا، والأصوات هي التي تختلف وتتنوَّع. وتلك هي الحال نفسها مع الانتباه وموضوعه: فالانتباه واحد، لكن مجال الانتباه يُمكن أن يضيق أو يتسع تبعًا لما يختاره الفرد المنتبه. والانتباه في اتساع مجاله أو ضيقه لا يُغيِّر من طبيعته. فمن الخطأ أن ننسب هذا الاتساع أو الضيق إلى الانتباه ذاته، كما نفعل عادة في حياتنا اليومية. والواقع أنَّه بسبب اتساع مجال الانتباه أو ضيقه — زيادة امتداده أو زيادة كثافته — لا تكون الذوات المختلفة كلها واحدة في ثرائها وغناها. كلَّا، ولا يُمكن للفرد الواحد أن يكون دائمًا واحدًا، وهو نفسه باسمرار فيما يتعلق بموضوع الانتباه. وقد يَعترض معترض على ذلك فيقول: إنَّ الاختلافات في هذه الحالة سوف تُردُّ كلها إلى الظروف الخارجية، وإنَّ الفرق بين «نفس» و«نفس» أو ذات وذات، سوف تُستَمَدُّ من الخارج لا من الداخل، ومن ثمَّ فالظروف الخارجية المحيطة بالفرد هي التي تجعله على ما هو عليه. غير أنَّ هذا الاعتراض يحرم الانتباه من أخص خصائصه، وهو الاختيار والانتقاء. إنَّ النفس أو الذات تتألَّف مِمَّا يختاره الفرد المنتبه من الظروف المحيطة، لا من مجموعة العناصر المحيطة التي تُشكِّل نفسها في نمط معين. إنَّ هذه العناصر ليست إلَّا المادة الخام التي يختار منها كل فرد ويُشكِّل منها ذاته بطريقة مميزة فريدة، تجعله في النهاية فردًا عينيًّا حقيقيًّا: «إنَّ الذات الحقيقية هي شيء يُصنع ويُكتسب ويتجمع ببذل الجهد والتعب، وليست شيئًا يُعطى لنا لكي نستمتع به.»٣٩
(٢٨) إنَّ فعل الانتباه يقبع خلف حياة الفرد النفسية بأسرها، وما يبدو لنا أنَّه تنوُّع في الأفعال السيكولوجية ليس في حقيقة الأمر سوى تنوُّع للجانب الموضوعي، فليس هناك سوى فعل أساسي واحد هو الانتباه، ثم موضوعات متعدِّدة نَنتبه إليها، في أوقات مختلفة: ففي الإدراك الحسي أنتبه إلى موضوعات حسية، وفي الإدراك العقلي أنتبه إلى محتويات عقلية، وحتى الأفعال التي تبدو في ظاهرها مختلفة عن تلك الأفعال اختلافًا واسعًا، مثل أفعال: الإدراك «المعرفة» والنزوع Cognition and Conation يمكن كذلك ردها إلى هذا الفعل الأساسي نفسه، أعني الانتباه، مع رد الاختلافات إلى الموضوعات التي ننتبه إليها نفسها. ويكفي أن نُلاحظ أنَّ للمعرفة والنزوع نفس خصائص الفعل الأساسي «الانتباه» مِمَّا يُبرر لنا القول بأنَّهما معًا يُمكن ردهما إلى فعل الانتباه نفسه. «يمكن أن يستغرقنا الفعل تمامًا، كما يُمكن أن يستغرقنا الإدراك أو التفكير. وكذلك الحركات — ما لم تكن آلية — تعوق الأفكار، والعكس بالعكس، فالأفكار بدورها — ما لم تكن سلسلة من التداعي — تعوق الحركات وتوقفها. إنَّه من المستحيل عليك أن ترفع حملًا ثقيلًا وتستمر في عملية التفكير، استحالة أن تُمعِن النظر في النقطة الموجودة على حرف «ف» وتواصل الحركة. إنَّ حالة السُّكر، والتنويم المغناطيسي، والجنون، وكذلك حالة الراحة أو الإنهاك، تؤثِّر في الإدراك العقلي، كما تؤثِّر في هزة الأعصاب، سواء بسواء. والسيطرة على الأفكار، مع السيطرة على الحركات في وقتٍ واحد، تحتاج إلى «جهد». وكما أنَّ هناك جهدًا Strain ذا خصائص معينة في عملية الإصغاء أو التحديق بإمعانٍ، يقترن به مصاحب عضلي، فهناك بالمثل، جهد مُتميِّز بخصائص معينة في عملية التذكُّر أو إعنات الذهن recollection and intellection. ومن المرجح أن يكون لذلك الجهد قرین بدني مُساوٍ أساسًا للواحد منهما … وحين تترابط الحركات؛ فإنَّ فعل الانتباه يكون مطلوبًا تمامًا كما هو مطلوب للربط بين الانطباعات الحسية. وحين تترابط هذه التداعيات ترابطًا وثيقًا فإنَّ عملية فكها تُصبح صعبة، وتتساوى صعوبتها في الحالتين معًا.»٤٠
(٢٩) ولكن قد يسأل سائل: ألا يُقال إنَّنا في بعض الأحيان نكون في حالة «لا انتباه»؟ لو أنَّ السائل كان يعني بكلمة «لا انتباه» هذه الغياب الكامل للانتباه، فسوف أُجيبه في حسم قاطع كلَّا؛ ذلك لأنَّ الانتباه موجود باستمرار، وعدم الانتباه إلى شيء بعينه إنَّما يعني الانتباه إلى شيء آخر، وفضلًا عن ذلك، فإنَّ موضوع الانتباه يجب أن يُفهم على أنَّه يشمل مدى واسعًا من الدرجات. ونحن في استخدامنا لكلمة «الانتباه»، وتطبيقها على هذه الدرجات جميعًا، نستطيع أن نقول إنَّها تشبه «درجة الحرارة». فكما أنَّ درجة حرارة شيء من الأشياء قد تكون أقل بكثير من نقطة التجمد (أعني تحت الصفر بكثير)، فكذلك قد تكون درجة الانتباه في بعض الحالات غاية في الضآلة، لكن الانتباه مع ذلك موجود، ولو أنَّنا فهمنا الانتباه بهذا المعنى الذي يجعله يشمل مدى واسعًا جدًّا من الدرجات الخاصة بالموضوع الذي ننتبه إليه، فلا يُمكن أن تقوم لهذا الاعتراض قائمة بعد ذلك. وقد تُفيد الفقرة الآتية التي اقتبسناها من «جون لوك» في توضيح هذا المعنى: «أمَّا القول بأنَّ هناك أفكارًا تبقى منها هذه المجموعة أو تلك بشكل دائم في ذهن الإنسان وهو في حالة اليقظة،٤١ فهذا ما يقتنع به كل إنسان من خبرته الخاصة، على الرغم من أنَّ الذهن يعمل فيها بدرجات من الانتباه متفاوتة،٤٢ فهو أحيانًا يحصر نفسه بحماس زائد في تأمُّل بعض الموضوعات، ويُقلِّب أفكار هذه الموضوعات من جميع جوانبها مُلاحظًا علاقاتها وظروفها، ومُهتمًّا برؤية كل جانب على حدة بسرور زائد وانتباه كبير، حتى إنَّه ليوصد الباب أمام جميع الأفكار الأخرى، دون أن يُلاحظ الانطباعات العادية التي تطبع الحواس عندئذٍ، وهي الانطباعات التي كان لا بد أن تُحْدِث — في وقت آخر — إدراكات نحس بها إحساسًا واضحًا. وفي أوقات أخرى، يكاد الذهن لا يُلاحظ سلسلة الأفكار التي تتوالى على الفهم دون أن يوجِّهها أو يتعقَّب أيًّا منها. وفي أحوال أخرى نراه يتركها تمر — تقريبًا — دون أن يلحظها تمامًا، كما لو كانت ظلالًا باهتة لا تُحدِث أي انطباع.»٤٣
ومن هنا فلا يوجد بين الانتباه واللاانتباه ذلك الاختلاف الذي يوجد بين الوجود واللاوجود، فليس ثمة سوى اختلاف درجة الانتباه، فكلَّما ازداد تركيز الانتباه على موضوع معين، ازداد انحسار الانتباه عن موضوعات أخرى، وكلَّما ركزت انتباهي بإمعان على «أ» انحسر انتباهي بالضرورة عن «ب». غير أنَّ «برادلي» يرى رأيًا آخر، فهو يقول: «إنَّ مجرد مثول موضوع معين أمامي، أو عدة موضوعات، لا يُعدُّ هو نفسه انتباهًا … فأنا لا أنتبه بمجرد إدراكي لموضوع ما أو تفكيري فيه، لكنَّني أبدأ في الانتباه حين أُجاوز ذلك، بحيث أجعله موضوعي أنا.» my object.٤٤ لكن هل يُمكن أن يكون هناك ظل من شك في أنَّ الإدراك أو التفكير هما دائمًا إدراكي أنا، وتفكيري أنا، أعني أنَّه دائمًا ملكي ودائمًا خاص بي؟ وفضلًا عن ذلك فإنَّ الإدراك أو التفكير الذي لا أنتبه إليه، لا يكون موجودًا من أجلي على الإطلاق. والواقع أنَّه لا يوجد أمامي من الموضوعات إلَّا ما أنتبه إليه بوصفه إدراكًا حسيًّا أو فكرة أو شعورًا أو حركة، أو أيًّا ما كان نوعه. ويُعرِّف جون ستيوارت مل Mill الشيء بأنَّه الإمكان الدائم للإدراك. وهذا حق. والإدراك يُصبح مستحيلًا بدون الانتباه، ومن هنا كان من الصواب أيضًا أن نُعرِّف الشيء بأنَّه الإمكان الدائم ليكون موضوعًا للانتباه. ومن ناحية أخرى فإنَّنا نستطيع هنا أن نستفيد من تعريف «ليبنتز» للذهن بأنَّه الإمكان الدائم لعملية الإدراك. وإذا ما استبدلنا الواقع الفعلي بمجرَّد الإمكان، والانتباه بدلًا من الإدراك، لزم أن نقول إنَّ الذهن هو الواقع الفعلي الدائم لعمَلية الانتباه.

صحيح أنَّني كلَّما ركزتُ انتباهي في إدراك معين أو فكرة بعينها. امتلكته واستحوذت عليه بشكل عميق وأقوى، لكن ذلك لا يتعارض مع القول بأنَّ الإدراك الشاحب أو الفكرة الباهتة هما أيضًا إدراكي وفكرتي، على الرغم من أنَّ درجة استحواذي عليهما تكون أقل.

ویری «برادلي» من ناحية أخرى، أنَّ الانتباه ينبغي — لا أن يكون له موضوع فحسب — بل أيضًا: «أن يتضمَّن استبقاء والمحافظة على هذا الموضوع، ولهذا فهو يتضمَّن بعض التمهل والتأني Some delay.٤٥ والواقع أنَّ هذا الاستبقاء أو هذه المحافظة التي يتحدَّث عنها برادلي هي علامة تتميَّز بها بعض حالات الانتباه، لكنَّها ليست سمة ضرورية للانتباه الخالص والبسيط، وإلَّا فلن يكون في استطاعتنا أن نرسم خطًّا فاصلًا يُحدِّد مدة الزمن التي نستبقي فيها الموضوع الذي نَنتبه إليه، أعني أن نرسم خطًّا، ونقول: تحت هذا الخط لا يكون الفعل انتباهًا، وفوقه يُمكن أن يُعدَّ انتباهًا، فمن الواضح أنَّ مثل هذا الخط الذي يُعيِّن الحدود بين المنطقتين لا يُمكن رسمه.
(٣٠) ويجمل بنا هنا أن ننتهي من مناقشة ذلك التقسيم الشائع للانتباه، ذلك التقسيم الذي قد يُضلِّلنا ويجعلنا نقع في خطأ الظن بأنَّ الانتباه على أنواعٍ مختلفة؛ إذ كثيرًا ما يُقال إنَّ الانتباه ينقسم إلى: انتباه إرادي، وانتباه لا إرادي. وهم يقصدون بالانتباه الإرادي ذلك الانتباه إلى بعض الأشياء أو بعض الأفكار بجهد من الإرادة. أمَّا الانتباه اللاإرادي فهم يقصدون به ذلك الانتباه الذي تجذبه طبيعة الموضوعات ذاتها التي تسترعي الانتباه، مثال ذلك: الصوت المدوي، وومضة الضوء القوية. وبعبارة أخرى يُقال عن الانتباه إنَّه إرادي حين يتم رغمًا عن إرادة الشخص المنتبه. غير أنَّ هذا التقسيم يقع في مغالطة منطقية هي «مغالطة التسليم بالشيء قبل البرهنة عليه»، فهو يقوم على افتراض أسبقية الإرادة على الانتباه، أو أنَّها — على الأقل — مقترنة ومصاحبة للانتباه. فإذا ما وُجِدَت الإرادة قبل الانتباه أو معه، سُمِّي انتباهًا إراديًّا، وإذا غابت الإرادة، أو إذا ما سبقت إرادة الانتباه إلى شيء آخر الاتجاه الجديد الذي يتجه إليه الانتباه، سُمِّي الانتباه في هذه الحالة انتباهًا لا إراديًّا. لكن أسبقية الإرادة على الانتباه أو ملازمتها له، أمر مشكوك فيه، لأنَّ الإرادة هي نفسها نوع خاص من الانتباه، يتميَّز فيه الموضوع الذي نَنتبه إليه بخصائص معينة. وهذه الخصائص التي تجعل الموقف السيكولوجي موقفًا إراديًّا سوف تكون موضوعًا لفصل خاص.٤٦

لا شك أنَّ الظروف التي تؤثر في توجيه الانتباه نحو موضوعات معينة دون موضوعات أخرى، تكمن إلى حدٍّ ما — إن لم يكن إلى حدٍّ كبير — في طبيعة الموضوعات التي تَسترعي الانتباه: فالضوء اللامع، والصوت المدوي، أكثر ترجيحًا لجذب الانتباه من الصوت الخافت والصوت الضعيف. وقل مثل ذلك في الموضوع الضخم، فهو أكثر احتمالًا لجذب الانتباه من الموضوع الصغير. وأكثر الشروط الموضوعية كلها أهمية في جذب الانتباه هو التغير الفُجائي، فتوقُّف الجلبة والضَّجيج فجأة، أو بدايتهما فجأة، من المحتمَل جدًّا أن تجذب الانتباه، وتلك هي الحالات التي يُقال فيها إنَّ الانتباه لا إرادي.

لكن ما السبب الذي يجعل الضوء اللامع أو الصوت المدوي يجذب الانتباه أكثر من الضوء الخافت أو الصوت الضعيف؟ لماذا كان الموضوع الجديد الذي يظهر فجأة في مجال الانتباه يسترعي الانتباه بشكل قوي؟ السبب دائمًا هو نفع الفرد ومصلحته. أو بعبارة أوضح: المحافظة على وجود الفرد وبقائه هي التي تُحدِّد ما يَنتبه إليه وما لا يَنتبه إليه. ومن هنا فإنَّ الضوء اللامع أو الصوت المدوي، أو الظهور المفاجئ لموضوع ما، قد تكون كلها مصادر خطر تُهدِّد هذا الوجود. ولهذا فإنَّنا — بطبيعة تكويننا العضوي نفسه — ننتبه بسرعة إلى مثل هذه الأشياء، لنتجنبها أو لنحترس منها. وسواء أكانت الظروف في ظاهرها ذاتية أم موضوعية، فإنَّ النفع الحقيقي للفرد هو الذي يُحدِّد باستمرار اتجاه الانتباه. ولو افترضنا أنَّ طبيعة تكويننا العضوي كانت على نحو آخر، فربما جذب انتباهنا الضوء الشاحب لا اللامع، والصوت الخافت لا المدوي.

وما أشرنا إليه على أنَّه «نفع الفرد ومصلحته» ليس شيئًا آخر سوی «لذة الحياة»، التي هي نفسها جزء وجانب من الحياة … ولذة الكائن الحي هي أن يستمر في الحياة، وأن يُجدِّد نفسه باستمرار كحياة جديدة … ولا يخلو منها لون من ألوان الحياة، فلذة الحياة هي العامل المشترك بين الكائنات جميعًا: الأنواع الفِطرية، الأنواع التي لا تَتحوَّل إلى نوع آخر، من أضأل الحيوانات إلى الإنسان. وإنَّك لتجد هذا الطابع المُشترك في عدة ملايين مختلفة من الأنواع، بحيث لن تفشل ولن تخطئ — ولو مرة واحدة — في ملاحظتها، فعقول الأفراد المتنوعة تنوعًا لا حد له، والزواحف، والأسماك، والنحلة، والنملة، والأخطبوط — هي أنواع من الحياة، قد يبدو بعضها غريبًا من حيث الذهن أو شكل الجسم — إلَّا أنَّها تشترك جميعًا — مهما اختلفت — في تلك السمة الدائمة وهي: الاندفاع نحو الحياة، والاستزادة منها، وهي سمة يُمكِن أن نُسمِّيها لذة، وهي لذة موجودة، ويُمكن لمن يَتساءل عنها أن يتعقَّبها طوال الأشكال التي مرَّت بها الحياة، عائدًا القهقرى من حياة الإنسان نفسها، ليجد أنَّ اللذة أصبحت دافعًا أعمى، ثم ليجد أنَّ الدافع قد تنحَّى ليصبح باعثًا لا عقليًّا، وقد يكون هو الذهن أيضًا.»٤٧
وهذا الميل الداخلي عند الإنسان، كما هي الحال في كل موجود طبيعي آخر، سواء بسواء، يجعله يرد جميع التغيرات بتلك الطريقة التي تعود عليه بحفظ توازُنه ووحدته الخاصة، هذا الميل الداخلي عند الإنسان هو ما يُسمِّيه «اسبينوزا» بالنزوع الأساسي Conatus للكائن إلى حفظ ذاته، ونُزوع الإنسان هو ماهيته: فهذه الطريقة الخاصة من السلوك في أي موقف جزئي هي التعبير عن «نزوعه» تحت ظروف اللحظة الحاضرة. وباختصار: نزوع الإنسان هو إرادة الحياة عنده، وهو ببساطة ماهيته: «التي يخرج منها بالضرورة جميع تلك الأفعال التي تتَّجه إلى «المحافظة على ذاته» … وطالما أنَّ ماهية الإنسان ذهنية كما هي جسمية، سواء بسواء، فإنَّ الإنسان يشعر بهذا الجهد الذي يبذله، أعني أنَّ الإنسان لا يتَّجه إلى تدعيم وجوده الجسمي والذهني فحسب، لكنَّه يعرف هذا الميل ويشعر به.٤٨
(٣١) ولا بد أن يُفهم «نفع الفرد ومصلحته» بالمعنى الضيق والواسع على السواء، فهو يشمل المنافع الدائمة والعابِرة في آنٍ معًا، وانشغالات الفرد الوقتية تُوجِّه انتباهَه لصالح ما يتصادَف أن يَنشغِل به في لحظة حاضرة أو منذ لحظة قصيرة مضت. وكذلك فإنَّ موقفه العقلي في لحظة ما يُفيده في تنظيم انتباهه وتوجيهه. والنفع العابر — في أبسط صوره — يُمثِّله موقف الفرد حين يُلقي عليه شخص ما سؤالًا في الوقت الذي يكون فيه مُنتبهًا إلى شيء ما: «إذا سألت سائلًا — أو إذا سألت نفسك — عن الطابع المعماري لساعة البرج القائمة أمامك، فإنَّك سوف تنتبه إلى طابعها المعماري. لكن من المرجَّح جدًّا ألَّا تُلاحظ الوقت الذي تُشير إليه الساعة. أمَّا لو سألك عن الوقت فسوف تلاحظه، لكن من المرجح جدًّا ألَّا تلحظ الطابع المعماري للبرج، أو حتى الطريقة التي كتبت بها الأرقام على واجهة الساعة، اللهم إلَّا لو سألك هل هي أرقام عربية أم رومانية … إلخ.»٤٩
تلك هي المنافع العابرة أو المؤقَّتة، لكن هناك أيضًا المنافع الدائمة، التي تصلح للمحافظة على وجود الذات بما هي كذلك. وبين هذه وتلك سوف تجد باستمرار أثرًا دائمًا لتجربة الفرد المباشرة، أعني أثرًا — كَبُر أو صَغُر — لمزاجه ونظرته المستمدَّة من تربيته السابقة: «فالناس يُوجِّهون انتباههم إلى موضوعات تختلف باختلاف منافعهم، وباختلاف المجالات التي تنتمي إليها هذه الموضوعات. وإنَّك لتجد من الناس أفرادًا يجذب انتباههم في محتويات صحيفة من الصحف موضوعات تختلف باختلاف تجاربهم السابقة.»٥٠
(٣٢) معنى ذلك أنَّ الانتباه عملية انتقاء ورفض: انتقاء لما يبدو أنَّه يُلبِّي منافع الفرد، ورفض لما يَبدُو عكس ذلك. والفرد في هذا النشاط الانتقائي يأخذ ما يُساعدُه على حفظ بقائه، ويتجنَّب ما يضرُّ هذا البقاء، ثمَّ لا يكترث بما هو محايد. وتميل بيئة الفرد في هذا النشاط إلى الاطراد، ومن هنا فإنَّنا نقول إنَّ هناك اطرادًا في الطبيعة، والسبب أنَّنا نُصنِّف محتوياتها تبعًا لنفعها لنا. ومعنى ذلك أنَّ الاطراد في الطبيعة ليس إلَّا اطرادًا في خبرة الفرد؛ لأنَّ الطبيعة لا تحتوي — في الواقع — على شيئين متحدين تمامًا، وإنَّما تتألَّف من أفراد فريدة في نوعها Unique، خصوصًا فيما يتعلق بموضوع الحياة: «فالحياة فردية تمامًا كما هي الآن، وكما كانت باستمرار. فليس هناك شيء اسمه «الكلي» فيما يتعلَّق بموضوع الحياة؛ لأنَّ أيَّة محاولة لتعريف الحياة لا بد أن تنطلق مِن تصوُّر «الفرد» وإلَّا فلن تكون حياة.»٥١ معنى ذلك أنَّ الطبيعة لا تَحتوي على شيئين متَّحدين اتحادًا تامًّا في هوية واحدة. ونحن حين نُوحِّد بين شيئين في هوية واحدة، فإنَّنا نفعل ذلك لعجزنا عن التعرُّف على ما بينهما من اختلافات، خصوصًا إذا كان الأمر يتعلق بمنفعتنا. فالأبقار أمامنا دائمًا واحدة وهي هي؛ لا لأنَّها في الحقيقة يتحِّد بعضها مع بعض في هوية واحدة، ولكن لأنَّه يبدو أنَّها جميعًا تُلبي نفعنا بطريقة واحدة. وتبدأ فردية البقرة في الظهور حين يكون نفع الفرد مرهونًا بالعثور على السمات المميزة لتلك البقرة، كما هي الحال في الفنان الذي يُريد أن يرسم أو يبرز هذه الفردية. وحين نُعرِّف فئة ما بأنَّ أعضاءها تجمعهم هوية واحدة مُعتمدين على اطرادهم، فإنَّنا نغض الطرف بالفعل عن نقاط الاختلاف الموجودة بين هؤلاء الأعضاء؛ لأنَّها لا نفع فيها بالنسبة لأغراض التعريف، وإغفال نقاط الاختلاف الموجودة بين الموضوعات يبدو أنَّه واحد، وهو لهذا يُشكِّل فئة واحدة، هي التي أطلق عليها «ليبنتز» اسم «هوية اللامتميزات identity of indiscernibles». ويقول ليبنتز في كتابه «علم الموناد Monadology» لا بد أن يختلف كل موناد عن غيره من المونادات الأخرى؛ إذ لا يوجد في الطبيعة شيئان مُتشابهان أتم ما يكون التشابه، بحيث يكون من المستحيل أن نجد بينهما فرقًا داخليًّا، أو على الأقل فرقًا يعتمد على كيف داخلي أو صفة ذاتية … intrinsic.٥٢
ويُواصِل كل فرد في هذا العالم المتعدِّد الأشكال البحث عمَّا ينفعه ويجعله يتكرَّر في مجال الانتباه، ويُواصِل — في الوقت ذاته — النفور مِمَّا يضرُّه ويؤذيه ولا يجعله يتكرَّر إلا نادرًا، وهو من ناحية ثالثة يواصل الحياد مع الموضوعات التي لا تضرُّ ولا تنفع. وعن طريق الانتقاء بهذا الشكل تطرُد خبرة الفرد وتتشكَّل بحيث منفعته دائمًا هي المركز: «قد يُراقب جمع غفير من الناس أشعة القمر وهي تسقط على أمواج الشاطئ في ليلة مقمرة من ليالي الصيف، لكن كُلًّا منهم لن يرى إلَّا الطريق الفضي الذي ينساب تحت قدميه في خط مستقيم.»٥٣ وكل فرد في خبرته له بالمثل طريقه الخاص ومركزه ومداه المعلوم.
(٣٣) الانتباه بوصفه عملية انتقاء ورفض، يجعل من التنوُّع المُطلَق للعالم الموضوعي «كونًا universe».٥٤ وهو كذلك يُوحِّد بين الإحساسات المُتعدِّدة في إدراك واحد، فهو في عملية الإدراك يُحوِّل تنوع معطيات الحس وتعدُّدها إلى موضوع متحد. ونحن بفضل انتباهنا الإيجابي النشط نُدرك الموضوع ككل ولا ندركه بوصفه شيئًا يظهر من تركيب عناصره. والفاعل المُنتبِه لا ينتقي من التنوع غير المتعيِّن العناصر الجزئية التي يُمكِن أن تتشكَّل في وحدة unity، بل إنَّه على العكس قد لا يشعر بوجود بعض هذه العناصر على الرغم من أنَّ الوحدة التي يُدركها قد يكون من المُمكن بعد ذلك تحليلها إلى عناصرها التي تتألَّف منها. وأنا حين أُدرك الكل بوصفه كُلًّا فإنَّني أُضفي على العناصر كيفيات معينة لم تكن هذه العناصر على الرغم من أنَّ الوحدة التي يُدركها قد يكون من المُمكن بعد ذلك تحليلها إلى عناصرها التي تتألَّف منها. وأنا حين أُدرك الكل بوصفه كُلًّا فإنَّني أُضفي على العناصر كيفيات معينة لم تكن هذه العناصر لتملكها بطريقة أخرى. ومعنى ذلك أنَّ نتيجة نشاط الانتباه هي تكامل العناصر في وحدة واحدة. غير أنَّنا يجب ألَّا نُوحِّد بين النشاط التكاملي وبين الخيال البنائي، لأنَّنا في حالة الخيال البنائي نكون على وعي بالأجزاء التي نبني منها هذا الكل، بينما في حالة الانتباه تتكامل العناصر التي تُشكِّل موضوع الانتباه دون أن نشعر بهذه العناصر ولا بعملية التكامل. وبدون نشاط التكامل المُتضمَّن في عملية الانتباه، فإنَّ هذه المنضدة الموجودة أمامي لا بد أن تُكوِّن عددًا هائلًا من المُعطيات الحسِّية التي لا يُمكن التمييز بينها وبين الكثرة غير المتعيِّنة التي تُحيط بي. إنَّ الشرط السابق لإدراك المنضدة ككل بوصفها شيئًا متميزًا عن الموضوعات الأخرى لا يَكمُن في المنضدة ذاتها، بل في طريقة إدراكي لها، أعني أنَّه يكمن في طبيعة الانتباه. أمَّا الأسباب التي تجعل المنضدة تظهر كشكل وسط خلفية، بحيث تتميز عن الأشياء الأخرى الموجودة في مجال الرؤية، فهي عبارة عن مجموعة من القواعد شرحها بالتفصيل أصحاب «نظرية الجشطالت».
ويُذكِّرنا ذلك بما يقوله كانط Kant عن «الوحدة الترنسندنتالية للإدراك الذاتي». فهذا العنصر الموحِّد لا غنى عنه؛ إذ بفضله تتجمَّع جميع مُعطيات الحس في كلٍّ مُتكامل، وهذه الوحدة للإدراك الذاتي عند كانط ذات فاعلية نشطة في عملية الربط بين المُعطيات الحسية في صلتها بذاتها. ومن ثمَّ فإنَّ وحدة الكثرة لا بد أن يضفيها هذا العنصر الموحَّد على الكثرة بنشاطه الخاص.

وكلَّما استطاع الفرد، بانتباهه النشط، أن يدرك المظاهر المنوَّعة لموضوع من الموضوعات في شيء واحد بعينه، أمكن أن يُقال عن هذا الفرد إنَّه على وعي بوحدته الخاصة. والعكس صحيح أيضًا، أعني أنَّه كلَّما كان الفرد وحدة تظهر في انتباهه النشط، كان الفرد قادرًا على إدراك موضوع ما بوصفه شيئًا واحدًا. ومعنى ذلك أنَّه إذا قيل إنَّ هناك شيئًا من الأشياء، فالسبب أنَّ هناك شيئًا ينْتبِه إليه، وهو ينتبه إليه كشيء واحد رغم تعدده.

معنى ذلك أنَّ وحدة الذات لا يُمكِن تصوُّرها بدون وحدة الموضوع، فوحدة الذات ووحدة الموضوع يتضمَّن كلٌّ منهما الآخر، ولا يُمكن أن يوجد أحدهما بدون الآخر. وهاتان الوحدتان معًا هما تعبير عن النشاط المتضمن في عملية الانتباه. وطالما أنَّ عملية الانتباه لا يُمكن أن توجَّه إلَّا إلى موضوع رئيسي واحد في لحظة ما، فإنَّه لهذا السبب يُقال إنَّ الفرد لا يستطيع أن يقوم إلَّا بعمل رئيسي واحد في لحظة بعينها.

ويجمل بنا هنا أن نسوق للقارئ تعريفًا دقيقًا — كَبُر أو صَغُر — لما نعنيه بكلمة «الفرد». يُقصد بلفظ «الفرد» الكل العضوي «الذي تتَّصف أجزاؤه بصفات خاصة من حيث علاقتها بالكل. ومثل هذا الكل ليس مجرَّد تجميع لأجزاء مستقلة، بل هو مركب من أجزاء تتحدَّد من حيث علاقاتها بهذا الكل. والكل الذي تتَّحد أجزاؤه بهذه الطريقة لا يكون سوى شيء رئيسي واحد في لحظة معينة. لكن ما المقصود بالشيء الرئيس الواحد؟ هذا ما عبَّر عنه السير تشارلز شرنجتون Sir Charles Sherrington بقوله:٥٥ «إنَّه فعل حركي من هذا النوع الذي لا يكون لأيِّ حادث آخر يقع معه إلَّا اقتران ضئيل للغاية في الذهن، في حين أنَّه هو نفسه يكون له اقتران تام وكامل، إنَّه ليستطيع أن يفرغ ما بالذهن تماما في «ذاته» …» وإذا ما ترجمنا هذه العبارة إلى اللغة التي نستخدمها، أمكن لنا أن نقول: إنَّ الشيء الرئيسي الواحد الذي يكون عليه الفرد بما هو كذلك في لحظة ما، هو فعل الانتباه الموجَّه أساسًا إلى موضوع واحد بعينِه.
وهذا الموضوع قد «يمتص» أو يستغرق انتباهنا كله، بحيث نجد أنَّ الموضوعات الأخرى التي تقع في مجال الانتباه تنزاح إلى خلفية هذا المجال. ويستمر «سير تشارلز شرنجتون» فيقول:٥٦ «هناك مَراتب من الفعل. فنحن نعتقد في أنفسنا، وفي غيرنا من الناس، أنَّنا مشغولون في هذه اللحظة أو تلك بهذا العمل أو ذاك. وهذا حق. فكلٌّ منَّا في أيَّة لحظة، من لحظات اليقظة عبارة عن حزمة كاملة من الأفعال المتآنية، ووسط هذه الحزمة هناك فعل رئيسي واحد، أو فعل مركزي بعينه، تتركَّز عليه نظرتنا الخاصة بوصفه الفعل الذي نقوم به أساسًا في هذه اللحظة الراهنة. وأيًّا ما كان هذا الفعل الرئيسي فإنَّ هناك أفعالًا أُخرى تشترك معه وتتحد به وتساهم فيه، بعضها بنصيب كبير وبعضها الآخر بنصيب أقل. وهناك أفعال أخرى بعضها لا يكون له علاقة على الإطلاق بهذا الفعل الرئيسي، وبعضها الآخر تكون علاقته ضئيلة للغاية، لكن لا توجد حالة من الحالات تكون فيها هذه الأفعال الجانبية مزعجة للفعل الرئيسي المركزي. وعلى ذلك فكلٌّ منَّا في أيَّة لحظة عبارة عن نموذج للفعل الإيجابي النشط، نموذج بسيط من شرائح كلها ثانوية بالنسبة للفعل الأساسي. ولا يسمح لأي جزء من أجزاء هذا النموذج بإزعاج الفعل المركزي الأساسي. إنَّه لو حدث ذلك لتغيَّر النموذج كله، ولأصبحت الشريحة المزعجة هي الفعل المركزي في نموذج جديد يزيح النموذج السابق ويحلُّ محله. وتصبح هذه الشريحة الرئيسية تاجًا للفعل الموحَّد في اللحظة الراهنة».
ومن ثم فإنَّ القول بأنَّ الجوانب المختلفة من الفرد تتقارَب وتتَّحد في نشاطها هو — فيما يبدو — العلامة المميزة لما نُسميه بالفردية. وبعبارة أخرى، فإنَّ اتصال الزمان في نشاط أجزاء نسق ما، يجعل من هذا النسق كُلًّا متكاملًا. ومعنى ذلك أنَّ الإنسان في حالة الفعل يكون فردًا،٥٧ أي كُلًّا تلتحم أجزاؤه تمامًا. فإذا كانت الأجزاء المتعدِّدة التي يتكوَّن منها تركيبه العضوي قادرة على القيام بأفعال منفصلة، فإنَّ هذه الأجزاء كلها تتَّحد وتتآزر — حين يعمل ككل عضوي — لتقوم بعمل واحد؛ لأنَّ الفرد لكي يتَّحد فإنَّه لا يحتاج إلى مركز مكاني موحد، وإنَّما اتحاده يكفله تمامًا تعاون الأجزاء واتجاهها نحو فعل واحد: «فالاتصال الزماني في النشاط يُعفي من الحاجة إلى التركيز في المكان».٥٨
والقول بأنَّ وحدة الذات ووحدة الموضوع يتضمَّن كلٌّ منهما الآخر يتضح تمامًا حين نقول إنَّ خبرة الشخص المُنتبِه في أيَّة لحظة من اللحظات هي نفسها عبارة عن وحدة، فأيًّا ما كانت عناصر هذه الخبرة فإنَّها تتَّحد وتلتحم في نمط واحد، أو أنموذج واحد، له مغزاه: «إنَّ الجانب الوحدوي للخبرة في لحظة ما هو نفسه جانب من وحدة «الأنا». وهناك أشكال سيكولوجية تُسمَّى بالأشكال المزدوجة المنظور؛ لأنَّها تبدو في لحظة شكلًا معينًا وفي لحظة أخرى شكلًا آخر … ولكنَّها باستمرار هذا الشكل أو ذاك. أليس من التبسيط المفرط أن نُشبِّه ذلك بتفسير الذهن «للآن» على أنَّها باستمرار موقف له معنى واحد؟ إنَّ الخبرة المتكاملة هي التي تُعتبر موقفًا واحدًا في لحظة معينة تمامًا، كما أنَّ الفرد المتكامل حتى بالنسبة لأولئك الذين ينظرون إلى الفرد على أنَّه آلة — آلة تستطيع القيام بأعمال كثيرة، ومع ذلك فهذه الآلة لا تستطيع أن تقوم، في اللحظة الواحدة، إلَّا بعمل رئيسي واحد.»٥٩
(٣٤) إنَّ ما يُمكن أن نسميه بلحظة الانتباه، هو على وجه الدقة ما يتألَّف منه حاضرنا — غير أنَّ لحظة الانتباه ليست لحظة من لحظات الزمان الرياضي،٦٠ فهي تستغرق وقتًا من الزمن كما أنَّ لها مدة معينة. وينبغي أن نفعل ذلك بمعنى «سابق» «ولاحق» كما تُطبَّق على لحظات العالم الفزيائي. أعني أنَّ لحظة الانتباه تستغرق وقتًا من جانب المُنتبِه، وهي لها مدة، أي فترة من التتابع الموضوعي من جانب العالم الطبيعي «الفيزيائي». فكيف يُمكِن إذن أن نُسمِّيَها حاضرًا ونحن نعرف أنَّه يُمكن تحليلها إلى ما قبل وما بعد؟ يبدو أنَّنا نقع في مفارقة حين نقول إنَّ لحظة الانتباه هي برهة تتضمَّن «قبل» و«بعد»، لكن ليس لها ماضٍ ولا مستقبل، وإنَّما ينظر إليها ككل، هو الذي يُشكِّل ما نُسمِّيه بالحاضر الرواغ Specious Present، غير أنَّ هذه المفارقة الظاهرية يُمكن حلها إذا ما فحصنا الطريقة التي نُدرك بها الحركة.
بفضل التجارب المشهورة التي أجراها «فرتهيمر»،٦١ أحد مؤسسي مدرسة الجشطالت — على إدراك الحركة، أصبحنا نعرف أنَّ الحركة يُدركها الإحساس نفسه المتأني مع الجسم المتحرك، وأنَّ الحركة ليست منتجة تركيبية لعدد غير معين من النقاط المتتابعة، التي ندرك كل منها إدراكًا سكونيًّا، بل إنَّ سلسلة الحركة كلها تُدْرَك مرةً واحدة داخل لحظة الانتباه، وهي كلها تُدْرَك على أنَّها حاضر، ومن المُسلَّم به أنَّ أيَّة عملية لا بد أن يكون لها بداية ونهاية، ولا بد بالتالي أن يكون فيها شيء يسبق شيئًا آخر. ومع ذلك فليس في سلسلة الحركة هذه نقطة يمكن أن يُنْظَر إليها على أنَّها ماضية إذا ما قورنت بغيرها من النقاط، والسبب ببساطة أنَّنا لا نجد نقطة أدركناها قبل غيرها، لأنَّ إدراك السلسلة يتمُّ ككل، فإدراك الحركة هو إدراك متآنٍ. والنتيجة التي وصل إليها «فرتهيمر» تدل على أنَّ المخ في حالة الإدراك لا يتَّخذ وضعًا مُعينًا ثم وضعًا آخر بعد ذلك، بحيث يكون كل منهما مستقلًّا عن الآخر، ثم يقوم بالتأليف بينهما لإدراك الحركة. وبعبارة أخرى، فإنَّ الحركة ليست تأليفًا من إحساسات متعدِّدة، كلَّا، ولا هي نتيجة استدلال عقلي، وإنَّما تدرك الحركة إدراكًا مباشرًا، فهي مُعطى حسي وليسَت تركيبة ذهنية. وعمليات المخ في حالة إدراك الحركة، هي عملية ديناميكية، أعني عمليات تتفاعل بعضها مع بعض وتتحرَّك، وربما ساعد ذلك في حل مشكلة زينون الإيلي القديمة؛ فالخطوة التي يخطوها «أخيل Achilles»٦٢ ليست مُركَّبة من نقاط منفصلة، لكنَّها عملية واحدة، أو خطوة واحدة، أو واقعة واحدة، ونحن نُدرِكها على أنَّها كلٌّ واحدة يقبل القِسمة لكنَّه لا ينقسم بالفعل.
وينبغي أن نُفرِّق بين لحظة الانتباه وبين لحظة الزمان الرياضي، على نحو ما يُطبَّق على الحوادث الطبيعية؛ فالأولى لها ديمومة، بينما الثانية ليس لها هذه الديمومة. ومعنى ذلك أنَّه لو كان من المُمكِن توضيح لحظة الانتباه بخط له بعد واحد، فإنَّنا يُمكن أن نتخيَّل اللحظة الفيزيائية كنقطة ليس لها بُعد على الإطلاق، و«الآن» الموجودة في الخبرة ليسَت نقطة بين سلسلة ماضية من النقاط وسلسلة مقبلة كما هي الحال في النقطة الرياضية. إذ الواقع أنَّ مثل هذه النقطة الرياضية سلب للزمان. إنَّ لحظة الخبرة التي يتألَّف منها حاضرنا هي برهة تحوي في جوفها لحظات العالم الفيزيائي الماضية والمقبلة في آنٍ معًا. ومجال الانتباه هو دائمًا موضوع واحد، بمعنى أنَّ تنوع الديمومة بداخله — وهو التنوع الذي يُمكن أن نعرفه من الناحية العقلية بتحليل لاحق — يُشكِّل مركبًا واحدًا لا يقبل القسمة.» الحاضر «رواغ» وهو بهذا الشكل جزء حقيقي من الديمومة، وليس مجرد قطاع عرضي ينقسم إلى ماض ومستقبل كما تتطلَّب مقتضيات التحليل. وتأثُّر الفرد بالزمان لا يتخذ شكل الفجائية، لكنَّه يتخذ شكل الديمومة. والواقع أنَّه طالما أنَّ كل جزء من أجزاء الديمومة لا بدَّ أن يكون — كما يقول اسبينوزا — هو نفسه ديمومة، فإنَّ الحاضر الذي نخبره من الزمان لا بد أن يكون «رواغًا»؛ لأنَّه ما لم يكن كذلك؛ فإنَّ الزمان الخالص لا يُمكن أن يحوي حاضرًا، ولا بدَّ أن يختفي كل إدراك. ولن يبقى ماضٍ نتذكَّره، ولا مُستقبل نتوقَّعه؛ إذ لا بد أن يختفي مع الحاضر كل إمكان للذاكرة أو التوقُّع.»٦٣
إنَّ انتباهنا الإيجابي النشط إلى الواقع هو الذي يُكوِّن كُلًّا من عناصر سابقة ولاحقة، أو «ما قبل وما بعد» — يتضمَّنها حاضر الديمومة. ولأنَّ عملية الانتباه هي نفسها عبارة عن فعل، وليست مجرَّد حالة سلبية مُتقبلة Passive من حالات الوعي فإنَّ الحاضر الرواغ في خبرتنا لا يبقى ساكنًا، لكنَّه يتحرَّك باستمرار حركة أمامية نحو المستقبل: «إنَّنا نتعرَّف على العناصر الماضية في الحاضر الرواغ بوصفها ماضيًّا، لانزلاقها المستمر نحو الماضي الذي لا نُدركه، لكنَّا نتذكَّره فحسب. أمَّا عناصر هذا الحاضر المقبلة بوصفه مستقبلًا، فنحن نتعرَّف عليها حين تُلقي ظلالها على المستقبل، أعني على ذلك الذي يُمكن أن نتوقَّعه أو نتخيَّله، لكنَّا لا نستطيع أن ندركه.»٦٤

وإنَّه لمن الأهمية بمكان أن نُلاحِظ الاستخدام المألوف لكلمة «حاضر» حين نُطبِّقها على فترات طويلة من الزمان، فنحن نستطيع أن نتحدَّث حديثًا مفهومًا تمامًا عن الحرب الحاضرة، وعن حركة الإصلاح الاجتماعي الحاضر، بل إنَّنا نستطيع أن نقول ذلك على فترات تستغرق سنوات طويلة. ومثل هذا الاستخدام لكلمة «الحاضر» استخدام مشروع، طالما أنَّه يُشير إلى عملية واحدة من عمليات النشاط. وهذا هو المبدأ نفسه الذي نُطبِّقه على لحظة الانتباه، حين يُنْظَر إليها على أنَّها لحظة حاضرة رغم مدتها الزمنية.

وواضح أنَّه من الطبيعي جدًّا أن نوسِّع لحظة الانتباه، أو أن نضيِّقها عن طريق الخيال، ففي استطاعتنا أن نتصوَّر فترة طويلة من الزمان على أنَّها حاضر رواغ واحد، بالقياس إلى انتباه آخر قد يكون أكثر شمولًا من انتباهنا. وفي استطاعتنا من ناحية أخرى أن نتخيَّل أنَّ مجال الانتباه أخذ يتضاءل حتى أصبح يتضمَّن نقطة لا متناهية في الصغر. ونستطيع في الحالة الأولى أن نُواصِل الصعود في السلَّم حتى نصل إلى اللاتناهي ونبلغ فكرة الأبدية التي يُمكن إدراكها بلمحة واحدة وبقوة قد لا تقلُّ عن قوة الله. بينما نستطيع في الحالة الثانية أن نواصل الهبوط حتى نصل إلى ما يُسمَّى بالنقطة الرياضية، وهي النقطة التي لا بُعد لها. لكن ينبغي علينا ألَّا نَنسى أنَّ الفكرة التي نصل إليها في أي من الحالتين ليسَت إلَّا خيالًا يقوم على أساس واقعة معيَّنة، هي المُدة التي تستغرقها لحظة الانتباه.

(٣٥) والتَّفرقة بين عناصر معينة يتكوَّن منها المجال الذي يُشكِّل موضوع الانتباه في لحظة معينة، تصل بنا إلى نقطة هامة، هي: التفرقة بين الانتباه المتصل وأفعال الانتباه، فهناك عملية انتباه مستمر إلى «الحاضر المتصل» بوصفه كُلًّا يُشكِّل أرضية معينة. ونستطيع أن نُميِّز داخل هذه الأرضية بين أجزاء معينة، وكل لحظة من لحظات هذه التفرقة تُشكِّل فعلًا من أفعال الانتباه، لكن الموضوع الحاضر أمام الانتباه لا يُمكن أن ينحلَّ — بواسطة هذه الأفعال — إلى كثرة مُنفصِلة. كلَّا، ولا يُمكن أن ينحلَّ الانتباه المتصل إلى أفعال منفصلة، فالكل الموضوعي لا يزال كُلًّا متصلًا يتحرَّك إلى الأمام، ولا يزال فعل الانتباه متصلًا، وهو يظل كذلك رغم توزيعه المختلف وسط أجزاء المجال التي يُمكِن أن تتميَّز.

(٣٦) سبق أن قُلنا إنَّ الجانبين اللازمين للنفس هما الانتباه وموضوعه. كما قلنا إنَّه لا يُمكن أن يكون هناك انتباه بغير موضوع ينصبُّ عليه هذا الانتباه، كما أنَّه لا يُمكِن أن يكون هناك موضوع ينصبُّ عليه الانتباه بغير ذات تنتبه. وقد يظهر هنا سؤالان: الأول هو: من الذي ينتبه؟ والثاني: هل يمكن أن نضع خطًّا فاصلًا بين الانتباه وموضوعه؟

أمَّا الإجابة عن السؤال الأول فهي: أنَّ الذي يَنتبِه هو الفاعل السيكوفيزيقي Psycho-physical agent٦٥ … ككل متكامل، فهناك أولًا حواسه التي تُعتبر أمثلة نوعية للانتباه، فهو حين يرى: ينتبه أو يقوم بوظيفة نوعية هي الرؤية. وهو حين يسمع ينتبه أو يقوم بوظيفة نوعية هي السمع … وهكذا، لكن الحواس ليسَت هي كل شيء، فهناك أيضًا الانتباه إلى الأفكار. والواقع أنَّ الانتباه كله إنَّما يكون لمضمون فكري، طالما أنَّنا لا ننتبه إلى الإدراكات إلَّا كمضمون فكري فحسب، ومن هنا فإنَّنا قد نقبل نظرية هيوم في «الانطباعات والأفكار» بشرط أن نُضيف إليها حقيقة هامة، هي أنَّ هذه الانطباعات، وهذه الأفكار، تكون موضوعًا للانتباه.

الفرد في تكامُلِه هو الذي يَنتبه، ومن هنا كان الانتباه هو الخاصية الجوهرية للكائن الحي. والنفس هي الكائن الحي بقدر ما ينتبه. وليس هناك فرق في ذلك بين الصور الدنيا من الكائنات الحية والصور العُليا منها، بين النبات والموجودات البشرية، اللهمَّ إلَّا في درجة تعقد موضوع الانتباه. ولقد وجد أرسطو في دراسته لطبيعة النفس أنَّ الأنواع المُختلِفة من الأنفس ليست مُتشابهة أتم التشابه، بحيث يُمكن أن يكون لها كلها تعريف واحد من مظهرها المتواضِع في النبات، إلى القمة التي تصل إليها في الإنسان. كما أنَّ هذه الأنواع من الأنفس ليست مختلفة اختلافًا تامًّا، بحيث لا نستطيع أن نجد لها طبيعة مشتركة بين كل تنوعاتها. وأشكال النفس تُمثِّل سلسلة لا تناسب فيها، بحيث نجد أنَّ كل شكل منها يَفترض الأشكال السابقة دون أن تتضمَّنه هذه الأشكال. والنفس الدنيا هي النفس الغاذية، وهي لهذا تُوجَد في جميع الكائنات الحية، ثم تأتي بعد ذلك النفس الحاسَّة، التي توجد في الحيوانات وحدها ولا توجد في النبات، ثم نجد أخيرًا قوة خاصة بالإنسان هي النفس العاقلة.

ولو تأمَّلنا قليلًا هذا التصنيف الأرسطي للنفس — من وجهة النظر التي نأخُذ بها — لوجدنا أنَّ العامل المُشترك والأساس في جميع هذه الأشكال هو الانتباه، مع اختلاف موضوعه، واختلاف درجة تعقيده. فالوظيفة الغاذية الموجودة في النبات والحيوان على السواء، والتي لا بد أن تعمل على حفظ وجود الكائن الحي، تفترض سلفًا انتقاء العناصر المناسبة للتغذية، والانتقاء مستحيل بدون الانتباه، لأنَّنا لا نعني بالانتقاء مجرد تقبُّل الكائن الحي لمجموعة من العناصر وسط عناصر أخرى، كما هي الحال مثلًا في «الغربال»، الذي يَستبقي الجوامد من حجم معين ويترك الباقي، أو قطعة الكربون التي تقوم بدور المرشح، لكنَّنا نقصد ذلك الانتقاء النشط الفعال، الذي يأخُذ العناصر التي يحتاج إليها ويستبعد العناصر الأخرى. والانتقاء المُتضمِّن في الكائنات نشاط النفس الغاذية واضح. أمَّا النفس الحاسة فليس لها وظيفة الإدراك فحسب، لكن لها أيضًا وظيفة الشعور باللذة والألم، وهي تنشأ كنتيجة للوظيفة السابقة، لكي تستطيع التمييز بين الأشياء المختلفة، فتأخذ منها ما هو سار، وتترك ما هو مؤلم، أعني أن تقوم بالانتقاء والاختيار إيجابًا وسلبًا. والوظيفة الخاصة بالنفس العاقلة عند الإنسان هي تشكيل التصورات المجرَّدة: الحكم والاستدلال. حلِّل كل عملية من هاتين العمليتَين، وسوف تجد أنَّها تَعتمِد على الانتباه إلى جوانب معينة في أفكار معينة دون غيرها، ففي حالة تكوين فكرة مجردة ينتبه المرء إلى خاصية أو أكثر من خصائص الواقعة الفردية العينية، كاستدارة القرش مثلًا، أو الجانب العقلي في الإنسان. وحين يُصدِر المرء حكمًا فهو بهذا الحكم يُحيَّل مضمونًا فكريًّا إلى واقع مُتجاوِز لهذا الفعل، سواء إذا كان الحكم سلبًا أو إيجابًا. وتلك صورة من صور التجريد: تجريد لخصائص فِكرية، وتجريد لجانب من الواقع، وبينهما تتم المقارنة وتُحدَّد العلاقة بأنَّها موجبة أو سالبة. والاستدلال یعني اكتشاف علاقات جديدة بين الأشياء، وهذا الاكتشاف من ناحية أخرى يتضمَّن الانتباه إلى جوانب معينة في هذه الأشياء ويستبعد جوانب.

ومن ثمَّ فإنَّ النفس في جميع صورها تعتمد على وظيفة الجسم الحي، وأكثر وظائف الجسم الحي، ماهوية هو أن ينتبه، ومن هنا ترانا نُنْكِر وجود الحياة في الجسم الذي لا يكون إلَّا موضوعًا للانتباه دون أن يَنتبه هو نفسه لاختيار شيء ورفض شيء آخر. لكن قد يُقال إنَّه من المستحيل أن يكون الذهن صفة تلحق بالجسم لأنَّ: «… الجسم، وكل جزء منه، يُمكن للذهن أن يدركه تمامًا، كما يدرك أي موضوع محايد.»٦٦ وهذا الكاتب نفسه الذي أثار هذا الاعتراض يطلب الالتجاء إلى الوقائع المباشِرة لإقامة الدليل، ومثل هذا الالتجاء إلى الوقائع المباشِرة هو كل ما نطلب: فمن ذا الذي يستطيع أن يُدْرك جسمه ككل؟ إنَّ مصدر الخطأ — فيما يبدو — هو الظن بأنَّه طالما أنَّ من الممكن لشخص آخر، كعالم الفسيولوجيا — مثلًا — أن يدرك جهازي العصبي كما يُدرِك أي جزء آخر من أجزاء جسمي سواء بسواء. فإنَّه من المُمكِن بالنسبة لي أيضًا أن أدرك هذه الأجزاء. أو ربما كان مصدر الخطأ الظن بأنَّه طالما أنَّني أستطيع أن أُدرك بعض أجزاء جسمي إدراكًا مباشرًا أحيانًا، وفي المرآة أحيانًا أخرى، فلماذا لا أعتقد في نفسي القدرة على إدراك التكوين العضوي ككل؟ غير أنَّ إدراكك لبعض الأجزاء من جسمك شيء، وإدراكك للتكوين العضوي ككل شيء آخر مختلف عنه أتم الاختلاف، ناهيك بإدراك التكوين العضوي وهو يقوم بوظيفة ما.
(٣٧) أمَّا الإجابة عن السؤال الثاني، الخاص بالخط الفاصل بين الانتباه وموضوعه، فلا بد أن نقول أولًا إنَّ مثل هذا السؤال تناسى أنَّ الانتباه فعل، وبالتالي فهو لا يُمكن تصوُّره كشيء قائم بذاته، مستقل عن الموضوع الذي ينصبُّ عليه هذا الفعل، فكُلٌّ منهما يُعبِّر عن نفسه من خلال الآخر: وإلَّا فأين يُمكن يا ترى أن نجد الخط الفاصل بين التقطيع Cutting والقطع Cut، وبين فعل الرؤية Secing والرؤية وقد انتهت Seen، وبين الاستماع hearing والسمع heared وبين فعل الكتابة Writing والكتابة Written؟ «لا يمكن أن يكون هناك خط فاصل بينهما؛ لأنَّ الفعل هو العمل في حالة الأداء doing، ونتيجة الفعل هي العمل وقد انتهى.» ومن هنا يظهر الانتباه في الموضوع الذي ننتبه إليه، كما يظهر أي فعل آخر في موضوعه. ونتيجة فعل الانتباه ومحصلته هي تكامل العناصر التي يتألَّف منها موضوع الانتباه، فإدراك المنضدة الموجودة أمامي، هو محصلة لفعل الانتباه والعناصر بما هي كذلك ليسَت من خلقي وإنَّما هي محسوسات Sensa٦٧ بالقوة، تتحوَّل إلى شيء بالفعل حين أجعلها موضوعًا للانتباه، وهكذا نُضفي عليها صفة الكلية Wholeness، وهي صفة لم تكن لها من قبل، لأنَّها — في ذاتها — لا تملكُها. ومن خلال نشاط الانتباه الذي أقوم به أُميِّز بين حدود «المحسوسات Sensa» واتصالها بالقوة، وفي هذا الاتصال الموضوعي لا يوجد ثمة خط فاصل بين «الأشياء»، لكن انتباهي الانتقائي هو الذي يفرض مثل هذه الخطوط الفاصِلة؛ وبالتالي هو الذي يُشكِّل «الأشياء»، فمجموعات «المحسوسات Sensa» التي تتكامَل في موضوع معين هي محصلة لفعل الانتباه، فالفعل هو الذي يُحدث التغير، والمحصلة هي التغير الذي حدث، وكلَّما كانت «الذات» هي الفاعل، كان هناك باستمرار فعل ما، وهذا الفعل يعتمد على نشاط الفاعل وإيجابيته، ولا يعتمد على مجرد الربط بين الحوادث الذهنية والحوادث الطبيعية: «إنَّ التحليل … الذي يرى أنَّ الفعل يتألَّف من حادثتين؛ إحداهما ذهنية والأخرى مادية، مع علاقة فعلية de facto بينهما، ليس مجرَّد تحليل ناقص، لكنَّه يعني إلغاء الفعل تمامًا، لأنَّه يعني إمكان التفكير في الاستقلال الجوهري لما عمل مُنفصِلًا عن الفعل الذي تمَّ به، وإمكان تصوُّر الفعل الذي انتهى على أنَّه فعل تام، بل على حادث وقع مصادفة.»٦٨
(٣٨) الجسم الحي بمقدار ما ينتبه إلى شيء ما، وبمقدار ما يختار ويرفض هو النفس أو الذات The Self. وتصوُّر الجسم المُنتبِه أو الجسم الذي له خاصية الانتقاء والرفض، يُعطينا — فيما يبدو — أملًا في حل مقنع لكثير من المشكلات. فالمشكلة القديمة عن العلاقة بين النفس والجسم لن تظهر بعد ذلك مع مثل هذا التصوُّر، ذلك لأنَّ الجسم الحي في حالة الفعل يُصبح وحدة حقيقية للجانب الفيزيائي والجانب السيكولوجي في آنٍ معًا، بحيث لا يكون لأحدهما معنى بدون الآخر، فبدون الجسم الحي يُصبح الانتباه مجرد كلمة جوفاء؛ لأنَّ هذا الجسم نفسه هو الذي ينتبه. والظن بأنَّ الانتباه موجود مستقل عن الجسم يشبه الظن بأنَّ «الفأسية axity» مستقلة عن الفأس axe، والجسم بدون الانتباه يُصبح من ناحية أخرى مجرد كتلة هامدة من المادة: احذف خاصية الانتباه من أي كائن حي، أو جرِّد هذا الكائن الحي من القدرة على الاختيار والانتقاء، ولن يبقى بعد ذلك أيِّ فرق حقيقي يجعله مختلفًا عن المادة الجامدة. فعلاقة النفس بالجسم — أعني الجسم الذي نَنسب له خاصية الانتباه والقدرة على الانتقاء — هي إذا ما استخدمنا تشبيه «برجسون Bergson» المشهور: علاقة حد السكين بالسكين، فعن طريق الحد تعمل السكين، دون أن يكون هذا أو ذاك كائنات يُمكِن الفصل بينها.
(٣٩) الانتقاء شرط ضروري للغرضية Purposiveness التي هي الخاصية الأساسية للجانب السيكولوجي، بوصفه جانبًا مُتميِّزًا عن الجانب الجسمي … بل إنَّ الغرضية تؤخذ أحيانًا كمقياس لوجود الذهن. ولا يُمكِن أن يكون هناك نشاط غرضي دون اختيار وانتقاء لما يُساعد الكائن الحي، ورفض لما يبدو أنَّه يضره ويؤذيه. ومن ثمَّ فإنَّ الانتقاء والرفض هما الخاصيتان الأساسيتان للانتباه. وقد تمَّ الانتقاء بطريقة مباشرة، كما هي الحال في النبات الذي يأخذ من التربة مباشرة العناصر التي تُساعد على النمو. وقد يتمُّ أيضًا بطريقة غير مباشِرة، حين يتَّجه إلى الوسائل التي تؤدي إلى غاية بعيدة، كما هي الحال في الغرائز الحيوانية. وقد يتضمَّن الروية والاختيار، كما هي الحال في الإرادة البشرية، لكن الصفة الأساسية واحدة، سواء في النبات أم الحيوان أم الإنسان، وهي أنَّ الكائن الحي يقوم بعملية الانتقاء.

(٤٠) وعلينا أن نُناقش الآن بشيء من التفصيل الخصائص التي يتميَّز بها الإنسان بوصفه موجودًا عاقلًا حتى نتأكد من أنَّ الانتباه هو العامل المشترك الضروري بينها جميعًا.

ولنبدأ بالصفات الأولية للعقل intellect وهذه الصفات — على نحو ما ذكر «بين Bain» ثلاث صفات رئيسية، هي:٦٩
  • (١)
    الفرز أو إدراك الفروق بين الأشياء Discrimination.
  • (٢)
    الاستيعاب أو التمثل Assimilation.
  • (٣)
    الحفظ أو الاستبقاء Retentiveness.

فبداية المعرفة هي فرز شيء عن شيء آخر، أو إدراك الفروق بين الأشياء. ونحن ما لم نتأثَّر تأثيرًا مُتميِّزًا بأشياء مُختلفة على نحو ما نتأثَّر مثلًا بالحرارة، واللون الأحمر، واللون الأزرق — فإنَّنا لن نتأثر على الإطلاق. وكلَّما كنَّا أكثر إدراكًا للفروق بين الأشياء، كنَّا أكثر تعقلًا، أو ارتفع إدراكنا من الناحية العقلية. لكن كيف يمكن لنا أن نُفرز الأشياء أو أن ندرك الفروق بينها؟ لا يُمكِن أن يتيسر لنا ذلك إلَّا بالانتباه إلى جانب واحد من جوانب الخبرة والعزوف عن بقية الجوانب في اللحظة التي أقوم فيها بعملية الفرز، ولو أنَّ ذهني تلقَّى إحساسين، لكنَّه لم ينتبه إلى أحدهما أولًا ثم إلى الآخر بعد ذلك، فإنَّ هذين الإحساسين لن يكونا اثنين بالنسبة له.

إنَّ الشعور بأنَّ هناك اتفاقًا بين الأشياء، أو بعبارة أخرى، الوعي بالهوية بين الاختلاف، هو أعظم الجوانب ماهوية في الأنشطة العقلية. وتلك «… خاصية نادرة للذِّهن، تعتمد على اختراق قناع التنوع والإمساك بعناصر التشابُه المشتركة (وتلك هي الخاصية) التي تُزودنا بالمعيار للعقل.»٧٠ ولقد قال أفلاطون عن قوة التوحيد هذه إنَّه لو صادف رجلًا يستطيع أن يكشف عن الواحد بين الكثير فإنَّه سوف يسير وراءه كما يسير وراء إله.٧١ ومن الواضح أنَّه يستحيل عليَّ أن أعرف أنَّ شيئين يتَّفقان معًا في جوانب معينة رغم اختلافهما، ما لم أكن قادرًا على الانتباه إلى جانب معيَّن من الشيء، وعزله عن بقية الجوانب. ومثل هذا الانتقاء للجانب الذي أنتبه إليه هو الخاصية الأساسية للانتباه، وهو الشرط الذي تَفترضه مقدمًا عملية التجريد، أعني تجريد هذا الجانب أو ذاك في الشيء الموجود أمامنا.

ويعتمد الحفظ على دوام الاستثارة الذهنية ومواصلتِها بعد اختفاء المثير الأصلي، غير أنَّه إذا كانت هناك استثارة للكائن الحي تَبقى كذاكرة، فلا بد أن تكون قد وُجدت من قبل، كالإدراك. ولا يُمكِن إدراك شيء، اللهم إلَّا إذا انتبهنا إليه، وعملية الانتباه تدل على تلك العملية، التي يُمكن للشيء بفضلها أن يُصبح موضوعًا للوعي، إذا ما قُورن بغيره من الأشياء الكثيرة، التي رغم وجودها في متناول الملاحظ فإنَّه لا يلاحظها على الإطلاق.

إنَّ العملية الأساسية — بصفة عامة — في جميع ضروب المعرفة هي الكشف عن العلاقات بين الأشياء من خلال الانتباه. وأكثر العلاقات عمومية بين الأشياء هي الاتفاق والاختلاف، وكل معرفة إنَّما تعني إدراك الفرق بين فكرة وفكرة، أو بين موضوع وموضوع آخر، غير أنَّ العلاقات لا توجد في الأشياء نفسها، وإنَّما تخلقها الطريقة التي أنتبه بها إلى هذه الأشياء، فبما أنَّني أنتبه إلى الكتاب الموجود أمامي الآن، فإنَّني أجده فوق المنضدة، وتحت السقف، وعلى يمين القلم، أو على يسار المحبرة.

(٤١) وسوف نُناقِش الآن العمليات النوعية الخاصة بالإنسان: كالتَّجريد وتكوين التصوُّرات، وإصدار الأحكام، والقيام بالاستدلالات — وسوف نرى أنَّها كلها تفترض سلفًا الانتباه كشرط أساسي لها. ولقد سبق أن أشرنا إلى هذه العمليات في الصفحات السابقة بإيجاز شديد، لكنَّها تستحق منَّا وقفة لنعرض لها بشيء من التفصيل.

إنَّ تعريف التجريد نفسه يظهرنا في الحال على أنَّه لا يُمكن تصوُّره بدون الانتباه؛ فالتجريد هو الانتباه إلى خصائص معينة في الشيء واستبعاد خصائص أخرى. «التجريد يعني وفقًا للاشتقاق اللغوي سحب «الانتباه» من شيء من الأشياء لكي نركزه على شيء آخر … وعلى الرغم من أنَّنا نتحدَّث عن التجريد عادة على أنَّه تحوُّل من المُختلفات إلى المتشابهات، فإنَّ هذه العملية نفسها تظهر في صور أخرى … فإذا افترضنا أنَّ هناك موضوعَين يتشابهان تشابهًا تامًّا (كما هي الحال في التشابه الشديد بين خروفين مثلًا) فإنَّنا نجد أنفسنا في حاجة إلى بذل جهد في عملية التجريد، حتى تَتغاضى عن جوانب التشابه، وتتنبَّه إلى جوانب الاختلاف.»٧٢ ومن ثمَّ كان التجريد نتيجة للانتباه إلى نقاط الاتفاق في الأشياء واستبعاد نقاط الاختلاف، أو العكس. أعني الانتباه إلى نقاط الاختلاف واستبعاد نقاط الاتفاق، وفي كلمة واحدة التجريد هو انتباه طارد.

والتجريد هو الخطوة الضرورية في تكوين التصوُّرات؛ فالتصوُّر هو الفكرة المجردة للطابع الذي يتفق فيه عدد من الموضوعات الجزئية، وهو ينشأ من الانتباه إلى بعض خصائص الموضوع، أو لعدد الموضوع، أو لعدد من الموضوعات المتشابهة، واستبعاد الخصائص الأخرى، ففي تكويننا لتصوُّر عام أو فكرة مجرَّدة عن المربع مثلًا ترانا ننتبه إلى موضوعات مربعة متعدِّدة، ثم نُسقط منها المواد التي تتركَّب منها هذه الموضوعات، وكذلك الأماكن التي تشغلها وحجمها … إلخ، وننتبه فقط إلى شكلها، وبذلك نُكوِّن فكرة عن الطابع الذي تتفق فيه هذه الموضوعات، أعني أنَّنا نكوِّن تصوُّرًا للمربع.

وحتى لو قيل (كما قال — مثلًا — باركلي وهيوم) إنَّه من المستحيل أن نُجرِّد شيئًا من شيء آخر، أو أن نتصوَّر الخصائص منفصلة؛ لأنَّها لا توجد منفصلة على الإطلاق، وأنَّ الكلي يعتمد على جزئي يكون مُمثِّلًا لغيره — فسوف يبقى صحيحًا مع ذلك كله. إنَّنا نستطيع، بفضل الانتباه وحده إلى نقاط التشابه بين أعضاء الفئة الواحدة، واستبعاد نقاط الاختلاف، أن نعرف الجزئي الواحد على أنَّه ممثل للفئة بأسرها.

ومن هنا فإنَّ عملية التجريد وتكوين التصوُّرات مشروطة مقدمًا بالانتباه وما يقوم به من انتقاء واختيار. وقل مثل ذلك في الحُكم، فالحُكم هو الفعل الذي يحتلُّ مضمونًا فكريًّا إلى واقع متجاوز لذلك الفعل، ونحن في مثل هذه الإحالة للمضمون الفكري إلى الواقع المقابل ترانا نُقارن بين تصوُّرين من حيث علاقتهما بموضوع مشترك. وطالما أنَّ الحكم يتألَّف من مجموعة من التصوُّرات، وطالما أنَّ التصوُّرات جاءت نتيجة انتقاء صفات معيَّنة واستبعاد صفات أخرى، فإنَّ الحكم — بالتالي — يفترض مقدمًا الانتباه الذي يَختار ويرفض.

ويُمكن أن يُقال نفس الشيء في عملية الاستدلال، فمهما يُقال عن الاستدلال من آراء فسوف يبقى في النهاية أنَّه إدراك لعلاقات جديدة: «الفعل الأساسي لقوة الاستدلال عندنا يَعتمِد على إظهار مثل جديد لظاهرة من الظواهر مهما تكن معرفتنا السابقة بشبيه هذه الظاهرة أو مماثلها أو نظيرها أو مساويها.»

فالتشابه أو الهوية تظهر في جميع الدرجات، وتُعرف بأسماء مختلفة، لكن القاعدة الكبرى للاستدلال تشمل جميع الدرجات، وتؤكِّد أنَّه طالما وُجِد تشابه أو هوية أو مشابهة «بين شيئين» فإنَّ ما يصدُق على أحدهما يصدق على الآخر.٧٣ وإدراك علاقات جديدة بين تصويرين تستلزم بالضرورة درجة من التجريد — تجريد للخصائص الجزئية التي نجد أنَّها تَرتبط معًا بهذه الطريقة أو تلك، والتجريد كما قلنا هو انتباه طارد.
(٤٢) إنَّ فهم الذات على أنَّها الفاعل السيكوفيزيقي بمقدار ما ينتبِه إلى موضوع ما، يُمكن أن يفسر وحدة هذه الذات واستمرارها على النحو التالي: إنَّ وحدة التنوع الحالي للذات يفسره أولًا قولنا إنَّ الفاعل في حالة الانتباه يعمل كفرد، أعني ككل وليس كمجموعة من الأجزاء. ويُفسِّر ثانيًا أنَّ الموضوع الذي يُنتبَه إليه يؤخذ ككل، أعني كعرض واحد، أيًّا ما كانت العناصر التي يُمكن أن نحلله إليها من الناحية العقلية. وبعبارة أخرى: الفرد المُنتبِه واحد، والموضوع الذي نَنتبِه إليه واحد باستمرار، رغم كثرته. والواقع أنَّ «واحدية Oneness» الموضوع إنَّما ترجع إلى وحدة الفرد المُنتبِه. الشعور بوحدة نشاط الانتباه ترجع «الواحدية» التي يضفيها هذا النشاط على عناصر الموضوع.
ويمكن أن نفسر استمرار الذات من ناحية أخرى بطبيعة ما نُسمِّيه باسم «لحظة الانتباه» أو لحظة الشعور. ولقد رأينا أنَّ لحظة الانتباه تتألَّف من «قبل» و«بعد»، دون أن ننظر إلى عنصر «القبل» على أنَّه تعبير عن الماضي، أو إلى عنصر «البعد» على أنَّه تعبير عن المستقبل. ذلك لأنَّ «قبل وبعد» هما في آنٍ معًا، جزآن من كلٍّ واحد، هو الحاضر الرواغ. وهذا الحاضر الرواغ يتحرَّك إلى الأمام، بحيث «تنخر» رأسه في المستقبل، ويتوارى ذيله في الماضي، ويبقى في الذاكرة. وفي هذه الحركة الأمامية المستمرة يُصبح ما كان «بعدًا» «قبلًا». خذ مثلًا لحظتين متتاليتَين من لحظات الانتباه.٧٤ ولنرمز لما هو «قبل» وما هو «بعد» بحرفَي أ ب، وب ﺟ على التوالي؛ إنَّ (أ) تُمثِّل عنصر «القَبل» في اللحظة الأولى، كما تُمثِّل (ب) عنصر «البعد». أمَّا في اللحظة الثانية ﻓ «ب» تُمثِّل عنصر القبل و«ﺟ» تُمثِّل عنصر البَعد. وطالما أنَّ «البعد» في اللحظة الأولى هو نفسه العنصر الذي يُمثِّل القَبْل في اللحظة الثانية، فسوف تكون «ب» متَّحدة، وهي هي في الحالتين. وبدلًا من أن تكون اللحظتان المتتاليتان منفصلتَين ومُتميزتَين، بحيث تُكتب على هذا النحو «أ ب» و«ب ﺟ» فسوف تنساب الواحدة منهما في الأخرى وتُشكِّل تيارًا متصلًا يُكتب على النحو التالي «أ ب ﺟ …» وفي مثل هذا التيار المتصل فإنَّني أظلُّ دائمًا في أيَّة لحظة جزئية نفس الشخص الذي كنته منذ لحظة مضت؛ لأنَّ أيَّة لحظة جزئية هي في الواقع حلقة اتصال بين الماضي والحاضر، وهي نفسها جزء من الماضي وجزء من الحاضر في آنٍ معًا.

وعلى ذلك فإنَّنا نحدس «الأنا» في لحظة واحدة من لحظات الانتباه، لكن عبارة «أنا هو أنا» تحتاج لحدسها إلى لحظتَين متتاليتَين من الانتباه، غير أنَّنا لا ينبغي أن نفهم التالي على أنَّه حالات منفصلة، بل نفهمه على أنه سلسلة متَّصلة.

١  جون ليرد J. Laird: «مشكلات الذات» من التصدير.
٢  الحوادث الذهنية mental events أكثر عمومية وشمولًا من الحوادث العقلية Intellectural التي تعني العمليات العقلية العليا؛ كالتصور والحكم والاستدلال … إلخ. أمَّا الحياة النَّفسية Psychic فهي أعم من الاثنتين معًا «الذهنية والعقلية»؛ إذ إنَّها تشمل جميع العوامل التي تكشف عنها الدراسة العلمية ومنها العوامل غير المشعور بها عادة — راجع الدكتور — يوسف مراد «مبادئ علم النفس العام»، الطبعة الثانية، ص٤٢. (المترجم)
٣  شي. د. برود C. D. Brood، العقل ومكانه في الطبيعة، ص٥٥٨ من الطبعة الأولى.
٤  ديفيد هيوم: رسالة في الطبيعة البشرية، طبعة سلبي بيج، ص١.
٥  نفس المرجع ص٢.
٦  نفس المرجع، ص٣.
٧  نفس المرجع، ص٤-٥.
٨  نفس المرجع ص: ٢٥١-٢٥٢.
٩  نفس المرجع ص٢٥٢.
١٠  نفس المرجع ص: ٢٥٢-٢٥٣.
١١  ديفيد هيوم، رسالة في الطبيعة البشرية، ص٤٥٦.
١٢  نفس المرجع، حاشية ص۹۷.
١٣  ف. ﻫ. برادلي، أصول المنطق، ص١٨ من الطبعة الأولى.
١٤  نفس المرجع، ص١٥.
١٥  المقصود بالقضايا هنا الأفكار المعروضة للحكم. فلو قلت قضية مثل «الأرض تدور» فإنَّها لا تكون معرفة، أعني جزءًا من علم الجغرافيا إلَّا بعد الحكم عليها، أي بعد أن تقول إنَّ هذه القضية صادقة. (المترجم)
١٦  هاتان الكلمتان «ماذا What»، و«هذا That» اصطلاحان استعملهما الفيلسوف الإنجليزي ف. ﻫ. برادلي (١٨٤٦-١٩٢٤م)، وهو يعني بالمصطلح الأول الجانب الواقعي، وبالمُصطلَح الثاني الجانب الفكري، وهو ينظر إلى الحكم على أنَّه إيضاح ﻟ «هذا» بوصفِه موضوعًا، عن طريق «ماذا» بوصفه محمولًا. (المترجم)
١٧  ديفيد هيوم، رسالة في الطبيعة البشرية، نشرة سلبي بيج، ص۱۷.
١٨  نفس المرجع، ص۱۹.
١٩  ف. ﻫ. برادلي، أصول المنطق، ص٢٣٥ من الطبعة الأولى.
٢٠  نفس المرجع، ص۲۳۷.
٢١  نفس المرجع، ص۲۳۸.
٢٢  هيوم، رسالة في الطبيعة البشرية، ص٧٣.
٢٣  المقصود هو أن نُفسِّر كيف يُمكِن أن تكون الوحدة والاتصال مُمكنة؛ ذلك لأنَّ الشخص واحد بمعنيَين؛ فهو واحد في كل لحظة على حدة من لحظات حياته، ثم هو واحد كذلك رغم تسلسل لحظات الزمن. وواحديته في اللحظة الحاضرة هي ما نُسمِّيه بالترابط الرأسي للعقل أو الوعي (إذ رغم تعدُّد جوانب هذه اللحظة الحاضرة هي ما نُسميه بالترابط الرأسي للعقل أو الوعي، وإذ رغم تعدُّد جوانب هذه اللحظة فهي لحظة في خبرة شخص واحد … وواحديته في التسلسل الزمني هي ما نُسمِّيه بالترابط الأفقي؛ ذلك لأنَّه رغم خبرات الماضي والحاضر فهو شخص واحد أيضًا). (المترجم)
٢٤  ن. و. كالكينز N. W. Calkins، الواقعة والاستدلال في نظرية ريموند هويلر عن الإرادة والنشاط الذاتي، مجلة علم النفس، عام ۱۹۲١، ص٣٥٦ وما بعدها.
٢٥  رسالة في الطبيعة البشرية، ص٢٥٢.
٢٦  ج. وورد، المذهب الطبيعي واللاأدرية، الجزء الأول، ص٢٩٥، الطبعة الثانية.
٢٧  كان جيمس وورد G. Ward أستاذًا للفلسفة العقلية والمنطق بجامعة كمبردج، وهو من أنصار النظرية التي تقول إنَّ الفعل الأساسي للذات هو الانتباه. (المترجم)
٢٨  جيمس وورد، نفس المرجع السابق، ص٢٩٦.
٢٩  ل. ل. ترستون L. L. Thurstone، مغالطة المثير والاستجابة في علم النفس، مجلة علم النفس، عام ۱۹۲۳، ص٣٥٤ وما بعدها.
٣٠  ف. ﻫ. برادلي، الظاهر والحقيقة، ص۸۰-۸۱ من الطبعة الثانية.
٣١  ديفيد هيوم، رسالة في الطبيعة البشرية، ص٢٥١-٢٥٢.
٣٢  أثناء مناقشة فكرة هيوم — راجع فيما سبق فقرة رقم ١٠. (المترجم)
٣٣  المقصود بالوحدة هنا: الرُّوح أو النفس أو الجوهر الفرد أو الموناد monad، كما يتضح من عبارة برادلي التالية. وكلمة الموناد نفسها التي شاعت في فلسفة ليبنتز بصفة خاصة كلمة يونانية معناها الوحدة. وبرادلي هنا يَنتقد النظرية الجوهرية Substantial عن النفس أو الرُّوح التي ترى أنَّ الروح «جوهر» أو «كيان» أو عنصر له وجود قائم بذاته حال في البدن، وهو من طبيعة مخالفة لهذا البدن، وهي نظرية قريبة من الفهم الشائع عن الروح. والمشكلة هنا هي علاقة هذا العنصر بالتنوعات التي لا حدَّ لها في حياة الإنسان. (المترجم)
٣٤  ف. ﻫ. برادلي، الظاهر والحقيقة، ص٨٦-٨٧ من الطبعة الثانية.
٣٥  نفس المرجع، ص٨٧.
٣٦  يُعرَّف الفرد بأنَّه الكل المتحد، الذي يقوم بعمل رئيسي واحد في وقت معيَّن (انظر فيما بعد الفصل الثاني، فقرة رقم ٨ وما بعدها)، فهو كل عضوي، ونحن لا نعني بهاتين الكلمتين أنَّه كائن حي بالمعنى الموضوعي لهذا اللفظ. لكنَّا نعني بتصور «الكل العضوي» طريقة في السلوك تعتمد على تعاصر أفعال (أي وقوعها في وقت واحد) الأجزاء التي يتألَّف منها هذا الكل، بتلك الطريقة التي تؤدي إلى تمركز الكل في عمل رئيسي واحد في وقت معيَّن. وسوف نلاحظ أنَّ تحليل الفرد إلى أجزاء متحدة الاتجاه في أفعالها، ليس إلَّا دراسة موضوعية، أو هو على أحسن الأحوال دراسة تالية — وإن كانت ذاتية — لموقف لا يُمكن مطلقًا دراسته دراسة ذاتية أثناء عملية السير. لكنَّه يُمكن فقط أن يُخبره الفاعل كفعل، والفاعل السيكوفيزيقي في حالة الفعل ليس شيئًا بالنسبة لنفسه سوى فعل، فهو لا يشعر بأيَّة أجزاء أو أعضاء وهي تعمل، أو حتى بتكوينه العضوي ككل وهو يعمل، مُفترضين بالطبع أنَّ العضو الذي نتحدَّث عنه، أو التركيب العضوي كله يعمل بطريقة تامة وكاملة. فالفاعل في نظر نفسه هو مجرد شفافية. انظر إلى نفسك في حالة الرؤية: تجد أنَّك لا تكون على وعي بعينك التي هي عضو الرؤية أو الإبصار، كلَّا ولا تكون على وعي بتكوينك العضوي ككل. فأنت في مثل هذه اللحظة لا تتألَّف إلَّا من رؤية شيء ما. وأنت في نظر الملاحظ الخارجي جسم، في حين أنَّك في نظر نفسك فعل. وحين نُشير — في الصفحات القادمة — إلى الذات ونقول إنَّها الجسم وهو منتبه، فليكن واضحًا أنَّنا نضع في ذهنِنا التَّفرقة بين الواقعة كما تُلاحظ موضوعيًّا والواقعة كما يُخبرها الفاعل. وطالما أنَّ الواقعة في حالة الخبرة لا يُمكن أن تكون إلَّا كما تخبر، أي إنَّها لا يُمكن أن توصف وصفًا كافيًا في كلمات، فلا بد أن نقنع بوصف الواقعة كما تُلاحظ وتُحلَّل موضوعيًّا.
٣٧  ر. س. وودورث R. S. Woodworth، علم النفس، ص۳۲.
٣٨  «علم الموناد The Monadology» — ترجمة روبرت لاتا Robert Latta، الطبعة الأولى، ص٣٧١.
٣٩  برنارد بوزانكیت B. Bosanquet، مبدأ الفردية والقيمة، ص۳۳۸.
٤٠  جيمس وورد، مبادئ علم النفس، الطبعة الأولى، ص٦٧.
٤١  سبق أن رأينا أنَّ الانتباه مستمر حتى أثناء النوم.
٤٢  على القارئ أن يفهم من عبارة «درجات الانتباه» أنَّها تعني اختلافات وفروقًا في موضوع الانتباه، لا في فعل الانتباه بما هو كذلك.
٤٣  «مقال في العقل البشري» نشرة وورد لوك، المجلد الأول، الفصل التاسع عشر، القسم رقم ٣، ص١٥٩.
٤٤  ف. ﻫ. برادلي، الانتباه الإيجابي، مجلة A. Wolf، عدد ٤١ ص٣.
٤٥  نفس المرجع، ص٣.
٤٦  انظر فيما بعد الفصل الثالث عن الإرادة. (المترجم)
٤٧  تشارلز شرنجتون C. Sherrington، الإنسان وطبيعته Man on his nature، ص١٩٣.
٤٨  انظر ﻫ. ﻫ. يواقيم، دراسة في كتاب الأخلاق لاسبينوزا، ص۱۹۳.
٤٩  أ. ولف J. Ward، دائرة المعارف البريطانية «١٩٤٥م» مادة «الانتباه».
٥٠  نفس المرجع.
٥١  تشارلز شرنجتون، الإنسان وطبيعته Man on his nature، ص١٤٣.
٥٢  «علم الموناد»، ترجمة روبرت لانا، ص٢٢٢ من الطبعة الأولى.
٥٣  جیمس وورد J. Ward، المذهب الطبيعي واللاأدرية، الطبعة الثانية، المجلد الثاني، ص١٦١.
٥٤  هناك تلاعب بكلمة كون universe الإنجليزية في هذه الجملة، فهذه الكلمة مؤلفة من كلمتين uni بمعنى وحدة أو واحد، وVerse بمعنى تنوع أو اختلاف أو كثرة. وعلى ذلك فكلمة الكون في اللغة الإنجليزية تعني «الواحد المتكثر». وهذا هو المعنى المقصود هنا، فالانتباه يجعل العالم الذي تُشاهده أمامنا «كثرة في واحد» أو كونًا. (المترجم)
٥٥  الإنسان وطبيعته، ص۱۷۲.
٥٦  نفس المرجع السابق، ص١٧٢-١٧٣.
٥٧  كلمة الفرد Individual في اللغة الإنجليزية تعنى حرفيًّا ما لا ينقسم، وهذا هو المعنى المقصود هنا. (المترجم)
٥٨  نفس المرجع، ص۲۷۱.
٥٩  نفس المرجع، ص٢٧٦.
٦٠  الزمان الرياضي هو الزمان الذي يستخدمه العلم في أبحاثه، وهو يقوم على قياس حركة الأفلاك والكواكب. أو بعبارة أخرى، هو مقياس للمكان أو للمسافات التي يقطعها جرم ما. وهو لهذا يختلف عن الزمان النفساني الذي نحياه ونشعر به، والذي يُطلق عليه اسم الديمومة أو المدة. (المترجم)
٦١  ماكس فرتهيمر Max Wertheimer (١٨٨٠-١٩٤٣م): عالم من علماء النفس الألمان، ومن كبار مؤسسي مدرسة الجشطالت. أجرى تجارب على ظواهر الخداع الحركي؛ ومن أهمها الظاهرة التي أطلق عليها اسم «ظاهرة في Phi Phenomenon»، ولقد كان وقوف «فرتهيمر» على هذه الظاهرة عام ۱۹۱۲م نقطة البدء في إنشاء هذه المدرسة الجديدة في علم النفس. أهم مؤلفاته «التفكير المنتج». (المترجم)
٦٢  شخصية من شخصيات الإلياذة، ويُضرب به المثل في السرعة، وقد برهن زينون الإيلي في إحدى حججه ضد الحركة أنَّ أخيل لا يستطيع أن يسبق السلحفاة. (المترجم)
٦٣  ﻫ. ف. هالیت H. F. Hallett، «فكرة الأزلية Aeternitas»، ص۲۰.
٦٤  نفس المرجع، ص۲۲.
٦٥  المقصود بالفاعل السيكوفيزيقي هنا الشخص المُنتبِه بجانبه الجسمي والنفسي في آنٍ واحد، أو كما يعملان معًا في كُلٍّ متكامل. (المترجم)
٦٦  ﻫ. و. كاد H. W. Cam، أفكار تأمُّلية Cogitans Cogitata، الطبعة الأولى، ص١٥.
٦٧  كان الفيلسوف الإنجليزي «ش. د. برود C. D. Broad» هو الذي أدخل هذا المصطلح: «المحسوسات Sensu» والمفرد «المحسوس Sensum» في الفلسفة الإنجليزية، ثم شاع بعد ذلك. وهو يرادف مصطلح «المعطيات الحسية Sense - data». (المترجم)
٦٨  ج. ماكمسري J. Macmuraay: «ما الفعل؟ What is Action» محاضر الجمعية الأرسطية، المجلد السابع عشر، ص٧٥.
٦٩  أ. بين «العلوم الذهنية والعلوم الأخلاقية» (عام ١٨٦٨م)، ص٨٢-٨٤.
٧٠  قارن قول هيجل: «إنَّنا لا نقول عن فلان من الناس إنَّه على ذكاء كبير لأنَّه استطاع أن يُميِّز بين شيئَين يبدو الاختلاف بينهما واضحًا ملموسًا: كالقلم والجمل مثلًا.» وقل مثل ذلك حين تكون الأشياء موضوع المقارنة مُتشابهة تشابهًا كبيرًا؛ كشجرة الزان وشجرة البلوط، أو المعبد والكنيسة … إلخ، «فنحن باختصار نميل إلى رؤية الهوية في حالة الاختلاف كما نميل إلى البحث عن الاختلاف في حالة الهوية.» انظر كتابنا «المنهج الجدلي عند هيجل» ص٢١٩ وما بعدها. دار المعارف بمصر، عام ١٩٦٩م. (المترجم)
٧١  و. س. جيفرونز W. S. Jevons، مبادئ العلم، ١٩٢٤م، ص٥.
٧٢  ج. J. Sully، المجمل في علم النفس، عام ١٨٨٤م، ص٣٤٣ (الحاشية).
٧٣  و. س. جیفونز، مبادئ العلم، ص٩.
٧٤  الواقع أن التتالي وحده لا يكفي لتكوين الذات، فمن الضروري أن يكون هناك اتصال لذلك المضمون الذي يلزم لكي نُخبر الديمومة من خلال التتالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤