لغز الماسات الخمسمائة

عندما أقول إن اسمي فالمونت، فإن هذا الاسم لن يُعطي أيَّ انطباعٍ للقارئ، بشكلٍ أو بآخر. أعمل محقِّقًا خاصًّا في لندن، لكنك إن سألت أيَّ ضابط شرطة في باريس عن فالمونت، فعلى الأرجح سيستطيع إخبارك عني، إلا إنْ كان قد عُين حديثًا. وإن سألته عن مكان فالمونت في الوقت الحالي، فربما لن يعرف، ومع ذلك فلي باع طويل مع الشرطة الباريسية.

عملتُ طوال سبع سنوات كبيرًا للمحققين في حكومة فرنسا، وإن كنتُ لا أستطيع إثبات أنني صائد جرائم عظيم؛ وهذا لأن سِجلي المهني محفوظ في الأرشيف السري في باريس.

ربما عليَّ الاعتراف في البداية أنني لا أحمل ضغينةً على الإطلاق؛ فقد رأت حكومة فرنسا أن لديها ما يبرر صرفها لي، ففعلتْ هذا، وكان معها كامل الحق في فعله. ويجب أن أكون أنا آخر المعترضين على هذا الحق؛ لكنني، من ناحيةٍ أخرى، أجد أن لديَّ الحق في نشر القصة التالية عما حدث بالفعل، لا سيما أن كثيرًا من الشائعات الخاطئة انتشر في الخارج بشأن هذه القضية. ومع ذلك، كما قلتُ في البداية، لا أحمل ضغينة على الإطلاق؛ لأن أموري الدنيوية أصبحت الآن أكثر ازدهارًا مما كانت عليه في باريس؛ فمعرفتي الوثيقة بهذه المدينة والبلد الذي هي عاصمته جعلتْني أتولى كثيرًا من القضايا التي تعاملتُ معها بنجاح إلى حدٍّ ما منذ تأسيسي لعملي في لندن.

دون مقدماتٍ أخرى سأدخل على الفور في سرد القضية التي جذبت انتباه العالم أجمع منذ أكثر من عَقدٍ مضى بقليل.

كان عام ١٨٩٣ اثني عشر شهرًا من الازدهار في فرنسا؛ فكان الطقس جيدًا، والمحصول ممتازًا، وما زالت الخمر التي نتجت عن محصول العنب في هذه السنة يُحتفى بها إلى يومنا هذا. كان الجميع ميسوري الحال، ويعيشون في سعادةٍ مُبرَّرة، وهي حالةٌ تتناقض بوضوحٍ مع حال الأمور بعد بضع سنوات، حين ترك الصراع حول قضية دريفوس البلدَ في حالةٍ من الانقسام.

ربما يتذكر قُراء الصحف أنه في عام ١٨٩٣ وقع في حوزة حكومة فرنسا كَنز غير متوقع جعل العالم المتحضر في حالة من الترقب، خاصةً سكانه المهتمين بالآثار التاريخية. تمثَّل هذا الحدث في العثور على عِقد من الماس في قلعة شاتو دي شومو، بعد أن ظل في كومة من النفايات في عِلِّيَّةٍ دون أن يكتشفه أحدٌ طوال قرن من الزمن. أعتقد أن أحدًا لم يشكَّ في أنه العِقد الحقيقي الذي أراد بومر الصائغ بيعه لماري أنطوانيت، على الرغم من أن أحدًا لا يمكنه أن يُخمِّن طريقة وصوله إلى قلعة شاتو دي شومو؛ فطوال مائة عام كان من المفترض أن هذا العِقد قد فُكِّك في لندن وبيعت أحجاره الخمسمائة، كبيرها وصغيرها، كلٌّ على حدة. وطالما بدا لي غريبًا أن الكونتيسة لامو فالوا، التي ساد الاعتقاد بأنها استفادت من بيع هذه الجواهر، لم تترك فرنسا إن كانت تمتلك هذا القدر من المال الذي يمكِّنها من ترك البلد؛ إذ كان من الحتميِّ أن تتعرض لفضيحة إن بقيت. في الواقع، وُصمت هذه السيدة التعيسة الحظ بالعار وسُجنت، ثم سقطت إلى حتفها من الطابق الثالث في منزل بلندن، حينما حاولت، وهي في فقر مُدقع، الهروب من تبِعات الديون الهائلة التي تراكمت عليها.

لا أومن بالخرافات على الإطلاق، لكن يبدو أن هذه القطعة الشهيرة من الكنز الدفين كان لها بالفعل تأثير خبيث على كل من تعامل معها لسوء حظه. وفي الحقيقة تعرضتُ، أنا الذي أكتب هذه الكلمات، للطرد وأُصبت بالعار على الرغم من أني لم أُلقِ إلا نظرة واحدة على هذه الجواهر المتلألئة المتألقة. أما الصائغ الذي صنع هذا العِقد فقد تعرَّض لدمار مالي؛ والملكة التي صُنع من أجلها قُطع رأسها؛ والأمير الرفيع الشأن لويس رينيه إدوارد، كاردينال روهان، الذي اشتراه زُج به في السجن؛ أما الكونتيسة التعيسة الحظ، التي أدت دور الوسيط حتى إتمام عملية نقل هذه الجواهر، فتعلقت لخمس دقائق مُريعة بحافَّة نافذة في لندن قبل أن تسقط لتلقى حتفها عند الرايات في الأسفل، والآن بعد ١٠٨ أعوام تظهر للنور مرةً أخرى هذه العروض الشيطانية للألعاب النارية!

يبدو أن دروليارد، العامل الذي عثر على الصندوق القديم، بادر بفتحه، وعلى الرغم من جهله — فهو على الأرجح لم يرَ ماسًا في حياته من قبلُ — فإنه أدرك أن ثمَّة ثروةً في متناول يده. ولا بد أن البريق المشئوم من مجموعة الجواهر هذه أصاب عقله بالجنون؛ إذ إنه أحدث دمارًا بالمكان كما لو كانت أشعة البريق هذه هي الأشعة الغامضة التي اكتشفها العلماء مؤخرًا. كان بإمكانه المرور بسهولةٍ بالغةٍ عبر البوابة الرئيسية لقلعة شاتو ومعه الماسات يُخفيها في ملابسه دونَ أن يشُك فيه أحدٌ ودون أن يسأله أحد، ولكنه بدلًا من ذلك زحف خارجًا من نافذة العِلِّية إلى السطح الشديد الانحدار، وانزلق إلى حافته، وسقط على الأرض حيث استلقى ميتًا برقبة مكسورة، بينما سقط العِقد سليمًا يلمع في ضوء الشمس بجوار جثته. وبصرف النظر عن مكان العثور على هذه المجوهرات كانت الحكومة تصرٌّ على انتمائها لخزانة الجمهورية، لكن بما أن قلعة شاتو دي شومو كانت مَعلمًا تاريخيًّا، ومن ممتلكات فرنسا؛ لم يكن يوجد أدنى شك بشأن مِلكية الدولة للعِقد، فاستعادته الحكومة على الفور، وأمرت بإرساله على يد رجل عسكري مؤتمن إلى باريس. حمله ألفريد دريفوس، ضابط المدفعية الشاب، بأمانٍ وسلَّمه سريعًا إلى السُّلطات.

وعلى الرغم من سقوط العقد من البرج المرتفع لم تتعرض العُلبة ولا الجواهر لدمار واضح. كان من الواضح أن قُفل الصندوق فُتح عَنوة بفعل فأس دروليارد الصغيرة، أو ربما بفعل المِطواة التي عُثر عليها في ملابسه. وعند وصول الصندوق إلى الأرض انفتح الغطاء، ووقع العقد خارجَه.

أعتقد أن بعض النقاشات دارت في مجلس الوزراء بشأن مصير هذا الأثر التذكاري المشئوم؛ فأراد قسمٌ منهم وضعه في مُتحف بسبب أهميته التاريخية، بينما أيَّد قسم آخر تفكيك العِقد وبيع ماساته نظير أيِّ مبلغ من المال. إلا أن قسمًا ثالثًا أشار إلى أن الطريقة التي ستُدخل أكبر قدرٍ من المال إلى خزانة البلد هي بيع العقد كما هو؛ إذ إن العالم أصبح يزخر الآن بكثير من الهُواة الأغنياء الذين يجمعون القطع النادرة غير المشكوك فيها، بصرف النظر عن ثمنها، وستعزز الارتباطات التاريخية لهذا الطوق المرصَّع بالماس من القيمة الحقيقية للأحجار. ومع سيادة وجهة النظر هذه، أعلنوا أن العِقد سيُباع في مزاد بعد شهر في قاعة عرض ماير ورينو وشركائهما، في فندق بوليفار دي إيطاليان، بالقرب من بنك كريدي ليونيه.

أثار هذا الإعلان كثيرًا من التعليقات في الصحف في كافة البلدان، وبدا، من وجهة نظرٍ مادية على الأقل، أن قرار الحكومة كان حكيمًا؛ إذ اتضح سريعًا أن زمرةً بارزةً من المشترين الأثرياء سيحتشدون في باريس في يوم الثالثَ عشَر (وهو يومٌ أعتبره مشئومًا!) حين يُقام المزاد. أما نحن في الدائرة الداخلية فقد نما إلى علمنا نتيجة أخرى ربما تكون أكثر إزعاجًا، وهي أن أكثر المجرمين حنكةً في العالم سيتجمعون أيضًا مثل الطيور الجارحة في هذه المدينة الجميلة. لقد كان شرف فرنسا على المِحك. فأيًّا كان مَن يشتري العِقد فلا بد له أن يطمئن إلى خروجه الآمن من البلد. يمكننا الجلوس ومشاهدة ما يحدث بعد ذلك بهدوء، لكن ما دام مقيمًا في فرنسا، يجبُ ألا تتعرض حياته وممتلكاته للخطر.

وعليه، حدث أن أُوكِل إليَّ كامل مسئولية ضمان عدم ارتكاب جريمة قتل أو سرقة، أو كلتيهما معًا، ما دام مشتري العِقد داخل حدود دولتنا؛ ولهذا الغرض وُضعتْ موارد شرطة فرنسا دون تحفُّظ تحت تصرُّفي. إذا فشلتُ فلن يُلام أحد غيري؛ ومن ثَمَّ، كما أشرتُ سابقًا، أنا لا أشكو بشأن طردي من الحكومة.

أُصلِحَ قُفل صندوق المجوهرات المكسور ببراعة شديدة على يد خبير في صنع الأقفال، وقَد تعرَّض لسوء الحظ في أثناء تأدية مهمته إلى خدْش إحدى أصابعه في المعدن المكسور، حدث له على أثَره تسمم في الدم، وعلى الرغم من إنقاذ حياته، فقد خرج من المستشفى دون ذراعه اليمنى وأصبح عديم الجدوى.

عندما صنع الصائغ بومر العِقد طلب نظيرَه ١٦٠ ألف جنيهٍ، لكن بعد مرور سنوات من الإحباط رضيَ ببيعه لكاردينال روهان نظير ٦٤ ألف جنيهٍ فقط، تُدفع على ثلاثة أقساط، لم يُدفع أيٌّ منها قط. وعلى الأرجح كان هذا المبلغ الثاني أقرب لقيمة الأحجار المنفصلة التي يصل عددها إلى ٥٦٠، كان حجم واحد منها هائلًا، مثل ملكة الماسات، تحيط به ١٧ ماسة برَّاقة كلٌّ منها في حجم البُندقة. وُضعتْ هذه الثروة المضيئة بألوان قوس قُزح، إن جاز لنا القول، في عنايتي، وكان لزامًا عليَّ الحرص على عدم وقوع ضرر للعِقد أو لمالكه المرتقب حتى عبوره حدود فرنسا بأمان.

كانت الأسابيع الأربعة السابقة على يوم الثالثَ عشَر مليئة بالأعمال والتوتر بالنسبة لي. أراد الآلاف رؤية الماسات، معظمهم يدفعه الفضول فحسب. فأُجبرنا على التمييز، وأحيانًا كنا نميز ضد الشخص الخطأ، وتسبب هذا في الاستياء. بُذلت ثلاث محاولات منفردة لسرقة الخزينة، لكن لحسن الحظ أُحبطت هذه المحاولات الإجرامية، ووصلنا سالمين إلى يوم الثالثَ عشَر من الشهر.

كان من المقرَّر بدء المزاد في الساعة الثانية، وفي صباح هذا اليوم اتخذتُ الإجراء الاحترازي المستبد بصورةٍ ما، والمتمثل في سجن أخطر المخرِّبين في بلدنا، وأكبر عدد ممكن من اللصوص الأجانب استطعتُ تلفيق اتهامات ضده، ومع ذلك كنت أعلم جيدًا أنني لم يكن يُفترض بي أن أخشى هؤلاء الحُثالة، بل السادة المحترمين المنمَّقين، المزوَّدين بما يكفي من المؤهِّلات غير القابلة للشك، والذين يدخلون إلى أفخم فنادقنا ويعيشون كالأمراء. كان كثير من هؤلاء أجانب لا يمكننا إثبات أي شيء ضدهم، وربما يضعُنا قبضُنا عليهم في مشكلات دولية لبعض الوقت. ومع ذلك، أخضعتُ كلًّا مِن هؤلاء للمراقبة، وفي صباح يوم الثالثَ عشَر كنت مستعدًّا، لو دخل أحدهم في جدال حتى حول تعريفة السيارة الأجرة، للزجِّ به في السجن بعد نصف ساعة فقط وتحمُّل العواقب، لكنَّ هؤلاء الرجال شديدو الدهاء ولا يرتكبون أخطاءً.

أعددتُ قائمةً بجميع الرجال في العالم الذين بإمكانهم شراء العِقد أو يُحتمل منهم ذلك. كثير منهم لن يكون موجودًا بنفسه في قاعة المزاد، بل سيُقدِّمون مزايداتهم عبر وكلائهم. عمِل هذا على تبسيط الأمور كثيرًا؛ إذ عمِل الوكلاء على إطلاعي على غاياتهم في حينها، كما أن الوكيل الذي يتعامل مع كنزٍ كل أسبوع بارع في عمله، ولا يحتاج إلى الحماية التي لا بد أن يُحاط بها الهاوي، الذي لا تكون لديه إلا فكرة طفيفة في تسع حالات من أصل عشْرٍ عن الأخطار التي تهدده، بخلاف أنه إذا سار في شارع مظلم في حيٍّ خطرٍ فربما يتعرض إلى إساءة المعاملة أو السرقة.

أُعلنَ عن حضور عدد لا يقل عن ١٦ عميلًا، علمنا بحضورهم شخصيًّا في يوم المزاد، يمكن لأيِّ أحد منهم شراء العِقد. كان ماركيز وارلينجهام ولورد أوكستد من إنجلترا من أشهر هواة المجوهرات، بينما كان من المتوقع حضور نصف دستة من المليونيرات على الأقل من الولايات المتحدة، وعدد قليل من ألمانيا وأستراليا وروسيا، وواحد فقط من كلٍّ من إيطاليا وبلجيكا وهولندا.

لم يكن مسموحًا بدخول قاعة المزاد إلا بتذكرة، يكون التقديم عليها قبل أسبوع على الأقل، ويُرفَق باستمارات التقديم الشهادات المطلوبة. ربما كان كثير من الرجال الأغنياء المجتمعين هناك سيشعرون بالاندهاش إن علموا أنهم يجلسون إلى جوار أشهَر اللصوص في إنجلترا وأمريكا، لكني سمحتُ بحدوث هذا لسببين؛ الأول أني أردتُ وضع هؤلاء المحتالين تحت عيني حتى أعرف مَن سيشتري العِقد، والثاني أنني أردتُ بشدةٍ إخبارَهم أنهم ليسوا موضع شك.

وضعتُ رجالًا محلَّ ثقة خارج فندق بوليفارد دي إيطاليان، كلٌّ منهم كان يعرف شكل أكثر المشترين المحتمَلين للعِقد. وكان من المقرر عند انتهاء المزاد أن أخرج من الفندق بجوار المالك الجديد للماسات، ومنذ هذه اللحظة وحتى خروجه من فرنسا، كان من المفترض ألا يغفُل رجالي عنه في حال احتفاظه بالأحجار في حيازته، بدلًا من فعل التصرف المنطقي والمناسب في هذه الحالة، بأن يَعهد بها إلى شركةِ نقلٍ مسئولة تنقلها إلى محل إقامته، أو يودِعها أحدَ البنوك. في الحقيقة، اتخذتُ كل إجراء احترازي تراءى لي؛ فكل شرطة باريس كانت في حالة استنفار، وشعرت كأنها تواجه الاحتيال في العالم أجمع.

لسببٍ أو لآخر قاربَت الساعة على الثانية والنصف ولم يبدأ المزاد؛ فقد حدث تأخُّر ملحوظ بسبب تذاكر مزوَّرة، وفي الواقع خضع كل إذن بالدخول لفحصٍ دقيق لدرجة أن هذا استغرق وقتًا أطول بكثير مما كنا نتوقع. أصبحت كافة المقاعد مشغولة، ومع ذلك أُجبر عدد من الزائرين على الوقوف. اتخذتُ موقعي بجوار الأبواب المتأرجحة عند مدخل القاعة؛ حيث يمكنني رؤية الجمع بأكمله. وقف بعض رجالي وظهورهم للحائط بينما توزَّع الآخرون بين المقاعد، وكلهم يرتدون ملابس عادية. في أثناء المزاد لم تكن الماسات نفسها معروضة، بل وُضع الصندوق الذي يحتوي عليها أمام المسئول عن إدارة المزاد، ووقف ثلاثة رجال شرطة يرتدون الزي الرسمي على كلا جانبَيه لحراسته.

•••

بدأ المسئول عن المزاد بهدوء بالغ، وقال إنه لا يحتاج إلى الإسهاب في الطبيعة البارزة لهذا الكَنز الذي حظي بشرف عرضه للبيع، وبهذا التمهيد طلب من الحاضرين تقديم عطاءاتهم. قدَّم أحدهم ٢٠ ألف فرانك، تعالت الضحكات على أثَره، ثم استمرت المزايدة باطراد حتى وصلت إلى ٩٠٠ ألف فرانك، وهو مبلغ أعرف أنه أقل من نصف المبلغ الذي أنفقَتْه الحكومة على العِقد. استمرت المنافسة ببطءٍ أكثر حتى وصلت إلى مليونٍ ونصف، وظل الحال كذلك لبعض الوقت، بينما أشار المسئول عن إدارة المزاد إلى أن هذا المبلغ لا يضاهي المبلغ الذي اضطُر صانع العِقد إلى قبوله في النهاية نظيرًا له. وبعد الصمت مرةً أخرى أضاف قائلًا إنه نظرًا لعدم زيادة النظير المادي، فإن العِقد سيُسحَب من المزايدة، وعلى الأرجح لن يُعرض للبيع مرةً أخرى أبدًا، وبهذا حثٌّ الممتنعين عن المشاركة على تقديم عطاءاتهم الآن. عندئذٍ اشتعلت المنافسة حتى عُرض مبلغ مليونين و٣٠٠ ألف فرانك، والآن علمتُ أن العِقد سيُباع. ومع الاقتراب من مبلغ ثلاثة ملايين انحصرت المنافسة بين بضعة تجار من هامبورج، وماركيز وارلينجهام من إنجلترا، ثم ارتفع صوت لم ينطلق إلَّا الآن في قاعة المزاد بنبرةٍ تنمُّ عن قدر من نفاد الصبر، قائلًا:

«مليون دولار!»

ساد الصمت على الفور، وأعقبه صوت كتابة بالأقلام الرصاص، إذ كان كلُّ فرد من الموجودين يحسِب مقابل هذا المبلغ بعُملته؛ الجنيه الإسترليني للإنجليز، والفرانك للفرنسيين، والمارك للألمان، وهكذا. دلَّت نبرة الصوت العَدائية والملامح الحادة للمُزايد على أنه أمريكي، تمامًا مثل الفئة المالية التي استخدمها. وفي لحظة أدرك الجميع أن مزايدته كانت طفرة واضحة بأكثر من مليونَي فرانك، فصدر تنهيد من الحضور كما لو أن هذا حسم الأمر، وتمَّت صفقة البيع الضخمة. ومع ذلك، تأرجحت مِطرقة المسئول عن المزاد فوق غطاء مكتبه، ونظر متفحصًا الوجوه المتجهة كلها إليه. فبدا مترددًا في النقر على الطاولة، لكن لم يحاول أحد أن ينافس هذا المبلغ الضخم، فضرب بالمِطرقة الخشبية مُصدرًا نقرةً حادة.

سأل وهو ينحني تجاه العميل: «ما اسمك؟»

رد الأمريكي: «كاش، وهذا شيك بالمبلغ المطلوب، وسآخذ الماسات معي.»

اعترض المسئول عن المزاد بلطف قائلًا: «طلبك غير معتاد إلى حدٍّ ما.»

قاطعه الأمريكي قائلًا: «أُدرك ما تعنيه، فأنت تعتقد أن الشيك قد لا يُصرَف. ستلاحظ أنه مسحوب على بنك كريدي ليونيه الموجود فعليًّا بجوارنا. لا بد لي من الاحتفاظ بالماسات معي. أرسِل مبعوثك بالشيك، ولن يستغرق الأمر إلا بضع دقائق لمعرفة ما إذا كانت ثمَّة أموال تغطيه أم لا. إن هذا العِقد ملكي، وأنا أُصر على الحصول عليه.»

سلَّم المسئول عن المزاد الشيك بتردد إلى ممثل الحكومة الفرنسية الذي كان حاضرًا، وذهب هذا المسئول بنفسه إلى البنك. كانت ثمة أشياء أخرى معروضة للبيع، وحاول المسئول عن المزاد المُضي قُدمًا في القائمة، لكن لم يُعِره أحدٌ أدنى انتباه.

في هذه الأثناء كنت أدرس ملامح الرجل الذي قدَّم هذا العطاء المُذهل، في حين كان ينبغي عليَّ بدلًا من ذلك تنظيم استعداداتي لمواجهة الظروف الجديدة التي تواجهني الآن. لدينا رجلٌ لا نعرف عنه أي شيء على الإطلاق، فاستنتجت على الفور أنه أمير المجرمين، وأن ثمة تدبيرًا مشئومًا، لا أعرف عنه شيئًا في الوقت الحالي، يُنفَّذ من أجل الحصول على المجوهرات. من الواضح أن تسليم الشيك كان خُدعة من نوعٍ ما، وتوقعتُ تمامًا عودة المسئول وقوله إن الشيك سليم، فعزمتُ على منع هذا الرجل من الحصول على صندوق المجوهرات حتى أعرف المزيد عن هذه اللعبة. تحركتُ سريعًا من مكاني بالقرب من الباب إلى مكتب المسئول عن المزاد، وأنا أضع هدفَين نُصب عيني؛ الأول أن أُحذِّر المسئول عن المزاد من عدم ترك هذا الكَنز بسهولة، والثاني أن أدرس الرجل المشتبه فيه عن كثب. فالأمريكيُّ هو أكثر من تخاف منه من بين المجرمين؛ فهو يبدع في التخطيط لمشروعاته، ويخاطر في سبيل تنفيذها أكثر من أي محتال آخر على وجه الأرض.

من موقعي رأيتُ أن ثمَّة رجلين يجب التعامل معهما. فكان وجه المُزايد ينمُّ عن الفطنة والعقلانية، وكانت يداه رقيقتين كأيدي النساء، فكانتا نظيفتين وبيضاوين؛ مما يُظهر ابتعادهما منذ وقت طويل عن العمل اليدوي، إن كانتا قد قامتا بأي عمل مفيد على الإطلاق. كان يتسم بالهدوء والسلام دون أدنى شك، أما رفيقه الذي جلس على يمينه فكان مختلفًا عنه تمامًا؛ فكانت يداه مشعرتين ومسفوعتين من الشمس، وحمل وجهه طابع تصميم حازم وشجاعة صارمة. كنت أعلم أن هذين النوعين عادةً ما يعملان معًا — أحدهما يخطِّط والآخر ينفِّذ — ودائمًا ما يشكلان مزيجًا من الخطر مجابهته ومن الصعب التغلب عليه.

كانت القاعة تضِج بالنقاشات الدائرة، بينما كان هذان الرجلان يتحدثان معًا بصوت منخفض. علمتُ حينها أنني أواجه أخطر مشكلة في حياتي.

همستُ إلى المسئول عن المزاد، الذي حنى رأسه ليسمعني، فقد كان يعلم بالطبع مَن أكون.

بدأت حديثي: «عليك ألا تتخلى عن العِقد.»

فهز كتفيه قائلًا: «أنا أنفِّذ أوامر مسئول وزارة الداخلية، عليك أن تتحدث إليه.»

فرددتُ عليه: «لن أتوانى عن فعل هذا، ومع ذلك، لا تتخلَّ عن الصندوق بسهولة.»

اعترض على كلامي بهز كتفيه مرةً أخرى وقال: «لا حيلة لي؛ فأنا أنفِّذ أوامر الحكومة.»

عندما وجدتُ أنه لا جدوى من التفاوض أكثر من هذا مع المسئول عن المزاد، أعملتُ عقلي لمواجهة الوضع الطارئ الجديد. كانت لديَّ قناعة بأن الشيك ستثبُت صحته، وأن الخدعة، أيًّا كان موضعها، لن تتضح في الوقت المناسب لمساعدة السلطات؛ ومن ثَمَّ، كان من واجبي ألا نغفُل عن المشتري ولا البضاعة المشتراة. بالطبع لم يكن باستطاعتي إلقاء القبض على المشتري لمجرد شكي؛ كما أن هذا كان سيجعل من الحكومة موضع سخرية العالم إذا باعت صندوقًا من المجوهرات وعلى الفور زجَّت المشتري في السجن في حين أنها هي نفسها التي سلمته بضاعته. وفي فرنسا السخرية قاتلة؛ فيمكن لمَسحةٍ من سُخريةٍ الإطاحة بالحكومة من الوجود في باريس، ويكون تأثيرها أكبر من نفحة من دخان المدافع. إذن، كان من واجبي إعطاء الحكومة تحذيرًا كاملًا، وألا يغيب الرجل عن نظري حتى خروجه من فرنسا، ثم تنتهي مسئوليتي.

انتحيتُ بأحد رجالي ممن يرتدون ملابس عادية جانبًا وقلتُ له: «أرأيت الأمريكي الذي اشترى العِقد؟»

فردَّ: «أجل يا سيدي.»

«حسنًا، اذهب إلى الخارج بهدوء، وقِفْ هناك؛ فهو على الأرجح سيخرج ومعه المجوهرات في حوزته، عليك ألا تغفُل لا عن الرجل ولا عن الصندوق. سأتبعه وأكون في أعقابه عند خروجه، أما أنت فعليك أن تراقبنا. وإن انفصل عن الصندوق فعليك أن تكون مستعدًّا بإشارة مني لتتبُّع إما الرجل أو المجوهرات. هل فهمت؟» فأجاب: «أجل يا سيدي.» وترك القاعة.

عادةً لا تُربكنا إلا الأمور التي تحدث دون توقُّع؛ فمن السهل أن يفكر المرء بحكمة بعد وقوع الحدث. كان يُفترض بي إرسال رجلين، وطالما فكرتُ منذ ذلك الوقت في مدى روعة تنظيم الحكومة الإيطالية التي تنشر رجال شرطتها أزواجًا، أو ربما كان يُفترض بي إعطاء الرجل سُلطة طلب المساعدة، لكن ما حدث أنه لم يُجِد التصرُّف إلا بنصف قدر ما توقعت منه، والخطأ الذي ارتكبه بتردده الأحمق للحظة … آه، حسنًا! لا فائدة من التوبيخ؛ ففي النهاية ربما لم تكن النتيجة لتختلف.

وبمجرد اختفاء رَجُلي هذا خلف الأبواب المطويَّة دخل المسئول التابع لوزارة الداخلية. قابلته في منتصف الطريق بين الباب ومسئول المزاد.

وهمستُ له قائلًا: «على الأرجح يبدو الشيك حقيقيًّا.»

رد بتفاخر «بكل تأكيد.» فكان شخصًا معتزًّا كثيرًا بأهميته؛ من نوع الشخصيات التي يصعب دومًا التعامل معها. أصرَّت الحكومة، فيما بعدُ، على أن هذا المسئول حذَّرني. وكلام شخص أحمق يتَّشح بثوب السلطة لفترة وجيزة، على حد قول الشاعر الإنجليزي، يُنظر إليه على أنه مثال على الحكمة.

أردفتُ قائلًا: «أنصحك بشدة ألا تُسلِّم العِقد كما طُلب منك.»

فسألني: «لماذا؟»

فرددتُ عليه: «لأني مقتنع بأن هذا المُزايد مجرمٌ.»

قال: «إن كان لديك إثبات على هذا، فاقبض عليه.»

«ليس لديَّ إثبات في الوقت الحالي، لكني أطلب منك تأجيل تسليم البضاعة.»

صاح بنفاد صبر: «هذا كلام سخيف؛ فالعِقد ملك له، وليس ملكنا، وقد حُوِّلَت الأموال بالفعل إلى حساب الحكومة، ونحن لا يمكننا الاحتفاظ بخمسة ملايين فرانك ونرفض تسليمه ما اشتراه بها.» وعليه تركني الرجل واقفًا هناك، مشوَّشًا وقلقًا. كانت أعين كل الموجودين في القاعة قد تحولت إلينا في أثناء حديثنا القصير، والآن أكمل المسئول طريقه متباهيًا عبر القاعة يتملكه شعور بالغ بالأهمية، ثم انحنى ومدَّ يده إلى الأمام وقال، بأسلوب درامي: «هذه المجوهرات ملك للسيد.»

نهض الرجلان الأمريكيان في وقت واحد، ومد الأطول منهما يده في حين سلَّمه المسئول عن المزاد الصندوق الذي من الواضح أنه دفع كثيرًا نظيره. فتح الأمريكي الصندوق بلا مبالاة، ولأول مرة رأى الحاضرون الوهج الأخَّاذ للمجوهرات، حتى إن كل فرد منهم مد رقبته إلى الأمام ليراها. بدا لي هذا العمل شديد التهور. تفحَّص المجوهرات بدقة للحظات، ثم أغلق الغطاء مرةً أخرى، ووضع الصندوق بهدوء في جيبه الخارجي، ولم يسعني إلا ملاحظة أن المعطف الخفيف الذي ارتداه كانت جيوبه هائلة الحجم، كما لو كانت مصنوعة من أجل هذا الصندوق تحديدًا. بعد ذلك سار هذا الرجل المُذهل بهدوء عبر القاعة مارًّا بالأشرار، الذين ما كانوا ليمانعوا في ذبحه مقابل أصغر ماسة في هذه المجموعة؛ ورغم ذلك، لم يتكبَّد عناءً حتى وضع يده على جيبه الذي احتوى على الصندوق، أو يحاول حمايته بأي طريقة. وبدا الحاضرون جميعهم مذهولين من جرأته. تبعه صديقه في أعقابه، واختفى الرجل الطويل عبر الأبواب المطوية. لكن الآخر لم يمر، بل استدار بسرعة وأخرج مسدسين من جيوبه ووجههما نحو الحشد المذهول. كان الجميع يهمون بمغادرة القاعة، غير أن رؤية هذه الأسلحة المميتة الموجَّهة نحوهم جعلتهم ينكمشون في أماكنهم مرةً أخرى.

تحدث الرجل وظهرُه للباب بصوت مرتفع آمِر، وطلب من المسئول عن المزاد ترجمة ما يقوله إلى الفرنسية والألمانية؛ فقد كان يتحدث بالإنجليزية.

«هذه الأشياء البراقة قيمتها كبيرة، وهي ملك لصديقي الذي ذهب للتَّوِّ. ومع ذلك، وبالنظر إلى عموم الناس في هذه القاعة، يوجد على الأقل ستة «محتالين» بيننا يريد صديقي تجنبهم. والآن، لن يعترض أيُّ رجل شريف هنا على إعطاء مشتري هذه الحُلي خمس دقائق صافية يمكنه الهرب خلالها. لن يعترض على هذا إلا «المحتالون»، وأنا أطلب منكم هذه الدقائق الخمس على سبيل الخدمة، لكن إن لم أحصل عليها فإني سآخذها عنوة. فإذا تحرَّك أيُّ شخص فسأُطلق النار.»

صرختُ: «أنا رجل شريف، وأنا أعترض، فأنا كبير المحققين في الحكومة الفرنسية. تنحَّ جانبًا؛ فالشرطة ستحمي صديقك.»

حذَّرني الأمريكي قائلًا: «انتظر يا بُنَيَّ.» ووجَّه أحد السلاحين نحوي مباشرةً، بينما أدار الآخر في جميع أرجاء القاعة وأشار به في جميع الاتجاهات. «إن صديقي من نيويورك، وهو لا يثق بالشرطة تمامًا مثل عدم ثقته بالمحتالين. حتى إن كنت عشرين محققًا، إن تحركت قبل أن تدق الساعة الثالثة، فإني سأُرْديك قتيلًا، ولا تنسَ هذا أبدًا.»

أنْ تواجِهَ الموت في قتالٍ محتدم شيء، لكن شيء آخر أن تسير ببرود نحو فوَّهة مسدس موجَّه نحوك بثبات بحيث لا سبيل للهرب. أقنعَتْني لمحة التصميم في عينَي الرجل بأنه يعني ما يقوله. لم أفكر حينها، كما لم أفكر منذ ذلك الحين، أن هذه الدقائق الخمس التالية، على الرغم من أهميتها، تساوي أن أُضحِّيَ بحياتي. ومن الواضح أن الجميع شاركوني هذا الرأي؛ إذ لم يحرك أحد ساكنًا حتى دقت الساعة الثالثة ببطء.

قال الأمريكي وهو يختفي بين الأبواب «شكرًا لكم أيها السادة.» وعندما أقول اختفى، فإنني أعني هذه الكلمة تحديدًا ولا كلمة غيرها، لأن رجالي بالخارج لم يروا هذا الشخص لا في وقتها ولا فيما بعدُ؛ فقد اختفى كما لو أنه لم يكن موجودًا من الأساس، ولم نكتشف طريقة حدوث هذا إلا بعد مرور عدة ساعات.

أسرعتُ خارجًا في أعقابه، كما نقول، وسارعتُ بسؤال رجالي المنتظِرين بالخارج. لقد رأوا جميعهم الرجل الأمريكي الطويل وهو يخرج بكل سكينة ويتجه نحو الغرب. وبما أنه لم يكن الرجل الذي ينشده أيٌّ منهم لم يُعِيروه انتباهًا أكثر من هذا، وهذه في الواقع عادة القوات الباريسية؛ فهم لا ينظرون إلا للأشياء التي أُرسلوا للبحث عنها، وهذه الصفة تعود بالضرر على رؤسائهم.

ركضتُ في الشارع العريض وكل تفكيري موجَّه نحو الماسات وصاحبها؛ فأنا أعلم أن تابعي المسئول عن الرجال الموجودين داخل القاعة سيبحث عن المحتال ذي المسدسين. وبعد أن ركضتُ لمسافة قصيرة وجدتُ الرجل الأحمق الذي أرسلته يقف مذهولًا في ركن شارع ميكودييه، وهو ينظر بالتبادل نحو نهاية هذا الشارع القصير وميدان الأوبرا، وكانت حقيقة وجوده في هذا المكان دليلًا كافيًا على فشله.

سألته: «أين الأمريكي؟»

«ذهب في هذا الشارع يا سيدي.»

«إذن لمَ تقف أنت هنا مثل الأحمق؟!»

«لقد تبعته كل هذه المسافة، ثم جاء رجل من شارع ميكودييه ودون أيِّ كلمة سلَّمه الأمريكي صندوق المجوهرات، واستدار على الفور وسار في الشارع الذي جاء منه الرجل الآخر. أما الرجل الآخر فقد استقل سيارة أجرة، واتجه بها إلى ميدان الأوبرا.»

«وماذا فعلت أنت؟ أظنك وقفت هنا كالعمود؟»

«لم أدرِ ماذا أفعل يا سيدي، لقد حدث كل هذا في لحظة.»

«لماذا لم تتبع سيارة الأجرة؟»

«لم أكن أعلم أيهما أتبع يا سيدي، وسيارة الأجرة اختفت على الفور بينما كنت أراقب الأمريكي.»

«ما رقم لوحتها؟»

«لا أعرف يا سيدي.»

«أيها الأبله! لماذا لم تستدعِ أحد رجالنا، أيًّا كان الأقرب إليك، وتدعه يتبع الأمريكي بينما تتبع أنت سيارة الأجرة؟»

«لقد صحتُ لأقرب رجل بالفعل يا سيدي، لكنه قال إنك أخبرته بالبقاء هناك ومراقبة اللورد الإنجليزي، وحتى قبل أن يتحدث كان كلٌّ من الأمريكي ومستقل سيارة الأجرة قد غابا عن الأنظار.»

«هل كان الرجل الذي أعطاه الصندوق أمريكيًّا أيضًا؟»

«لا يا سيدي، كان فرنسيًّا.»

«كيف عرفت؟»

«من مظهره والكلمات التي قالها.»

«أعتقد أنك قلت إنه لم يتحدث.»

«لم يتحدث إلى الأمريكي يا سيدي، لكنه قال لسائق سيارة الأجرة: «خذني إلى كنيسة مادلين بأسرع ما يمكن».»

«صف لي الرجل.»

«كان أقصر من الأمريكي قليلًا، ولديه لحية وشارب أسود مهذبان بدقة، وبدا من نوعيةٍ راقية من الحِرفيين.»

«أنت لم تأخذ رقم لوحة سيارة الأجرة، لكن أيمكنك التعرف على سائق السيارة إن رأيته مرةً أخرى؟»

«أجل يا سيدي، أعتقد ذلك.»

أخذتُ هذا الرجل معي وعدتُ إلى قاعة المزاد التي صارت فارغة تقريبًا الآن وهناك جمعتُ كل رجالي حولي. دوَّن كلٌّ منهم في دفتر ملاحظاته أوصاف سائق سيارة الأجرة والراكب معه على حد قول جاسوسي المُفتقِر للكفاءة، بعدها أمليتُ عليهم وصفًا وافيًا للرجلين الأمريكيين، ثم وزعتُ رجالي على محطات القطار المختلفة الخاصة بالخطوط المؤدية إلى خارج باريس، وأعطيتهم تعليمات بالاستعلام من رجال الشرطة الذين يعملون هناك، وإلقاء القبض على واحد أو أكثر من الرجال الأربعة الذين ذُكرت أوصافهم إن حالفهم الحظ في العثور على أيٍّ منهم.

الآن عرفت كيف اختفى المحتال الذي كان يحمل المسدس تمامًا. فقد حل تابعي الموجود في قاعة المزاد هذا السرَّ بسرعة. يوجد على يسار المدخل الرئيسي لقاعة المزاد باب يوصل إلى مدخل خاص للجزء الخلفي للمبنى. وحين سُئل الخادم اعترف بأن الأمريكي رشاه في اليوم السابق حتى يدع هذا الباب الجانبي مفتوحًا ويسمح للرجل بالهروب عبر مدخل البضائع؛ ولذلك لم يظهر هذا الرجل الهمجي في الشارع العريض على الإطلاق، ولم يلحظه أيٌّ من رجالي.

أخذتُ جاسوسي عديم النفع وعدتُ إلى مكتبي، وأرسلتُ أمرًا في جميع أنحاء المدينة أنه على كل سائق سيارة أجرة كان موجودًا في فندق بوليفار دي إيطاليان في الفترة بين الثانية والنصف والثالثة والنصف بعد ظهر هذا اليوم، أن يأتي إليَّ على الفور. اتضح أن استجواب هؤلاء الرجال عملٌ مملٌّ للغاية، لكن أيًّا كان رأي البلدان الأخرى فينا، فنحن الفرنسيين شعب صبور، وإن بحثنا بما يكفي في كَومة القَش، فإن الإبرة حتمًا ستظهر. لم أعثر على الإبرة التي كنت أبحث عنها، لكني توصلتُ إلى واحدة تضاهيها في الأهمية، إن لم تكن أهم منها.

كانت الساعة قد قاربت على العاشرة ليلًا حين أجاب أحد سائقي سيارات الأجرة على أسئلتي التي كررتها كثيرًا بالإيجاب.

«هل أخذتَ راكبًا بعد بضع دقائق من الساعة الثالثة من البوليفار دي إيطاليان، بالقرب من كريدي ليونيه؟ هل كانت لديه لحية سوداء قصيرة؟ وهل كان يحمل صندوقًا صغيرًا في يده وطلب منك الذهاب إلى كنيسة مادلين؟»

بدا سائق سيارة الأجرة مرتبكًا، وردَّ قائلًا: «لقد ارتدى لحية سوداء قصيرة عندما خرج من السيارة.»

«ماذا تعني بهذا؟»

«أنا أقود سيارة أجرة مغلقة يا سيدي. عندما ركب معي كان سيدًا حليق الوجه، أما عندما خرج من السيارة كان يضع لحية سوداء قصيرة.»

«هل كان فرنسيًّا؟»

«لا يا سيدي، كان أجنبيًّا، إما إنجليزيًّا أو أمريكيًّا.»

«هل كان يحمل صندوقًا؟»

«لا يا سيدي، لقد كان يحمل في يده حقيبةً جلدية صغيرة.»

«إلى أين طلب منك الذهاب؟»

«أخبرني أن أتبع سيارة الأجرة التي تسير أمامي، التي انطلقت للتَّوِّ مسرعةً للغاية نحو كنيسة مادلين. في الحقيقة، لقد سمعتُ الرجل، الذي ينطبق عليه وصفك، وهو يطلب من سائق سيارة الأجرة الأخرى الذهاب إلى كنيسة مادلين. كنتُ أسير بجوار الحافة الصخرية للطريق عندما رفع هذا الرجل يده للحصول على سيارة أجرة، لكن سيارة الأجرة المكشوفة قطعت الطريق وتخطتني. عندها فقط تنبَّه الراكب معي وقال بالفرنسية، لكن بلكنة أجنبية: «الحَقْ بسيارة الأجرة هذه أينما ذهبت».»

التفتُّ بقدر من السخط إلى جاسوسي غير الكفء، وقلتُ له: «أخبرتني أن الأمريكي ذهب في شارع جانبي، لكن من الواضح أنه التقى برجل آخر، وحصل منه على حقيبة اليد، واستدار راجعًا، ثم ركب سيارة الأجرة المغلقة التي كانت خلفك مباشرةً.»

تلعثم الجاسوس، وقال: «حسنًا يا سيدي، لم يكن في استطاعتي النظر في اتجاهين في نفس الوقت. فمن المؤكد أن الأمريكي ذهب في الشارع الجانبي، لكني راقبتُ سيارة الأجرة التي كانت تحتوي على المجوهرات.»

«ولم ترَ شيئًا من سيارة الأجرة المغلقة التي كانت خلفك مباشرةً؟»

«لقد كان الشارع مليئًا بسيارات الأجرة، وكان الرصيف مزدحمًا بالمارَّة، كما هو الحال دومًا في هذه الساعة من اليوم، وأنا ليس لديَّ إلا عينان اثنتان في رأسي.»

«يسعدني أن لديك هذا العدد؛ لأني بدأت أظن أنك ضرير.»

على الرغم من قولي هذا، فقد كنت أعلم في داخلي أنه لا فائدة من لوم هذا البائس المسكين؛ إذ إن هذا كان خطئي بالكامل لأني لم أُرسل رجلَين، ولعدم قدرتي على تخمين احتمالية انفصال المجوهرات عن مالكها. بالإضافة إلى هذا، أصبح لديَّ أخيرًا دليل في يدي، ويجب ألا أُضيع أيَّ وقت وأبدأ في تتبُّعه؛ لذا واصلتُ تحقيقي مع سائق سيارة الأجرة.

«أنت تقول إن سيارة الأجرة الأخرى كانت سيارة مفتوحة، أليس كذلك؟»

«بلى يا سيدي.»

«وهل نجحت في تعقُّبها؟»

«آه، أجل يا سيدي، فعند كنيسة مادلين أعاد الرجل في السيارة أمامنا توجيه السائق، فاستدار يسارًا وذهب إلى ميدان الكونكورد، ثم سار في الشانزليزيه وصولًا إلى قوس النصر، ثم شارع الجيش الكبير، وشارع نويي، حتى وصل إلى جسر نويي، حيث وقف ثابتًا. خرج راكبي من السيارة ورأيته الآن واضعًا لحية سوداء قصيرة، وهي التي من الواضح أنه وضعها داخل السيارة. أعطاني ورقة بعشرة فرانكات، كانت أكثر مما يكفي.»

«وماذا عن الراكب الذي كنتما تتبعانه؟ ماذا فعل؟»

«خرج هو الآخر من السيارة، ودفع للسائق، ثم نزل على ضفَّة النهر وصعِد على ظهر زورق بخاري بدا أنه كان في انتظاره.»

«هل نظر إلى الخلف، أو بدا عليه أنه يعلم أنه كان مراقبًا؟»

«لا يا سيدي.»

«وماذا عن راكبك؟»

«ركض وراء الرجل الأول، وصعد هو الآخر على متن الزورق البخاري، الذي تحرَّك على الفور في النهر.»

«وهل هذه آخر مرة رأيتهما فيها؟»

«أجل، يا سيدي.»

«ومتى وصلت تحديدًا إلى جسر نويي؟»

«لا أعلم يا سيدي؛ فقد كنت مجبرًا على القيادة بسرعة كبيرة، لكن المسافة كانت ما بين سبعة وثمانية كيلومترات.»

«يمكنك اجتيازها في أقل من ساعة؟»

«بالتأكيد، في أقل من ساعة.»

«إذن لا بد أنك وصلت إلى الجسر في نحو الرابعة، أليس كذلك؟»

«على الأرجح يا سيدي.»

اتضحت خطة الأمريكي الآن لي بالكامل، ولم تنطوِ على شيء مخالف للقانون. فمن الواضح أنه وضع أمتعته على متن الزورق البخاري في الصباح. أما حقيبة اليد فكانت تحتوي على كثير من المواد التي تمكِّنه من التخفي، وقد ترك هذه الحقيبة على الأرجح في مَتجرٍ ما في الشارع الجانبي، أو ربما كان ينتظره شخص آخر بها. أما إعطاء الكنز لشخص آخر فليس أمرًا خطيرًا للغاية كما بدا للوهلة الأولى؛ لأنه تبع الرجل في الحال، الذي كان في الأغلب خادمه المخلص. وعلى الرغم من اضطراب النهر كان الوقت متسعًا لوصول الزورق إلى مدينة لو هافر قبل إبحار الباخرة الأمريكية في صباح يوم السبت. توقعت أن هدفه هو الوقوف بجوار الباخرة قبل رحيلها عن مرساها في ميناء لو هافر؛ ومن ثَمَّ ينقل إليها نفسه وممتلكاته دون أن يراه أحد المراقبين على البر المجاور للباخرة.

كان كل هذا، بالطبع، مبرَّرًا تمامًا، وبدا في الواقع مجرد مخطط موضوع بعناية للهروب من المراقبة. كانت الخطورة الوحيدة لتعرضه للمراقبة عندما استقل سيارة الأجرة. وبمجرد بُعده عن منطقة فندق بوليفار دي إيطاليان، تأكد إلى حدٍّ ما من تخلُّصه من الملاحقة، وقدَّمت الدقائق الخمس، التي حصل عليها صديقه الحامل للمسدسين من أجله، الوقت الذي احتاجه من أجل الابتعاد والوصول إلى كنيسة مادلين، وبعدها صار كل شيء سهلًا. ومع ذلك، لولا هذه الدقائق الخمس التي تحصَّل عليها بالإكراه، لما كنت وجدت أدنى مسوغ لإلقاء القبض عليه. لكنه اشترك في الجريمة عقب هذه التمثيلية المنافية للقانون، بل في الواقع، من المؤكد أنه كان مشاركًا قبل هذه التمثيلية، ومذنبًا بالتآمر مع الرجل الذي وجَّه الأسلحة نحو جمهور قاعة المزاد، والذي تعرَّض لمسئول في أثناء تأدية عمله عن طريق تهديدي أنا ورجالي؛ لذلك حينها كنت لا أخالف القانون إن ألقيت القبض على كل شخص على متن هذا الزورق البخاري.

•••

في وجود خريطةٍ للنهر أمامي بدأت في إجراء بعض الحسابات. كانت الساعة قد قاربت في هذا الوقت على العاشرة مساءً. لا بد للزورق أن يقطع المسافة في ست ساعات إن سار بسرعته القصوى؛ فمن المشكوك فيه أن تستطيع مركبة صغيرة الحجم هكذا قطع عشرة أميال في ساعة، حتى إن كان التيار في صالحها، وهو راكد إلى حدٍّ ما بسبب بوابات القنوات ومستوى السطح. فبعد ٦٠ ميلًا سيتجاوز مولون، التي تبعد ٥٨ ميلًا من بونت رويال، وبالطبع على بُعد مسافة أقل من جسر نويي، إلا أن الملاحة في النهر صعبة للغاية في جميع الأوقات، وتكون مستحيلة تقريبًا بعد حلول الظلام؛ فثمَّة احتمالات لجنوح الزورق، ثم بالطبع هناك التأخير الحتمي عند بوابات القنوات؛ لذلك قدرتُ أن الزورق لا يمكن أن يكون قد وصل إلى مولون، التي تبعد أقل من ٢٥ ميلًا عن باريس بالقطار. وعندما نظرتُ في جدول مواعيد القطارات وجدتُ أنه ما زال يوجد قطاران إلى مولون، التالي في العاشرة و٢٥ دقيقة ويصل إلى مولون في الثانية عشرة إلا الثلث؛ ومن ثَمَّ كان لديَّ وقت للوصول إلى محطة سان لازار، وإرسال بعض البرقيات قبل تحرُّك القطار.

ركبت سيارة أجرة مع ثلاثة من مساعدِيَّ، وانطلقنا إلى المحطة. وعند وصولنا أرسلتُ أحد رجالي ليوقف القطار بينما ذهبتُ أنا إلى مكتب البرقيات، وأرسلتُ برقيات وتواصلتُ مع المسئول عن البوابة في مولون. رد عليَّ أنه لم يمر أي زورق بخاري عبر البوابة من قبل غروب الشمس بساعة. عندها أعطيته تعليمات بعدم السماح للزورق بالمرور عبر البوابة، وبأن يغلق البوابة العلوية، ويدع نصف الماء فقط يخرج، ويحتجز المركبة هناك حتى آتيَ إليه، كذلك وجهتُ أمرًا لشركة مولون المحلية بإرسال عددٍ كافٍ من الرجال إلى البوابة لتطبيق أوامره، وأخيرًا أرسلت رسائل على طول النهر أطلب فيها من الشرطة إبلاغي وأنا على متن القطار بمسار الزورق البخاري.

إن قطار العاشرة و٢٥ دقيقة قطار بطيء؛ يقف في كل محطة، ومع ذلك، لكل عيب ما يعوضه؛ فقد مكَّنتني هذه التوقفات من استقبال رسائل التلغراف وإرسالها. كنتُ مدركًا تمام الإدراك أن ذهابي إلى مولون ربما يكون بلا جدوى. ربما يكون الزورق غيَّر اتجاهه قبل أن يسير مِيلًا، ومن ثَمَّ عاد مرةً أخرى إلى باريس. لم يكن يوجد سبيل لمعرفة إن كان هذا صحيحًا أم لا إن كنت أريد اللحاق بقطار العاشرة و٢٥ دقيقة. كذلك، ربما يكون أنزل ركابه في مكان ما على طول النهر. عليَّ أن أقول على الفور إن أيًّا من هذين الاحتمالين لم يحدث، وإن حساباتي بشأن تحركات الزورق كانت دقيقة تمامًا. إلا أن المصيدة التي توضع بمثل هذه العناية الفائقة قد تنطلق قبل أوانها بسبب إهمال شخص أحمق أو بفعل حماسته المفرطة، أو لفشله في فهم التعليمات الموجهة إليه، أو مخالفتها إن كانت مفهومة؛ فقد تلقيتُ برقيةً مزعجة لأقصى درجة من دنوفال، وهي بوابة تبعد نحو ١٣ ميلًا بعد مولون؛ فقد وجد رجل الشرطة المحلي، الذي وصل توًّا إلى البوابة، أن الزورق غادر للتَّوِّ. صرخ هذا الأحمق في القبطان حتى يعود، وهدده بكافة العقوبات والغرامات التي يفرضها القانون إن رفض ذلك. رفض القبطان، وانطلق بأقصى سرعة إلى الأمام، واختفى في الظلام، وعبر هذا الخطأ الذي حدث بحسن نية من شخص بسيط تلقَّى الموجودون على متن الزورق تحذيرًا بأننا في أعقابهم. أرسلتُ برقية إلى حارس البوابة في دنوفال حتى لا يسمح بمرور أيِّ مركبة متجهة إلى باريس حتى تلقِّي أوامر أخرى. هكذا حددنا مكان الزورق في مساحة من الماء تبلغ ١٣ ميلًا، لكن الليل كان حالك السواد، وبإمكان الركاب النزول على أيٍّ من ضفتَي النهر، فتكون أمامهم فرنسا بأكملها ليهربوا في أي اتجاه.

وصلتُ إلى مولون في منتصف الليل، وكما كان متوقَّعًا، لم يُرَ الزورق أو يُسمع شيء عنه. شعرتُ بالرضا حين أرسلتُ برقيةً إلى هذا المغفل في دنوفال أطلب منه السير على طول ضفة النهر حتى مولون، ويخبرني إن علم بمكان الزورق. جعلنا مَقرَّنا في منزل حارس البوابة وانتظرنا. لم يكن من المنطق إرسال رجال يطوفون في المدينة في هذه الساعة من الليل؛ إذ كان الهاربون مُتنبِّهين، ومن غير المحتمل أن يُعرِّضوا أنفسهم لإلقاء القبض عليهم إن كانوا قد نزلوا على الشاطئ. ومن ناحية أخرى، يوجد احتمال كبير بألا يدعهم القبطان ينزلون إلى الشاطئ، لعلمه يقينًا بأن مركبته جزء من شرَك لا يمكنها الهرب منه، وعلى الرغم من أن طلب الشرطي في دنوفال لم يكن رسميًّا، فإن القبطان لا يمكنه معرفة هذا، في حين أنه يعرف جيدًا خطورة رفضه تنفيذ أمر من السلطات. فحتى إن كان هرب في هذه اللحظة، فلا بد من معرفته بأن إلقاء القبض عليه أمر مؤكَّد، وأن عقوبته ستكون شديدة، وأن حُجته الوحيدة التي يمكنه تقديمها أنه لم يسمع الأمر بالعودة ويفهمه. إلا أن هذه الحجة ستبطل إن ساعد الرجلين، اللذَينِ من المؤكد أنه يعرف أنهما مطلوبان من الشرطة، على الهرب؛ ومن ثَمَّ كنتُ واثقًا بأن الركاب حتى إن طلبوا النزول على الشاطئ، فإن القبطان سيرفض إن سنح له الوقت للتفكير في الخطر المحدق به. ثبتت صحة تخميني؛ فعند الواحدة تقريبًا دخل حارس البوابة وقال إن الأضواء الخضراء والحمراء لمركبةٍ تقترب أصبحت مرئية، وبينما هو يتحدث دوَّت صافرة الزورق من أجل فتح البوابة. وقفتُ بجوار حارس البوابة وهو يفتح البوابات، أما رجالي ورجال الشرطة المحلية فقد اختبئوا على جانبَي البوابة، دخل الزورق ببطء، وعلى الفور طلبتُ من القبطان النزول على الشاطئ، ففعل هذا.

قلت له: «أريد التحدث إليك، اتبعني.»

أخذته إلى منزل حارس البوابة وأغلقت الباب.

قلتُ: «إلى أين تذهب؟»

«إلى لو هافر.»

«ومن أين أتيت؟»

«من باريس.»

«من أي مرسًى؟»

«من جسر نويي.»

«متى تحركت من هناك؟»

«في الرابعة إلا خمس دقائق عصرًا.»

«تقصد عصر أمسِ، أليس كذلك؟»

«بلى، عصر الأمس.»

«مَن استأجرك للذهاب في هذه الرحلة؟»

«رجل أمريكي، لا أعرف اسمه.»

«أعتقد أنه دفع لك بسخاء، أليس كذلك؟»

«لقد دفع لي ما طلبته.»

«هل حصلت على المال؟»

«أجل يا سيدي.»

«دعني أخبرك أيها القبطان أنني يوجين فالمونت، كبير المحققين في الحكومة الفرنسية، وأن كل شرطة فرنسا الآن تحت تصرُّفي؛ وعليه، أطلب منك توخِّي الحذر في إجاباتك. لقد طلب منك رجل شرطة في دنوفال العودة، لماذا لم تفعل ذلك؟»

«طلب مني حارس البوابة العودة، لكن بما أنه لا يحق له ذلك، واصلتُ طريقي.»

«أنت تعلم جيدًا أن الشرطي هو مَن أمرك بذلك، وأنت تجاهلت أمره. مرةً أخرى أسألك، لماذا لم تفعل ما قاله؟»

«لم أكن أعلم أنه شرطي.»

«اعتقدتُ أنك ستقول هذا، لقد علمتَ جيدًا أنه شرطي، لكن دفع شخصٌ ما لك لتتحمل المخاطرة، وهذا سيُكلفك كثيرًا يا عزيزي. كان لديك راكبان على متن القارب، أليس كذلك؟»

«بلى يا سيدي.»

«هل أنزلتهما على الشاطئ في الطريق من هنا إلى دنوفال؟»

«لا يا سيدي، لكن سقط أحدهما في الماء، ولم نستطع العثور عليه مرةً أخرى.»

«أيهما؟»

«الرجل القصير.»

«إذن فإن الأمريكي لا يزال على متن الزورق؟»

«أي أمريكي يا سيدي؟»

«أيها القبطان، عليك ألا تتلاعب معي، ألا يزال الرجل الذي استأجرك على متن المركب؟»

«آه، لا يا سيدي، هو لم يصعد على المركب قط.»

«أتريد أن تقول إن الرجل الثاني الذي جاء إلى زورقك في جسر نويي ليس الأمريكي الذي استأجرك؟»

«نعم يا سيدي؛ فالأمريكي كان حليق الوجه، أما هذا الرجل فكانت له لحية سوداء.»

«نعم، لحية زائفة!»

«أنا لم أكن أعلم هذا يا سيدي. لقد فهمتُ من الرجل الأمريكي أنني لن آخذ إلا راكبًا واحدًا. صعد واحد معي وهو يحمل صندوقًا صغيرًا في يده؛ أما الآخر فكانت معه حقيبة صغيرة. وقال كلٌّ منهما إنه الراكب المقصود. لم أدرِ ماذا أفعل، لذلك تحركتُ من باريس وكلاهما على متن الزورق.»

«إذن فإن الرجل الطويل ذا اللحية السوداء ما زال معك؟»

«أجل يا سيدي.»

«حسنًا أيها القبطان، أثمَّة شيء آخر تريد إخباري به؟ أعتقد أنك ستجد في النهاية أن من الأفضل أن تبوح لي بالحقيقة.»

تردَّد القبطان، وجعل يقلِّب قبَّعته في يديه لبضع دقائق، ثم قال: «أنا لستُ متأكدًا من أن الراكب الأول سقط من على سطح الزورق بمحض إرادته، عندما صاح رجل الشرطة علينا في دنوفال …»

«آه، علمتَ إذن أنه كان رجل شرطة؟»

«بعد أن تحركتُ خشيتُ أنه ربما كان كذلك. ما حدث أنني حين عقدتُ الصفقة مع الأمريكي قال لي إنني إن وصلتُ إلى هافر في موعد محدد فسأحصل على ألف فرانك إضافية؛ لذلك كنتُ متلهفًا للوصول بأسرع ما يُمكن. أخبرته أنه من الخطير الإبحار في نهر السين ليلًا، لكنه دفع لي بسخاء حتى أفعل هذا. بعدما صاح رجل الشرطة علينا في دنوفال، زاد قلق الرجل صاحب الصندوق الصغير، وطلب مني إنزاله على الشاطئ، فرفضتُ هذا. اتضح أن الرجل الطويل كان يراقبه، ولم يكن يسمح له بالابتعاد كثيرًا عنه، وعندما سمعتُ صوت سقوط شيء في الماء ركضتُ نحو مؤخرة الزورق، ورأيت الرجل الطويل يضع الصندوق الذي كان الرجل الآخر يحمله في حقيبة يده، إلا أنني لم أقل شيئًا وقتها. تحركنا ذهابًا وإيابًا في البقعة التي سقط فيها الرجل الآخر، لكننا لم نرَه على الإطلاق، ثم جئتُ إلى مولون، واعتزمتُ الإبلاغ عن كل ما رأيته. هذا كل ما أعرفه عن هذا الأمر يا سيدي.»

«هل كان الرجل الذي يحمل المجوهرات فرنسيًّا؟»

«أي مجوهرات يا سيدي؟»

«الرجل صاحب الصندوق الصغير.»

«آه، أجل يا سيدي، كان فرنسيًّا.»

«لقد ألمحتَ إلى أن الرجل الأجنبي رماه من فوق الزورق، على أي أساس راودك هذا الاعتقاد في حين أنك لم ترَ صراعًا؟»

«هذه الليلة حالكة السواد يا سيدي، وأنا لم أرَ ما حدث. لقد كنتُ أتولى عجلة القيادة في الجزء الأمامي من الزورق، وكان ظهري لهذَين الاثنين. سمعتُ صرخة، ثم صوت سقوط شيء في الماء. إن كان هذا الرجل قفز في الماء على حد قول الرجل الآخر، فما كان ليصرخ. كذلك، كما قلت لك، حين ركضتُ إلى الجزء الخلفي من الزورق رأيتُ الرجل الأجنبي يضع الصندوق الصغير في حقيبة يده، التي أغلقها سريعًا كما لو أنه لا يريدني أن أراه.»

«جيد جدًّا، أيها القبطان، إن كانت هذه هي الحقيقة، فسيتساهلون معك كثيرًا في التحقيق الذي سيعقب هذا.»

سلَّمتُ حينها القبطان لأحد رجالي، وأمرتُ بإدخال الرجل الأجنبي ومعه حقيبته ولحيته المزيفة السوداء. قبل أن أبدأ في استجوابه أمرته بفتح حقيبة يده، وفعل هذا بتردد واضح. كانت مليئة باللحى المزيفة، والشوارب المزيفة، والعديد من الزجاجات، لكنْ فوق كل هذا يوجد صندوق المجوهرات. فتحتُ الغطاء ورأيتُ هذا العِقد الملعون. رفعتُ بصري ونظرت إلى الرجل، الذي وقف أمامي في سكون تام، ولم يقل شيئًا على الرغم من هذا الدليل الدامغ ضده.

«أيمكنك التفضل بخلع هذه اللحية المزيفة؟»

فعل هذا على الفور، وألقاها داخل الحقيبة المفتوحة. عرفتُ بمجرد النظر إليه أنه لم يكن الأمريكي، وعليه ذهبت نظريتي أدراج الرياح، أو على الأقل جزء مُهم للغاية منها. أخبرتُه بمن أكون وحذرته بضرورة التزام الصدق فيما يقوله، وسألته كيف أصبحت المجوهرات في حيازته.

سألني: «هل أنا رهن الاعتقال؟»

فرددتُ عليه: «بالتأكيد.»

«ما التهمة الموجهة إليَّ؟»

«أنت متهم، أولًا، بحيازة ممتلكات لا تنتمي إليك.»

«أقر بأني مذنب في هذا، وماذا عن ثانيًا؟»

«ثانيًا، ربما تُوجه إليك تهمة القتل.»

«أنا بريء من هذه التهمة الثانية؛ فقد قفز الرجل من على سطح الزورق.»

«إن كان هذا صحيحًا، فلمَ صاح وهو يقفز؟»

«لأنني حين وجدتُ الأوان قد فات لاستعادة توازنه، أمسكتُ هذا الصندوق وتشبثتُ به.»

«كان الصندوق في حيازته بصورة مشروعة؛ فقد أعطاه المالك له.»

«أعترف بهذا؛ فقد رأيت المالك وهو يعطيه إياه.»

«إذن لماذا قفز من على سطح الزورق؟»

«لا أعرف؛ فقد بدا عليه الذعر حين أمرَنا الشرطيُّ عند البوابة الأخيرة بالعودة. التمس من القبطان إنزاله على الشاطئ، ومنذ هذه اللحظة وأنا أراقبه باهتمام؛ إذ توقعتُ أننا إن اقتربنا من الأرض فإنه سيحاول الهرب، بما أن القبطان رفض إرساء الزورق. ظل هادئًا طوال نحو نصف ساعة، جالسًا على مقعد قابل للطي بجوار سور الزورق، وعيناه تنظران نحو الشاطئ، في محاولة منه، على ما أظن، لاختراق الظلام وتقدير المسافة، ثم فجأة انتفض من على مقعده واندفع نحو الماء. كنت مستعدًّا لهذا، وأمسكتُ الصندوق على الفور من يده. استدار نصف دورة محاولًا إنقاذ نفسه أو الاحتفاظ بالصندوق، ثم صرخ صرخة وسقط في الماء رأسًا على عقب. حدث كل هذا في غضون ثوانٍ عقب قفزته من على المقعد.»

«أنت تعترف، إذن، بأنك مسئول مسئولية غير مباشرة على الأقل عن غرقه؟»

«أنا لا أرى سببًا لاعتقاد أن الرجل قد غرق. فإن كان يستطيع السباحة يمكنه بسهولة الوصول إلى ضفة النهر. أما إن لم يكن يستطيع، فلمَ يحاول القفز وهو مثقل بالصندوق؟»

«تعتقد إذن أنه هرب؟»

«أعتقد هذا.»

«سيكون من حسن حظك إن اتضح أن الأمر كذلك.»

«بالتأكيد.»

«ما الذي جاء بك على متن هذا الزورق من الأساس؟»

«سأحكي لك القصة بأكملها، ولن أُخفي عنك شيئًا. أنا محقق خاص ولديَّ مكتب في لندن. كنت على يقين من تنفيذ محاولة، على الأرجح من أكثر المجرمين خبرة على الإطلاق، لسرقة مالك هذا العِقد؛ لهذا جئت إلى باريس، وأنا أتوقع حدوث مشكلة، وعاقد العزم على عدم إبعاد نظري عن صندوق المجوهرات، إن أمكن هذا، فإن تعرضت المجوهرات للسرقة، فمن المؤكد أن هذه القضية ستصبح الأشهر في السِّجلات القانونية. فكنتُ حاضرًا طوال المزاد، ورأيتُ مشتري العِقد. وتبعتُ المسئول الذي ذهب إلى البنك؛ ومن ثَمَّ علمت بوجود مال يكفي لتغطية الشيك. بعد ذلك وقفتُ بالخارج وانتظرتُ ظهور المشتري، فجاء ممسكًا الصندوق في يده.»

قاطعته قائلًا: «تعني في جيبه، أليس كذلك؟»

«كان ممسكًا به في يده حين رأيته، ثم اقترب منه الرجل الذي قفز فيما بعدُ من على سطح الزورق، وأخذ منه الصندوق دون أن ينطق بكلمة، ورفع يده ليوقف سيارة أجرة، وحين اقتربت سيارة مفتوحة من حافة الرصيف ركب فيها، وقال: «كنيسة مادلين.» أوقفتُ أنا سيارة أجرة مغلقة، وأخبرت السائق أن يتبع السيارة الأولى، وتخفَّيتُ بلحية مقاربة لشكل لحية الرجل المنطلق أمامي، كانت معي في مجموعتي.»

«لماذا فعلت هذا؟»

«يُفترض بك، كمحقق، أن تعرف سبب فعلي لهذا؛ فقد رغبتُ في الاقتراب من شَبه الرجل الذي يسير أمامي قدر المستطاع، حتى إن اقتضت الحاجة تظاهرتُ بأني الشخص المُكلَّف بحمل صندوق المجوهرات، وفي الواقع، ظهرت الأزمة حين وصلنا إلى نهاية رحلتنا في سيارات الأجرة، فلم يكن القبطان يعلم أيٌّ منا الراكب الحقيقي، ولذلك تركَنا نبقى نحن الاثنين على متن الزورق البخاري. هكذا أصبح لديك الآن القصة بأكملها.»

«وهي قصة بعيدة الاحتمال جدًّا يا سيدي. فحتى وفقًا لروايتك لا يحق لك التدخل في هذا الأمر على الإطلاق.»

ردَّ بعدم اكتراث بالغ، وهو يُخرج بطاقة من كتاب للجيب، وأعطاها لي: «أنا أتفق معك كثيرًا في هذا. هذا عنواني في لندن، يمكنك السؤال عني، وستجد أني تمامًا كما قلتُ لك.»

يغادر أول قطار متجه إلى باريس محطة مولون في الرابعة و١١ دقيقة صباحًا، وكانت الساعة آنذاك الثانية والربع، فتركت القبطان وطاقم الزورق والزورق تحت مسئولية رجلين من رجالي، وأعطيتهم أوامر بالتحرك إلى باريس بمجرد بزوغ ضوء النهار، أما أنا فقد انتظرت مع رجلي الثالث في المحطة مع سجيننا الإنجليزي، ووصلنا إلى باريس في الخامسة والنصف صباحًا.

التزم السجين الإنجليزي بقصته، على الرغم من تعرُّضه لاستجواب عنيف من جانب القاضي، وأثبتت تحريات الشرطة في لندن صحة ما قاله عن نفسه، إلا أن قضيته بدأت تبدو في غاية الخطورة حين أكد رجلان كانا على الزورق البخاري رؤيتهما له وهو يدفع الرجل الفرنسي من على سطح الزورق، ولم تتزعزع إفادتهما. وجَّهنا كافة طاقاتنا في الأسبوعين التاليين في محاولة العثور على شيء عن هوية الرجل المفقود، أو على أي أثر للرجلين الأمريكيين. إن كان الأمريكي الطويل ما زال على قيد الحياة، فقد بدا من غير المعقول ألا يحاول استرجاع ممتلكاته القيِّمة التي فقدها. ثبت عدم جدوى جميع محاولات تعقُّبه عبر الشيك الذي صُرف في بنك كريدي ليونيه. فقد تظاهر البنك بتقديم كافة المساعدات لي، لكني أحيانًا أشك في أن هذا كان الحال بالفعل؛ فمن الواضح أنه حصل على مال وفير نظير خدماته، ولم يُظهر أيَّ رغبة مندفعة لخيانة مثل هذا العميل الجيد.

أجرينا تحريات عن كل رجلٍ مختفٍ في باريس، لكن دون نتيجة أيضًا.

أثارت القضية كثيرًا من الاهتمام في جميع أنحاء العالم، وبلا شك نُشرت كاملةً في الصحف الأمريكية. ظل الرجل الإنجليزي محتجَزًا ثلاثة أسابيع، ثم تلقَّى رئيس الشرطة في باريس الخطاب التالي:

سيدي العزيز

عند وصولي إلى نيويورك بالباخرة الإنجليزية «لوكانيا»، اندهشتُ كثيرًا عندما قرأتُ في الصحف مآثر المحققَين، الفرنسي والإنجليزي. أُعبر عن أسفي لوجود أحدهما في السجن، وأعتقد أن زميله الفرنسي لا بد له من مرافقته، ومع ذلك، أنا أُعبر عن بالغ أسفي لوجود شائعات عن وفاة صديقي مارتن دوبيز غرقًا، وهو القاطن في ٣٧٥ شارع اليهود، في روان. فإن حدث هذا بالفعل فإن سبب ذلك هو أخطاء الشرطة، ومع ذلك، أرغب منك التواصل مع أسرته في العنوان الذي أخبرتك به، والتأكيد لهم بأني سأفعل الترتيبات اللازمة لدعمهم في المستقبل.

أريد إخبارك أنني صانع ماسات مزيَّفة، ونجحت عبر الدعاية الواسعة في تجميع ثروة بالملايين. كنت في أوروبا حين عُثر على العِقد، وكان في حوزتي نحو ألف من الماسات الزائفة التي صنعتها، فخطر لي أنها فرصة لأروع إعلان في العالم، فرأيت العِقد، وحصلتُ على مقاساته، وحصلت كذلك على صور له التقطتها الحكومة الفرنسية، ثم بدأ صديقي الخبير مارتن دوبيز في العمل، ومعه الأحجار الصناعية التي أعطيتُها له، فصنع عِقدًا مزيفًا قريب الشبه للغاية بالأصلي لدرجة أنكم لا تعلمون، كما هو واضح، أن الذي بحوزتكم هو العِقد المزيف. لم أكن أخشى من خبث المحتالين بقدر خوفي من أخطاء الشرطة، التي كانت ستحميني بجوقة من رجالها إن لم أتملص منهم. كنتُ أعلم أن المحققين سيُغفلون الأمر الواضح، ولكنهم سيتبعون على الفور أي دليل إن قدمتُ لهم واحدًا؛ وعليه، وضعتُ خطتي، كما انكشفت لكم تمامًا، وأحضرتُ مارتن دوبيز من روان وجعلتُه يحمل الصندوق الذي أعطيته له إلى هافر. أما أنا فكان لديَّ صندوق آخر جهزته ولففته في ورق بُني، وكتبتُ عليه عُنواني في نيويورك، ولحظة خروجي من قاعة المزاد، وبينما كان صديقي راعي البقر يحتجز الحاضرين، التفتُّ بوجهي إلى الباب، وأخرجتُ الماسات الحقيقية من العلبة، ووضعتها في الصندوق الذي جهزته ليُرسل في البريد، وفي العُلبة الحقيقية وضعتُ الماسات المزيفة، وبعدما سلمتُ الصندوق لدوبيز، توجهتُ إلى شارع جانبي، ثم إلى شارع آخر لا أعرف اسمه، وفيه دخلتُ إلى أحد المتاجر، وجهزتُ صندوق الألماس ليُرسل عبر البريد؛ إذ أغلقته بشمع الختم وشريط من الخيط. كتبتُ على الطرد «كتب»، وذهبتُ إلى أقرب مكتب بريد ودفعتُ ثمن طابع بريدي، وسلمته غير مسجل بعلم الوصول، كما لو أنه غير ذي قيمة. بعدها ذهبتُ إلى غرفتي في فندق جراند أوتيل حيث كنتُ نزيلًا باسمي لأكثر من شهر، وفي صباح اليوم التالي استقللتُ القطار المتجه إلى لندن، وفي اليوم التالي أبحرتُ من ليفربول على متن الباخرة «لوكانيا». وصلتُ قبل الباخرة «جاسكوين»، التي أبحرت من لو هافر يوم السبت، وحصلتُ على صندوقي من مكتب الجمارك، ودفعتُ رسومه الجمركية، وهو الآن مستقر بأمان داخل خزانتي. أعتزم صنع عِقد آخر يشبه الأصلي تمامًا بحيث لا يمكن لأحد التمييز بينهما، ثم سآتي إلى أوروبا وأعرض الاثنين من أجل إذاعة حقيقة هذه المسألة، وستكون هذه أكبر دعاية لي على الإطلاق.

المخلص
جون هازارد

اتصلتُ على الفور بروان، ووجدتُ مارتن دوبيز على قيد الحياة وبصحة جيدة، وكانت أول كلمات له: «أقسم أني لم أسرق المجوهرات.»

كان قد سبح إلى الشاطئ، وسافر إلى روان، وظل صامتًا في خوف بالغ، بينما كنتُ أبحث عنه دون جدوى في باريس. استغرق السيد هازارد وقتًا أطول من المتوقَّع في صنع العِقد المزيف، وبعد مرور عدة أعوام ذهب في رحلته مع العِقدين على الباخرة المنكوبة «بورجوين»، ويرقد حاليًّا بجوارهما في قاع الأطلنطي.

جواهر كثيرة لبريقها جمال وصفاء،
مخبأة في كهوف مظلمة تحت مياه المحيط الزرقاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤