الفصل السابع

الجبر الذاتي

(١) المذهب اللاحتمي مرفوض — عرض هذا المذهب. (۲) الحرية تعني انعدام القيود — أن تكون حرًّا من كل شيء معناه أن تكون لا شيء. (۳) مذهب اللاحتمية يهدم المسئولية الخلقية لأنَّه هدم الهوية الذاتية. (٤) الثواب والعقاب لا بد أن يكون ظالمًا وعقيمًا. (٥) كلٌّ من الفيلسوف الجبري والفيلسوف اللاحتمي قد يكون مُحقًّا فيما يؤكِّده، مُخطئًا فيما ينكره. فمن الممكن أن يكون للإرادة سبب، وأن يكون هذا السبب نفسه، ذلك حرًّا. (٦) التفرقة بين الشرط الذي يكون ضروريًّا للمشروط conditionate، وبين الشرط الذي يكون في آنٍ معًا ضروريًّا وكافيًا. (۷) عرض السببية الميتافيزيقية. (٨) عرض السببية التجريبية - مقارنة بين التصورات الميتافيزيقية والتصورات التجريبية للسببية. (٩) التصوُّر الثالث الذي يقع بين الطرفين الأقصيين. الشرط قد يكون ضروريًّا للمشروط دون أن يتبعه المشروط بالضرورة. (۱۰) هذه الوجهة من النظر تختلف عن وجهة نظر كل من اسبينوزا وليبتنز - وجهة نظر اسبينوزا. (۱۱- ۱۲) نقد وجهة نظر اسبينوزا: (۱۱) كيف يُمكن للأحوال modes الزمانية المتناهية أن تنتج من جوهر خالٍ لا متناه. (۱۲) وبناءً على ذلك فإنَّ رأي اسبينوزا في أنَّ الإرادة ضرورية رأي مرفوض. (۱۳) وجهة نظر ليبنتز في أنَّ الإرادة حادثة لكنها يقينية؟ (١٤-١٦) نقد وجهة نظر ليبنتز. (١٤) المشكلات التي أثارها «أرنولد» مشكلات حقيقية. (١٥) التنبؤ بالمستقبل تناقض في الألفاظ. المستقبل المُتنبأ به عبارة عن ماضٍ. المعرفة الإلهية المُسبقة تهدم حرية الله كما تهدم حرية الإنسان. (١٦) اقتباس قصة سكستوس تاركونيس لتوضيح نظرية ليبنتز. (۱۷) كلتا النظريتين تجعل الشعور لا معنى له. (۱۸) المذهب الآلي مرفوض هو الآخر؛ لأنَّ التطور عنده تطوير غير خالق. (۱۹) نقد تصوُّر دارون للتطوُّر. (۲۰) الأخذ بنظرية لامارك. (٢١) التطور الحقيقي لا بد أن يتضمَّن خلق شيء جديد. (٢٢) الحياة تنبثق في جدة مطلقة. (۲۳) مقارنة الحياة بعملية الخلق عند الفنان. (٢٤) خُلق الإنسان ليس شيئًا ثابتًا ومحددًا. (٢٥) يُمكن التنبؤ بالواقعة دون الفعل. (٢٦) فشل كل محاولة للتوفيق بين العلم الإلهي بكل شيء، والحرية الإنسانية. (۲۷-۳۱) مناقشة حجج مختلفة بهذا الصدد: (۲۷) القول بأنَّ المعرفة المسبقة لا تعني حدوث الحادثة المتنبأ بها. (۲۸) القول بأنَّ الله يوجد في «آنٍ» أبدي. (٢٩) تصوُّر المعرفة الإلهية المسبقة بمماثلتها بالفن. (۳۰) مشكلة الشر على نحو ما نوقشت في المراسلات بين بلينبرج واسبينوزا. (۳۱) محاولة جيمس للتوفيق بين المعرفة الإلهية المسبقة وبين الحرية الإنسانية — عرض هذه المحاولة ونقدها. (٣٢) أي تصور لواقع ثابت هو تجريد يقوم به العقل البشري. الواقعة دائمًا في صيرورة، وهي تخلق باستمرار شيئًا جديدًا. (۳۳) مفارقة العلم الإلهي السابق وحرية الإنسان لا بزوال العنصر غير الحقيقي، أعني المطلق والاحتفاظ بالعنصر الحقيقي، أعني العنصر النسبي الناقص. (٣٤) إذا ما أراد شخص ما على الإطلاق فإنَّ إرادته لا بد أن تكون حرة.

•••

(١) إذا كنَّا قد رفضنا المذهب الجبري باعتباره مذهبًا يقوم على غير أساس، فإنَّنا نرفض — لنفس السبب — مذهب اللاجبرية الخالص، فهو مذهب لا يُمكن الدفاع عنه: وأنا أعني بمذهب اللاجبرية الخالص، تلك النظرية التي ترى أنَّه ليس ثمَّة شيء ترى أنَّه ليس ثمة شيء في طبيعة «س» — أو في طبائع الأشياء التي ترتبط بها — يلزم «س» أن تكون لها الخاصية «ص» في اللحظة «ل». وبناءً على هذه النظرية فإنَّ «س» يُمكن أن تكون أي شيء في أيَّة لحظة دون أن يكون هناك ارتباط على الإطلاق بين الحاضر من ناحية، وبين الماضي والمستقبل من ناحية أخرى.

ويقول «جيمس» عن تطبيق هذا المذهب على الكون بصفة عامة: «يرى المذهب اللاجبري أنَّ لأجزاء الكون مقدارًا معينًا من تأثير بعضها في بعض تأثيرًا لا تحديد فيه ولا تعيين، بحيث إنَّ وجود أحدها لا يُحدد بالضرورة الكيفية التي ستوجد عليها الأجزاء الأخرى. وهذا المذهب يُسلِّم بأنَّ الممكنات قد تزيد على الوقائع، والأشياء التي لم تنكشف لمعرفتنا بعد قد تكون في ذاتها مبهمة أو مزدوجة الدلالة. وقد نتصوَّر بديلين للمستقبل كلاهما الآن ممكن الحدوث، ولكن لا يصبح أحدهما مستحيلًا إلَّا في لحظة يستبعده فيها الآخر حين يتحقَّق ويصبح واقعيًّا».١

أمَّا فيما يتعلَّق بالسلوك البشري فإنَّ هذا المذهب يرى أنَّ الفاعل حين يسلك سلوكًا مُعيَّنًا مثل «أ»، فإنَّه لا يكون مقيدًا في فعله هذا بأي شيء داخليًّا كان أم خارجيًّا، فهو لا يسلك سلوكه هذا ويفعل الفعل «أ» لأنَّه يُحقِّق أعلى رغبة من رغباته، ولا لأنَّه يجلب أعظم قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، ولا لأنَّه صادر عن سلطة الواجب الداخلية، ولهذا فهو يختاره ويُفضِّله على جميع الأفعال الأخرى، وهو ليس مقيدًا في فعله هذا بتركيبه الجسمي أو العقلي، أو الوراثة، أو البيئة التي نشأ فيها. إنَّه باختصار شديد يفعل الفعل «أ» بلا سبب، فليست هناك مُقدمات من أي نوع تضطره أن يفعل «أ» ويستبعد البدائل الأخرى، فهو لا يرتبط بغاية تغريه بهذا السلوك، ولا بمقدمات تضطره إليه. إنَّ فعله هو ببساطة وبوضوح: مجرد صدفة.

ونحن نرفض مثل هذه اللاجبرية الخالصة، أو حرية اللامبالاة وعدم الاكتراث؛ لأنَّها تعني ببساطة العشوائية، التي هي سلب للعقل والقانون، فكل شيء عند هذا المذهب ممكن ولا شيء مستحيلًا. ولن يكون هناك شيء مؤكَّد في حياة الإنسان لأنَّ الرجل الفاضل قد ينقلب فجأة إلى رجل سَيِّئ السلوك، ومن ثم فكل محاولات المربي تُصبح بغير جدوى.

(٢) إذا كانت الحرية لفظًا خاصًّا یعني — بمعنى من معانيه — انعدام القيود، فإنَّ الحرية المطلقة لا بد أن تعني أن تكون حرًّا من جميع القيود؛ أن تتحرَّر من الأشياء الخارجية ومن الطبيعة، ومن الناس من حولك، ومن القانون، ومن العقل، ومن الوراثة. لكنَّك من ناحية أخرى: «لو تحرَّرت من كل شيء لكان معنى ذلك أنَّك لا شيء؛ فاللاشيء أو العدم هو وحده الحر حرية مطلقة: الحرية المطلقة هي العدم المجرَّد، ومن هنا فإذا كان الإنسان بالموت يتوقَّف عن أن يكون شيئًا، فإنَّه — بالموت أيضًا — يكون لأول مرة حرًّا حرية مطلقة لأنَّه سيُصبِح لا شيء.»٢

(٣) إنَّه لمن الخطأ أن نظن أنَّ المذهب اللاجبري يجعل المسئولية الخلقية واضحة بنتائجها في الثواب والعقاب؛ إذ الواقع أنَّه لا شيء يهدم المسئولية الخلقية كما تهدمها حرية اللامبالاة.

«إنَّ ما يطلبه دعاة الحرية عادة من حيث الأساس هو «القدرة على الفعل بطريقة أخرى» وهو في نفس الوقت أن يفعل أو يقوم بالفعل وأيضًا ألَّا يفعل، وذلك إنكار — لا قبول — للمسئولية، أعني تكيف الذات بكيف عن طريق سلوكها. إنَّه يُقدِّم ما يتظاهر بالسؤال عنه، وهو أنَّ الفعل الذي سيقدم عليه سيكون فعله هو وسيكون ذاته نفسها. وهو يهرب من مطلبه في اللحظة التي يواجه فيها معناه، في كل فعل بل حتى في لحظة أداء الفعل فإنَّ عليه أن يكون كما لو لم يفعل شيئًا ولا قام بفعل شيء، فهو غير مُلتزم وغير متطوِّر. قد يُقال لكنَّه «غير ملتزم قبل الفعل لا بعده» لكن ذلك ليس إلَّا مراوغة وتملصات. فلو أنَّه كان غير ملتزم بعدة آلاف من الأفعال، وقبل الفعل الواحد بعد الألف فهو غير ملتزم على الأقل بعد الفعل الواحد بعد الألف. إنَّ وجهة نظر هذا المذهب ليست هي أنَّ الفعل يصف الذات بسمة معينة، بل هي بالأحرى أنَّ الفعل لا يصف الذات بأيَّة صفة.»٣

إنَّ اللاجبرية المطلقة تعني أنَّ فعلي في لحظة معينة لا يرتبط على الإطلاق بما حدث أو بما وُجِد في اللحظة الماضية أو لحظات الزمان؛ لأنَّه لو كانت هناك مثل هذه الرابطة بين الماضي والحاضر لكان معنى ذلك أنَّ الفعل — كليًّا أو جزئيًّا — مُحدَّد بالمقدم. لكن القول بأنِّي في كل لحظة شخص جديد تمامًا تصدر عني أفعال في استقلال عن ماضٍ يؤدي إلى هدم الهوية الذاتية، ويعفيني بالتالي من المسئولية.

إنَّ الهوية لا تعني شيئًا ما لم تعن التشابه الذاتي مع الاختلاف في آنٍ معًا، وما لم نتصوَّر الفاعل على أنَّه تشابه ذاتي «أو نفس الشخص» مع اختلافات في عرض هذه الشخصية فإنَّنا لن نستطيع أن نحمل عليه أيَّة صفة. يقول برادلي في هذا المعنى: «إنَّ اسم شخص ما هو اسم لفرد معين يبقى موجودًا وسط التغيرات الجزئية».٤ فوجود الفاعل لا يعني مجرد تتابع لحظات جزئية، لكنَّه يعني هوية تجاوز هذه اللحظات الجزئية. «لأنَّه ما لم يكن الشخص متميزًا فسوف يصعب أن يكون له اسم خاص يعتمد على بقائه هو نفسه وسط التغيرات، ونحن لا نستطيع أن نُدرك شيئًا ما لم تكن له خاصية معينة أو مجموعة من الخصائص نستطيع من وقت لآخر أن نُوحِّد بينها، فالفرد يبقى هو نفسه وسط تغير الظاهر، وهذا يعني أنَّ له هوية حقيقية.»٥
والفيلسوف اللاجبري حين يُنكر وجود أي ارتباط بين الماضي والحاضر فإنَّه بذلك يُنكر دوام التشابه الذاتي للفاعل، وهو بالتالي يُلغي الهوية ومعها — بالطبع — المسئولية؛ ذلك لأنَّ وجود الهوية مرتبط بالمسئولية، لأنَّك حين تقول عن شخص ما إنَّه مسئول عن أفعاله، فإنَّك تعني أنَّه يظل في هوية مع نفسه في الماضي والحاضر، وإذا ما بقي الفرد في هوية مع نفسه في لحظتين مختلفتين — إذا كان غدًا هو نفسه بهويته الحاضرة — فلا شك أنَّ هناك ارتباطًا بين الماضي والمستقبل، أي إنَّه سيكون مُقيَّدًا في سلوكه غدًا بما هو عليه الآن. ومن هنا فإنَّ مذهب اللاجبرية الخالصة يتناقض مع المسئولية الخلقية، لأنَّه ما لم يكن هناك ارتباط بين اللحظات المتتالية في حياة الإنسان، فسيكون من الخلف أن تَنسب إليه مسئولية خلقية في لحظة ما عمَّا فعله في لحظة سابقة: «إنَّ الشرط الأول لإمكان أن أكون مذنبًا أو غير مذنب، أعني أن أصبح موضوعًا لحكم أخلاقي، هو التشابه الذاتي: أن أكون أنا نفسي باستمرار شخصًا واحدًا في هوية ذاتية مع نفسي.»٦ وفضلًا عن ذلك «فإنَّه من المستحيل أن ننظر إلى الوجود على أنَّه يتكوَّن من وحدة مع اختلاف المضمون، ونفترض مع ذلك أنَّ طبيعة المضمون هي أن يكون غير مكترث، وأنَّه ليست له طريقته المعينة في الاستجابات وتحوُّل الكل.»٧
(٤) كلَّا، ولا يُمكِن أن نجد في مثل هذه النظرية أساسًا معقولًا لفكرتي الثواب والعقاب، أو استحسان واستهجان ما يفعله شخص ما. فلو كان الفعل الخاطئ الذي ارتكبه الآن يَنفصِل تمامًا عن ماضيَّ ومستقبلي فلا بد أن يكون عقابي ظالمًا بقدر ما هو عقيم مجدب، فهو ظالم لأنَّني في لحظة العقاب — وهي لحظة لا بدَّ بالضرورة أن تكون مختلفة عن اللحظة التي ارتكبت فيها الفعل الخاطئ — لا أكون الشخص الذي كنته عند اقتراف الخطأ، وهو عقيم مجدب لأنَّه لن يكون له أدنى أثر على سلوكي في المستقبل. والواقع أنَّه «لو كانت أفعال الإنسان الإرادية غير مُقيَّدة بالظروف التي يتضمَّنها نسق تكوينه الذهني، فإنَّ الأساس الوحيد لعقابه في هذه الحالة لا بد أن يكون انفعالًا من انفعالات الحنق أو الانتقام.»٨ وهذا الانفعال نفسه موجَّه توجيهًا خاطئًا.
وهكذا يتَّضح أنَّ مذهب اللاجبرية الخالصة لا يُنقذ المسئولية الخلقية كما يزعم عادة، فقد ذهب دُعاته إلى القول بأنَّ الإنسان مسئول فحسب لأنَّه ليس ثمة مُبرِّر يدعوه إلى أن يفعل هذا الفعل وأن يمتنع عن ذاك. وهم يقولون إنَّ كون الإنسان مسئولًا يعني أنَّه يستحيل عليه هو نفسه، كما يستحيل على أيِّ شخص آخر أن يعرف ما الذي سيفعله في اللحظة القادمة. إنَّنا لا يُمكن أن نعرف ما هي أفعاله إلَّا بعد أن يفعلها بالفعل، وعندئذ نعرف أنَّ هذه الأفعال كان يُمكن أن تكون الضد على خط مستقيم: «إنَّه بمقدار ما تهتم بإنقاذ المسئولية … فإنَّها تُحطِّم شروطها ذاتها … إنَّها تصف ذلك الشخص الذي ليس مسئولًا، إنَّه الشخص المعتوه.»٩
(٥) ومن ذلك يتَّضح أنَّ الجبرية التامة، واللاجبرية الخالصة مذهبان خاطئان. «فأحدهما «المذهب الجبري» يزعم أنَّ لكل شيء سببًا، وينتهي إلى إنكار حرية الإرادة، بينما يفترض الآخر الحرية كحقيقة مُقرَّرة وينكر أن يكون للإرادة سبب. وقد يجوز أن يكون كل مذهب منهما محقًّا فيما يُؤكِّده مخطئًا فيما يُنكِره، أعنَّي أنَّه من المُمكِن أن يكون للإرادة سبب، وأن يكون هذا السبب نفسه مع ذلك حرًّا.»١٠

والقول بأنَّ الإرادة مشروطة وحرة في آنٍ معًا هو ما نعنيه «بالجبر الذاتي»؛ فالأفعال الإرادية ترتبط ارتباطًا سببيًّا بمقدمات معينة تقوم في طبيعة تكوين الفاعل نفسه، ما دامت هذه الأفعال تُعبِّر عن طبيعة الفاعل وتُحقِّق ذاته، وهي في نفس الوقت حرة، لأنَّها ليسَت نتاجًا ضروريًّا لشيء آخر خارج طبيعة الفاعل نفسه، فبمقدار ما يكون الفاعل مكتفيًا بذاته في تفسير الفعل الإرادي فهو حر إلى هذا الحد في هذا الفعل، وهو بإنجازه له على هذا النحو يكون محددًا بذاته أو مُجبرًا ذاتيًّا. غير أنَّ هذه النقطة تحتاج إلى توضيح أكبر.

(٦) كلمة «الشرط» إمَّا أنَّها تعني مقدمًا ضروريًّا، أو مقدمًا ضروريًّا وكافيًا في آنٍ معًا. والشرط الضروري هو شيء إذا تحقَّق جعل تحقُّق النتيجة ممكنًا. أعني أنَّ «النتيجة» لا يُمكن أن تتحقَّق دون أن يسبقها الشرط الذي هو سببها، في حين يُمكن التفكير في الشرط مستقلًّا عنها. لكن الشرط الضروري والكافي هو شيء، إذا تحقَّق جعل تحقُّق النتيجة المشروطة ضروريًّا ولازمًا. وفي هذه الحالة لا يُمكن التفكير في أي من الحدين بمعزل عن الآخر، لأنَّ العلاقة بين الاثنين مطلقة.

(٧) وهذا الطابع المطلق للعلاقة بين الحدين في الحالة الثانية والضرورة التي بها يتبع «المشروط» الشرط تؤلِّف ما يُمكن أن نُسمِّيه بالسببية الميتافيزيقية وهي التي نجد فيها أنَّ الترابط الضروري بين السبب والنتيجة يُمكن معرفته معرفة أولية عن طريق تحليل التصورات؛ أي إنَّ معرفته لا تتوقَّف على التجربة التي لا تكشف إلَّا عن العلاقات العرضية وحدها. وهذه السببية الميتافيزيقية — فضلًا على أنَّها تعني ضرورة العلاقة بين السبب والنتيجة — تتضمن وحدة كامنة وراء ثنائيتهما: «إذ كيف يُمكن للضرورة المتبادلة بين تصور حد مع حد آخر، وهي الضرورة التي بواسطتها لا يكون تحقُّق النتيجة إلَّا تحقُّقًا ضروريا للسبب — كيف يُمكن لنا أن نتصوَّرها، ما لم تتَّحد ثنائية الحدين في وحدة أساسية واحدة؟ حين لا نستطيع تصوُّر السبب بدون النتيجة، أو حين تتضمَّن ماهية السبب ماهية النتيجة. عندئذ لا يُصبح التصوران بعد ذلك اثنين، لكنهما يَمتزجان في تصور واحد. وفي هذه الحالة يصبح السبب ضروريًّا للنتيجة والنتيجة ضرورية للسبب؛ ومن ثمَّ تصبح النتيجة في هوية واحدة مع السبب، والعكس صحيح أيضًا.»١١
(٨) أمَّا التصوُّر التجريبي للسبَبية فهو عكس هذا التصور الميتافيزيقي: فبدلًا من الرابطة الضرورية بين السبب والنتيجة نجد أنَّ العلاقة بينهما حادثة أو عرضية تمامًا. وإذا كان التصوُّر الميتافيزيقي يميل نحو الوحدة وراء الكثرة، فإنَّ التصوُّر التجريبي يتجه نحو الكثرة، فالأول يهتمُّ بهوية السبب والنتيجة، والثاني يهتم بالتتابع البسيط. والقضايا التي يُصدرها الأول عن الواقع قضايا تحليلية لا يضيف فيها المحمول إلى الموضوع شيئًا جديدًا، حتى إنَّه ليُمكن منطقيًّا استنباط الموضوع من المحمول. بينما القضايا التي يذكرها الثاني قضايا تركيبية، حتى إنَّنا نجد أنَّ التحليل الكامل للموضوع لا يُؤدي إلى استخراج المحمول منه: القضايا الأولى أولية يمكن معرفتها بمعزل عن التجربة، أمَّا الثانية فهي بعدية لا يُمكن معرفتها إلَّا عن طريق التجربة وحدها. وبناءً على التصور الأول للسببية نجد أنَّ الشرط «أو السبب» لا يُمكن تصوُّره بدون المشروط أو النتيجة التي تعقبه، أمَّا في حالة التصوُّر الثاني فإنَّ تتابع الحدين لا يُمكن ملاحظته إلَّا في الماضي فحسب، وقد يتكرَّر — أو لا يتكرَّر — في المستقبل، فهو تتابع بغير علة Reason تُبرِّره، والأساس الوحيد الذي يقوم عليه هو تعوُّدنا على ملاحظته. وإذا كان ثمة وحدة تضم التعدد المطلق للواقع، فهي وحدة — بناءً على المبدأ التجريبي — تفرضها الذات على الواقع، لكنَّها هي نفسها ليست وحدة داخلية تقوم في قلب هذا الواقع.

(٩) لكن ألا توجد حلقة وسطى بين هذين الطرفين الأقصيين، أعني بين التصوُّر الميتافيزيقي والتصوُّر التجريبي للسببية، بحيث تُشكِّل تصورًا ثالثًا للعلاقة السببية؟ هناك بالفعل خطوة وسط؛ ففي حين أنَّ المقدم في السببية الميتافيزيقية ضروري وكافٍ، وفي السببية التجريبية لا هو ضروري ولا كافٍ، فهو في هذا التصور الثالث: تصوُّر ضروري لكنَّه ليس كافيًا.

سبق أن ذكرنا — في الفصل الثالث — أنَّ الإرادة يُمكن أن تُحلَّل إلى الانتباه وإلى فكرة التغير، بشرط أن يَتحقَّق وفقًا لمضمون الفكرة وبنشاط الفاعل نفسه على نحو يشعر معه أنَّه يتحقَّق ذاته في هذا الفعل. ورأينا أنَّ الفرد المُنتبِه لمثل هذه الفكرة يكون نشطًا، أعني أنَّه يوجِّه نفسه، ويتميَّز عن ذلك الذي يوجهه غيره. ولكي ندعم هذه الفكرة لجأنا إلى التجربة من ناحية، وحاولنا أن نُبيِّن — من ناحية أخرى — أنَّ النظرية المعارضة، وهي نظرية المذهب الجبري، نظرية لا تقوم على أساس سليم. إنَّ الفاعل حين ينتبه إلى فكرة التغير يُحدِّد نفسه لأنَّه قبل فعل الانتباه لم يكن ثمة شيء يؤثر فيه، بحيث يجعله ينتبه إلى هذه الفكرة الجزئية، فتلك هي الوظيفة الأساسية لفرديته العينية. ومعنى ذلك أنَّ العملية التي تبدأ من الانتباه إلى فكرة معيَّنة وتنتهي بتحقيق هذه الفكرة مشروطة بشخصية الفاعل. لكن العلاقة هنا بين الشرط والمشروط تجعل من المُمكِن تصوُّر الأول بدون الثاني، على الرغم من أنَّ الثاني لا يُمكن تصوُّره بدون الأول؛ فالعلاقة بين شخصية الفاعل وفعله الإرادي ليست هي نفسها العلاقة بين المثلث وخواصِّه. كلَّا، ولا هي كالعلاقة السببية بين الجدار وبياضه، لكنَّها علاقة من نوع خاص؛ فهي تعني أنَّه بدون هذه الشخصية العينية للفرد لا يُمكن أن يصدر على الإطلاق مثل هذا الفعل الإرادي. لكن هذه الشخصية العينية نفسها يُمكن أن توجد دون أن يكون هذا الفعل الإرادي نتيجة ضرورية لها.

(١٠) وهذه النظرية تختلف عن النظرية التي تُنسَب — عادة — إلى اسبينوزا، كما تختلف عن نظرية ليبنتز. فاسبينوزا يقول في القضية الأولى من كتاب الأخلاق: «الجوهر بطبيعته سابق على أحواله its affections»١٢ وهو بذلك يسعى إلى البرهنة على أنَّ ذلك الجوهر الذي يتألَّف من صفات لا متناهية يوجد وجودًا «ضروريًّا». ومن ضرورة الطبيعة الإلهية لا بدَّ أن تنتج أعدادًا لا متناهية من الأشياء بطرق لا متناهية «أعني جميع الأشياء التي يُمكن أن يتصوَّرها عقل متناه».١٣ إذ من الواضح أنَّه يُمكن أن ينتج عدد من الخصائص بطريقة ضرورية من التعريف الذي نُقدمه لأيِّ شيء. وكلَّما كان تعريف الشيء يُعبِّر نسبيًّا عن واقع أعظم، استنتجنا منه خصائص أكثر. لكن الطبيعة الإلهية تَمتلك صفات لا متناهية بطريقة مُطلقة؛ ومن ثم لا بد أن تنتج جميع الأشياء التي يُمكن أن نتصوَّرها من ضرورة الطبيعة الإلهية. وبعبارة أخرى «أعني الجوهر» هو السبب الكامن في جميع الأشياء:١٤ «وأي شيء يضطرُّ إلى فعل ما فهو مضطر إلى ذلك عن طريق الله بالضرورة، والشيء الذي لا يضطر عن طريق الله على هذا النحو لا يُمكن أن يُحدِّد نفسه لأي فعل.»١٥ ومن ثمَّ «فليست هناك إرادة يُمكن أن توجد أو أن تتحدَّد للفعل، ما لم يتحكَّم فيها سبب آخر، ويتحكَّم في هذا السبب الجديد سبب آخر، وهكذا، إلى ما لا نهاية.»١٦
(١١) دعنا الآن نُسلِّم بالوجود الضروري للجوهر لنرى ما إذا كانت حالات الفرد يُمكِن استنباطها استنباطًا ضروريًّا من هذا الجوهر دون الوقوع في التناقُض. إنَّ الجوهر هو بالضرورة أزلي ولا متناه، في حين أنَّه من المفروض أنَّ حالات الفرد متناهية وعابرة. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: طالما أنَّ كل ما ينتج بالضرورة عن المتناهي والأزلي لا بد أن يكون مثله متناهيًا وأزليًّا، فكيف يُمكن أن تكون هناك أحوال Modes متناهية وعابرة؟ إنَّه وفقًا لما يقول اسبينوزا نفسه «فإنَّ الفرد أو الشيء المُتناهي أو ما له وجود متعين، لا يُمكن أن يوجد أو أن يتجدَّد للفعل ما لم يتحدد للوجود، والفعل عن طريق سبب آخر يكون هو بدوره متناهيًا وله وجود متعين. وهذا السبب بدوره لا يُمكن أن يوجد ولا أن يتحدَّد للفعل إلَّا عن طريق شيء آخر، وهكذا، إلى ما لا نهاية.»١٧
ولو أنَّنا الآن بدأنا بشيء معيَّن متناه وتعقبناه عائدين القهقرى إلى سببه المتناهي، أو من هذا الأخير إلى سببه المتناهي، وهكذا إلى ما لا نهاية، لبدا مُستحيلًا أن تصل هذه العملية إلى اللامتناهي، ولستُ أجد أيَّة عملية أخرى يُمكن أن تصل بنا إلى اللامتناهي من خلال المتناهي.١٨
وإذا لم يكن ثمة حل لإزالة مفارقة خروج المتناهي من اللامتناهي، فإنَّ مذهب اسبينوزا كله سوف يُحكم عليه بالفشل. ولا شيء يمكن أن ينقذ مذهب اسبينوزا كله من إنكاره الكامل للحقيقة التي تنسب للأشياء المتناهية. ولا بد أن تبدو الأحوال Modes بغير وجود متميز عن وجود الجوهر، كما أنَّ الوجود الزماني الذي يُنسب إلى هذه الأحوال لن يكون إلَّا مظهرًا وهميًّا مصطنعًا للوجود الآلي. بل إنَّه لن يكفي الزعم بأنَّ الجوهر يُخفِّف الفوارق بين الأحوال، لكنَّه لا يلغيها. أقول لا يكفي ذلك لأنَّ هذه الأحوال المتناهية سوف تظل وقائع متميزة ومنفصلة. وباختصار فإنَّ مذهب اسبينوزا لكي يتَّسق مع نفسه فلا بد ألَّا يكون هناك جوهر له أحوال على الإطلاق، بل لا بد أن يتركنا مع الوجود البارميندي فحسب.
(١٢) إنَّنا بإظهار ضعف نظرية اسبينوزا القائلة بأنَّ جميع التحولات تنبع بالضرورة من ماهية الجوهر، فإنَّنا نهدف إلى أن نرفض بصفة خاصة قضيته القائلة بأنَّه «لا يُمكن أن تُسمَّى الإرادة سببًا حرًّا، لكنَّها يُمكن أن تُسمَّى فحسب سببًا ضروریًّا.»١٩
وسوف نلاحظ أولًا أنَّ «الإرادة تستخدم في هذا الكتاب بمعنى يختلف عن المعنى الذي استخدم فيه اسبينوزا هذه الكلمة؛ فهي عنده تعني «حال من أحوال الفكر فحسب»،٢٠ في حين أنَّنا نستخدمها في هذا البحث لنعني العملية كلها التي تبدأ من «حال معينة من حالات الفكر» وتَنتهي بالتحقُّق الكامل لمضمون هذه الحال من أحوال الفكر.»

وواضح ثانيًا أنَّ اهتمامنا ينصبُّ على الإرادة بوصفها نتيجة أكثر منها سببًا، فهي بوصفها نتيجة سببها شخصية الفاعل — حرة، بمعنى أنَّ شخصية الفاعل التي هي سبب الإرادة ضرورية، لكنها ليست كافية. أعني إذا كان الفعل المراد لا يُمكن تصوُّره بدون سببه، فإنَّ هذا السبب نفسه يُمكن تصوُّره دون أن يستتبع ذلك بالضرورة الفعل المراد. ومعنى ذلك أنَّ السلوك الإرادي هو النتيجة المُمكنة — لا الضرورية — لسبب ضروري، وهذا السبب الضروري نفسه ليس كافيًا، أعني أنَّه يُمكن تصوُّره دون تصوُّر النتيجة، لكن العكس غير صحيح.

(١٣) كلَّا، ولا تتَّفق وجهة نظرنا مع نظرية ليبنتز التي ترى أنَّ الإرادة حادثة، لكنها يقينية. إذ يرى ليبنتز أنَّ تصوُّر الجوهر الفردي يشمل مرة واحدة وإلى الأبد كل شيء يُمكن أن يحدث له. وحين ينظر المرء إلى هذا التصوُّر سيكون قادرًا — فيما يعتقد ليبنتز — على أن يرى كل ما يُمكن أن يُقال عن الفرد، تمامًا كما يستطيع المرء أن يرى في طبيعة الدائرة جميع الخواص التي يُمكِن أن تُستخرَج منها. ثم تساءل ليبنتز: «لكن ألا يبدو أنَّ الفرق بين الحقائق الحادثة والحقائق الضرورية سوف يَتحطَّم بهذه الطريقة، وأنَّه لن يكون مكان للحرية البشرية، وأنَّ قدرية مُطلقة absolute fatality سوف تسود جميع أفعالنا كما تسود جميع الحوادث في العالم؟»٢١ ولقد أجاب هو نفسه على سؤاله يقول: «لا بد أن يكون هناك تمييز بين ما هو يقيني وما هو ضروري … إنَّ الرابطة أو التتابع نوعان؛ الأول ضروري ضرورة مطلقة، وهو الذي ضده يتضمَّن تناقضًا، يحدث في الحقائق الأزلية eternal veritites، مثلما يحدُث في حقائق الهندسة Truths of Geometry، أمَّا الثاني فهو ضروري فرضًا exhypothesi، أو هو كذلك بالصدفة by accident، إن صحَّ التعبير، وهو في ذاته عرضي، طالما أنَّ ضده ليس متضمنًا.»٢٢
(١٤) وواضح أنَّ ليبنتز بهذه النظرية يُحاوِل أن يضمن علم الله السابق وحريته وكذلك حرية الموجودات البشرية. لكنِّي أعتقد أنَّ المشكلات والصعوبات التي أثارها «أرنولد» في مراسلاته مع «ليبنتز» حول هذا الموضوع هي مشكلات وصعوبات حقيقية. فلو كان التصوُّر الفردي لكل شخص يتضمَّن مرةً واحدةً، وإلى الأبد، كل ما يُمكن أن يحدث له، «كان الله حرًّا في أن يخلق آدم أو لا يخلقه. لكن افرض أنَّه قرَّر أن يخلقه، إنَّ كل ما قد حدث للجنس البشري، وكل ما سوف يحدث له، قد حدث وسوف يحدث بضرورة أكثر منه بقدر. لأنَّ التصوُّر الفردي لآدم يتضمَّن أنَّه لا بد أن يكون له مثل هذا العدد الكبير من الأطفال، والتصوُّرات الفردية لهؤلاء الأطفال تتضمَّن كل ما سيفعلونه، كما تتضمَّن جميع الأطفال الذين سيُولدون لهم … وهكذا. ومن ثمَّ فإنَّ الله ليسَت لديه حرية بالنسبة لهذا كله — بشرط أنَّه أراد أن يخلق آدم — أكثر من حريته في أن يخلق طبيعة عاجزة عن التفكير على افتراض أنَّه أراد أن يخلقني.»٢٣
ويقول أرنولد Arnauld في رده على شرح «ليبنتز» الذي يقول فيه إنَّه من بين العدد اللامتناهي من «فئة آدم Adams» الممكنة اختار الله آدم، هذا الجزئي الذي كانت له خصائص فردية معينة؛ لأنَ مثل هذا الاختيار سيجعل من العالم أفضل العوالم المُمكنة، يقول «أرنولد» في ردِّه على ذلك: «وسط موجودات ممكنة، وجد الله في أفكاره عدة شخصيات يُمثلونني several me’s، واحدة من هذه الشخصيات لها عدة محمولات: أن يكون لها مجموعة من الأطفال، وأن تكون طبيبًا، وشخصية أخرى لها محمولات أن يحيا حياة أعزب وأن يكون لاهوتيًّا. ولقد قرَّر الله أن يخلق الشخصية الأخيرة، وهي أنا بوضعي الراهن، مشتملًا في تصوُّره الفردي أن أعيش أعزب وأن أكون لاهوتيًّا، في حين أنَّ الشخصية الأولى لا بدَّ أنَّها كانت تَشتمل في تصوُّرها الفردي أن أكون متزوجًا وأن أكون طبيبًا. أليس واضحًا أنَّ أمثال هذه العبارات لا تحمل معنى؛ لأنَّه طالما أنَّ شخصيتي الراهنة لها بالضرورة طبيعة فردية معنية … فإنَّه سيكون مستحيلًا أن نتصوَّر محمولات مُتناقضة في التصوُّر الفردي الحالي لشخصيتي، استحالة أن نَتصوَّر شخصيتي مختلفة عني؟ ومن ثمَّ فعلينا أن ننتهي إلى أنَّه … طالما كان من المستحيل عليَّ ألَّا تظل شخصيتي هي نفسها، سواء تزوجت أم عشت أعزب، فإنَّ التصور الفردي لشخصيتي لم يكن يتضمَّن أيًّا من هاتين الحالتين.»٢٤

(١٥) إنَّ الله حين يختار أفضل العوالم المُمكنة فإنَّه ليس فقط لم يتركني حرًّا لأختار نصيبي الخاص، لكنَّه هو نفسه ليس حرًّا في أن يختار لي ذلك. إنَّ أفضل العوالم الممكنة قد وجد وجودًا مثاليًّا — وإن لم يكن فعليًّا — قبل أن يريده الله. وإرادة الله له لم تضف شيئًا لألوهيته، فهو في واقعيته الكاملة ليس أقل من المثل الأفلاطونية، وبالضبط لأنَّ كل شيء كان موجودًا فإنَّ الله يستطيع أن يرى مقدمًا ما سوف يحدث فيما نُسمِّيه بالمستقبل. والواقع أنَّ مثل هذا المستقبل ليس مستقبلًا على الإطلاق، لكنَّه ماضٍ، لأنَّه قد انتهى. وعبارة «الرؤية السابقة» هي تناقض في الألفاظ، فنحن ننتبه بمقدار ما نعرف، وحين نعرف كل شيء عن واقعة أمامنا منتهية، فليس ثمة فارق في هذه الحالة بين الماضي والحاضر والمستقبل. ذلك لأنَّ الماضي والمستقبل. يمكن إدراكهما في الحاضر. إنَّ المستقبل يوجد حقًّا ويُمكن التنبؤ به، لكن لا على أساس أنَّه لم يحدث بعد، وسوف يحدث، بل على أساس ما هو موجود بالفعل، أعني إذا ما كانت الواقعة التي نتحدث عنها واقعة تامة وكاملة.

وعلم الفلك يُزوِّدنا بمثل جيد للتنبؤ بالمستقبل، حين لا يكون هذا التنبؤ أكثر من مجرد معرفة للماضي. فالتنبؤ في علم الفلك ليس إلَّا نتيجة للحساب الرياضي للوقائع التي حدثت بالفعل. إنَّه معرفة موضوعية لأماكن موجودة فعلًا ومسافات وسرعات … إلخ إلخ، حتى إنَّ ما يبدو وكأنَّه تنبؤ ليس في الحقيقة إلَّا إسقاطًا في المستقبل لِمَا هو موجود بالفعل قبل عملية التنبؤ: «بقاعدة معنية من الاستدلال — مثل قانون الجاذبية — أستطيع أن أستدل على الوجود الحاضر أو الماضي تابع معتم Dark Companion لنجم معين، وبتطبيق أكثر بساطة لنفس قاعدة الاستدلال هذه أستطيع أن أستدلَّ على الوجود عام ١٩٩٩م وترتيب شكل الشمس والأرض والقمر الذي يُقابل الكسوف الكلي، وظل القمر على مدينة «كورنوول Cornwall» في عام ۱۹۹۹م موجود بالفعل في عالم الاستدلال. وليس من اليسير أن نعرف بأيَّة طريقة سوف يبلغ الظل هذا الموضع حين تأتي عام ١٩٩٩م ويلاحظ الكسوف أنَّ كل ما سنفعله هو أن نستبدل حالة من حالات استدلال الظل بحالة أخرى.»٢٥

وباختصار: إنَّ تأكيد العلم السابق بشيء ما، هو في نفس الوقت تأكيد بأنَّ هذا الشيء واقعة تمَّت بالفعل، ومحاولة التنبؤ بالمستقبل تلغي مستقبله بنفس الفعل الذي تُؤكِّده به.

وإذا ما استبدلنا «الضرورة المفترضة» ﺑ «الضرورة المطلقة» عند اسبينوزا، فإنَّ «ليبنتز» لن يجد ضمانًا لا لحرية الله ولا لحرية الإنسان، لأنَّه لا يُمكن أن تكون هناك حرية حين يكون كل شيء مؤكَّدًا، كل شيء يسير في مجراه المعلوم مقدمًا. إنَّه لمن الممتع أن نقرأ القصة الآتية٢٦ التي بدأها «فالا Valla»٢٧ وأكملها «ليبنتز» لكي نُكوِّن فكرة دقيقة عن نظرية الأخير فيما يتعلَّق بأفعال الإنسان.
(١٦) تخيل أنَّ سكستوس تاركونيوس Sextus Tarquinius قد أتى لزيارة معبد دلفي Delphi ليستشير كاهنة أبولو Apollo، وأنَّها أجابته على النحو التالي: سوف تموت مَنفيًّا يائسًا ويُلقى بك خارج المدينة في سخط. واستجابة لضيقه وشكواه قالت له كاهنة أبولو إنَّها مع علمها بمُستقبلِه فإنَّها لم تصنعه. لكن افرض أنَّ «سكستوس» لجأ بعد «أبولو» إلى الإله «جوبتر»٢٨ فكيف يُمكن لجوبتر أن يُبرِّر له نصيبه القاسي، وما ينتظره من بؤس وشقاء؟ بالكبرياء المتغطرس ﻟ «تاركونيس» وما يلزم عنها من سيئات مقبلة؟ قد تقول كاهنة أبولو: «كما أنَّ جوبتر خلق الذئب المفترس، والأرنب الجبان، والأسد الجسور، والحمار الحَرُون، والكلب البري، أو الغنم الوديع، فإنَّه كذلك خلق بعض الناس غليظي القلب، وبعضهم الآخر رقيقي القلب، كما أنَّه خلق بعض الناس ولديهم استعداد للجريمة، وبعضهم الآخر ولديهم استعداد للفضيلة، وهو بينما خلق بعض الناس بعقول مُتفتحة متقبلة للحق، منح بعضهم الآخر رُوحًا شريرة لا يُمكن لأي عون خارجي أن يجعلها طيبة.» ومن الواضِح أنَّ ذلك يُعفي سكستوس من كل المسئولية وكل القيمة ويَنسب سلوكه إلى جوبتر.
غير أنَّ «ليبنتز» لم يقتنع بهذا الحد من القصة، فأكملها مُفترضًا أنَّ سكستوس جاء إلى «بودونا Bodona» في حضرة جوبتر Jupiter، باحثًا عمَّا عساه أن يُغيِّر من نصيبه وأن يُغيِّر من قلبه. وردَّ عليه «جوبتر» قائلًا: «لو أنَّك وافقت على التخلي عن عرش روما، فإنَّ آلهة الأقدار Fates سوف تعزل سكستوس: «لماذا ينبغي عليَّ أن أتخلَّي عن الأمل في التاج؟ أليس في استطاعتي أن أكون ملكًا طيبًا؟» ويجيب الإله «كلَّا، يا سكستوس، وأنا أعلم منك بما يُمكن أن تصلح له، ولو أنَّك ذهبت إلى روما فسوف تفقد كل شيء.»
وعندما لم يستطع «سكستوس» أن يقتنع بمثل هذه التضحية العظيمة غادر المعبد واستسلم لمصيره المرسوم. لكنَّه حين ذهب، كان تيودورس Theodorus، رئیس الكهنة يعرف لماذا لم يستطع «جوبتر» أن يمنح «سكستوس» إرادة تختلف عن تلك الإرادة المخصَّصة له بوصفه ملكًا على روما، ويستشهد «جوبتر» بحالة «بلاس Pallas»، الذي كان نائمًا في معبده بأثينا، وحلم أنَّه موجود في بلاد مجهولة، حيث رأى قصر آلهة الأقدار Fates، الذي سمحت له الآلهة بزيارته: وعلى جدران هذا القصر نُقِشَت جميع الأحداث؛ لا التي وقعت فحسب، بل أيضًا كل ما هو ممكن الحدوث، واستطاع أن يرى في هذه النقوش كل جزئية يمكن أن تتحقَّق متفقة في نسق مع جميع الجزئيات الأخرى في عالمها الخاص الممكن. ويقول «بلاس Pallas» ﻟ «تيودورس Theodorus»: «أنت تعرف أنَّه حين لا تتحدَّد شروط ما تحديدًا كافيًا، وحين يكون هناك عدد لا متناهٍ من هذه الشروط، فإنَّها كلها تقع في دائرة ما يُسمِّيه علماء الهندسة بالمكان أو الموضع Locus، وهذا الموضع — غالبًا ما يكون خطًّا — هو على الأقل محدَّد، وعلى ذلك ففي استطاعتنا أن نُمثِّل سلسلة منتظمة من العوالم، وهي كلها سوف تتضمَّن الحالة التي نتحدَّث عنها، وسوف تتنوَّع ظروفها ونتائجها.» وجميع هذه العوالم موجودة في فكرة مصورة بدقة في قصر الأقدار. وفي كل غرفة من غرف هذا القصر ينكشف عالم أمام عيني تيودورس، وفي كل عالم من هذه العوالم كان يرى دائمًا سكستوس، دائمًا نفس سكستوس، لكن مع ذلك يختلف من حيث علاقته بالعالم الذي يَنتمي إليه. ومن ثمَّ فقد كان سكستوس في جميع هذه العوالم حاضرًا بحالات لا متناهية، ومن عالم إلى عالم، أعني من غرفة إلى غرفة كان «ثيودرس» يرتفع قمة هرم عظيم، والعوالم تصبح أكثر جمالًا، «وأخيرًا وصل إلى أعلى العوالم، وصل إلى قمة الهرم، أكثر العوالم جمالًا ذلك لأنَّ … الهرم كانت له قمة، لكن لم يكن له سفح مرئي، إنَّه يضرب بجذوره في اللانهائية»؛ وذلك بسبب أنَّه — كما أوضحت الآلهة — «وسط عوالم ممكنة لا نهاية لها، يوجد أفضل العوالم، وإلَّا لما كان في استطاعة الله أن يُحدِّد أي العوالم هو الذي سيخلفه، لكن لم يكن هناك عند السفح عالم يُعتبَر أدنى العوالم كمالًا، وهذا هو السبب في أنَّ الهرم يغوص في اللانهائية»، ودخلا — وثيودور مشدوه — إلى الغرفة العليا، وهي غرفة العالم الحقيقي real world، وقال بلاس Pallas «انظر ها هو سكستوس كما هو الآن وكما سيكون في المستقبل. انظر إليه كيف يخرج من المعبد وقد تملَّكه الغيظ. وكيف احتقر نصيحة الآلهة. انظر إليه وهو يذهب إلى روما يُثير الاضطراب في كل شيء، ويغتصب زوجة صديقه، انظر إليه بعد ذلك وهو يُطرَد مع والده، محطمًا يائسًا. لو أنَّ جوبتر كان قد وضع شخصًا مثل سكستوس سعيدًا في كورنثة Corinth، أو ملكًا على تراقية Therace، لما كان هذا العالم على هذا النحو. لكنَّه مع ذلك لم يكن في استطاعته إلَّا أن يختار هذا العالم الذي يفوق في كماله جميع العوالم الأخرى، والذي هو قمة الهرم، وإلَّا لكان جوبتر فقد حكمته، ولكان قد طردني أنا طفلة. أنت تدري إذن أنَّ والدي ليس هو الذي جعل سكستوس شقيًّا، فقد كان سكستوس شقيًّا منذ الأزل، ولسوف يكون كذلك باستمرار. ومن هنا فإنَّ جوبتر لم يفعل شيئًا سوى أن كفل له الوجود، الذي لا يُمكِن أن تَتنكَّر حكمته للعالم الذي يشمله. وهو الذي جعله ينتقل من عالم الممكنات إلى الوجود الفعلي.»

من هذه القصة التي تُوضِّح توضيحًا رائعًا وجهة نظر ليبنتز — يتَّضح لا أنَّه قد تحدد لسكستوس — بناءً على رأى ليبنتز — خلقه الخاص ومصيره الذي لا مفر منه في أفضل العوالم الممكنة التي منحها «جوبتر» وجودها الواقعي. ولو أنَّنا أضفنا إلى ذلك القول بأنَّ جوبتر لم يكن في استطاعته إلَّا أن يَختار هذا العالم لاتَّضحَ لنا كيف حرم الله والرإسان من حريتهما على يد ليبنتز، فعلم الله السابق — بدرجة لا تقلُّ عن مذهب اسبينوزا — ليس إلَّا علمًا بواقعة قائمة، وحرية الإنسان لا وجود لها.

(١٧) ومن هنا فإنَّ كُلًّا من مذهب ليبنتز واسبينوزا مرفوض، لأنَّهما يُصوِّران الكون، والوجود الإنساني كوقائع مُكتمِلة أكثر منهما أفعالًا في طريق الإنجاز. وكل من النظرتَين تبدو وكأنَّها تبدأ من مُسلَّمة هي ألَّا شيء من الواقع really يُمكن أن يضيع وألا شيء جديد يُمكن أن يضاف إلى هذا الواقع. وأمثال هذه الآراء تجعل التطور بلا معنى. إنَّ كل فلسفة تبدأ من شيء محدد ومُتعيِّن تمامًا من جميع الوجوه، شيء تحدَّدت سماته وشكله نفسه، هي: فلسفة تبدأ بواقعة ميتة لا يطرأ عليها أي تطور حقيقي. وبناءً على هذه الفلسفات فلن يَنبثِق شيء جديد، لكن عملية السير سوف تكون مجرَّد فض لما هو متضمَّن بالفعل. وسوف يتصوَّر المستقبل كل — على حدِّ تعبير وليم جيمس — بأنَّه «قعقعة قائمة لسلسلة انصهر فيها عدد لا حصر له من العصور الماضية.»٢٩
(١٨) وعلى الأساس نفسه فإنَّنا نرفض كذلك المذهب الآلي المطلق ultimate الذي يخلو من التطور الخالق، فكل تغيُّر عند وجهة النظر الآلية ليس إلَّا تعديلًا في توزیع عناصر الكل. وما نُسمِّيه «جديدًا» ليس جديدًا حقيقة، لكن معادلة رياضية لهذا «الجديد» مع مقدماته، فمجموع العناصر في اللحظة «ل» يساوي مجموع العناصر في اللحظة «ل − ١» ويساوي أيضًا مجموع العناصر في اللحظة «ل + ١» والعناصر في النظرية الآلية — أيًّا كانت هذه العناصر — يمكن أن تُرتَّب في عدد غير معين من الأنظمة، لكن النتيجة واحدة وهي هي دائمًا، حتى إنَّ إمكان الجدة، وهو الخلق الحقيقي — وليس مجرد ظاهر — إمكان الجدة الذي هو وجود جديد حقيقي لا أثر له على الإطلاق.
والواقع أنَّ الزمان لا يدخل — فيما يبدو — عاملًا في حساب المَذهب الآلي، فليس هناك فرق حقيقي بين اللحظات: ل، ل + ١ أو ل − ١، فهي جميعًا واحدة: «ما الذي نعنيه حين نقول إنَّ حالة نظام مُصطَنع ما يعتمد على ما كان موجودًا في اللحظة الماضية مباشرة؟ ليس هناك لحظة مباشرة سابقة على لحظة أخرى … فأنت لا تتحدَّث حديثًا حقيقيًّا إلَّا عن الحاضر فقط. إنَّ أنظمة العلم المعمول بها — هي في الواقع — في حاضر من اللحظات يجعلها تَتجدَّد باستمرار. ومثل هذه الأنظمة ليست على الإطلاق في تلك الديمومة الواقعية العينية التي يظلُّ فيها الماضي مرتبطًا بالحاضر، وحين يحسب عالم الرياضة الحالة المُقبلة لنظام من النظُم في نهاية الوقت «ل»، فليس ثمة ما يمنعه من افتراض أنَّ الكون يَتلاشى من هذه اللحظة حتى تلك ثم يعاود الظهور فجأة. إنَّ لحظة «ل» هي فقط التي تُحسب … وما يتدفَّق في الوسط — أعني الزمان الحقيقي — لا يُحسب ولا يدخل في الحساب … ويتحدَّث «عالم الرياضة» باستمرار عن لحظة معينة، لحظة ساكنة، لحظة موجودة، لكنَّه لا يتحدَّث عن الزمان المتدفِّق. وباختصار العالم الذي يتعامل معه عالم الرياضة هو عالَم يَمُوت ويولد من جديد في كل لحظة، هو العالم الذي كان يقصده ديكارت حين تحدَّث عن الخلق المتَّصل، لكن كيف يُمكن للتطور الذي هو ماهية الحياة عينها أن يجد له مكانًا في زمان نتصوَّره على هذا النحو؟»٣٠
(١٩) والتطوُّر الذي يأخذ به هذا البحث، ويعتبرُه مبدأً أساسيًّا، ليس هو تطوُّر «دارون»، وإنَّما هو تصوُّر «لامارك» للتطوُّر. ذلك لأَّن نظرية «دارون» يصعب أن تترك مجالًا للغرض أو الغاية؛ فالانتخاب الطبيعي يعمل بلا غاية، مبقيًا على الأصلح، الذي قد لا يكون الأفضل. وهذا الانتخاب الطبيعي لا يُمكن أن يَبني أشكالًا جديدة للحياة، لكنَّه فقط يستأصل مثل هذه الأشكال الجديدة بوصفها غير صالحة، إنَّه يُفسِّر فحسب منعطفات الطريق، لكنَّه لا يخلق اتجاهها: «كيف نستطيع أن نُفسِّر، إذا ما التجأنا إلى التجمع العفوي للخصائص … كيف نُفسِّر ظهور أنواع متشابهة من الأعضاء والوظائف وسط منحنيات مختلفة من التطوُّر، وبين أشكال الحياة التي انحدرت من أسلاف مشتركة بعيدة كل البعد؟ والتوزيع الواسع للإنتاج الجنسي بين كل من النبات والحيوان هو مَثَل على هذا التشابُه، ووجود حاسة الإبصار هو مَثَل آخر، إنَّه أشبه ما يكون بفنَّان واحد يُعبِّر عن نفسه بطرق مُتشابهة، أعني أنَّه يتبع نفس دافع الخلق، على الأقسام البعيدة من لوحته الواسعة.»٣١
(٢٠) وتذهب نظرية «لامارك»،٣٢ في التطور إلى القول بأنَّ ظهور عضو جديد في جسم الحيوان هو نتيجة لحاجة جديدة يشعر بها شعورًا متصلًا، وهو نتيجة لحركة جديدة تخلقها هذه الحاجة وتدعمها. والصلاحية Ftrness لا تعني — كما هي الحال عند دارون — التوافُق مع ما تتطلَّبه البيئة المادية؛ ذلك لأنَّ الصلاحية عند «لامارك» لا بدَّ أن ترتبط أساسًا بالفرد، فالفاعل — وليس البيئة — هو الذي يختار ما يصلح للغاية التي يهدف إليها. ولا يُمكِن أن يَعترض مُعترِض على ذلك فيقول: إنَّ العلاقة بين الفاعل من ناحية والبيئة من ناحية أخرى هي التي تُؤدِّي إلى خلق العضو الصالح أو المُناسب، ومن هنا فإنَّ أحدهما ضروري كالآخر سواء بسواء. أقول لا يُمكِن أن يعترض مُعترِض على هذا النحو؛ لأنَّ المهم هنا هو: أي الطرفين هو الذي يستحدث initiates التغير، وأنا أعتقد أنَّ الفاعل هو الذي يشعر بالحاجة ويسعى لاستخدام البيئة بالطريقة التي تُساعدُه في إشباع حاجته. والفرق بين النظرتين يكمن في القول بأنَّ النظرية الأولى «أي نظرية دارون» لا تهدف إلى تحقيق غرضٍ ما عن وعي أو بلا وعي، أمَّا النظرية الثانية «أي نظرية لامارك» فتَهتدي بهُدى غرض يسعى التطور إلى تحقيقِه. ووفقًا لما تقول به النظرية الأولى، «فإنَّ مجرى الأشياء بأسرِه مُحدَّد مرة واحدة وإلى الأبد تحديدًا فرديًّا ومُنعزلًا عن طريق التوزيع الأصلي. وها هُنا يأتي عالم الحساب من أتباع «لابلاس» وهو مزوَّد بالمُعطيات الآلية لأيَّة لحظة ليكشف عن حالة العالم كله في أيَّة لحظة أخرى؛ ذلك لأنَّ هناك مجرى واحدًا — واحدًا فحسب — يسير فيه نظام المادة الجامدة بلا مرشد — وهو خطٌّ لا أثر فيه للمقاومة … لكن الاتجاهات التي قد يَنقاد هذا النظام إلى السير فيها تحت هداية مرشد، وإن كانت لا تزال مُطابِقة لقانون البقاء — ربما كانت لا حصر لها، ولكي تتنبَّأ بالتقدُّم الفعلي عند هذه النظرية فلا غناء في أن تعرف فحسب ما الذي سوف يحدث طبقًا للقوانين الآلية لو ترك النظام لنفسِه؛ لأنَّه من الضروري لأيِّ تنبُّؤ في هذه الحالة أن يعرف غايةَ أو معنى مثل هذا التقدم … تخيَّل مركبًا مهجورًا وباخرة مجهزة تجهيزًا تامًّا بالعتاد: إنَّك لو كانت لديك معلومات كافية عن الرياح والمدِّ والجزر والتيارات، ففي استطاعتك أن تقول أين يُمكِن أن يوجد هذا المركب المهجور بعد أسبوع واحد. غير أنَّ هذه المعلومات سوف تكون أهميتها في المرتبة الثانية لو أنَّك حاولت أن تتنبَّأ بمكان الباخرة المُجهَّزة بعد أسبوع من صدور الأوامر إليها بالإبحار.»٣٣
(٢١) إنَّه لكي يكون الكون متطورًا تطورًا حقيقيًّا فلا بد له أن يُظهِر باستمرار شيئًا جديدًا كل الجدة، أعني أنَّ التطور لا بدَّ أن يكون خلَّاقًا: «إنَّنا ننظر إلى عالمنا اليوم على أنَّه عالم في دور التكوين، وإلى أنفسنا على أنَّنا جزء منه في دور التكوين أيضًا. إنَّ حاضرنا ليس غير ساكن فحسب، بل ومُتحرِّك حركة لا يُمكن لها هي ذاتها أن تتكرَّر غدًا. وجزيرتنا الكوكبية نفسها ليست تامة مثل تلك الجزر الكونية التي يُحدِّثنا علماء الفلك أنَّها في مراحل مختلفة من الصيرورة، ويبدو أنَّ «كانط» يزعم أنَّ العقل البشري منتهٍ تام الصنع، أو هو جزء من الوجود مُكتمِل. غير أنَّ العقل البشري ليس إلَّا جزءًا من تيار التغيُّر … والكائنات الحية مُنهمِكة طوال الوقت في أن تُصبح شيئًا خلاف ما هي عليه الآن، وكذلك العقل البشري ومعه بقية الكون.»٣٤ والخواص الجديدة التي تظهر في مجرى التطوُّر ينبغي ألَّا تكون مجرَّد خواص «ناتجة Rresultant» يُمكِن أن تُضاف أو تُطرح أو يتنبأ بها، وإنَّما يجب أن تكون خواص طارئة Emergent، خواص جديدة جدة حقيقية ولا يُمكِن التنبؤ بها. «إنَّ النواتج Resultants تُعطينا اتصالًا كميًّا يَكمُن خلف خطوات بنائية جديدة في المُفاجآت الطارئة. والخطوة الطارئة يُنظر إليها نظرة أفضل، بوصفِها تغيرًا كيفيًّا للاتجاه، أو نقطة تحوُّل دقيقة في مَجرى الحوادث. ولا يكون هناك بهذا المعنى الكسر المُتقطِّع الموجود في حالة الهوة gap أو الفجوة hiatus وقد يُقال عندئذ: إنَّه من خلال النواتج يكون هناك اتصال في التقدم، ومن خلال المُفاجآت الطارئة يكون هناك تقدم في الاتصال.»٣٥
وتلك هي الحال مع كل فرد من الموجودات البشرية، فالفرد طوال حياته لا يَحمِل برنامجًا جاهزًا مُعدًّا من قبل في الماضي؛ إذ لو صحَّ ذلك لكان الجُهد الأخلاقي كله عقيمًا مجدبًا. وليس مُقنعًا أن تقول إنَّ الإنسان — من وجهة نظر مُطلَقة ultimate — ينبغي أن يُنظر إليه في هوية مع الواقع الأزلي لأنَّه لحظة من لحظات هذا الواقع الأزلي، حتى إنَّ الإنجاز اللامتناهي للواقع هو نفسه إنجازه الخاص اللامتناهي، وإنَّه يُمكن أن ينظر إليه، لا على أنَّه طبيعة مطبوعة natura naturata، بل على أنَّه طبيعة طابعة natura naturans، أعني لا على أنَّه عالم مُعبَّر عنه، بل على أنَّه عالم يُعبِّر عن نفسه. أقول ليس مقنعًا أن نقول ذلك لكي تنفذ القدرة على الخلق عند الإنسان لأنَّه حتى ولو سلَّمنا بذلك كله فسوف يبقى مع ذلك أنَّ «الطبيعة الطابعة» نفسها يُمكن أن تظهر ما هو كامن بالعقل فحسب، لكنَّها لا يُمكن أن تخلق شيئًا جديدًا.
(٢٢) إذا كانت ماهية كل شيء محدَّدة تحديدًا قاطعًا، فكيف يُمكن أن يكون هناك تطور على الإطلاق؟ إنَّ كل ما يُمكن أن نتوقَّعه في هذه الحالة هو عالم اسبينوزا الموجود منذ الأزل ويَنفي نفسه في سلسلة من التحوُّلات لكن بلا جدة حقيقية. لكن الحياة ليست على هذا النحو، بل هي عملية ينبثق فيها الجديد باستمرار، ولأنَّها جديدة، فهي لا يُمكن التنبؤ بها. وتطوُّر الفرد من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرجولة لا يعتمد على مجرد إعادة ترتيب نفس العناصر، إنَّه لا يعتمد على التساوي الرياضي بين شطرَي العِلِّية؛ فالطفل من ناحية والرجل من ناحية أخرى لا يُمكن أن يتساويا رياضيًّا، لكن ذلك لا يعني أنَّ المرحلة الأخيرة (الرجولة) هي محصلة المرحلة الأولى (الطفولة). ومن هنا كان من الصواب تمامًا أن تقول إنَّ الطفل هو أب الرجل، كما يقول المثل. فمرحلة الطفولة شرط ضروري لمرحلة الرجولة، والمشروط conditionate لا يُمكن تصوُّر وجوده بدون الشرط condition، لكن العكس غير صحيح. إنَّنا لا نَستطيع في حالة نشاط الكائن الحي — ولا نحتاج إلى ذلك — أن نستغنيَ عن فكرة السببية؛ لأنَّ الحاضر مشروط بالضرورة بالماضي وهو شرط للمُستقبل. ولقد سبق أن بيَّنا أنَّ الرابطة السببية التي يكون فيها الماضي ضروريًّا لكنَّه ليس سببًا كافيًا، والمستقبل نتيجة محتملة، لكنَّه ليس نتيجة ضرورية — هذه الرابطة السببية لا تَتناقض مع حرية الشخص؛ إذ يجب أن تُفهم الحرية لا بالمعنى السلبي فقط — أعني انعدام العائق — بل أيضًا بالمعنى الإيجابي، بمعنى خلق شيء جديد.
ويُفسِّر «برجسون Bergson» الحياة بأنَّها عملية خلَّاقة، سواء أكانت حياة الفرد أم تطوُّر الأشكال البيولوجية. والنشاط الخلَّاق للكائن الحي يتضمَّن الفرضية؛ فحينما وُجِدت الحياة وُجِدت معها الفَرضية، والفرضية لا بد أن تتضمَّن الحرية. وحين رفض برجسون المذهب الغائي Finalism، كما رفض المذهب الآلي Mechanism، سواءً بسواء، على اعتبار أنَّ المذهبين صورتان للحتمية، فإنَّه لم يُنكِر بذلك الفرضية في الحياة، فالفرض لا يتناقض مع الحرية، بشرط ألَّا يُفرَض من الخارج: «انظر إلى الفعل الحي الذي تقوم به شجرة تُغيِّر أوراقها … تجد أنَّها تُكيِّف نفسها مع ظروف بيئتها، لا بالاستجابة للمُؤثِّرات المباشرة التي تؤثر فيها، لكن بالاستعداد مُقدَّمًا لتغير الفصول، فهي لا تَنتظِر إلى أن يجيء الشتاء ويؤثر فيها، فتستجيب عندئذ لانخفاض درجة الحرارة فتَخترع حماية لبراعمها الرقيقة ضد الصقيع، كلَّا، لكنَّها تُبدِّل أوراقها، وتُشكِّل براعمها مقدمًا وعلى سبيل التوقُّع in anticipation. فالمستقبل — في رأينا — أو الشتاء الذي لم يُوجد بعد؛ يؤثِّر فيها في الوقت الحاضر.»٣٦ أو بالأحرى: الفرض الحالي يُحدِّد الفعل الذي يبدو مناسبًا.
(٢٣) هناك تشابه ملحوظ بين الحياة والخلق الفني في المحافظة — خلال مجرى التطوُّر — على نمط معين من الوظيفة؛ فالكائن الحي في محافظته على بقاء حياته لا بد أن يعمل بطريقة تدعم حياته، وقُل مثل ذلك في حالة الفنان؛ فهو لا بد أن يحتفظ بموضوعه في ذهنه ويُواجه المواقف المختلفة التي تظهر في تطوُّر هذا الموضوع بطريقة تخدم غرضه. ومن هنا فإنَّ نمو الحياة «ليس لونًا من ألوان الصناعة التي لا يُوظَّف إنتاجها إلَّا بعد نهاية فترة الصُّنع. إنَّ الجنين الحي، أو الطفل الحي، حين يخرج من البذرة الحية في مجرى التطور، فإنَّ الكائن يبقى واحدًا لا قطعة آلية في دور التكوين، بل بالأحرى إنتاج جمالي يحتفظ بخصائص معينة، يُشبه البناء المادي والنحوي للقصيدة خلال فترة تكوينها. والتواجُد العيني، أو التعبير في حالة التأليف الجمالي، لا بد أن يحتفظ باستمرار بشكل معين. وهذا الشكل يتدعَّم خلال ظروف لا نعرفها مقدمًا، وخلال مشكلات التعبير، التي تُوجد أمام الفنان في كل خطوة من خطوات التأليف … وهكذا، فإنَّ التطوُّر الحيوي لا يُمكِن مقارنته — فيما يبدو — بالإنتاج طبقًا لخطة موضوعة، وإنَّما يُمكِن مقارنته بالإنتاج الجمالي، الذي لا يبدأ من شيء آخر سوى موضوع مختار ووسيلة للتعبير تنتج إجابات لمشكلاتها كلما ظهرت.»٣٧ الحرية التي نُدافِع عنها هي حرية الخلق، حرية الانبثاق من الماضي المتراكم إلى الجدة التي لا يُمكِن التنبؤ بها، ونحن — خلافًا لما يقول اسبينوزا — لا نعتقد أنَّ الحرية التي يشعر بها الإنسان هي وهمه الخاص. إنَّ الوهم يكمن في الحالات التي نظن فيها خطأ أنَّ أفعالنا مُحدَّدة تحديدًا داخليًّا مُعتمِدين على النظر إلى أفعالنا الماضية ورؤيتها كحلقات في سلسلة ترتبط فيما بينها ارتباطًا سببيًّا. إنَّنا — شأننا شأن جميع الكائنات الحية — ننتبه باستمرار، وبين الحين والآخر نختار فعلًا معينًا نُعبِّر به عن أنفسنا، وكما يقول «برجسون» في عبارة مشهورة إنَّنا نَنتفِخ بماضينا مثل كرة الثلج التي تتضخم حين تتدجرح ويلتف الجليد حولها، ففي كل لحظة من لحظات حياتنا ننتقي شيئًا مُعيَّنًا من الموضوعات الممكنة التي نجدها أمامنا، ونحن بانتقائنا لهذا الموضوع نُحقِّق أنفسنا.

وحين ننظر إلى الوراء، إلى أفعالنا التي حقَّقناها، يبدو كلٌّ منها على أنَّه مُقيَّد بالفعل الذي سبقه. لهذا ترانا ننظر إلى سلسلة المقدمات والنتائج كما لو كانت شيئًا غريبًا عنَّا، وهكذا نظن أنَّ كل مُقدَّم قد فُرض علينا فرضًا ضروريًّا من الخارج، لكن الواقع أنَّنا نحن أنفسنا هذا الماضي، ونحن نُحقِّق كل فعل من أفعالنا بدرجة من الحرية، كلٌّ في لحظته بوصفه حاضرنا في لحظة هذا الفعل. أمَّا حين ننظر إلى أفعالنا الماضية على أنَّها «أحداث مضت» فإنَّنا في هذه الحالة ننظر إليها من الخارج لا من الداخل، أعني كمُتفرِّجين لا كفاعلين. وذلك يُشبه بالضبط النظر إلى قصيدة من القصائد بمَعزل عن النشاط الخالق الذي تتضمَّنه هذه القصيدة، أعني النظر إليها كبناء لغوي مُكوَّن من مجموعة من الكلمات.

(٢٤) إنَّ كل لحظة في تاريخ شخصية الإنسان هي شيء جديد يُضاف إلى ما هو موجود بالفعل، كل لحظة في حياة الإنسان — لا سيما أفعاله الإرادية — تُشبه إنتاج الفنان، الذي لا يستطيع أي فرد حتى ولا الفنان نفسه — فيما يتعلَّق بتفصيلات الإنتاج — أن يتنبأ بشكلها الدقيق «لأنَّ التنبؤ بها يعني إنتاجها قبل أن تُنْتَج، وهو فرض مُحال؛ لأنَّه يهدم نفسه بنفسه.»٣٨

وسلوك الإنسان لا يُمكن التنبؤ به؛ لأنَّ شخصيته ليست شيئًا ثابتًا محددًا مرة واحدة وإلى الأبد، وإلَّا فأين يُمكن يا ترى أن نجد تلك اللحظة التي نستطيع أن نقول إنَّ شخصية الفرد سوف تتوقف عندها من الآن فصاعدًا؟

لا وجود لمثل هذه اللحظة؛ لأنَّ شخصية الفرد تظلُّ في حالة تكوين مُستمِر طوال حياته، وهذا هو السبب في أنَّ فرديته لا تكتمل أبدًا، ومعرفة شخصية إنسان ما تعني معرفة حياته كلها. ومن هنا فإنَّك لن تستطيع أن تستخدم معلوماتك عن شخصيته كمُعطيات تستدل منها على مستقبله؛ لأنَّه في اللحظة التي تعرف فيها كل شيء عن شخصية الفرد، بحيث لا يُمكن أن ينضاف إليها جديد، فإنَّ هذا الفرد لن يستمرَّ بعد ذلك في الوجود: «هل يستطيع أحد أن يؤكِّد — حتى من الناحية العقلية — أنَّه من الممكن أن يتنبأ بأنه هو نفسه — دع عنك أن يتنبأ لغيره — سوف يُفكِّر في كذا وكذا، وسوف يفعل كيت وكيت في الأسبوع القادم. إنَّ القيام بمثل هذا التنبؤ لا بدَّ أن يستغرق أسبوعًا كاملًا؛ لأنَّك لن تستطيع أن تحذف أيَّة فكرة أو أي سلوك يتم خلال هذا الأسبوع، ولا يُمكن لمعدل السير أن يزيد ما لم تكن هناك زيادة مماثلة في سرعة العالم كله. ولهذا فسوف نجد أنفسنا بالضبط حيث كنَّا من قبل، ومن هنا فإن ما يُسمَّى بالتنبؤ لا بد أن يكون بعد وقوع الحدث.»٣٩ ولهذا كان التنبؤ الذي لا يُخطئ بالسلوك المقبل مستحيلًا؛ لأنَّ المعطيات المزعومة للتنبؤ هي مِمَّا لا يُمكن الحصول عليه إلَّا بعد وقوع الحدث، «إذا ما شاء لنا عمَّا إذا كان في استطاعة المرء أن يتنبأ بالفعل الأخير طالما أنَّه عرف المقدمات وعرف قيمتها على حدٍّ سواء — هو تسليم بالأمر قبل البرهنة عليه. لأنَّنا ننسى أنَّنا ليس في استطاعتنا أن نعرف قيمة المقدمات دون أن نعرف الفعل الأخير، وهو الأمر الوحيد الذي ليس معروفًا بعد.»٤٠ والواقع أنَّ «القول بأنَّ صديقًا ما — في ظروف معينة — من المُرجَّح جدًّا أن يسلك على هذا النحو المُعيَّن، لا يعني التنبؤ بسلوك هذا الصديق في المستقبل، بقدر ما يعني إصدار حكم مُعيَّن على شخصيته الحاضرة، أو بعبارة أخرى إصدار حكم على ماضیه.»٤١
(٢٥) في استطاعتنا أن نتنبأ فحسب بواقعة من الوقائع، وحتى الواقعة يُمكن التنبؤ بها لا طريقة لا تُخطئ، بل بسبب تعقد شروطها Condition، في حدود الترجيح. أمَّا الفعل فهو بطبيعته الخاصة ذاتها لا يُمكن التنبؤ به؛ فالوقائع توجد في الزمان، والزمان هنا لا فرق فيه بين اللحظة الأولى واللحظة الأخيرة. بينما الفعل يحتاج إلى ديمومة، ولا يُمكِن أن نقتطع منه لحظة واحدة دون أن تُغير من طبيعته. ومن هنا فإنَّنا نستطيع أن ننظر إلى ماضينا على أنَّه واقعة من الوقائع الموجودة في الزمان. لهذا يُمكن استرجاعه كله في لحظة واحدة. أمَّا مستقبلنا فهو فعل لا يمكن أن يعيش في الخيال أقل من ديمومته الضرورية. «حين نستعيد في ذهننا الماضي، أعني سلسلة الأفعال التي تمَّت، فإنَّنا دائمًا نختصرها دون أن نهدم طبيعة الحدث الذي يهمنا، والسبب هو أنَّنا نعرفه بالفعل؛ ذلك لأنَّ الحالة النفسية — حين تصل إلى نهاية التقدم Progrès، الذي يكون وجودها نفسه — تُصبح شيئًا في استطاعة المرء أن يُصوِّره لنفسِه كله في لحظة واحدة. هنا نجد أنفسنا في موقف شبيه بموقف عالم الفلك حين يُدرك بلمحة خاطفة المحور الذي سيحتاج الكوكب إلى عدة سنين لكي يعبره. والواقع أنَّ التنبؤ الفلَكي يجب أن يُقارن باسترجاع الحالة الشعورية الماضية، لا أن يُقارَن بتوقُّع حالة المستقبل. لكنَّا حين نُحدِّد الحالة الشعورية المُقبلة، فإنَّنا لا نستطيع النظر إلى المقدمات كأشياء في حالة ساكنة، بل إنَّنا لا بد أن ننظر إليها كعمليات في وضعٍ ديناميكي … ومن ثمَّ فإنَّنا لن نستطيع بعد ذلك أن نختصر الديمومة المقبلة لكي نُصوِّر أجزاءها أمامنا؛ فالشخص مُضطرٌّ أن يعيش أو أن يحيا هذه الديمومة بينما هي تتكشَّف.»٤٢

والمثل الذي يقول: «لا تحكم على شخص ما حتى يفعل شيئًا» مثل صحيح؛ فالشخص هنا فاعل يسلك سلوكا مُعيَّنًا فيُحقِّق ذاته في هذا السلوك. أمَّا إذا نظرنا إلى هذا الشخص على أنَّه واقعة فلن نجد ما يدعونا إلى الانتظار حتى يسلك سلوكًا معينًا: لسنا في حاجة — مثلًا — إلى أن ننتظر حتى يفعل شيئًا ما، لكي نقول إنَّه وُلِدَ من أبوين مُعيَّنين، أو إنَّه وُلِدَ في التاريخ الفلاني، أو البلد الفلاني … إلخ، فهذه كلها وقائع يُمكن أن تُستخدم في الإحصاء والحساب، مثلها مثل جميع تلك الوقائع الموجودة في الطبيعة، لكن الفعل، أعني فعل الإرادة، فهو شيء مختلف عن ذلك أتمَّ الاختلاف.

(٢٦) المستقبل — كمستقبل — هو عالم الإمكانيات غير المحددة، ويتضح من ذلك أنَّ المستقبل المُتنبَّأ به ليس مُستقبلًا بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، لأنَّ التنبؤ يعني النظر إليه على أنَّه شيء قد تمَّ وانتهى، وهو بذلك ينتمي إلى الماضي الذي استُخْرِج منه بطريقة تحليلية، وهو لأنَّه يَنتمِي إلى الماضي، فهو لا يُمكِن أن يكون حرًّا. والمحاولات التي بُذلت للتوفيق بين العلم الإلهي الشامل وبين الحرية الإنسانية لم تتوقَّف على الإطلاق، ولم تنجح على الإطلاق أيضًا. وهذه المحاولات محكوم عليها بالفشل؛ لأنَّ الأطراف التي تُحاول التوفيق بينها هي — أولًا — لا يُمكِن التوفيق بينها، ومهما يكن من شيء فإنَّ علينا الآن أن نعرض لمناقشة بعض هذه المُحاولات:

(٢٧) يُقال أحيانًا إنَّ العلم الإلهي الشامل لا يعني بالضرورة حتمية إرادتنا؛ لأنَّه إذا ما كان العلم السابق بأنَّ شيئًا ما سيحدث يجعله يحدث، لكان معنى هذا أنَّ المعرفة بوجود شيء ما تجعله يُوجَد. فأنا مثلًا أعلم أنَّ السماء تُمطر في اللحظة الحاضرة، لكن من الواضح أنَّ علمي ليس هو الذي جعل السماء تمطر، بل إنَّ العكس هو الصحيح؛ فأنا أعلم أنَّها تمطر لأنَّها تمطر في الواقع. وبالمثل، فلو أنَّني عرفت مقدمًا أنَّ حلول الليل سوف يكون بعد خمس ساعات، فهل يكون عِلمي السابق هو الذي أحدث حلول المساء؟ العكس هو الصحيح؛ فلأنَّ الدنيا سوف تكون ظلامًا بعد خمس ساعات، فإنَّني أعرف ذلك مقدمًا، فلا المعرفة الإنسانية السابقة، ولا العلم الإلهي السابق هو الذي يُسبِّب ما يحدث في المستقبل.

لكن هذا القول يعني أنَّنا نرفض أمرين هامَّين؛ فهو يعنى أولًا أنَّنا نتجاهل الواقعة التي سبق أن أشرنا إليها، وهي أنَّ النوع الفلَكي من العلم السابق ليس معرفة سابقة بالمعنى الحقيقي. وهو يعني ثانيًا أنَّنا نغضُّ الطرف عن التفرقة الحيوية؛ بين الماضي من ناحية، والمستقبل من ناحية أخرى؛ فالماضي هو واقعة تمَّت وانتهت، ولا يتأثَّر وجودها بمعرفتي لها، لكن المستقبل — بمعناه الحقيقي — شيء مختلف عن ذلك تمامًا؛ لأنَّه انتقائي، ولو أنَّني عرفته مقدمًا فإنَّني بذلك أُنكر انتقاءه وأحرمه من ماهية المستقبل futurity، وفي اللحظة التي نُسلِّم فيها بالتشعُّب الممكن لحوادث المستقبل إلى شعبتَين، فإنَّنا لا بد أن ننتهي إلى النتيجة القائلة بأنَّه لا يُمكن أن نستدل — بيقين — من الحاضر والماضي، وهما وحدهما المعروفان؛ فالاستدلال يظل غير يقيني، ومن هنا فإنَّنا إذا لم نُنْكِر العلم الإلهي الشامل، فإنَّنا سنُضطرُّ إلى التسليم بأنَّ مجرى الحوادث في المستقبل ضروري وغير حر.
(٢٨) ولا يُفيد في شيء أن نفترض أنَّ الله يوجد في «آنٍ» أبدي، وأنَّ الماضي والمستقبل عنده حاضر. ولهذه النتيجة «يؤكِّد بؤثيوس Boethius» أنَّه على الرغم من أنَّ الماضي ليس ماضيًا أمام الله، ولا المستقبل مُستقبلًا عنده، بل الزمان كله حاضر، فإنَّ معرفة الله تتضمَّن مع ذلك «الأماكن اللامتناهية للزمان الحاضر والماضي، إذا ما نظرنا إلى الأشياء كما لو كانت كلها الآن تامة ومنتهية.» وهو تصوُّر ربما أمكن تفسيره بأنَّه يعني أنَّ الماضي لا يتذكَّره الله، كلَّا، ولا هو يتوقَّع المستقبل، وإنَّما الماضي والمستقبل مُدْرَكان لديه في آنٍ واحد، بينما يظلُّ كلٌّ منهما يعقب الآخر، وهو تصوُّر يُشبه تمامًا فكرة الحاضر الرواغ اللامتناهي.»٤٣ لكن هل يُمكن للكلِّ أن يُدرك معًا ما لم يكن جاهزًا بأسره أو وجودًا كله؟ وإذا كان هذا الكل نتاجًا تامًّا منتهيًا فأين يُمكن أن يقع خلق الموجودات البشرية الفاعلة؟ إنَّنا بدون أن نفترض أنَّ هذه الموجودات الفاعلة هي نفسها خلَّاقة؛ فإنَّ هذه الموجودات لا يُمكن أبدًا أن تصل إلى فكرة أنَّها مخلوقات، «يُمكن أن يكون الله قد عمل الإنسان على صورته، لكن هذه الصورة ذاتها هي التي تُبرِّر للناس العودة إلى الله بوصفه صانعهم.»٤٤ وفضلًا عن ذلك فإنَّ فكرة «الحاضر الرواغ Specious present» يبدو أنَّها لا تتَّفق مع فكرة الأبدية eternity؛ لأنَّ العناصر التي يتكوَّن منها «ما قبل» و«ما بعد» في «الحاضر الرواغ» لا بدَّ أن تكون في تدفُّق متَّصل وتيار مستمر، وإلَّا فلن يتحقَّق التتالي، فالحاضر الرواغ لا بدَّ له أن يتقدَّم نحو المستقبل باستمرار، فأين يُمكن أن يوجد مثل هذا المستقبل بالنسبة لحاضر رواغ لا متناهٍ؟
(٢٩) وبرنجل باتيسون Pringle Pattison يقترح فكرة زئبقية subtler أكثر من فكرة «الآن الأبدي eternal now» وهي فكرة أقامها على غرار الفن «ها هنا لا يوجد شيء اسمه حادث منفصل، بل هنا حاضر فحسب. إنَّ كل شيء يحدث في المأساة العظيمة هو جزء عضوي من الكل. والمنظر الذي يحدث على المسرح في أيَّة لحظة يعتمد في معناه على كل ما حدث من قبل، ونحن نستشعر فيه الأحداث التي سوف تقع في المستقبل. ونحن حين نقرأ — أو نُشاهد — مسرحية ما لأول مرة، وسير الأحداث مجهول لنا، هذا المعنى لتماسك الكل، العلم السابق لمصير أزلي يظهر نفسه في مشاهد فردية — في كلَّة أو لمحة — ينمو طبيعيًّا كلَّما تقدمنا، ويصل إلى أقصى مداه في الشدة حين نقترب من الخاتمة. أمَّا في حالة المأساة الإغريقية، حيث كان الأساس الأسطوري مألوفًا لدى النظارة … فإنَّنا نجد هذا الإدراك لمعنى الكل كشيء متَّسق مع الحوادث الجزئية، موجودًا أمام القارئ أو المُشاهد للمَسرحية منذ البداية … الحالة الأولى — حيث تتكشَّف النهاية أمامنا تدريجيًّا كلَّما تقدمنا — تعرض علينا موقفنا البشري المتناهي أمام المستقبل، أمَّا الحالة الثانية التي ربما افترضنا أنَّها تُنتج حالة الشاعر أو الموسيقي الأصيل، ربما كانت أقرب شبيه لدينا للإدراك الإلهي، لِما هو زماني.»٤٥
وفكرة الإدراك الإلهي هذه للكل بطريقة الفنان الذي يكون موضوع إنتاجه ماثلًا أمام ذهنه، هي فكرة يُمكِن قبولها، بشرط أن نُسلِّم بأنَّ الخالق لا يرى تفاصيل خلقه بلمحة واحدة. فالمشكلات تتولَّد في مجرى التعبير عن الفكرة الرئيسية، وفي كل مشكلة منبثقة يتم الاختيار والتقرير. فالخلق الفنِّي هو نمو لا يُري فيه الفنان نفسه تفصيلات المستقبل؛ فالشاعر مثلًا لا يكون لديه شيء في البداية إلَّا الفكرة المنتجة لقصيدة generative. والجهد الذي يُساعده في خلق القصيدة هو لون من جهد الانتباه، فهو يضع الفكرة التي يُريد التعبير عنها أمام ذهنه، وهكذا يسمح للأقطار أن تأتي وتتلامس بعضها مع بعض حتى تجد الفكرة المُنتَجة تعبيرًا مُقنعًا ترضى عنه.
وفكرة الخلق هذه، أعني فكرة أنَّ الله بوصفه فنانًا يُعبِّر عن نفسه تدريجيًّا في نهاية أو غاية End موجودة في ذهنه — أقول إنَّ هذه الفكرة — يقينًا — تكفل حرية الله، كما تكفل حرية الموجودات البشرية الفاعلة؛ فالموجودات البشرية الفاعلة في فعلها الحر لا تسير على أيَّة خطة موضوعة، لكنَّها كلها مجموعة من الفنانين الخالصين الذين يَنظُرون في نفس الاتجاه، ويتبعون مدرسة واحدة، لكنَّ كُلًّا منهم يُعبِّر عن نفسه بحرية. «مخلوقات الله ليست مواد صناعية، وإذا كان لا بدَّ أن يكون لدينا شخصية figure لتمثل ما هو مُتعالٍ بالنسبة لنا تمامًا، فإنَّ شخصية الخالق الحي أكثر صلاحية بكثير من الصلصال المعجون … ويُمكن إذن أن يُوافق فيلسوف الكثرة على أنَّ الله والأساس الوحيد الذي يجعل العالم يَتطوَّر، لكنَّه لا يُمكِن أن يُوافق على أنَّ الله … قد حدَّد «قبل أساس العالم» كل ما سوف يحدث فيه في المستقبل؛ لأنَّ معنى ذلك ألَّا يحدث فيه شيء حقيقي على الإطلاق.»٤٦
(٣٠) والواقع أنَّنا إذا ما أخذْنا بافتراض العلم بكل شيء omniscient، فإنَّنا سوف نعجز عن معرفة كيف يُمكن أن يوجد حلٌّ على الإطلاق لمشكلة الشَّر. وإذا ما أخذنا بهذا الافتراض فسوف يكون من المستحيل أن نُفسِّر الجهد الأخلاقي تفسيرًا مقنعًا. ولقد أثار «بلينبرج Blyenbergh» هذه المشكلة وناقشها في مراسلاته مع «اسبينوزا»٤٧ وذهب إلى أنَّ الله هو الذي يُحدِّد الخير والشر على السواء، وبالتالي فهو إمَّا أنَّه يعرف ما سيحدث، وإمَّا أن يكون غير كامل. ولقد أجاب اسبينوزا في ردِّه على «بلينبرج» مُحاولًا أن يُفسِّر الشر بأنَّه ليس شيئًا إيجابيًّا، فما نسميه شرًّا هو عدم privation، لحالة أكثر كمالًا، بالنسبة لفهمنا، لا بالنسبة لفهم الله. فالشر لا يوجد إلَّا للإنسان الذي لا يكون العدم عنده هو نفسه السلب، لكنَّه لا يوجد بالنسبة لله الذي عنده العدم البشري human privaton هو السلب. العدم بالنسبة لله ليس فعل الحرمان depriving لكنَّه نقص بسيط، أو سلب. ونحن نستنبط من تعريفات عامة؛ فنحن مثلًا نُقدِّم للإنسان تعريفًا عامًّا، ثم نحكم على كل فرد وفقًا لهذا التعريف، لكن الله لا يتصوَّر الأشياء تصويرًا تجريديًّا، ولا يضع تعريفات عامة يحكم على أساسها بأنَّ هذا الفرد خيِّر وذاك شرِّير. وما هو غير إلهي يُعبِّر عن طبيعة الله مثل ما هو إلهي، لكنَّهما لا يتساويان بذلك، لأنَّ الخير سوف يستمتع بغبطة الخير فيما لن يستمتع بها الأول. والشخص الأعمى يُنْظر إليه على أنَّه محروم من البصر، إذا ما قورن بغيره من الناس، أمَّا من وجهة النظر الإلهية فهو ليس محرومًا من البصر أكثر مما يحرم منها الحجر. وحين أمر الله آدم ألَّا يلمس الثمرة المحرمة، كشف عن نتائج العمل ليجعل معرفته — لا إرادته — أكثر كمالًا، فهو لكي يجعل إرادته أكثر كمالًا فقد كان عليه بالمثل أن يمنح الدائرة خصائص الكرة sphere.

ومع ذلك فإنَّ المشكلات التي أثارها «بلينبرج» لم تَجِد لها حلًّا، ونحن هنا معنيون بالجهد الأخلاقي، فإذا كان من المستحيل أن أجعل إرادتي أكثر كمالًا، فسوف يُصبح الجهد الأخلاقي عقيمًا مُجدبًا. ومن التناقض أن نقول إنَّ الله أمرنا أن نفعل كذا وكذا لكنَّه مع ذلك لم يمنحنا ماهية تناسب هذه الأفعال التي يأمرنا بفعلها.

والواقع أنَّ مثل هذا التصوُّر للعالم الذي يقول به اسبينوزا، سوف يؤدي بنا إلى الإحراج المنطقي dilemma، الذي أشار إليه «وليم جيمس» بصدد حكم الندم judgement of regret، أو الأسف الذي يُصدره الفاعل بعد اقترافه لما قد نعتبره شرًّا: «فحكم الأسف أو الندم يحكم على القتل بأنَّه شيء قبيح، وحين نقول عن شيء ما إنَّه قبيح فإنَّ ذلك يعني أنَّ هذا الشيء ينبغي ألَّا يكون، وأنَّ شيئًا آخر ينبغي أن يحل محله. والمذهب الجبري بإنكاره أنَّ شيئًا آخر كان يُمكن أن يقع بدلًا من الفعل الذي حدث، فإنَّه يُحدِّد العالم بأنَّه المكان الذي يستحيل أن يوجد فيه ما ينبغي أن يكون، وبعبارة أخرى، يعتبر العالم أشبه ما يكون بكائن عضوي أصيب تركيبه بفساد لا يُمكن علاجه، أو بخللٍ لا يُمكن إصلاحه … والمذهب الجبري يؤدي بنا إلى القول بأنَّ أحكامنا من الأسف أو الندم خاطئة؛ لأنَّها متشائمة، حيث إنَّها تتضمَّن أنَّ ما هو مستحيل ينبغي مع ذلك أن يوجد. لكن ما الذي نقوله حول أحكام الأسف ذاتها؟ إذا كانت خاطئة، فكان ينبغي أن تحلَّ محلها أحكام أخرى، لكن لا شيء يُمكن أن يحل محلها؛ لأنَّ الضرورة اقتضت وجودها. وهكذا يبقى العالم كما كان من قبل، أعني مكانًا يستحيل فيه وجود ما ينبغي أن يكون.»٤٨
(٣١) ولقد وجد «وليم جيمس»٤٩ في دفاعه عن الحرية البشرية أنَّه ليس ثمة تناقض بين علم الله السابق وبين الحرية البشرية طالما سلَّمنا معه بأنَّ المُمكِنات هي زيادة للموجودات الفعلية. فالله يعلم منذ الأزل جميع البدائل الممكنة في كل موقف وهو مستعد لمواجهة البديل الذي على وشك أن يوجد نتيجة للحرية البشرية بتلك الطريقة التي لا بد أن تؤدي بالكل إلى الغاية المرسومة أو النهاية السليمة. وهو يُوضِّح لنا ما يقصده بمثال لرجلين يلعبان أمام رقعة شطرنج؛ أحدهما لاعب مبتدئ والآخر خبير تمامًا في هذه اللعبة. واللاعب الماهر يريد أن يغْلِب، وعلى الرغم من أنَّه لا يستطيع أن يتنبأ بدقة بما سيُقدم عليه اللاعب المبتدئ في كل حركة، فإنَّه مع ذلك يعرف جميع الحركات الممكنة في كل موقف فعلي في مجرى سير اللعبة، ويعرف مقدمًا كيف يواجه كل حركة من هذه الحركات ويقابلها بحركة منه تقوده إلى الاتجاه الذي يجعله في النهاية ينتصر على خصمه. والآن دعنا نفترض أنَّ اللاعب المبتدئ هو الفاعل البشري المتناهي، واللاعب الخبير الماهر هو الله اللامتناهي. ولقد كان الله ينوي منذ الأزل أن يخلق العالم ويقوده نحو غاية مُعيَّنة. لكنَّه لم يُقرِّر منذ البداية كل الخطوات المؤدية إلى هذه الغاية. ولا بد أن تكون هناك في نقاط مُتنوِّعة من مجرى التطور إمكانيات كثيرة، أي أكثر من إمكان واحد، وأيًّا ما كان الإمكان الذي يتحوَّل إلى حقيقة واقعة، فإنَّ الله يعرف ما الذي ينبغي عليه أن يفعله عند التشعب التالي حتى يحفظ الأشياء من أن تحيد عن النتيجة النهائية التي رسمها للعالم. وهذه الفكرة لا بدَّ أن تترك الموجودات البشرية الفاعلة حرة في أن تسلك عند كل نقطة خطًّا ممكنًا من الفعل الذي تختاره، كما أنَّها لا بد أن تسمح في نفس الوقت بالعلم الإلهي السابق للممكنات اللامتناهية وبالطريقة التي يواجه بها المواقف الفعلية. وهكذا فإنَّ الخالق ليس من الضروري أن يعرف تفاصيل جميع الوقائع الفعلية حتى تقع بالفعل، ومعرفة الله بالعالم لا بدَّ أن تكون في أي وقت معرفة بالوقائع من ناحية وبالمُمكنات من ناحية أخرى، تمامًا كما هو الشأن في معرفة الإنسان في أيَّة لحظة.

ويمكن الاعتراض على هذه الوجهة من النظر بالقول بأنَّ الله حين يُواجه موقفًا فعليًّا بحركة مناسبة تجعل تحقيق الغاية مؤكدًا، فإنَّه لا بد له أن يقود العالم كله إلى مجرى مُعيَّن يَتطلَّبه هذا الموقف. لكن بقية العالم — أعني بقية العالم بغض النظر عن الفاعل الذي قوبل فعله على هذا النحو بالحركة الإلهية — يشمل موجودات بشرية فاعلة أخرى لها إرادة. يُمكن أن يحدث أنَّه في نفس الوقت الذي يرتب فيه الله لمقابلة الموقف المنبثق بحركة مناسبة — في نفس هذا الوقت يختار إنسانًا آخر لفعله بديلًا لا يتفق مع الترتيب الإلهي، في هذه الحالة: إمَّا أن يستمر الله في ترتيبه وبذلك يحرم هذا الشخص الأخير من حريته، وإمَّا أن يترك حرية هذا الشخص كما هي ويظلُّ هو نفسه عاجزًا عن مواجهة وإحباط فعل الفاعل الأول.

(٣٢) خذ ما شئت من محاولات لحلِّ مشكلة العلاقة بين العمل الإلهي الكلي والحرية البشرية، وسوف تجد — يقينًا — أنَّها محاولات فاشلة والسبب ببساطة أنَّها تُحاول ما هو مستحيل استحالة أولية apriori ومصدر المغالطة يكمن في الافتراض الذي يناقض نفسه، والذي يقول إنَّ العالم هو في آنٍ واحد؛ واقعة تامة وفعل متطوِّر، في حين أنَّ افتراض أحدهما لا بدَّ أن يعني — بالضرورة — إنكار الآخر، فإذا كان المطلق حقيقة واقعة فلا بدَّ أن يكون النسبي وهمًا، والعكس صحيح أيضًا، فلو كان «وجود Becoming» فلا بدَّ ألَّا يكون «صيرورة Being» وإذا كان «صيرورة» فلا يُمكن أن يكون «وجود».
حقًّا إنَّ كثيرًا من عظماء الفلاسفة قد أخذوا بالاعتقاد القائل بأنَّ الوجود أسمى من الصيرورة، وأنَّ الثبات أعلى من التغير. ولا بد أن يكون الواقع Reality عند هؤلاء الفلاسفة: الواحد الذي لا يتغير، ولهذا أعلنوا أنَّ الصيرورة غير حقيقية، وهي وهم؛ فالعقل لا بدَّ له أن يبحث وراء الصيرورة عن الواقع الحقيقي الثابت الذي يتحدَّى التغير، فتلك هي الحقيقة، وهذه الحقيقية هي الصورة أو الماهية أو التصوُّر أو الفكرة.
غير أنَّ وجهة النظر التي يأخذ بها هذا البحث هي أنَّ أي تصوُّر للحقيقة الثابتة ليس إلَّا تجريدًا يقوم به العقل البشري؛ فالواقعية Fact هي دائمًا في صيرورة، ودائمًا في تغيُّر، بمعنى الخلق المتصل لشيء جديد، وهذا يصدق في آنٍ واحد على العالم وعلى أفراد الموجودات الحية. والفكرة الرياضية عن اللامتناهي في الصغر infinitesimal تُزيل مفارقة أن يكون الشيء هو نفسه ومع ذلك فهو آخذ في النمو والتحوُّل إلى شيء آخر، مفارقة الهوية التي لا يُمكن أن تبقى إلَّا من حيث محافظتها على التغير. وأي تصوُّر لواقع ثابت هو تصوير سيئ للمجرى المتغير الحقيقي للطبيعة والحياة. فالوجود الحي هو في حركة متَّصلة، ومحاولة فهم الحياة عن طريق التصوُّرات يعني إيقاف هذه الحركة، وهناك حقيقة في الملاحظة التي تقول إنَّنا نعيش المستقبل ونفهم الماضي، والتصوُّرات الثابتة بوصفها آراء قيلت بعد أن تمَّت الواقعة هي تصوُّرات تراجعية وارتدادية.
retrospective and post mortem.
والمفارقة التي يتضمَّنها الافتراض القائل بأنَّ هناك علمًا سابقًا بالمستقبل. وأنَّ هناك — في نفس الوقت — جدة حقيقية تخلق في المستقبل، يُمكن فقط أن تزول لو أنَّنا قطعنا الأطراف غير الحقيقية لكليهما، بحيث نُبقي فقط على الأطراف الحقيقية فيهما. والأطراف غير الحقيقية فيهما هي الكمال الذي لا يُمكن أن يتغيَّر، الوجود المطلق الأبدي الذي يشمل الماضي والحاضر والمستقبل جميعًا. فإذا كان المطلق واقعة حقيقية، فلا بد أن يكتفي بذاته self-sufficient؛ أي إنَّه إذا كان واقعة فهو لا يُمكن أن يتطوَّر ولا أن يعمل.

والكون الذي نعيش فيه ليس كاملًا، وبسبب عناصر النقص ذاتها يستمر في عملية خلق صور جديدة لكي يتحرَّك نحو الكمال. فالوجود الكامل هو في حالة تكوين ولا يمكن أن يكون مصنوعًا أو معدًّا أبدًا، وعملية تكوينه تتجلى في الابتكار الخلَّاق لأفراد الموجودات الحية.

إنَّنا نعيش في عالم الأفعال والمعاناة، في عالم النجاح والفشل، في عالم الحب والكراهية، عالم الحاجات والرغبات والآمال. أمَّا إذا نظرنا إلى العالم على أنه مُطلَق، فلن يوجد فيه شيء من هذا القبيل، لأنَّ هذه الأمور جميعًا تنتمي إلى العالم النسبي، حيث توجد خبراتنا وتجاربنا المتناهية. نحن نعيش في عالم لا يوجد فيه شيء ساكن، بحيث لا يكون له تاريخ، في حين أنَّ العالم لو كان مطلقًا؛ فلا بدَّ أن يكون بلا زمان وبلا أي تاريخ: «حيث يأخذني المطلق … أظهر مع كل شيء آخر في مجال معرفته الكاملة، وكلما أخذت نفسي، أظهر بدون معظم معرفته «أي معرفة المطلق». ومن جهلي، فالجهل يفرخ لي: الخطأ، والتعجب، وسوء الطالع، والألم، فأُعاني من هذه النتائج، والمُطلق يعرف بالطبع هذه الأشياء؛ لأنَّه يعرفني ويعرف آلامي، لكنَّه هو نفسه لا يتألم. وهو لا يُمكن أن يكون جاهلًا؛ لأنَّ معرفته بكل سؤال تسير متأنية مع معرفته بكل جواب. وهو لا يُمكِن أن يكون صبورًا؛ لأنَّه لا ينتظر شيئًا، فكل شيء موجود لديه دفعة واحدة. وهو لا يُمكن أن يندهش، كما أنَّه لا يُمكن أن يكون مذنبًا. ولا يمكن أن تُقال عليه صفة ترتبط بالتتالي، لأنَّه كلي الحضور وهو ما هو عليه على الدوام.»٥٠
حين نتحقَّق من أنَّ المفارقة في مشكلة العلاقة بين العلم الإلهي الشامل والحرية البشرية تنشأ من القول بأنَّ مثل هذا الافتراض المركب فرض مستحيل، وحين نتحقَّق من أنَّ هذه المفارقة لا يمكن أن تزول إلَّا بأن ننكر واحدًا من اثنين: إمَّا المطلق الذي يشمل كل شيء، وإمَّا العالم النسبي المتغير الذي نعيش فيه — إذا تحقَّقنا من هذا كله، بدا الاختيار واضحًا: «المادة أم الذهن، لقد ظهر الواقع أمامنا كصيرورة دائمة. هو يصنع نفسه أو لا يصنع نفسه، لكنَّه ليس شيئًا معدًّا على الإطلاق.»٥١

(٣٣) يتضح من ذلك أنَّ حرية الجبر الذاتي ننسبها للإنسان لا تشمل كل ما يتعلَّق بوجوده وسلوكه، فمن الطبيعي ألَّا نتحدَّث عن وجوده الذي بدونه لا يُمكن أن يكون لا حرًّا ولا مُجبرًا؛ لأنَّه أيَّة صفة تُنسب إليه لا بد أن يسبقها التسليم بأنَّ الإنسان موجود؛ فوجوده شرط سابق لحريته، وعلى ذلك فالقول بأنَّ وجوده واقعة معطاة لا يُمكن أن يتخذ كدليل ضد حريته.

يجمل بنا هنا أن نلاحظ أنَّ حركات الجسم البشري يُمكن أن تنقسم إلى فئتين، نُطلق عليهما على التوالي: «الحركات الآلية» و«الحركات الحيوية». والأولى يُمثِّلها حركة رَجُل يسقط من صخرة ناتئة على شاطئ البحر فيهوي في الماء، فلتفسير سقوطه هذا لا يلزمنا أن نفترض أنَّ الرجل كائن حي، لأنَّه يسقط بفعل الجاذبية كما يسقط الحجر، أمَّا حين يصعد الرجُل قمة الجبل، فإنَّه عندئذ يفعل ما لا يستطيع أن تفعله مادة ميتة تشبهه شكلًا وحجمًا، فهذه إذن حركة حيوية.٥٢ ومن المُسلَّم به أنَّ جميع حركات الجسم البشري لا ترتبط بهذا الجسم إلَّا من حيث ما تلعبه طبيعة أي جسم مادي آخر في تحديد سلسلة الحوادث التي يتعرَّض لها. ومن ناحية أخرى فإنَّ جميع الظواهر «الحيوية» للجسم البشري التي يهتمُّ بها عالم الكيمياء أو الحياة أو وظائف الأعضاء تُحدِّدها طبيعة الكائن الحي بأوسع معنى لهذه الكلمة، بمعنى أنَّ أي كائن حي مكوَّن على نحو يجعله يعمل بطريقة مناسبة في جميع الظروف المختلفة، خذ مثلًا فعل الوقوف «تجد أنَّنا حين نقف تكون هناك بشائر خفيفة متصلة للسقوط نحو هذا الجانب أو ذاك، وهذه الترنُّحات تكون باستمرار خاطفة ومصححة، لكن ذلك كله يحدث دون أن ندركه أو أن تكون لدينا فكرة عنه، فجسمنا يُوازن نفسه دون أن يشعر وجودنا بذلك، ودون أن يكون لعقلنا دور ما.»٥٣ غير أنَّ هذه الأفعال تُشير — فيما يبدو — إلى حرية الحياة بصفة عامة، لا إلى حرية الفرد، اللهمَّ إلَّا من حيث اعتبار هذا الفرد مُمثِّلًا للحياة. ولقد كان للحياة خلال مجرى التطور تركيبات عضوية لصور جزئية خاصَّة خلقتها لتعمل على نحو معيَّن. ولقد كانت الحياة حرة في تطوُّرها الخالق.

يبقى أمامنا بعد ذلك الجانب السيكولوجي، وفي هذا الجانب نجد أنَّ الأفعال الإرادية هي وحدها الأفعال الحرة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. وإنَّك لتجد من الجبريين أنفسهم من يُسلِّم بأنَّ الموجودات البشرية هي الاستثناء الوحيد للمبدأ الجبري الذي يسود جميع المجالات، وأنَّ خصائص الإرادة هي وحدها المستثناة.

وعملية الإرادة تبدأ من الانتباه إلى فكرة معينة عن تغير ما، وتنتهي بالتحقق الكامل لهذه الفكرة، وإذا نقص شيء ما في هذه العملية المتكاملة فإنَّها لا تُسمَّى إرادة، لكن إذا ما تمَّت العملية وتحقق التغير، فلا بد أن تكون حرة على الأقل بالمعنى السلبي للحرية، الذي يعني انعدام القهر الخارجي. والواقع أنَّ عبارة «الإرادة المجبرة an impededwill» عبارة مُتناقِضة؛ لأنَّ الإرادة لا تكون كذلك إلَّا إذا تمَّت العمَلية حتى نهايتها. وكما لاحظ «تیلور A. E. Taylor» بحق، فإنَّ كلمتي «الحرية» و«الإرادة» ليستا إلَّا الاسم السَّلبي والاسم الإيجابي لخاصية واحدة هي خاصية الفعل الذي نُحقِّق به أغراضنا الخارجية في عالم الواقع. فأنا «أريد» حين يكون سلوكي الخارجي مُعبِّرًا عن ذاتي وفي هذه الحالة نفسها أكون حرًّا. ومن هنا كانت الإرادة والحرية شيئًا واحدًا؛ لأنَّ الإرادة التي نقول عنها إنَّها «ليست حرة» لا بدَّ أن تكون إرادة لا تُتَرجِم هدفي الخاص إلى عالم الواقع، وبالتالي فهي ليست إرادة على الإطلاق؛ ومن ثم فالسؤال: هل نحن أحرار؟ يُمكن أن يكون أكثر وضوحًا لو وُضع في صيغة مساوية فقلنا: هل أردنا شيئًا فقط؟ وإذا ما وُضع السؤال على هذا النحو فسوف تتولَّى التجربة والخبرة الإجابة عنه إجابة مُباشِرة؛ إذ لا شكَّ أنَّه كانت لدينا أغراض معيَّنة في حياتنا، ولا شك أيضًا أنَّنا ترجمنا هذه الأغراض إلى سلوك، ومِن هنا فإنَّ الحرية — يقينًا — … واقعة من وقائع الخبرة المباشرة.٥٤
إذا ما أراد شخص ما على الإطلاق فإنَّ إرادته لا بدَّ أن تكون حرة؛ لأنَّ الإرادة هي التحقُّق الفعلي لفكرة تغيُّر يُراد إظهاره إلى الوجود، وحين تتحقَّق الفكرة بالفعل فلا معنى لقولنا إنَّها كانت معاقة أو ليست حرة، لكن الحرية — من ناحية أخرى — التي نَنسبها هنا للفاعل؛ ليست هي الحرية التي تعني انعدام القانون أو الخضوع للعشوائية، بل هي حرية الجبر الذاتي التي تربط الفعل المراد بسببه. وشخصية الفاعل، السبب الضروري — وإن لم تكن السبب الكافي — للفعل المراد. وبعبارة أخرى: الفعل المراد هو كما سبق أن ذكرنا النتيجة المُمكنة — لا الضرورية — لشخصية الفاعل؛ ومن ثم لحرية الفاعل. والشخصية ليست نتاجًا تامًا وكاملًا، وليست تصوُّرًا مجردًا، يُمكن أن تكون طبيعته محددة مرة واحدة وإلى الأبد، لكنَّها شيء حي متزايد، وخبرة اللحظة الحاضرة تُضيف شيئًا جديدًا للخبرة الماضية، وبإضافتها يُصبح الكل مختلفًا عمَّا كان وعمَّا اعتاد أن يكون: «نحن أحرار حين تنبع أفعالنا من شخصيتنا بأسرها. حين تعبر هذه الأفعال عن تلك الشخصية بحيث يكون بينهما تشابه لا حدَّ له، وهو التشابه الذي نجده أحيانًا بين الفنان وإنتاجه. ولا يهمُّ أن يُقال بعد ذلك إنَّنا عندئذ نستسلم للأثر القوي الشامل لشخصيتنا؛ لأنَّ شخصيتنا في النهاية هي نحن.»٥٥
١  إرادة الاعتقاد، ص١٥١.
٢  ف. ﻫ. برادلي، دراسات أخلاقية، ص٥٦، من الطبعة الثانية.
٣  برنارد بوزانكيت، مبدأ الفردية والقيمة، ص٣٤٣.
٤  ف. هه. برادلي، أصول المنطق، ص١٤١، من الطبعة الثانية.
٥  نفس المرجع، ص١٦١.
٦  ف. ﻫ. برادلي، دراسات أخلاقية، ص٥.
٧  ب. بوزانكیت، مبدأ الفردية والقيمة، طبعة ۱۹١٢، ص۳۲۱.
٨  ومكدوجال، مقدمة لعلم النفس الاجتماعي، طبعة ٢٥، ص ۲۰۱.
٩  ف. ﻫ. برادلي، دراسات أخلاقية، الطبعة الثانية، ص١٢.
١٠  جيمس وورد، عالم الغايات، ص۲۷۳.
١١  ج. جنتيلي، نظرية الذهن بوصفه فعلًا خالصًا، الترجمة الإنجليزية بقلم ﻫ، ولدن كار H. wildon carr، ص١٥٩.
١٢  الأخلاق، ترجمة إنجليزية بقلم هيل وايت Hale White، ص٣ من الطبعة الرابعة.
١٣  نفس المرجع، الباب الأول، القضية رقم ١٦.
١٤  نفس المرجع، الباب الأول، القضية رقم ١٨.
١٥  نفس المرجع، الباب الأول، القضية رقم ٢٦.
١٦  نفس المرجع، الباب الأول، برهان القضية رقم ٣٢.
١٧  نفس المرجع، الباب الأول، القضية رقم ٢٨.
١٨  هذا هو ما يُسمِّيه هيجل باللامتناهي الزائف أو الفاسد … «ومن ثم فلو قيل لنا إنَّ اللامتناهي لا يُمكِن الإمساك به أو الوصول إليه، فإنَّ ذلك حق …» أمَّا اللامتناهي الحقيقي عنده فهو اتحاد المتناهي واللامتناهي. انظر كتابنا «المنهج الجدلي عند هيجل»، ص۱۷۹، وما بعدها — دار المعارف بمصر. (المترجم)
١٩  نفس المرجع السابق، الباب الأول، القضية رقم ٣٢.
٢٠  نفس المرجع السابق، الباب الأول، برهان القضية رقم ٣٢.
٢١  مقال عن الميتافيزيقا، ومراسلات مع أرنولد، والمونودولوجيا، ترجمة إنجليزية بقلم ج. مونتجمري، ص٢٠ من الطبعة الثانية.
٢٢  نفس المرجع، في نفس المرجع.
٢٣  نفس المرجع، ص۷۳.
٢٤  نفس المرجع السابق، ص٩٤-٩٥.
٢٥  أ. س. إدنجتون، مبدأ اللاحتمية والمذهب اللاحتمي، محاضر الجمعية الأرسطية، المجلد العاشر، ص١٦٨.
٢٦  أ. س. إدنجتون، مبدأ اللاحتمية والمذهب اللاحتمي، محاضر الجمعية الأرسطية، المجلد العاشر، ص١٦٨.
٢٧  كاتب إنساني روماني (١٤٠٦-١٤٥٧م). (المترجم)
٢٨  على اعتبار أنَّ جوبتر Jupiter هو كبير الآلهة في الميتولوجيا الرومانية وهو «زيدس» عند اليونان. (المترجم)
٢٩  وليم جيمس، مبادئ علم النفس، الجزء الأول، ص٤٥٣.
٣٠  ﻫ، برجسون، التطور الخالق، ترجمة أرثر ميتشل، ص٢٣-٢٤.
٣١  ن. ب ستالكنشت N. P Stalknecht، فكرة برجسون عن الخلق، ص٦٣-٦٤.
٣٢  كان «لامارك» (١٧٤٤-١٨٢٩م) أسبق من دارون في صياغة نظرية تطورية محدَّدة المعالم، وهو صاحب النظرية المشهورة في «وراثة الصفات المكتسبة»، والمثَل الذي ساقه تأييدًا لنظريته هذه هو أنَّ رقبة الزرافة الطويلة قد أتت من قيام أجيال مُتعاقِبة من الزراف بمد رقابهم من أجل الوصول إلى غذاء نباتي شحيح، كان ينمو في مكان أبعد مباشرة عن متناولهم. والمفروض أنَّ هذا المدَّ المستمر قد أدى إلى تعديل في الكائنات العضوية الفردية، وهي التعديلات — التي هي ضئيلة جدًّا في أيَّة حالة فردية — قد زادت بالوراثة. أمَّا دارون فقد افترض وراثة فوارق عفوية يتصادف أنها تُفيد في بقاء الحيوان. (المترجم)
٣٣  جيمس وورد، المذهب الطبيعي واللاأدرية، الجزء الأول، ص٢٠٥-٢٠٦ من الطبعة الثانية.
٣٤  س. شرانجتون، طبيعة الإنسان، ص١٦٨-١٦٩.
٣٥  س. ل. مورجان، التطور الانبثاقي، ص٥.
٣٦  ﻫ. ولدن كار، مشكلة حرية الإرادة، مكتبة بن Benn’sLibrary، ص٤٨-٤٩.
٣٧  ن. ب. ستالكنشت Stalknecht، فكرة برجسون عن الخلق، ص٦١-٦٢.
٣٨  هنري برجسون، التطور الخالق، ترجمة أرثر ميتشل، ص۷.
٣٩  جيمس وورد، مملكة الغايات، ص۲۹۸.
٤٠  ﻫ. برجسون، الزمان والإرادة الحرة، ترجمة ف. ل. برجسون، ص۱۹۰.
٤١  نفس المرجع، ص۱۳۸.
٤٢  ﻫ، برجسون، الزمان والإرادة الحرة، ترجمة برجسون، ص۱۹۷-۱۹۸.
٤٣  ﻫ. ف. فكرة الأزلية Aeternitas، ص٢٥.
٤٤  جیمس وورد J. ward، عالم الغايات، الطبعة الأولى، ص۲۷۱.
٤٥  سیت برجل باتيسون، فكرة الله، الطبعة الأولى، ص٣٦١-٣٦٢.
٤٦  جیمس وورد، مملكة الغايات، ص۲۷۱-۲۷۲.
٤٧  قارن مراسلات اسبينوزا، ترجمة أ. ولف A. Wolf.
٤٨  وليم جيمس، إرادة الاعتقاد، الإحراج النطقي للمذهب الجبري، ص١٦١-١٦٣.
٤٩  نفس المرجع، ص۱۸۰-۱۸۱.
٥٠  وليم جيمس، كون متعدِّد، ص٣٩.
٥١  ﻫ. برجسون، التطور الخالق، ترجمة آرثر ميتشل، ص۲۸۷.
٥٢  ب. رسل، موجز للفلسفة، الطبعة الأولى، ص۲۸-۲۹.
٥٣  مس. شرنجتون، طبيعة الإنسان، ص١٧٥.
٥٤  أ. إ، تيلور A. E. Taylor، أركان الميتافيزيقا، الطبعة الأولى، ص٣٦٥.
٥٥  ﻫ. برجسون، الزمان والإرادة الحرة، ترجمة ب. ل. برجسون، ص۱۷۲.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤