الفصل الرابع

المذهب الجبري: التحدُّد

(١) ثلاثة معانٍ للجبرية: (أ) من المُستحيل على أي شيء أن يكون خلاف ما هو عليه. (ب) مبدأ السببية هو المبدأ السائد. (ﺟ) كل شيء يُمكن التنبؤ به إذا ما توافرَت مُعطيات معينة … (٢) النظرية التي تقول إنَّه من المستحيل على الشيء أن يكون خلاف ما هو عليه. (٣) تفسيران لهذه النظرية: (أ) رأي ليبنتز. (ب) رأي اسبنوزا. (٤) مناقشة التفسير الأول. (٥) مناقشة التفسير الثاني: هذا التفسير يتضمَّن مغالطة منطقية.

•••

(١) يذهب دعاة الجبرية إلى أنَّها تعني ثلاثة معانٍ مختلفة، وإنَّ كان كل منها يعتمد على الآخر اعتمادًا كبيرًا. فهي تعني (أ) أنَّه من المستحيل على الشيء أن يكون خلاف ما هو عليه. (ب) أنَّ مبدأ السببية هو المبدأ السائد في الطبيعة. (ﺟ) أنَّ كل شيء يُمكن التنبُّؤ به إذا توافرَت مُعطيات معينة. وسوف أحاول في هذا الفصل، وفي الفصلين القادمين، أن أُقدِّم عرضًا نقديًّا لهذه المزاعم الثلاثة، وهو عرض سوف ينتهي بنا إلى القول بأنَّ المذهب الجبري — فيما يتعلق بهذه المزاعم الثلاثة — يقوم على غير أساس.

(٢) ولكي نشرح المعنى الأول للمذهب الجبري، وهو المعنى الذي يقول إنَّه من المستحيل على الشيء أن يكون خلاف ما هو عليه، يجمل بنا أن نُقدِّم تعريفًا للجبرية، أعتقد أن دعاتها يقولون به:

أفرض أنَّ «ج» ترمز إلى الجوهر، و«ص» ترمز إلى «الصفة»، و«ل» ترمز إلى أيَّة لحظة من اللحظات. هناك في هذه الحالة ثلاثة بدائل ممكنة تطرد بعضها بعضًا بالنسبة لوضع الجوهر «ج» والصفة «ص» واللحظة «ل» بعضها مع بعض. وهذه البدائل هي: «أ» أنَّ «ج» ليس لها «ص» في «ل» «معناها أنَّ هذا الجوهر ليس له هذه الصفة المعينة في تلك اللحظة المحددة». (ب) أنَّ «ج» لها «ص» في «ل». «أي إنَّ الجوهر له هذه الصفة في هذه اللحظة». (ﺟ) أنَّ «ج» فيما يتعلَّق بعلاقته ﺑ «ص» يتغير في «ل». تلك هي الحالات المنطقية الثلاث الوحيدة الممكنة بالنسبة للجوهر «ج» من حيث علاقته بالصفة «ص» في اللحظة المعينة «ل». ومن الضروري — منطقيًّا — أن يوجد واحد فحسب من هذه البدائل الثلاث؛ لأنَّه من المستحيل منطقيًّا أن يوجد أكثر من بدیل واحد في وقت واحد. وسوف أُشير إلى هذه البدائل الثلاثة بالرموز الآتية على التوالي: أ، ب، ﺟ.

وعلى ذلك فإنَّه يُمكِن تعريف الجبرية على النحو التالي: الجبرية اسم يُطلق على النظرية التي تقول إنَّه لو كان الجوهر «ج» هو من حيث الواقع في الحالة «ل» فيما يتعلَّق بالصفة «ص» في اللحظة «ل»، فإنَّ الافتراض المركب الذي يقول إنَّ كل شيء آخر في العالم لا بد أن يكون بالضبط كما كان في الواقع، على حين أنَّ الجوهر «ج» لا بدَّ — بدلًا من أن يقع كما وقع — أن يكون في إحدى الحالتَين البديلتَين الأخريَين «أ» أو «ﺟ» فيها يتعلَّق بالصفة «ص» — أقول: إنَّ هذا الافتراض المركب افتراض مُستحيل.١
(٣) هناك موقفان يمكن للفيلسوف الجبري أن يأخذ بأحدهما فيما يتعلق بالتعريف السابق: (أ) كما لاحظ دكتور «برود C. D. Broad»: «أنَّ الفيلسوف الجبري ليس بحاجة إلى أن يُقرِّر — وهو بصفة عامة لا يفعل ذلك — لا ضرورة ولا استحالة كل من الفقرتين المنفصلتين اللتين يتألَّف منهما هذا الافتراض المركب، فهو لا يقول: لا بد لكل شيء آخر في العالم حتى اللحظة «ل» أن يكون بالضبط كما كان عليه في الواقع. وهو لا يقول: إنَّه من المستحيل للجوهر «ج» أن يكون في حالة مختلفة بالنظر إلى الصفة «ص» في اللحظة «ل»، أعني حالة مختلفة عن الحالة التي كان عليها بالفعل في تلك اللحظة. لكن ما يقوله هو أنَّ التركيبة المؤلَّفة من كون بقية أجزاء العالم لا بد أن تظل كما هي في الواقع حتى هذه اللحظة مع إمكان أن تختلف حالة الجوهر «ج» بالنظر إلى الصفة «ص» في اللحظة — تركيبة مستحيلة. فكل فقرة على حِدَة في هذا المركب لا يقول الجبري عنها أنَّها ضرورية أو مستحيلة، لكنَّه يُعلن أنَّ الجمع بينهما مستحيل.»٢
وهذا الموقف يُذكِّرنا برأي «ليبنتز» فيما يتعلَّق بالإمكان المطلق والتوافُق في الإمكان Compossible٣ … عند حديثه عن الحقائق الحادثة أو العارضة في مقابل الحقائق الضرورية. فالحادث أو الحقيقة العارضة — وضدها كلاهما ممكن؛ فالقضية التي تُعارض الحقيقة التي تقول «إني جالس ها هنا في هذه اللحظة» — قضية مُمكنة لأنَّها لا تُناقض نفسها تناقضًا مباشرًا. وبالتالي فإنَّ حقيقة الأشياء العارضة لا تقوم على مجرَّد إمكانها؛ ذلك لأنَّها ليست — دون أضدادها — حقيقة أو واقعة بفضل ماهيتها ذاتها أو فكرتها، بل إنَّ سببها الكافي يكمن فيما يجاوز ذاتها، إذ يكمن في علاقتها بغيرها من الأشياء. فالحقائق العارضة في ذاتها — وكذلك أضدادها — كلاهما ممكن على حد سواء، لكنَّنا إذا نظرنا إليها في علاقتها بغيرها من الأشياء، وجدنا أنَّ الحقيقة المعينة قد تكون ممكنة وهي قائمة وحدها. حتى إذا ما نظرنا إلى الأشياء المتعلِّقة بها وجدناها قد أصبحت مُستحيلة الحدوث في تلك المجموعة المرتبطة بها، فمثلًا لو نظرنا إلى الحقيقة القائلة «بأنِّي جالس هنا في هذه اللحظة» لا في حدِّ ذاتها، بل في علاقتها بعدد غير معيَّن من الحقائق الأخرى مثل: عاداتي، خلقي، عملي، هذه الساعة من النهار … إلخ، فسوف نجد أنَّ الحقيقة وحدها هي المُمكنة، وأنَّ ضدها في هذا السياق مُستحيل. فعلى الرغم من أنَّ أضداد الحقائق العارضة ليست متناقضة ذاتيًّا، فإنَّها تناقض النسق بصفة عامة … أعني أنَّها تناقض المجموعة المرتبطة بها، فكلٌّ منها مُمكِن الحدوث، لكنَّها ليست ممكنة في اتصالها، فهي إذا ما ارتبطت ناقض بعضها بعضًا. أو بعبارة ليبنتز: «إنَّ الحادثة العارضة المعينة قد تكون مُمكنة في حدِّ ذاتها، لكنَّها لا تكون ممكنة إذا وضعت في سياق معلوم من حادثات أخرى تكون لها سياق حدوثها، وبالتالي فإنَّ معية الإمكان Compossibility أو الاطراد مع نسق الأشياء الفعلي، هو المقياس الصحيح للحقيقة، هو السبب الكافي. فكل شيء ممكن له ماهية أو معنى، لكن نحفظ ما هو ممكن بالتوافق مع غيره Compossible هو الذي يتحقَّق بالوجود.»٤

(ب) لكن ليس كل الجبريين من هذا الطراز؛ إذ يَعتقد فريق منهم أنَّ الافتراض نفسه القائل بأنَّ الجوهر يُمكن أن يكون في حالة مختلفة عن تلك الحالة التي كان عليها من قبل — لا بد أن يكون هو نفسه افتراضًا مستحيلًا، وبناءً على رأي هذا الفريق، فإنَّ الجوهر الذي يكون في حالة مختلفة في لحظة معيَّنة عن الحالة التي كان عليها «ج» في «ل» فإنَّ هذا الجوهر لا بد بالضرورة أن يكون جوهرًا مختلفًا عن «ج».

ولا بد أن يذهب دعاة هذا الرأي أيضًا إلى القول بأنَّ جميع العلاقات بين الأشياء علاقات داخلية، أعني أنَّ العلاقة بين جوهر ما وجوهر آخر، إنَّما تقوم في طبيعة الجوهر نفسه،٥ وبالتالي فإذا ما عرفت جوهرًا من الجواهر معرفة دقيقة وشاملة، فإنَّك سوف تعرف — قطعًا — الكون كله، طالما أنَّ معرفة الجوهر الأول تتضمَّن معرفة العلاقات، كذلك معرفة الحدود التي تربط بينها هذه العلاقات على حدٍّ سواء. وماذا عساها أن تعني تلك المعرفة، إن لم تكن تعني معرفة الكون كله؟ ولمَّا كان من المستحيل — في رأى هذا الفريق — أن توجد حدود تقوم بذاتها مستقلة عن العلاقات التي ترتبط بها، وطالما أنَّ «… كل علاقة … تُكيف حدودها بكيف ما … وهذه العلاقة صفة لهذه الحدود …»٦ أقول لمَّا كان ذلك كذلك، فإنَّه لا يُمكن أن نتصوَّر حدًّا من الحدود متصفًا بصفات مختلفة في لحظة بعينها — أي في نفس اللحظة — لأنَّ ذلك لا بدَّ أن يعني كونًا مختلفًا أتمَّ الاختلاف … «إنَّ أولئك الذين يقولون إنَّ جميع العلاقات داخلية. يقولون في بعض الأحيان. لو أنَّ «ص» كانت تُمثِّل خاصية علائقية وأنَّ «أ» يُمثِّل حدًّا له تلك الخاصية، فسوف يكون صحيحًا باستمرار أنَّ «أ» لا يُمكِن أن تكون «أ» لو أنَّها فقدت «ص». وفي ظني أنَّ تلك طريقة مُصطَنعة للقول إنَّ كل شيء يُمكن أن يكون حقيقيًّا إذا ما تضمَّن القضية المتناقضة ذاتيًّا، وهي أنَّه إذا كان «أ» الخاصية «ص» فإنَّه لا يُمكِن أن يكون صحيحًا أنَّ «أ» ليست لها الخاصية «ص»، لكنَّها رغم ذلك طريقة طبيعية — قليلًا أو كثيرًا — للتعبير عن قضية يمكن أن تكون صادقة تمامًا: افرض أنَّ «أ» لها الخاصية «ص»، عندئذ فإنَّ أي شيء ليس له الخاصية «ص» لا بد بالضرورة أن يكون شيئًا مختلفًا عن «أ».»٧

(٤) هذان هما التفسيران لرأي الفيلسوف الجبري الذي يزعم استحالة أن يكون أي شيء خلاف ما هو عليه، بينما يظلُّ بقية العالم على ما هو عليه. وسوف أناقش الآن الحجج المُمكنة التي يُمكن أن تقوم لتأييد هذا الرأي في صورتيه السابقتين:

(أ) ما الدليل الذي يُقدِّمه الفيلسوف الجبري الذي يعتقد أنَّ الجمع بين الفقرتين الآتيتين مُستحيل، برغم أنَّ كلًّا منهما ممكنة على حدة وهما: (١) أنَّ الجوهر «ج» لا بدَّ أن يكون في حالة مُختلِفة عمَّا كان عليه بالفعل. (٢) وأنَّ كل شيء آخر في العالم لا بد أن يظل كما كان عليه بالفعل؟ يُمكن أن يكون دليله إمَّا قبليًّا أو تجريبيًّا. غير أنَّ الدليل التجريبي مستبعد تمامًا، إذ ليس ثمة دليل من هذا النوع يمكن أن يقوم في هذه الحالة، وإلَّا فأين يُمكِن أن نجد الدليل التجريبي عمَّا إذا كان الافتراض القائل بأنَّ «ج» لا بد أن يكون في حالة مختلِفة عن الحالة التي كان عليها بالفعل يتناقض مع افتراضات أخرى؟ واضح أنَّه لا شيء يُمكِن أن يوجد داخل نطاق التجربة يؤيد هذه الدعوى.

والدليل القبلي لا بد أن يعني أنَّ القضية التي يقول بها الفيلسوف الجبري — كما عرضناها من قبل — صدقها واضح بذاته، وأنَّ القضية المعارضة كذبها واضح بذاته. وأودُّ — قبل كل شيء — أن أُذكِّر القارئ بالمغالطة المشهورة والشائعة، وهي مغالطة اعتبار شيء ما واضحًا بذاته، في الوقت الذي يكون فيه هذا الشيء مجرد زعم يفتقر إلى البرهنة، وهناك مصدر آخر للخطأ شبيه بهذا الخطأ، وأعني به ذلك الموقف الذي تُعتبَر فيه قضية نتيجة ضرورية لقضية أخرى مفترضة ضمنًا، مع أنَّ هذه القضية المُضمَرة حين تظهر إلى العلَن يُمكن جدًّا أن نكتشف أنَّها نفسها ليست ضرورية. وسوف نناقش الآن رأي الفيلسوف الجبري لنرى ما إذا كان رأيه قضية واضحة بذاتها أم أنَّها نتيجة ضرورية لقضية أخرى يُقال إنَّها واضحة بذاتها. وإذا ما اتضح أنَّ رأيه يعتمد على قضية أخرى، فسوف نرى هل هذه القضية الجديدة واضحة بذاتها، أعني هل هي بديهية لا تحتاج إلى برهان أم أنَّها ليست كذلك.

ويُمكن أن نُوضِّح رأي الفيلسوف الجبري على النحو التالي:

إذا كانت الوقائع هي «ج» أ ب ﺟ، فإنَّه من المستحيل أن تكون هذه الوقائع «ج»١ أ ب ﺟ. و«ج» هنا تُمثِّل شيئًا ما في وقت ما له صفة ما. أمَّا أ ب ﺟ فهي تُمثِّل بقية العالم في نفس هذه اللحظة. و«ج»١ تُمثِّل الشيء نفسه مع صفة مختلفة. وإذا نظرنا إلى «ج» وحدها وجدنا أنَّها يُمكن أن توجد على النحو الذي تقول هذا الوجهة من النظر. إذ يُمكن أن تكون ممكنة، لكنَّها لا يُمكن أن تكون ممكنة بالمشاركة Compossible مع بقية أجزاء العالم ولِمَ؟ لا بد أن تكون الإجابة — كما هو واضح — أنَّ هناك مجموعة معينة من العلاقات تربط بين «ج» وبين أب ﺟ بطريقة تجعلها كلها تؤلِّف كُلًّا واحدًا. وهكذا يتضح في الحال أنَّ وجهة نظر الفيلسوف الجبري التي نناقشها تفترض الواحدية كأساس تقوم عليه، وبالتالي فهذه الوجهة من النظر ليست ضرورية ضرورة ذاتية، لكنَّها نتيجة ضرورية لافتراض آخر أو لمجموعة من الافتراضات.

وفكرة الواحدية التي تُمثِّل أحد الافتراضات الكامنة خلف قضية الفيلسوف الجبري تحتاج إلى برهان؛ فهي ليست فكرة واضحة بذاتها. فليس هناك اتفاق في الرأي بين الفلاسفة عمَّا إذا كان الكون واحديًّا أم ثنائيًّا أم متعددًا، وهذا الاختلاف — في حد ذاته — يُشير إلي أنَّ كل فريق يؤيد وجهة نظره بمجموعة من الأدلة، في حين أنَّ الحقيقة البديهية تفرض نفسها على ذهن الإنسان ولا تحتاج إلى دليل يؤيدها؛ إذ لا بد أن تكون واضحة بذاتها.

وبغض النظر عن قبول هذه القضية على أنَّها واضحة بذاتها — أعني القضية التي تقول إنَّه إذا كانت الوقائع هي «ج» أ ب ﺟ، لكان من المستحيل أن يوجد بدلًا منها «ج»١ أ ب ﺟ — أقول بغض النظر عن ذلك كله فإنَّ «وليم جيمس» يقول في دفاعه عن الصدفة: «ما الذي أعنيه حين أقول إنَّ اختياري للطريق الذي سأسلكه في عودتي إلى منزلي بعد الانتهاء من هذه المحاضرة أمر مهم وهو يرجع إلى الصدفة فيما يتعلَّق باللحظة الراهنة؟ إنَّه يعني أنَّني تذكرت طريق دفينتي Divinity Avenue وشارع أكسفورد Oxford Street لكني سأختار أحدهما فحسب، سأختار أيًّا منهما وأترك الآخر، وإنِّي لأطلب منكم الآن جادًّا أن تفترضوا أنَّ هذا الغموض في اختياري للطريق الذي سأسلكه غموض حقيقي، ثم أن تفترضوا بعد ذلك الافتراض المستحيل، وهو أنَّني قمت بعملية الاختيار مرتين، وأنَّ الاختيار قد وقع في كل مرة على شارع مختلف … وبعبارة أخرى افترضوا أنَّني سرت أولًا في طريق دفينتي، ثم افترضوا أنَّ القوى المتحكمة في الكون قد أزالت عشر دقائق من الزمان وأزالت معها كل ما وقع فيها، وأعادتْني إلى باب هذه القاعة، كما كنت قبل أن أقوم بعملية الاختيار، ثم افترضوا بعد ذلك أنَّني الآن قد اخترتُ طريقًا آخر — وكل شيء آخر ظلَّ على ما هو عليه — فسلكت شارع أكسفورد. إنَّكم — بوصفكم مُشاهِدين سلبيِّين — في استطاعتكم أن تنظروا وتروا عالمين بديلَين؛ أحدهما أسلك فيه طريق دفينتي، والآخر أسير فيه أنا أيضًا خلال شارع أكسفورد. والآن، لو أنَّكم من دعاة الجبرية فسوف تعتقدون أنَّ أحد هذين العالميَن مستحيل منذ الأزل، وتعتقدون أنَّه مستحيل لما يتضمَّنه ذاتيًّا من لا معقولية أو لِما فيه من مصادفة أو اتفاق. ولكن إذا نظرتم إلى هذين العالمين من الخارج، فهل في استطاعتكم القول أيهما هو العالم المستحيل، عالم المصادفة والاتفاق، وأيهما العالم المعقول والضروري؟»٨
وفضلًا عن ذلك، فحين يزعم الفيلسوف الجبري أنَّه إذا كان الواقع هو: «ج» أ ب ﺟ، فإنَّ وجود «ج»١ أ ب ﺟ مستحيل، بمعنى أنَّ «ج» بذاتها ممكنة لكنَّها ليست ممكنة بالمشاركة Compossible مع أ ب ﺟ، فيبدو أنَّه يأخذ تعريف الممكن على أنَّه «ما لا يُخالف قوانين الطبيعة رغم مخالفته لوقائع الطبيعة.» غير أنَّ هذا التعريف أضيق جدًّا من أن يستبعد قضايا هي في آنٍ معًا لا تُخالف قوانين الطبيعة، وهي أيضًا لا تُخالف وقائع الطبيعة، وطالما أنَّ كل قضية صادقة تتفق مع قوانين الطبيعة كما تتَّفق مع وقائع الطبيعة سواء بسواء، فإنَّ كل قضية صادقة — فيما يبدو — يستبعدها هذا التعريف بوصفها غير مُمكنة. ولو أنَّنا عدَّلنا التعريف بحيث نجعله على النحو التالي: «تكون «ق» ممكنة حين لا يوجد قانون من قوانين الطبيعة ينتج عنه منطقيًّا «لا - ق».» وتكون «ق» مستحيلة حين نجد أنَّ قانونًا من قوانين الطبيعة ينتج عنه: منطقيًّا «لا - ق» … لأصبح واضحًا أنَّ القضية التي يقول بها الجبريون وهي أنَّ «ج»١ أ ب ﺟ مستحيلة، لا تكون صادقة إلَّا إذا وجدنا قانونًا من قوانين الطبيعة ينتج عنه منطقيًّا لا «ج»١ أ ب ﺟ، وكل قانون من قوانين الطبيعة هو تعميم «سواء أكان تعميمًا دقيقًا أم ترجيحيًّا.» ومن ثم فلا يمكن أن نعتبر «ج»١ أ ب ﺟ مُستحيلة بسبب أنَّ الوقائع التي كانت موجودة هي «ج» أ ب ج؛ وذلك لأكثر من سبب: أولًا: لأنَّ «ج» أ ب ﺟ هي مجموعة متعاصِرة من الحوادث وليست قانونًا من قوانين الطبيعة. وثانيًا: لأنَّ كلًّا من «ج» أ ب ﺟ و«ج»١ أ ب ﺟ يُمكن أن يكونا في آنٍ معًا مظهرين مُمكنين مختلفين لقانون واحد. وثالثًا: قد يصحُّ أن تكون «ج» أ ب ﺟ، و«ج»١ أ ب ﺟ — على حدٍّ سواء — تطبيقات لقانونين مختلفين يعملان معًا في الطبيعة، رغم أنَّهما لا يعملان معًا في وقت واحد ولا على شيء واحد، وهذا لا يعني بالضرورة استحالة أحدهما إذا حدث الآخر بالفعل؛ ذلك لأنَّ ما لم يحدث يظل مع ذلك ممكنًا؛ لأنَّه لا يتناقض مع قوانين الطبيعة: افرض مثلًا أنَّني وضعت إناء به ماء على النار، إنَّ الماء في هذه الحالة سوف يغلي، وفقًا لقانون معين من قوانين الطبيعة. لكنَّني إذا لم أضع هذا الإناء على النار، فإنَّ الماء لن يغلي، وفقًا لقانون آخر من قوانين الطبيعة. والآن: إنَّ القول بأنَّني وضعت الإناء على النار لا يلغي، أنَّ الاحتفاظ بالإناء بعيدًا عن النار ليس ممكنًا، إنَّ ذلك يظلُّ ممكنًا، رغم أنَّه لم يحدث، والإمكان هنا يعني أنَّه — تبعًا للتعريف السابق — ليس ثمة قانون من قوانين الطبيعة ينتج عنه — منطقيًّا — «لا - ق».
وحين يُقال إنَّ المذهب الجبري يعني أنَّ كل شيء هو على ما هو عليه، فيبدو أنَّ ثمة خلطًا في استخدام الكلمات، وهو خلط بين كلمتَي «مُحتَّم determined» و«مُعیَّن determinate». فمِن المُسلَّم به أنَّ كل شيء يحدث هو شيء مُعيَّن determinate، لكن هل هذا دليل أيضًا على أنَّه مُحتَّم determined؟ إنَّ القول بأنَّ المستقبل سوف يكون على نحو ما سيكون، لا يتفق إطلاقًا مع التساؤل عمَّا إذا كان المستقبل مُحتَّمًا منذ الآن، فهو قد يكون كذلك وقد لا يكون، فكل ما يؤكِّده هذا القول هو أنَّ حوادث المستقبل حين تقع فسوف يكون لها شكلٌ معيَّن، سوف تكون معينة determinate، وهذا يختلف عن القول بأنَّها محتومة determined منذ اللحظة الراهنة …
(٥) (ب) وسوف نُناقش الآن التفسير الثاني للمذهب الجبري، وهو التفسير القائل بأنَّ الجبرية تعني استحالة أن يكون الشيء خلاف ما هو عليه. ترى الجبرية — في هذه الحالة — أنَّه إذا كان الجوهر «ج» موجودًا في لحظة معيَّنة، فإنَّه لا يُمكن في نفس هذه اللحظة أن يكون «ج»١ بدلًا من «ج»؛ والسبب في ذلك هو أنَّه لا يوجد شيء يقوم بذاته مستقلًّا عن العلاقات التي تربطه بغيره من الأشياء، وإذا كان الشيء يرتبط على هذا النحو بغيره من الأشياء، فإنَّ أيَّة لحظة من اللحظات يُقابلها حالة معينة للأشياء، وبالتالي فلو تغيَّر «ج» وأصبح «ج»١ فلا بدَّ أن يؤدي ذلك إلى وضع مُخالف تمامًا للعلاقات بالأشياء الأخرى. ومن ثم فلا بد أن يكون العالم على نحو مخالف لما هو عليه. ويُقال إنَّ «العلاقة الخارجية الخالصة هي في نهاية الأمر علاقة مستحيلة ولا معنی لها.»٩ لأنَّه «… لو كان كل من أ وب حقًّا موجودًا بسيطًا تمامًا ومستقلًّا عن الآخر، فمن اللغو عندئذ أن تقول إنَّهما يَرتبطان كذلك ارتباطًا حقيقيًّا.»١٠ وإذا كانت العلاقات داخلية في طبيعة الحدود التي يرتبط بعضها ببعض، وإنَّ كل حد من هذه الحدود لا يُمكن أن يكون بذاته خاليًا من علاقات معينة تربطه بغيره من الأشياء، فإنَّ ذلك يعني — إذا ما افترضنا أنَّ الحد «أ» له خاصية علائقية هي «ب» في لحظة معينة — أقول إنَّ ذلك يعني أنَّ كل شيء ليس له الخاصية «ب» لا بد بالضرورة أن يكون مختلفًا عن «أ». ذلك أنَّ الحدين المرتبطين بعلاقة نوعية خاصة لا يُمكن لهما أن يكونا على نحوٍ ما هما عليه بدون هذه العلاقة الفرعية الخاصة. وعلى كل حال فإنَّ ذلك لا يصدق — فيما يبدو — إلَّا على العلاقات الكمية، وعلاقات التشابه والاختلاف والتساوي، وما إلى ذلك. فلو أنَّ «س» كانت مساوية ﻟ «ص» لنتَج عن ذلك أنَّه إذا ما غابت علاقة التساوي، فإنَّ «س» و«ص» لا يُمكن لهما معًا أن يكونا على نحو ما هما عليه في الواقع. وقل مثل ذلك عن علاقة التشابه والاختلاف، فلو أنَّ «س» كانت مشابهة ﻟ «ص» لنتج عن ذلك أنَّه إذا غابت هذه العلاقة فإنَّ «س» و«ص» لا يُمكن لهما معًا أن يكونا على نحوٍ ما هما عليه الآن.

لكن يُمكن لكل حدٍّ منهما — وحده وبدون الآخر — أن يُوجد كما هو في غياب العلاقة التي تربطه بالحد الآخر، فلو كانت «س» مساوية ﻟ «ص»، فإنَّنا نقول — في هذه الحالة — أنَّ «س» ترتبط مع «ص» بعلاقة التساوي، لكن لا ينتج من ذلك أنَّ «س» لا بدَّ أن تظلَّ على نفس هذه العلاقة إذا ما تغيرت «ص» عن وضعها الحالي.

وعلى ذلك فإنَّنا يُمكِن أن نتَّفق على ما يأتي:

إذا افترضنا أنَّ الحد «أ» له خاصية علائقية محددة مع الحد «ب» في لحظة معيَّنة، فإنَّ معنى ذلك أنَّ أي شيء ليس له هذه الخاصية المعينة لا بدَّ بالضرورة أن يكون شيئًا مختلفًا عن «أ»، ولكي يتضح معنى هذه القضية فإنَّنا سوف نصوغها في صورة القياس الآتي:

«أ» لها خاصية علائقية ب في ل.

«ﺟ» ليس لها الخاصية العلائقية ب في ل.١١
ﺟ ليست أ.

لكن لا بد أن نحتاط لمغالطة من المحتمل جدًّا أن تقع في هذا السياق؛ فالقول بأنَّ «ﺣ» ليست في هوية واحدة مع «أ»، أو ليست هي «أ»، إنَّما ينتج بالضرورة من المقدمتين معًا؛ المقدمة «١» التي تقول إنَّ «أ» لها خاصية علائقية ب في ل، والمقدمة «٢» التي تقول إنَّ ﺣ ليس لها هذه الخاصية العلائقية نفسها في ل. وعلى ذلك فمن الخطأ تمامًا أن نستنتج مثل هذه النتيجة من المقدمة الثانية وحدها؛ ذلك لأنَّ النتيجة هي أنَّ ﺣ التي ليست لها الخاصية العلائقية «ب» في «ل» «وهي الحالة التي تتميَّز بها أ» لا بد بالضرورة أن تكون مختلفة عن «أ»، التي لها مثل هذه الخاصية. والسبب ببساطة أنَّ «أ» لها بالفعل هذه الخاصية و«ﺣ» ليس لها هذه الخاصية. كنَّا لا نستطيع أن نستنتج من مجرَّد القول بأنَّ شيئًا ما ليس له علاقة نوعية في لحظة ما — لا نستطيع أن تستنتج أنَّ هذا الشيء لا بد أن يكون مختلفًا عن «أ». وعلى كل حال فإنَّه يُمكن تطبيق مثل هذه الحجة على الكائنات التي لها ديمومة والتي يمكن أن تتصور معها إنَّ شيئًا ما أو آخر يمكن أن يحدث في وقت معيَّن، لكن لا يُمكن تطبيقها على الماهيات الخالدة أو الحقائق اللازمانية، ونحن هنا معنيون بصفة خاصة بالفاعل الذي له ديمومة. إنَّ ما نُناضل من أجله هو أنَّه ليس صحيحًا أنَّه إذا كان هناك فاعل معين ليس له خاصية علائقية نوعية معينة كانت له بالفعل، فإنَّه لا بد بالضرورة أن يختلف عن ذلك الفاعل الذي كانه من قبل، فنحن نذهب إلى أنَّ الفاعل يُمكن أن يرتبط بعلاقة مختلفة أتم الاختلاف عن العلاقة التي يرتبط بها بالفعل مع شيء آخر، ويظل هو نفسه.

ولقد ناقش جورج مور G. E. Moore١٢ بإفاضة تامة المُغالطة المنطقية في الزعم بأنَّه إذا ما افترضنا أنَّ الحد «أ» له خاصية علائقية «ب» في لحظة معينة، عندئذ فإنَّ أي شيء ليس له الخاصية «ب» لا بدَّ بالضرورة أن يكون مختلفًا عن «أ». وسوف يكون من المُفيد جدًّا أن نُلخِّص وجهة نظره في هذا السياق.

يجمل بنا قبل أن نُناقِش هذا الزعم أن نُحدِّد معنى عبارتين هامتَين جدًّا، وهما «أ» «لا بد بالضرورة أن يكون» و«ب» «مختلف عن أ». ومعنى عبارة «لا بد بالضرورة أن يكون» يمكن أن نشرحه على النحو التالي:

«حين نقول عن زواج من الخواص مثل «ب» و«ك» أن أي حد له الخاصية «ب» فإنَّه لا بد بالضرورة أن يكون له الخاصية «ك»، فإنَّ هذا القول يُساوي قولنا إنَّه في كل حالة — من القضية القائلة بأنَّ أي حدٍّ معيَّن له الخاصية «ب» — ينتج أنَّ هذا الحد له الخاصية «ك». وكلمة ينتج تُفهم بمعنى يكون فيه من القضية الخاصة بأي حد معين — مثل أنَّه زاوية قائمة — ينتج أنها زاوية. ومن القضية القائلة بأنَّ الحد أحمر ينتج أنَّ له لونًا ما. حين نقول عن الخاصية العلائقية «ب» إنَّها شكل أو إنَّها داخلية مع الحد المعين «أ» الذي يملكها، فإنَّ ذلك يعني أنَّه من القضية القائلة بأنَّ شيئًا ليس له «ب» ينتج أنَّ هذا الشيء مختلف عن أ. وبعبارة أخرى، إنَّه يعني أن نقول إنَّ خاصية عدم ملكية «ب»، وخاصية الاختلاف عن «أ»، يرتبط كل منهما بالآخر بطريقة خاصة يكون فيها خاصية كون المثلَّث القائم الزاوية مرتبطًا بكونه مثلثًا، أو أنَّ كون الشيء أحمر مرتبط يكون له لون.»١٣ والقول بأنَّ ب «تختلف عن أ» يُمكن أن يكون له معنيان مختلفان: «فقد يعني فحسب أنَّ «أ» تختلف عدديًّا عن «ب»، فهي غير «ب»، أو لا تتَّحد مع «ب» في هوية واحدة. أو قد يعني أن تلك ليست هي القضية فحسب، لكن أيضًا أنَّ «أ» ترتبط ﺑ «ب» بطريقة يُمكن أن نُعبِّر عنها بقولنا: إنَّ «أ» يختلف اختلافًا كيفيًّا عن «ب». وأولئك الذين يقولون «إنَّ جميع العلاقات تجعل اختلافًا لحدودها» يعنون دائمًا — فيما أعتقد — الاختلافات بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأول فحسب. أي إنَّهم يقصدون القول بأنَّه إذا كانت «ب» خاصية علائقية ﻟ «أ» عندئذ فإنَّ غياب «ب» يستلزم لا فقط اختلافًا عدديًّا عن «أ»، بل اختلافًا كيفيًّا كذلك.»١٤ لكن علينا أن نلاحظ أنَّه إذا كان شيء ما يختلف اختلافًا كيفيًّا عن شيء آخر، فإنَّه ينتج من ذلك أنَّه يختلف عنه اختلافًا عدديًّا.

وسوف نرى الآن ما إذا كان صحيحًا أنَّه إذا كانت «ب» خاصية علائقية و«أ» حدًّا له مثل هذه الخاصية، فإذن (١) أي حدٍّ ليس له الخاصية «ب» لا بد بالضرورة أن يكون شيئًا آخر يختلف — عدديًّا عن «أ» — و(٢) أي حد ليس له الخاصية «ب» لا بدَّ بالضرورة أن يكون شيئًا آخر غير «أ».

(١) ولكي نعرف ما إذا كان صحيحًا — لو أنَّ «أ» لها الخاصية «ب» — فإن أي حد عندئذ — ليس له الخاصية «ب» — لا بدَّ أن يكون شيئًا آخر غير «أ»: «فلنأخُذ مثلًا الخاصية العلائقية التي نقرر انتماءها إلى مُعطى حسِّي مرئي، حين نقول عنه إنَّ معطًى حسيًّا مرئيًّا آخر بوصفه جانبًا مكانيًّا: التقرير — مثلًا — الذي يتعلَّق بقطعة ملونة؛ نصفها أحمر ونصفها أصفر: هذه القطعة كلها تحتوي هذه القطعة (حيث تكون عبارة «هذه القطعة» اسمًا خاصًّا بالنصف الأحمر). إنَّه لمَن الواضح هنا تمامًا — فيما أعتقد — أنَّنا نستطيع أن نقول، بمعنى واضح وصريح تمامًا، إنَّ أيَّ كل Whole لا يحتوي على تلك القطعة الحمراء لا يُمكن أن يتَّحد في هُوية واحدة مع الكل الذي نتحدَّث عنه، وأنَّه من القضية الجزئية، ينتج أنَّ هذا الحد شيء آخر غير الكل الذي نتحدَّث عنه، رغم أنَّه ليس من الضروري أن يكون مختلفًا عنه اختلافًا كيفيًّا. فهذا الكل المُعيِّن لم يكن من المُمكِن أن يوجد دون أن تكون هذه القطعة الجزئية جزءًا منه، لكن يبدو أنَّه لا يقلُّ عن ذلك وضوحًا — لأول وهلة — أنَّ هناك خواص علائقية كثيرة لا يصدق عليها ذلك. ولكي نأخذ مثلًا فما علينا إلَّا أن نتدبَّر علاقة القطعة الحمراء بالقطعة كلها، بدلًا من أن نتأمَّل — كما حدث من قبل — علاقة الكل بها، ويبدو من الواضح تمامًا أنَّ القطعة الحمراء — رغم أنَّ الكل ما كان له أن يوجد دون أن تكون القطعة الحمراء جزءًا منه — يُمكن أن توجد تمامًا دون أن تكون جزءًا من هذا الكل المعين.»١٥
(٢) نصل الآن إلى التساؤل عمَّا إذا كان صحيحًا أنَّه إذا كان الحد «أ» له الخاصية «ب» فإنَّ أي حد عندئذ ليس له تلك الخاصية لا بدَّ بالضرورة أن يكون مختلفًا عن «أ»، أعني أنَّ «خاصية عدم امتلاك «ب» وخاصية كونه مختلفًا عن «أ» ترتبط كل منهما بالأخرى بطريقة خاصة، تكون فيها خاصية كون المثلث قائم الزاوية مرتبطة بخاصية كونه مثلثًا. أو خاصية كونه أحمر مرتبطة بخاصية كونه ذا لون» ولا يُمكِن أن يكون هناك شك في أنَّه إذا كانت «أ» لها «ب» فإنَّ أي حد عندئذ ليس له «ب» لا بد أن يكون شيئًا آخر غير «أ»، لكن هل ينتج من ذلك أنَّه إذا كانت «أ» لها «ب» فإنَّ أي حدٍّ لم يكن له الخاصية «ب» لا بدَّ بالضرورة أن يكون مختلفًا عن «أ»؟ يبدو أنَّه بينما القضية الأولى صادقة، فإنَّ القضية الثانية كاذبة، وأنَّ مصدر الخلط بين النصين هو النظر إلى العبارتين: «لا بدَّ أنَّ» «ولا بدَّ بالضرورة أن يكون» على أنَّ معناهما واحد، في حين أنَّ ما تُعبِّر عنه كلمة «لا بد» هنا هو فحسب أنَّ القضية التي تتضمَّنها تنتج من القضية القائلة بأنَّ «أ» لها «ب»، ليسَت هي بذاتها قضية ضرورية. وسوف أشرح لماذا كان من الخطأ أن نعتقِد أنَّه من القضية: «إذا كانت «أ» لها «ب» فأي حدٍّ ليس له «ب»، لا بد أن يكون شيئًا آخر غير «أ».» تنتج القضية الأخرى «إذا كانت «أ» لها «ب» فإنَّ أي حدٍّ ليس له الخاصية «ب» لا بدَّ بالضرورة أن يكون مختلفًا عن «أ».»١٦

ولنبدأ أولًا وقبل كل شيء بتحديد بعض الرموز التي سوف نستخدمها. سوف نُعبِّر فيما يتعلق بالخاصتين «ب» و«ق»: عن القضية القائلة بأنَّ أيَّة قضية تقرر عن شيء مُعيَّن أنَّ له الخاصية «ب» تستلزم القضية القائلة بأنَّ الشيء الذي نبحثه له أيضًا الخاصية «ق» على النحو التالي:

س ب تستلزم س ق.

وسوف نُعبِّر في حالة أيَّة قضية عن نقيض «ب» بالرمز «ب»، وبالتالي فإنَّ صيغة كهذه «س ب» تستلزم «س ق» سوف تعني أنَّ أيَّة قضية تتكرَّر على شيء ما أنَّ له الخاصية «ب» تستلزم القضية فيما يتعلق بالشيء الذي تتحدث عنه، أنَّ له «ق».

ومن ناحية أخرى فيما يتعلق بشيئين «ب» و«أ»، فإنَّنا سوف نُعبِّر عن القول بأنَّ ««ب» تتحد في هوية واحدة مع «أ»» بالرموز «ب = أ». وعن القول بأن «ب» لا تتحد في هوية واحدة مع «أ»، بالرموز «ب = أ».

وبناءً على الرموز السابقة، فإنَّ الصيغة الآتية:

س ب تستلزم «س = أ».

سوف تعني: «كل قضية تقول عن شيء ما إنَّه ليس له الخاصية «ب» تستلزم — فيما يتعلق بهذا الشيء — القول بأنَّه شيء آخر غير «أ».»

وهذه القضية تساوي منطقيًّا:

«س = أ» تستلزم «س ب».

وهي تُقرأ على النحو التالي: «أي شيء يتَّحد في هوية واحدة مع «أ» لا بد — في أي عالم يُمكن تصوُّره — أن يكون له بالضرورة «ب».» أو بعبارة أخرى: ««أ» لا يُمكن لها أن توجد في أي عالم ممكن دون أن يكون لها «ب».»

وسوف نستخدم كذلك الصيغة ك ق، لتعني أنَّه «من الخطأ أن تقول ك صادقة وق كاذبة.» وبالتالي فإنَّ التعبير الآتي:
أ ق أ ر.

سوف يعني أنَّ «من الخطأ أن نقول «أ ق» صادقة و«أ ر» كاذبة في آنٍ معًا.» من ناحية أخرى، فإنَّ التعبير الآتي:

س ق س ر.

سوف يعني أنَّه «إذا كان أي شيء له ق، فإنَّ هذا الشيء بالتالي له «ر»» دون أن نُقرِّر أنَّ الشيء له ق.

والآن دعنا نستَعِد من جديد النقطة موضع الخلاف؛ فنحن نذهب إلى أنَّه بينما تكون القضية «إذا كانت «أ» لها «ب» «في الواقع» فإنَّ أي حدٍّ عندئذ ليس له «ب»، لا بد أن يكون شيئًا آخر غير «أ»» قضية صادقة بغير شك. والقضية الأخرى «إذا كانت «أ» لها «ب»، فإنَّ أي حدٍّ عندئذ ليس له «ب» لا بد بالضرورة أن يكون شيئًا آخر غير «أ»» قضية كاذبة. غير أنَّ أولئك الذين يقولون إنَّ جميع العلاقات داخلية بالنسبة للحدود، يفترضون أنَّ القضية الثانية تنتج من القضية الأولى. وإذا ما استخدمنا الرموز السابقة، فإنَّ القضية الأولى تُكتب على هذا النحو:

(١) س ب تستلزم «      ».

وتُقرأ على النحو التالي: «لو أنَّ شيئًا ما «س» له «ب»، فإنَّ ذلك وحده يستلزم في هذه الحالة القضية: «إنَّه من الخطأ في آنٍ معًا القول بأنَّ شيئا آخر «و» وليس له «ب» هي قضية صادقة، وأنَّ «و» ليست متحدة في هوية واحدة مع «س»» قضية كاذبة.»

وإذا ما استخدمنا الرموز مرة أخرى، فإنَّ القضية الثانية تكتب على هذا النحو:

(۲) س ب «» يستلزم «».

وتُقرأ على النحو التالي: «إنَّه لمن الخطأ في آنٍ معًا القول بأنَّ شيئًا ما ليس له «ب» «قضية صادقة، وإنَّ غياب «ب» عن «و» يستلزم أن تكون «و» شيئًا آخر غير س» قضية كاذبة.»

ونحن نذهب إلى القول بأنَّه في حين أنَّ القضية رقم «١» صادقة، فإنَّ القضية رقم «۲» كاذبة، بينما تعني نظرية العلاقات الداخلية — من ناحية أخرى — أنَّ القضية رقم «۲» هي أيضًا قضية صادقة، وأنَّها تنتج من القضية رقم «١»، غير أنَّ القضية رقم «۲» لا يُمكن أن تنتج من القضية رقم «١»، اللهم إلَّا من قضية لها صورة:

ق تستلزم «ك ر».

فهنا تنتج القضية المقابلة لها في صورة:

ق «ك تستلزم ر».
«أمَّا القول بأنَّ ذلك خطأ، فمن السهل — فيما أعتقد — أن تتبيَّنه إذا ما تأمَّلنا القضايا الثلاث الآتية: افرض أنَّ ق = «جميع الكتب الموجودة على هذا الرف، زرقاء اللون» و«ك» = «نسختي من «مبادئ الرياضة» هي كتاب موجود على هذا الرف» و«ر» «نسختي من كتاب مبادئ الرياضة زرقاء اللون». والآن فإنَّ «ق» لا تستلزم مطلقًا «ك ر». أعني أنَّه ينتج تمامًا من «ب» أنَّ القضية «نسختي من كتاب مبادئ الرياضة ليست زرقاء اللون» لا تصدقان معًا من حيث الواقع. لكنَّه لا ينتج من ذلك — على الإطلاق — أنَّ ق «ك تستلزم ر»، ذلك لأنَّ هذه القضية الأخيرة تعني أنَّه «من الخطأ أنَّ القول في آنٍ معًا أنَّ «ق» صادقة، وأنَّ «ك تستلزم ر» كاذبة» لأنَّ «ك تستلزم ر» قضية كاذبة تمامًا من حيث الواقع؛ ذلك لأنَّه لا ينتج من القضية القائلة بأنَّ «نسختي من كتاب مبادئ الرياضة موجودة على الرف» القضية القائلة إنَّ «نسختي من كتاب مبادئ الرياضة زرقاء اللون». وببساطة فمن الخطأ القول بأنَّ القضية الثانية من هاتين القضيتين يمكن أن تُستنبط من القضية الأولى وحدها، ومن الخطأ القول بأنَّها على نفس العلاقة التي عليها القضية الشرطية المتصلة: «كل الكتب الموجودة على هذا الرف زرقاء اللون، ونسختي من كتاب مبادئ الرياضة موجودة على هذا الرف»، هذه القضية الشرطية المتصلة تستلزم في الواقع القضية التالية: «نسختي من كتاب مبادئ الرياضة زرقاء اللون»، لكن القضية القائلة بأنَّ «نسختي من كتاب مبادئ الرياضة موجودة على هذا الرف» وحدها لا تستلزم يقينًا القضية القائلة بأنَّ «نسختي من كتاب مبادئ الرياضة زرقاء اللون». وإنَّه من الخطأ القول بأنَّ نسختي من كتاب مبادئ الرياضة يمكن ألَّا تكون موجودة على هذا الرف دون أن تكون زرقاء اللون. وبالتالي فإنَّ القول بأن «ك تستلزم ر» قول كاذب، ومن ثمَّ فإنَّ «ق «ك تستلزم ر»» يمكن أن تنتج فحسب من «ق تستلزم «ك ر»» إذا كانت ق تنتج من هذه القضية الأخيرة. لكن «ق» يقينًا لا تنتج من هذه القضية: من واقعة أنَّ «كر» يمكن استنباطها من «ق» ولا ينتج من ذلك على الأقل أنَّ «ق» صادقة. ومن الواضح إذن أنَّه من الخطأ القول بأنَّ أيَّة قضية لها الصورة الآتية:
ق تستلزم «ك ر».

تستلزم القضية المقابلة في صورة:

ق «ك تستلزم ر».
طالما أنَّنا وجدنا قضية جزئية واحدة من الصورة الأولى لا تستلزم القضية المقابلة من الصورة الثانية.»١٧

ويبدو الآن واضحًا أنَّ زعم الفيلسوف الجبري بأنَّه من المستحيل على الشيء أن يكون خلاف ما هو عليه بالفعل، زعم لا يُمكن تبريره بأي معنى من المعنيين المعروضين فيما سبق في رقم «أ» و«ب».

١  انظر: ش. د. برود: «مبدأ اللاحتمية والمذهب اللاحتمي»، محاضر الجمعية الأرسطية، المجلد العاشر، ص١٣٦.
٢  المرجع نفسه، ص۱۳۷.
٣  المقصود بهذا المُصطلَح عند ليبنتز هو أن يكون الشيء ممكنًا لا وهو في عزلة مجردة عن سواه، بل هو المُمكن في صحبة من ممكنات أخرى، ولهذا فهو ممكن بالاتفاق أو بالمشاركة مع آخر. (المترجم)
٤  المونادولوجي، ترجمة ك. لاتا، الطبعة الثانية، ص٦٤.
٥  ليس هذا هو المعنى الوحيد «للعلاقات الداخلية». قارن أ. س. يوونج، «المذهب المثالي: دراسة نقدية»، الفصل الرابع، تجد أنَّ المؤلف في الفقرة الأولى يذكر عشرة معانٍ مختلفة ﻟ «العلاقات الداخلية».
٦  يواقيم، طبيعة الحقيقة، ص١١. وقد يفترض أنَّ العلاقة لا تضفي صفة على حدودها، فبرادلي يقول في حجته التي يُعارض بها حقيقة العلاقات وواقعيتها: إنَّ العلاقة لا بدَّ أن تُعالَج إمَّا على أنَّها صفة أو حد ثالث، فلو كانت صفة فسوف تصف الحدود، لكنَّها لن تربط بينها، ولو كانت حدًّا ثالثًا فسوف تحتاج إلى علاقة جديدة لتربط بينها وبين كل حدٍّ آخر … وهكذا إلى ما لا نهاية.
٧  ج. أ. مور «دراسات فلسفية» (۱۹۲۲م)، ص۲۸۳-٢٨٤.
٨  وليم جيمس، إرادة الاعتقاد، ۱۹۳۱م، ص١٥٥-١٥٦.
٩  هارولد ﻫ يواقيم، طبيعة الحقيقة، ١٩٠٦، ص۱۱.
١٠  نفس المرجع، ص۱۲.
١١  حرف ل هنا يشير إلى اللحظة؛ فالمقصود هو أنَّ الشيء «أ» له الخاصية الفلانية في هذه اللحظة المعينة، وﺟ ليس لها نفس هذه الخاصية في نفس اللحظة. (المترجم)
١٢  ج. أ، مور، دراسات فلسفية، مقالة «العلاقات الداخلية والخارجية» ١٩٢٢م، ص٢٧٦-۳۰۹.
١٣  نفس المرجع، ص٢٨٤-٢٨٥.
١٤  نفس المرجع، ص٢٨٥-٢٨٦.
١٥  نفس المرجع، ص۲۸۷-۲۸۸.
١٦  قارن جورج مور، دراسات فلسفية، ص٢٩١ وما بعدها.
١٧  ج. أ. مور «دراسات فلسفية»، ص٥٠٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤