الفصل الأول

المريض الغامض

حين أتأمل سنوات عملي مع جون ثورندايك، أجِدُ أنها ثريَّة بالمغامرات والتجارب الاستثنائية التي لا يخوضها سوى قلةٍ من الناس، ممن يعيشون في أنحاء لندن. صحيح أنني وثَّقت هذه التجارب، ولكن تبادَرَ إلى ذهني الآن أني نسيت تجربةً من دون أن أوثِّقها، ربما هي الأروع والأكثر إثارةً للدهشة في السلسلة بكاملها؛ إنها مغامرة تحمل أهميةً إضافية في رأيي؛ لأنها تمثِّل بداية عملي الطويل مع صديقي المثقَّف والموهوب، كما أنها وضعَت نقطةَ النهاية لفترةٍ تعيسة وغير مثمرة في حياتي.

حين أسترجع هذه الرحلة عَبْر السنوات الماضية، وأعود إلى بداية تلك الأحداث الغريبة، تحملني الذكريات إلى غرفةٍ صغيرة رثَّة في الطابق الأرضي، في منزلٍ بالقرب من أطراف منطقة وولوورث المتصلة بشارع لووار كينينجتون لين. مجموعة الشهادات العلمية المعلَّقة على الحائط، ومخطط سنيلين لاختبارات الإبصار، وسمَّاعة الطبيب القابعة على المكتب، جميعها تدلُّ على أنَّ الغرفة غرفةُ استشارات طبية؛ وتنمُّ جِلستي في كرسيٍّ له ظَهر مستدير أمام المكتب المذكور أنني الطبيب.

اقتربَت الساعة من التاسعة. أعلنَت الساعة الصغيرة المزعِجة على رفِّ الموقد هذه الحقيقة، وأوحَت عقاربها المحمومة أنَّها مثلي تترقَّب انتهاءَ ساعاتِ العمل. حينئذٍ نظرتُ بحُزن إلى حذائي الملطَّخ بالطين، وتساءلتُ هل بمقدوري أن أتجرَّأ وأرتدي الشبشب الذي يطلُّ خجلًا من تحت الأريكة المتهالِكة. حتى إنَّ عقلي انجرف بأفكاره إلى الغليون القابع في جيب مِعطفي. ولكن تبقَّت دقيقةٌ أخرى قبل أن أُطفئ السِّراج في غرفة الفحص وأغلق الباب الخارجي. وكأنَّ دقَّات الساعة الصغيرة المزعِجة تشرع في السُّعال أو الفُواق، وكأنَّها تقول: «انتباه! أيها السيدات والسادة، أُوشك أن أدقَّ.» وفي تلك اللحظة، فتح الرسول الباب ومدَّ عنقه متلفِّظًا بكلمةٍ واحدة: «سيدي الفاضل.»

عادةً ما يخلق الاقتصاد المفرِط في استخدام الكلمات حالةً من الغموض. ولكني فهمتُ مقصده. ففي كينينجتون لين، انقرض جنس الرجال والنساء من غير ذوي الألقاب، فيما يبدو. فكلُّ سكَّان الشارع ينادَى عليهم بلقب السيد الفاضل — ما لم يكن المنادَى امرأةً أو طفلًا — مثلما قيل إن الجيش الليبيري يتألَّف من جنرالات. لم يكن الرسول الديمقراطي يميِّز بين منظِّفي المداخن والعمَّال وبائعي الحليب والباعة المتجوِّلين؛ فكلُّهم عنده من أصحاب الألقاب والنبلاء. يبدو أن السيد القادم يحبِّذ الترفيه الأرستقراطي المتمثِّل في قيادة سيارة أُجرة أو عرَبة لصاحبِ عمل، وحينما دخل الغرفة خلَعَ قبَّعته بلُطف وأغلَقَ الباب من خلفه بقدْرٍ من الحرص، ومن دون أن يتحدَّث، سلَّمني رسالةً تحمل العنوان «الدكتور ستيلبري».

حين هممتُ بفتح المظروف، قلت: «بالمناسبة، لستُ الدكتور ستيلبري. إنه ليس موجودًا في الوقت الحالي، وأنا أعتني بمرضاه.»

رد الرجل: «لا يهمُّ. فوجودك يكفي.»

حينئذٍ، فتحتُ المظروف وقرأت الرسالة ووجدتها مختصرة، وليس ثمَّة شيءٌ لافت فيها للوهلة الأُولى.

تقول الرسالة: «سيدي العزيز، تحيةً طيِّبة وبعد، أرجو منكم تشريفنا بزيارة؛ لإجراء الفحص على صديقٍ لي يمكث معي؟ سيُعطيك حاملُ الرسالة مزيدًا من التفاصيل ويُوصِلك إلى المنزل. مع أطيب التحيات، إتش فايس.»

لم يكن مكتوبًا على الورقة عنوانٌ أو تاريخ، وأنا لا أعرف كاتب الرسالة.

قلت: «تذكُر الرسالة أنك ستُعطيني بعض التفاصيل. فما هي؟»

مرَّر حاملُ الرسالة يده على شَعره بإيماءةٍ توحي بانزعاجه. قال وعلى شفتَيه ابتسامةُ امتعاض: «إنها مسألةٌ تافهة. ولو كنتُ في مكان السيد فايس، لمَا أقحمتُ نفسي فيها. السيد المريض — السيد جريفز — من الناس الذين لا يُطيقون الأطباء. وقد أُصيب بوعكة منذ أسبوعٍ أو أسبوعَين، ولكن ما من شيءٍ يُقنعه بزيارة الطبيب. وفعَلَ السيد فايس كلَّ ما بوُسعه كي يُقنعه، ولكن لا فائدة. رفض الذهاب إلى الطبيب. وكأنَّ السيد فايس هدَّده بأنْ يستدعيَ طبيبًا من معارفه؛ لأنه توتر بعضَ الشيء كما سترى، وحينئذٍ سمَحَ له السيد جريفز. ولكنه اشترط عليه شرطًا. اشترط عليه أن يستدعيَ طبيبًا من مكانٍ بعيد، وألَّا يُخبره شيئًا عن اسم المريض ولا عن محل إقامته ولا أي شيء آخر عنه، وقد جعل السيد فايس يعِدُه أن ينفِّذ هذا الشرط قبل أن يرسل في طلب الطبيب. ومن ثَم وعَدَه السيد فايس، وبالطبع لم يسعه إلا أن يحترم كلمته.»

قلتُ مبتسمًا: «ولكنك ذكرتَ لي اسمه … هذا إن كان اسمه جريفز في الحقيقة.»

قال سائق العربة: «بمقدورك أن تستنتج ما تشاء.»

أردفتُ: «وأما بالنسبة إلى عدم إخباري بمحل إقامته، فربما أراه بنفسي. وأنا لستُ كفيفًا على أي حال.»

رد الرجل: «سنُغامر بما تراه. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل ترغب في قبول هذه المهمَّة؟»

نعم، هذا هو السؤال المهم، وقد فكرت فيه مليًّا قبل أن أُجيب. فنحن الأطباء معتادون على التعامل مع هؤلاء الأشخاص الذين «لا يُطيقون الأطباء»، ونحبُّ أن نتعامل معهم في أضيق الحدود الممكنة. إنهم لا يعرفون جميلًا ولا يقدِّرون معروفًا. الحديث معهم لا يسرُّ، وتُجنى من ورائهم متاعبُ كثيرة، واستجابتهم للعلاج محدودةٌ للغاية. ولولا أني لا أردُّ مريضًا، لرفضتُ توقيع الكشف عليه. ولكن هذا ليس من أخلاقي. فأنا مجرد نائبٍ عن الطبيب. ولا يليق بي أن أرفض عملًا يمكن أن يدرَّ ربحًا على مَن أنوب عنه، حتى وإن كان عملًا مزعِجًا.

بينما أقلِّب المسألة في عقلي، دقَّقت النظرَ في زائري وأنا شِبه واعٍ، الأمر الذي تسبَّب في إحراجه نوعًا ما، وما أحببتُ مظهره مثلما لم أحبَّ المهمة التي أُوكَّل بها. ظلَّ واقفًا على مقرُبة من الباب، حيث كان الضوء خافتًا؛ فقد رُكزَت الإضاءة فوق المكتب وكرسي المريض، ولكني رأيت في وجهه مكرًا ونفورًا، وله شاربٌ أحمرُ وناعم، ويبدو أنه لا يتماشى مع الزيِّ الذي يرتديه، على الرغم من أنَّ هذا كان مجرَّد تحامُل عليه. كان يرتدي شَعرًا مستعارًا أيضًا — ولا عيبَ في ذلك — ورأيت آثار جرحٍ في ظفر إبهامه الذي يُمسك القبعة، وأؤكِّد أن هذا لا يقدح في شخصيته، على الرغم من قبح المنظر. وفي النهاية، أخَذَ يرقُبني بحرص ويختلجه مزيجٌ من القلق والعُجب الماكر؛ الأمر الذي أزعجني كثيرًا. وبوجهٍ عام، ترَكَ بداخلي انطباعًا غيرَ سارٍّ. ورغم أن مظهره لم يرُق لي على الإطلاق، قبلتُ المهمة.

بعد مدة، أجبتُه: «لست مهتمًّا بمعرفة هُوية المريض أو محلِّ إقامته. ولكن كيف تقترح أن نذهب إلى هناك؟ هل أُقاد إلى المنزل معصوبَ العينَين، وكأني منقادٌ إلى كهف قطَّاع الطُّرق؟»

تهلَّل وجه الرجل وبدا عليه الارتياح إلى حدٍّ كبير.

أجاب: «لا يا سيدي، لن تذهب معصوبَ العينَين. أحضرتُ معي عربةً بالخارج. ولا أحسبك سترى كثيرًا من داخلها.»

انضممتُ إليه، وفتحتُ الباب كي يخرج: «رائع، سألحق بك في غضون دقيقة. هل أفترض أنه ليس لديك فكرة عمَّا حلَّ بالمريض؟»

رد: «أجل يا سيدي، ليس لديَّ أدنى فكرة»، وخرج إلى العربة.

وضعتُ في الحقيبة بعض أدوية الطوارئ وبضع أدواتٍ تشخيصية، وأطفأتُ السِّراج وخرجتُ عابرًا من غرفة الفحص. وجدتُ العربة واقفةً عند الرصيف ويحرسها سائقها ويراقبها الرسول باهتمامٍ بالِغ. نظرتُ إليها وفي قرارتي شعور يمزج بين الفضول والاستياء. فالعربة من النوع الكبير الذي تجرُّه الخيول، وتشبه العربات التي تستخدمها القوافل التجارية، حيث النوافذ الزجاجية المعتادة يحلُّ محلها مصاريعُ خشبية؛ كي تخفي صناديق البضاعة داخل العربة، ويمكن قفلُ الأبواب من الخارج بمفتاحٍ يشبه مفاتيح السكك الحديدية.

حين خرجتُ من المنزل، فتَحَ السائق باب العربة وتركه مفتوحًا.

حين وضعت قدمي على سلَّم العربة، توقفتُ وسألتُ: «تُرى، كم ستستغرق الرحلة؟»

فكَّر السائق لمدة دقيقة أو دقيقتَين، ثم قال:

«أظنني قطعتُ المسافة إلى هنا في قُرابة نصف ساعة.»

كلامٌ غير مبشِّر. ساعة ذهابًا وإيابًا ونصف ساعة في منزل المريض. بهذا المعدل، لن أعود إلى المنزل قبل العاشرة والنصف، ولا يُستبعد أن أجِدَ رسولًا آخر ينتظرني عند باب المنزل حين أعود. وبينما أنهال بالسِّباب على السيد جريفز الذي لا أعرفه، وعلى عدم الراحة في حياة الأطباء الذين ينوبون عن زملائهم في العمل، صعدتُ إلى المركبة التي لا تسرُّ. وعلى الفور أقفَلَ السائق البابَ بقوة، وأدار المفتاح وتركني في ظلامٍ دامس.

لم يتبقَّ أمامي غيرُ وسيلةٍ واحدة أنفث بها عن غيظي، إنها الغليونَ في جيبي. بعدما استطعتُ مَلْأه في الظلام، أشعلتُ عود ثِقاب، وحينئذٍ انتهزتُ الفرصة لأتفقَّد مَحبِسي من الداخل. عاينتُ منظرًا شنيعًا. تشير حالة الوسائد ذات القماش الأزرق التي أكلها العُثُّ، إلى حقيقةٍ مفادُها أن العربة لم تُستخدم منذ فترةٍ طويلة، وكذلك بليَ غطاء الأرضية ذو القماش الزيتي حتى ظهرت فيه الثقوب، ولم تكن التجهيزات الداخلية العادية متوفرة. لكنَّ ما أراه؛ يقول إنَّ هذه العربة المجنونة قد أُعدَّت بعنايةٍ كبيرة من أجل أن تُستخدم في مهمتها الحالية. فالمَقابض الداخلية للأبواب أُزيلت فيما يبدو، وقد ثُبِّتت المصاريع الخشبية في مواضعها بمثبِّتات دائمة، وكان المُلصق الورقي على العارضة أسفلَ كلِّ نافذة ذا شكلٍ مريب، وكأنه وُضع من أجل أن يخفيَ اسمًا مطبوعًا لصاحب العربة الأصلي، ويبدو أنه كان من أصحاب الأعمال، أو صاحبَ إسطبل للخيول.

منحَتني هذه الملاحظات وجبةً دسمة للتأمل. ولا بد أن السيد فايس يقِظُ الضمير إلى حدِّ الإفراط؛ حيث ألجأه الوعد الذي قطعه للسيد جريفز إلى اتخاذ هذه الاحتياطات الاستثنائية. ومن الواضح أنَّ إرضاء ضميره الحسَّاس، لم يكفِه مجرد الالتزام بنصِّ الوعد الذي قطعه. هذا ما لم تكن لديه أسبابٌ تدفعه إلى أن يشارك السيد جريفز رغبته غيرَ المنطقية في السرِّية؛ فلا يُعقل أنَّ المريض اتَّخذ تدابير التكتُّم هذه بنفسه.

الاقتراحات الأخرى التي شقَّت عن نفسها من رحم هذا التفكير أصابَتني بشيءٍ من القلق. فإلى أين يحملونني وما غرضهم؟ وبابتسامةٍ نبذت من عقلي صورتي وأنا مقيدٌ في وكرٍ لمجموعة لصوص يريدون سرقتي أو ربما قتلي. اللصوص لا يضعون خُططًا متقنة من أجل سرقة بؤساء فقراء من أمثالي. تظهر حسناتُ الفقر في مثل هذه المواقف. ولكن تبادر إلى ذهني احتمالاتٌ أخرى. لا يصعب على الخيال المدعوم بالتجارب أن ينسج عددًا من المواقف التي يمكن أن يُستدعى الطبيب من أجلها، فربما يأتون به سواءٌ أكان راضيًا أم مُكرهًا؛ كي يشهد، أو يكون له دور فعَّال، في ارتكاب جريمةٍ ما.

ورغم أن هذه الأفكار لم تكن جيدة، فقد شغَلَت عقلي كثيرًا طوال هذه الرحلة الغريبة. كذلك كُسرَت الرتابة بوسائلِ تشتيت أخرى. على سبيل المثال، اهتممت كثيرًا بأن أُلاحظ كيف ومتى تتعطل حاسَّةٌ واحدة وتنشط الحواسُّ الأخرى؛ كي تعوض مستوى الإدراك. جلستُ في الظلام أدخِّن غليوني، ولم يبدِّد الظلامَ الحالكَ إلا وهجٌ خافِتٌ من التبغ المغطَّى في وعائه، وكأني أصبحت معزولًا عن العالم الخارجي بكل ما فيه. ولكني لم أنقطع عنه في الحقيقة. فاهتزازات العربة بسبب النوابض الصلبة والعجَلات ذات الإطارات الحديدية أعلمَتني بدقَّة ووضوح معالمَ الطريق. فالخشخشة العالية من الطُّرق ذات أحجار الرصف، والمطبَّات الخفيفة على الطُّرق الحصباء، والقعقعة الخافتة على الممرات الخشبية والاهتزازات العنيفة من عبور خطوط الترام؛ كلُّ هذه المعالم رسمَت السمات العامة للمنطقة السكنية التي أمرُّ بها. أما حاسة السمع، فقد أمدَّتني بالتفاصيل. فالآن، أعلنَت صافرة زورقِ القطر عن اقترابنا من النهر. أمَّا الصوت القصير الذي يشبه الصدى، فقَدْ كشف أننا كنا نمرُّ من تحت جسر للسكك الحديدية (وبالمناسبة، تكرَّر هذا الحدث عدَّة مرَّات في أثناء الرحلة)، وحين أسمع الصافرة المعتادة من حارس السكك الحديدية، وأسمع من بعدها نفخةً سريعة من بوق قطار يتباطأ، ترتسم في مُخيِّلتي صورةٌ واضحة لقطار مكتظٍّ بالرُّكاب يخرج من المحطة، وكأني أراه في وضَح النهار.

حين انتهيت من تدخين غليوني وأفرغتُ الرماد عند كعب حذائي، تباطأت العربة ودخلت في ممرٍّ مسقوف؛ علمتُ بذلك حينما سمعتُ صدًى للصوت. ثم ميَّزَت أذناي صريرَ بوابةٍ خشبية ثقيلة تُغلَق من خلفي، وفُتح باب العربة بعد دقيقةٍ أو دقيقتَين. خرجتُ من العربة وأنا أرمش في ممرٍّ مغطًّى بالحصى ويبدو أنه يؤدي إلى إسطبل، ولكن كان الظلام يلفُّ كلَّ شيء، ولم أجِد فرصةً لرؤية أيِّ تفاصيل؛ فقد سيقَت العربة حتى وقفَت أمام بابٍ جانبي مفتوح، وتقف على عتبته امرأةٌ تحمل شمعةً مشتعلة.

سألَت: «هل أنت الطبيب؟» وسمعتُ في صوتها لكنةً ألمانية، وكانت تظلِّل الشمعة بيدها وهي تنظُر إليَّ.

أجبتها بالتأكيد، ثم صاحت:

«سررتُ بمجيئك. سيرتاح بالُ السيد فايس. تفضَّل بالدخول.»

تبعتُها عبرَ طُرقةٍ مُظلِمة، ودلفنا إلى غرفةٍ مظلمة، وُضِعت شمعةٌ فيها على خزانةٍ ذات أدراج، واستدارت كي تغادر. لكن حين وصلَت إلى الباب، توقَّفَت ونظرَت خلفها.

قالت: «الغرفة ليست أنيقة، ولا تليق بمَقامك. ولكننا لم نتمكن من ترتيبها، وأرجو أن تعذرنا. فقَدْ شغلنا القلق على السيد جريفز البائس.»

«هل أصابه المرض منذ فترة؟»

«نعم، منذ فترةٍ قصيرة. وكما تعرف، يعاوده المرض على فتراتٍ متقطِّعة. فأحيانًا تتحسن صحته وأحيانًا أخرى تعتلُّ.»

بينما تتحدث، ظلَّت تتقهقر إلى الطُّرقة بالتدريج دون أن تبعُد مرةً واحدة. وبناءً على ذلك، تابعتُ أسئلتي.

«لم يفحصه أيُّ طبيب، أليس كذلك؟»

أجابت: «بلى، فما برِحَ يرفض زيارة الأطباء. وقد أرهقنا رفضه هذا. السيد فايس يشعُر بقلقٍ بالِغ عليه. وسيُسرُّ حين يعلم أنك أتيت. ينبغي أن أذهب وأُخبره. تفضل بالجلوس إلى أن يأتيك»، ثم انطلقَت إلى مهمتها بعد هذه الجملة.

لمَّا فكرتُ في قلق السيد فايس والإلحاح الواضح في الموقف، استغربتُ قليلًا حينما لم أجِدْه في انتظاري. وبعدما مرَّت عدَّة دقائق ولم يأتِ، ازداد استغرابي. لم أجِد عندي رغبةً في الجلوس بعد هذه الرحلة في العربة؛ ومن ثَم أمضيتُ الوقت في تفقُّد الغرفة. حينئذٍ، أثارت الغرفة فضولي؛ إذ خلَت من الأثاث وكانت متسخةً ومهمَلة ويبدو أنه لم يكن يستخدمها أحد. وأُلقيَت على الأرض سجادة باهتةُ اللون بطريقةٍ غير مرتَّبة. كلُّ الأثاث الموجود في الغرفة طاولة صغيرة رثَّة المنظر في وسطها، وحول الطاولة ثلاثةُ كراسي مغطَّاة بجِلد الخيل، وخِزانة ذات أدراج. لم تكن ثمَّة صورٌ معلَّقة على الحوائط المتعفِّنة، ولا ستائر تغطِّي النوافذ المغلقة، بل تتدلَّى من السقف ستائرُ سوداء منسوجةٌ من خيوط العنكبوت، وتخلِّد ذِكر فصيلةٍ طويلةِ العمر وشهيرةٍ من العناكب، ما يدل على إهمالِ الغرفة وعدم استخدامها طيلة شهور.

حظيَت الخزانة ذات الأدراج بمعظم اهتمامي؛ لكونها الأقربَ والأكثر وضوحًا في هذا الضوء، ولكنَّها كانت قطعة أثاث لا تتَّسق مع غرفةٍ يبدو أنَّها كانت غرفةَ طعام. كانت الخزانة عتيقةً، وصُنعت على وجه التقريب من خشب الماهوجني الأسود، وقد بليت، بل في أواخر مراحل التحلُّل، ولكنها في الأصل كانت قطعةَ أثاثٍ فخمة. حزنتُ على وصولها إلى هذه الحالة، وأخذتُ أنظُر إليها بقدْر من الاهتمام، ولاحظتُ في الزاوية السفلية مُلصقًا يحمل كتابةً مطبوعة «القطعة ٢٠١»، وحينئذٍ سمعتُ وقْعَ أقدامٍ تنزل السُّلَّم. بعد لحظات، فُتح الباب وظهَرَ شخصٌ غامض، ووقف على مقرُبة من عتبة الباب.

قال الغريب بصوتٍ عميق وهادئ، وبلكنة ألمانية مميَّزة وإن لم تكُن قوية: «مساء الخير يا دكتور. أرجو أن تقبل اعتذاري؛ لأنني حمَلتُك على الانتظار.»

قبلتُ الاعتذار بطريقةٍ رسمية نوعًا ما، وسألتُه: «أنت السيد فايس، هل تخميني صحيح؟»

«أجل، أنا السيد فايس. وإني أقدِّر لك مجيئَك من هذه المسافة الطويلة، وفي هذه الساعة المتأخِّرة من الليل، ولم تمانع رغمَ الشروط الغريبة التي أملاها عليَّ صديقي.»

أجبتُه: «لا عليك مطلقًا. فعملي يقتضي أن ألبِّي طلب مَن يحتاج إليَّ مهما كان الوقت أو المكان، وليس من شأني أن أسأل عن الأمور الخاصة لدى المرضى.»

وافقني متودِّدًا: «كلامك صحيح يا سيدي، وأنا ممتنٌّ لك كثيرًا؛ لأنك تفهَّمتَ الموقف. وقد حاولتُ أن أقنع صديقي بهذا، ولكنه رجلٌ غير عقلاني. إنه شديد التحفُّظ وشكَّاك بطبيعته.»

«هذا ما استنتجتُه. ولكن فيما يتعلَّق بحالته، هل مرضه شديد؟»

قال السيد فايس: «ها، هذا ما أريد معرفته منك. فقد احترتُ كثيرًا في أمر مرضه.»

«وما طبيعة مرضه؟ ما الذي يشكو منه؟»

«نادرًا ما يبثُّ شكواه، مهما كانت، رغم اعتلاله الظاهر. لكن الحقيقة أنه نادرًا ما يكون في حالةِ إفاقةٍ تامة. فهو يدخل في حالة سُبات حالِم من الصباح وحتى الليل.»

أذهلَتني الحالة من غرابتها، ولا تتسق بأي حال مع الرفض القاطع من المريض كي لا يزور الطبيب.

سألت: «ولكن ألَا يستفيق مطلقًا؟»

رد السيد فايس سريعًا: «أوه، ليس الأمر كذلك، إنه يستيقظ من وقتٍ لآخر ويتمتَّع بعقلانيةٍ تامة، وكما تبادَرَ إلى فهمك على حدِّ ظني؛ فإنه يستحيل عنيدًا. تلك هي السمة الغريبة والمحيِّرة في حالته؛ التناوب بين حالة السُّبات وحالةِ شبه اليقظة الطبيعية والصحية. ولكن ربما الأفضل أن تراه وتشخِّص الحالة بنفسك. فقَد انتابَته نوبةٌ حادَّة. اتبعني من فضلك. فالسُّلَّم مظلِم.»

كان السُّلَّم مظلِمًا، ولاحظتُ أنه ليس مفروشًا بأيِّ سجاد أو قماش زيتي؛ ومن ثَم سمعت صدًى خفيفًا لقرع نِعالنا، وكأننا في منزلٍ غير مأهول. تبعتُ مرشدي متخبِّطًا، وبدأت أتحسَّس طريقي بإمساك الدرابزين ولمَّا وصلنا الطابق الأول، دخلنا غرفةً بحجم الغرفة التي كانت في الطابق السفليِّ وبها قِطَع أثاثٍ قليلة للغاية، غير أنَّها أقلُّ قذارةً من الأخرى. شمعةٌ واحدة في الطرف البعيد من الغرفة ألقَت بضوئها الضعيف على شخصٍ ينام على الفِراش، وتُرك باقي الغرفة في ضوءٍ خافت.

عندما دخَلَ السيد فايس إلى الغرفة على أطراف أصابعه، نهضَت المرأة التي تحدثَت إليَّ في الطابق السفلي من على كرسي بجانب الفِراش، وخرجَت من الغرفة بهدوء من الباب الآخر. وقَفَ مرشدي، وبينما نظَرَ محدِّقًا في النائم على الفراش؛ نادى عليه:

«فيليب! فيليب! ها هو الطبيب جاء لزيارتك.»

انتظَرَ دقيقةً أو دقيقتَين، وحينما لم يجِد ردًّا قال: «يبدو أنه دخل في نوبةِ سُباتٍ كعادته. من فضلك، اذهب إليه وشخِّصْ حالته.»

تقدَّمتُ ووقفتُ إلى جانب الفِراش، وتركتُ السيد فايس عند نهاية الغرفة بالقرب من الباب الذي دخلنا منه، حيث ظلَّ يغدو ويروح بخطًى متثاقِلة وهادئة في مكانٍ شبه مُظلِم. وفي ضوء الشمعة، رأيتُ رجلًا مسنًّا له وجهٌ حسنُ الملامح ومهذَّب وذكي وجذَّاب أيضًا، ولكني فزعتُ لهُزال جسمه وشحوبه واصفرار بشرته. كان يرقد بلا حراك، باستثناء حركة صدره التي لا تكاد تُرى، صعودًا وهبوطًا، كانت عيناه شبه مُغمَضتَين وملامحه مسترخية، وبرغم أنه لم يكن نائمًا فعليًّا، بدا وكأنه في حالة حُلم وسُبات وكسل، وكأنه تحتَ تأثيرِ مخدِّر.

راقبتُه دقيقةً أو نحو ذلك، وقِستُ سرعةَ تنفُّسه على ساعة يدي، ثم ناديت اسمه فجأةً وبصوتٍ حادٍّ، ولكني لم أتلقَّ أيَّ استجابة سوى أن رفَعَ جفنَيه بقدْرٍ طفيف، وبعد لحظات، رمقني بنظرةٍ يكسوها النعاس، ثم عاد الجفنان إلى موضعهما السابق متثاقِلَين.

شرعتُ في إجراء الفحص البدني. أولًا، تحسَّستُ سرعة النبض؛ فأمسكتُ رسغه بقوةٍ متعمَّدة، لعلَّه يستيقظ من سُباته. وجدت النبض بطيئًا وضعيفًا وغير منتظمٍ نوعًا ما، وهذه العلامات تُعطي دليلًا واضحًا — ولا يحتاج الأمر إلى دليل — على انخفاض نشاطه العام. استمعتُ إلى دقَّات قلبه، وكان صوتها واضحًا بالقدر الكافي من خلال الجدران الرقيقة لصدره الذي أصابه الهُزال، ولم أجِد شيئًا غيرَ طبيعي سوى ضعفٍ في القلب وعدم انتظامه. ثم وجَّهت انتباهي إلى عينَيه، وقد فحصتُهما عن قُربٍ بمساعدة الشمعة وعدسة مِنظار العين؛ حيث رفعتُ الجفنَين بغِلظة نوعًا ما حتى أكشف عن القزحيَّة بأكملها. خضع للكشف من دون مقاومةٍ لغلظتي في الكشف على هذه الأعضاء الحسَّاسة، ولم تبدُر منه أيُّ علاماتٍ على عدم الارتياح، حتى عندما قرَّبتُ لهَبَ الشمعة على مسافةِ بُوصتَين من عينَيه.

لكن هذا التحمُّل غير العادي للضوء تبيَّن سببه بعد الفحص عن قرب؛ فقد وجدتُ حدقةَ العين منكمِشةً إلى حدٍّ كبير، لدرجة أنه لم يَظهَر منها سوى نقطةٍ سوداء صغيرة للغاية في مركز القزحية الرمادية. ولم تكن هذه العلامة الغريبة الوحيدة التي رأيتُها في عينَي المريض. فعندما استلقى على ظَهره، مالت قزحية عينه اليمنى تجاه مركزها قليلًا، ما أظهر سطحًا مقعرًا واضحًا، وحين تمكنت من إحداث حركةٍ طفيفة، ولكن سريعة، لمقلة العين، أمكنني رَصْد تموُّجٍ ملحوظ. في الحقيقة، كان المريض مصابًا بحالةٍ تُعرف باسم القزحية الرعاشة، ويمكن رؤية هذه الحالة حين تُستخرج العدسة البلورية لأغراضٍ علاجية، أو حين تُزاح من دون قصد؛ ومن ثَم تترك القزحية من دون دعم. وفي الحالة التي أفحصها، فإنَّ سلامة القزحية تدلُّ على أنه لم تُجرَ جراحةٌ لاستخراجها، وبعد الفحص عن كثب بمساعدة عدستي، لم أجِد أيَّ دليل على إجراء الجراحة الأقل شيوعًا التي تُستخدم فيها الإبَر. واستنتاجي أن المريض أصيب بحالةٍ تُعرف باسم «خلع العدسات»، وهذا أدَّى إلى استنتاجٍ آخر بأن المريض فقَدَ بصره جزئيًّا أو كليًّا في عينه اليمنى.

في واقع الأمر، استبعدتُ هذا الاستنتاج جزئيًّا عندما وجدتُ تجويفًا عميقًا في جسر الأنف، كان واضحًا أنه ناتجٌ عن ارتداء نظَّارة، وحينما بحثتُ خلف الأذن وجدتُ علاماتٍ تتطابق مع أذرع نظَّارة ذاتِ شكلٍ خطَّافي أو «حوامل منحنية». وعادةً ما يكون الهدف من النظَّارات ذات الحوامل المنحنية، وتُحمل على الأذن، أن تُرتدى على الدوام، وهذا يتَّفق مع التجويف على الأنف؛ حيث إنَّ عمقه لا يدلُّ على مجرد ارتداء النظَّارة بين الفينة والأخرى من أجل القراءة. ربما يقول قائلٌ إذا كانت لديه عينٌ واحدة سليمة، فإنَّ النظَّارة أُحادية العدسات ستفي بالغرض، ولكن هذا القول ليس له ما يؤيِّده؛ لأن ارتداء نظَّارة أحاديَّة العدسة على الدوام، لن يكون مريحًا مثل ارتداء نظَّارة بعدستَين وذراعَين بحاملَين على شكلِ خُطَّاف.

وفيما يتعلَّق بطبيعة المرض الذي كان يعانيه المريض، ليس ثمة رأيٌ محتمَل غير رأيٍ واحد. إنَّها حالةٌ واضحة، وعادةً ما تكون ناتجةً عن التسمُّم بالأفيون أو المورفين. ويبدو أنَّ جميع أعراضه تقود بشكلٍ لا لَبْس فيه إلى هذا الاستنتاج. فاللسان الأبيض الذي برز من فمه ببطءٍ وارتعاش استجابةً لصرخةٍ في أذنه، والبشرة الصفراء والتعبيرات المروِّعة، وانكماش حدقة العين والسُّبات الذي لا يكاد يستيقظ منه، حتى مع التعامل الشديد نوعًا ما، والذي لم يبلغ حدَّ فقدان الإحساس الفعلي بعدُ؛ كلُّ هذه الأعراض تشكِّل مجموعةً واضحة ومتَّسقة لدرجةِ أنها لا تدلُّ بوضوحٍ على تناول العقَّار فحسب، بل إنها تشير إلى أخْذِ جرعةٍ كبيرة منه.

ولكن هذا الاستنتاج بدوره طرَحَ سؤالًا بالِغَ الغرابة والصعوبة. إذا كان قد أخَذَ جرعةً كبيرة من عقَّار سُمِّي، فكيف أخذها ومَن الذي أعطاه إياها؟ لم يكشف الفحص الدقيق لذراعَي المريض وساقَيه عن أي علامة تدلُّ على حَقْنه بإبرةٍ تحت الجِلد. وواضحٌ أنَّ الرجل لم يكُن يتعاطى المورفين بوجهٍ عام، ومع عدم وجود العلامات المعتادة للوخز بالإبر؛ لم يكن ثمة شيء يبيِّن أو يوضِّح إن كان المريض تناوَلَ العقَّار طواعيةً بنفسه، أم أن شخصًا آخر أعطاه إياه.

ومن ثَم يتبقى احتمالُ أنني ربما أكون قد أخطأتُ التشخيص. لكني واثقٌ كثيرًا في التشخيص. والعاقل يحمل دائمًا قدْرًا من الشكِّ. وبمراعاة الحالة الحرِجة، التي من الواضح أن المريض يمرُّ بها، فالشَّك مُزعِجٌ كثيرًا. في الحقيقة، حين وضعتُ السمَّاعة في جيبي وألقيتُ نظرةً أخيرة على الشخص الصامت الفاقدِ الحركة، أدركتُ أنَّ موقفي من أصعب المواقف وأعقدها إلى حدٍّ كبير. فمن جهة، دفعَتْني شكوكي — التي من الطبيعي أن تُثيرها الظروف غير العادية التي أحاطت بزيارتي — إلى الصمت الشديد، ومن جهة أخرى، يُملي عليَّ واجبي بوضوحٍ أن أقدِّم أيَّ معلوماتٍ قد تكون مفيدةً للمريض.

حين الْتفتُّ بعيدًا عن الفِراش، توقَّف السيد فايس عن خطواته المتثاقِلة ووقَفَ أمامي. وأمسى ضوء الشمعة الخافت مسلَّطًا عليه، ولأول مرة تسنى لي رؤيته بوضوح. لكن لم يكن انطباعي الأول إيجابيًّا. فقَدْ كان قصيرًا وممتلئ الجسم ومستدير المنكبَين، بملامح ألمانية عادية وشَعرٍ أصفرَ، مدهونٍ ومصفَّف وأملس، ولحيته كبيرةٌ وغير مهذَّبة وخشِنة؛ وهذا وصفٌ سريع لملامحه. أنفه كبيرٌ ومستدير ومنتفِخ، ولونه يميل إلى الأرجواني المائل إلى الحُمرة، وهذه الصبغة تمتدُّ إلى الأجزاء المتاخِمة لأنفه في وجهه، وكأنَّ اللون يسرح فيها. حاجباه كبيران ومتدليان فوق عينَيه العميقتَين، ويرتدي نظَّارةً أعطَته مظهرًا يشبه وجه البومة. لم يكُن مظهره الخارجي جذَّابًا، وكنتُ في حالةٍ ذهنيةٍ تجعلني أتقبَّل أيَّ انطباعٍ غير محبَّب.

قال: «ما تشخيصك؟» تردَّدتُ، وظللتُ ممزَّقًا بين الإحجام عن الكلام والتحدُّث بصراحة، وفي النهاية أجبتُ:

«الأحوال غير مُطمْئِنة يا سيد فايس. إنه في حالةٍ سيئة للغاية.»

«أجل، هذا واضح. لكن هل توصَّلتَ إلى أيِّ تشخيصٍ لطبيعة مرضه؟»

اختلجَت نبرةُ صوته بشيءٍ من القلَق ورغبةٍ مكبوتة في السؤال، وهذا طبيعي تمامًا في هذه الظروف؛ ومن ثَم لم تهدأ شكوكي، بل تأثرتُ وآثرتُ أن أتَّخذ جانبَ الإحجام.

أجبتُه حذِرًا: «لا يسعني أن أُبدي رأيًا محدَّدًا الآن. فالأعراض مُلتبِسة، وأغلب الظن أنها تشير إلى عدَّة حالاتٍ مختلفة. فربما تنجُم عن احتقان الدماغ، ولو لم يكن ثمَّة تفسيرٌ آخر، لأخذتُ بهذا الرأي. ولذا، التفسير الآخر هو تناول سُم مخدِّر، مثل الأفيون أو المورفين.»

«ولكن هذا مستحيلٌ تمامًا. فهذه العقاقير ليست موجودةً في المنزل، وهو لم يعُد يغادر غرفته البتة، ولا سبيل إلى الحصول عليها من الخارج.»

سألته: «وماذا عن الخدَم؟»

«لا يوجد خدَم غير مدبِّرة شئون المنزل، وهي محلُّ ثقةٍ مطلقة.»

«ربما لديه خِزانة للأدوية وأنت لا تعلم عنها شيئًا. هل يُترك بمفرده كثيرًا؟»

«في الحقيقة، لا يُترك بمفرده إلا نادرًا. فأنا أمكث معه في الغرفة ما وسعني ذلك، وحين لا أستطيع المكوث معه، فإن السيدة شاليبام — مدبِّرة شئون المنزل — تجلس معه.»

«هل تأتيه نوباتُ نعاسٍ كثيرًا كنوبته الآن؟»

«أوه، تأتيه كثيرًا جدًّا في واقع الأمر، بل يمكن القول إنها صارت حالته العادية. إنه يستيقظ بين الفَينة والأخرى، وبعد ذلك يفيق تمامًا ويصبح طبيعيًّا لمدَّة ساعة أو نحو ذلك، ولكن سرعان ما يغشاه النعاس مرةً أخرى ويغفو، ويظلُّ نائمًا أو شبهَ نائم لساعات متواصِلة. هل تعرف أيَّ مرضٍ يتسبَّب في هذه الأعراض؟»

أجبتُه: «لا. فالأعراض ليست متطابِقة تمامًا مع أعراض أيِّ مرضٍ أعرفه. ولكنها تشبه إلى حدٍّ بعيد أعراض التسمُّم بالأفيون.»

رد السيد فايس بنفادِ صبر: «ولكن يا سيدي، إذا كان من الواضح أن التسمُّم بالأفيون مستحيل؛ فلا بد أن يكون مرضًا آخر. والآن، ما الحالات المحتمَلة لهذه الأعراض؟ كنتَ تتحدَّث عن احتقان الدماغ.»

«نعم، ولكن ما يفنِّد هذا الاحتمال حالاتُ الإفاقة التامة التي يبدو أنَّها تحدُث بين هذه النوبات.»

قال السيد فايس: «ما قلتُ إنها إفاقةٌ تامة. ولكنها إفاقةٌ نسبية إلى حدٍّ ما. فهو يستردُّ وعيه ويصبح طبيعيًّا في تصرفاته بطريقةٍ ما أو بأخرى، ولكنه يظلُّ كسولًا وخاملًا. فلا تبدر منه — على سبيل المثال — أيُّ رغبة في الخروج، ولو حتى من غرفته.»

فكَّرتُ غيرَ مرتاحٍ في هذه العبارات المتضاربة. من الواضح أن السيد فايس لا يميل إلى تأييد نظرية التسمُّم بالأفيون، وهذا الموقف طبيعيٌّ إلى حدٍّ بعيد، ما دام لا يعرف شيئًا عن استخدامات العقَّار. ولكن …

قال السيد فايس: «هل أسأل إنْ سبق لك التعامل مع مرض النوم؟»

لقد فاجأني سؤاله. فأنا لم يسبق لي أن تعاملتُ معه. بل إنه يُصيب قلةً قليلة من الناس. ولذا لم تتوفَّر لي معلوماتٌ عن المرض. وكان يُعد مجرَّد حالةٍ مرضيَّة غريبة، ولا يعرفه أحدٌ سوى قلةٍ من الأطباء في المناطق النائية بأفريقيا، ولا يُذكر في كتب الطبِّ إلا قليلًا. ولم تكن علاقته بالحشرات المحمَّلة بالمِثقَبيَّات، خضعَت للدراسات بعدُ؛ ومن ثَم فلَمْ أكُن أعرف أعراضه البتة.

رددت: «كلَّا، لم أتعامل معه. فأنا لا أعرف شيئًا عن المرض سوى اسمه. لكن لماذا تسأل؟ هل سافر السيد جريفز إلى الخارج؟»

«نعم، سافر عدَّة مرَّات في السنوات الثلاث أو الأربع الأخيرة، وأعلم أنه قضى بعض الوقت في الفترة الأخيرة بغرب أفريقيا، وهذا المرض موجودٌ هناك. وفي الحقيقة، هو الذي أخبرني عنه أول مرَّة.»

هذه حقيقةٌ جديدة. وقد زعزعَت ثقتي في تشخيصي إلى حدٍّ كبير، وجعلَتني أُعيد التفكير في شكوكي. وإن كان السيد فايس يكذب عليَّ؛ فسيضعني في مأزقٍ لا أُحسد عليه.

سأل: «ما تقول في ذلك؟ هل يُحتمل أن يكون مصابًا بمرض النوم؟»

رددت: «لا أحبُّ أن أقول إنَّ هذا الاحتمال مستبعَد. فأكاد لا أعرف شيئًا عن المرض. ولم أمارس الطب خارج إنجلترا، ولم ترِد إليَّ حالةٌ كي أدرسه. وإلى أن أدرس الموضوع دراسةً وافية، لا أستطيع أن أقول رأيي. بالطبع إذا رأيتُ السيد جريفز في حالةٍ ممَّا نسمِّيه «نوبات الإفاقة»، فستتكون لديَّ فكرةٌ أفضل. هل تعتقد أنه يمكننا ذلك؟»

«ربما. فأنا أفهم أهمية هذه الخطوة، وسأبذل قصارى جهدي لتحقيقها، ولكنه رجلٌ صعب، رجلٌ صعب للغاية. وأتمنَّى من أعماق قلبي ألَّا يكون مرضَ النوم.»

«ولمَ؟»

«لأنَّ هذا المرض — كما فهمتُ منه — نهايته الموت لا محالة، سواءٌ أكان عاجلًا أم آجلًا. ويبدو أنه ليس له علاج. هل تعتقد أنك ستتمكن من اتخاذ القرار حين تراه مرةً أخرى؟»

رَدَدتُ: «أرجو ذلك. سأستشير أهلَ الاختصاص؛ كي أستجلي أعراض هذا المرض بقدر ما لديهم من عِلم، ولكني أرى أنَّ المعلومات المتوفرة عنه نادرةٌ للغاية.»

«وماذا ينبغي لنا أن نفعل في أثناء ذلك؟»

«سنُعطيه بعض الأدوية ونراقب حالته العامة، والأفضل أن ترتِّب لي زيارةً أخرى في أقرب وقت ممكن.» هممتُ أن أقول إنَّ تأثير الدواء نفسه قد يبيِّن قدْرًا من حالة المريض، ولكن لمَّا قرَّرتُ أن أعالجه من سُم المورفين، رأيتُ أنَّ الأليق أن أحتفظ بهذه المعلومة لنفسي. وبناءً على ذلك، اقتصرت على بعض التوجيهات العامة بشأن رعاية المريض، وقد أنصت لي السيد فايس وأنا أُلقيها على مسامعه. ختمتُ حديثي: «والآن، يجب ألَّا نَغفَل عن مسألة الأفيون. والأحرى أن تُفتَّش الغرفة بعناية وأن يراقَب المريض عن كثب، لا سيما في فترات يقظته.»

ردَّ السيد فايس: «حسنًا أيها الطبيب، سأنفِّذ التعليمات التي أمليتَها عليَّ، وسأُرسل في طلبك في أقرب وقت ممكن، إذا لم يكن لديك اعتراضٌ على الشروط السخيفة التي يفرضها جريفز. والآن، أرجو أن تقبل منِّي ثَمن الكشف، وأنا سأذهب كي أطلب لك العربة ريثما تكتب الوصفة الطبية.»

قلت: «لا حاجة إلى وصفةٍ طبية. فأنا سأعدُّ دواءً وأعطيه لسائق العربة.»

بدا أنَّ السيد فايس يميل إلى الاعتراض على هذا الإجراء، ولكنَّ عندي أسبابًا تدفعني إلى الإصرار عليه. فالوصفات الطبية الحديثة ليست صعبةَ القراءة، وأنا لا أريد السيد فايس أن يعرف العلاج الذي يتناوله المريض.

بمجرد أن أصبحتُ بمفردي، عُدت إلى جانب الفِراش ونظرت إلى ذلك الشخص الساكن مرةً أخرى. وحين نظرت إليه، عادت إليَّ شكوكي. فالأرجح أن الحالة تسمُّم بالمورفين، وإذا كان ترجيحي في محلِّه؛ فإنه لن يتناول جرعةً طبيةً عادية. فتحتُ حقيبتي وأخرجتُ منها علبة الأدوية التي تُعطى تحت الجِلد، ومنها أخرجتُ أنبوبًا صغيرًا يحتوي على أقراص الأتروبين. هززتُ الأنبوب في يدي وأخرجتُ منه قرصَين صغيرَين، وسحبتُ الشفة السفلية للمريض، ووضعت القرصَين الصغيرَين تحت لسانه. وبسرعة أعدْتُ الأنبوب وأدخلتُ العلبة في حقيبتي، وما كِدت أفعل ذلك حتى انفتح البابُ بهدوء، ودخلَت الغرفةَ مدبِّرةُ شئون المنزل.

سألَت بصوتٍ منخفضٍ لم أجِد له سببًا غير مراعاة حالة السُّبات التي كان المريض فيها: «كيف حال السيد جريفز؟»

أجبتُها: «مرضه شديدٌ فيما يبدو.»

ردَّت: «هكذا إذن!»، ثم أردفَت: «يُحزنني سماع هذه الأخبار. لقد قلقنا عليه.»

جلسَت في الكرسي بجانب الفِراش، بحيث أبعدَت ضوء الشمعة عن وجه المريض — وعن وجهها أيضًا — وأخرجَت من حقيبةٍ تتدلَّى من خصرها جوربًا غير مُكتمِل، وبدأت في حياكته — صامتةً — بمهارةٍ تتميز بها ربَّة المنزل الألمانية. نظرتُ إليها باهتمام (على الرغم من أنَّ وجهها كان في الظلام، ولم أتبيَّن ملامحها إلا بقدْرٍ يسير)، ولكن لم يجذبني مظهرها كثيرًا مثلما هو حالي مع بقية أفراد هذا المنزل. لم يكُن مظهرها قبيحًا. فجسمها جميلٌ، ويوحي مظهرها بأنها ذات مكانةٍ اجتماعية راقية، وملامحها جميلةٌ، كما أنَّ لون بشرتها لم يكن بشعًا، على الرغم من أنه لم يكن مألوفًا بعض الشيء. وكما هي الحال مع السيد فايس، كان شَعرها أشقرَ ومدهونًا ومفروقًا من المنتصف ومصفَّفًا ومفرودًا، مثل شعر الدمية الهولندية الملوَّن. بدَت كأنها بلا رموشٍ على الإطلاق، ولا شكَّ أن السبب في ذلك هو لون الشَّعر الفاتح، والشكل الذي يشبه الدمية تؤكِّده عيناها؛ حيث إنَّ لونهما كان بنيًّا أو رماديًّا داكنًا، لم أستطع أن أحدِّد أيهما. سمةٌ مميِّزة أخرى وهي «التشنجات العادية» مثل التي نراها عند الأطفال العصبيين، وهي رعشةٌ سريعة تحدُث في الرأس من وقتٍ لآخر، وكأنها تُبعِد حبل قبعة أو مشبك شعر سائب عن خدِّها. وهي، في نظري، تبلغ من العمر نحو ٣٥ سنة.

العربة — التي قد يتوقَّع المرء أنَّها في انتظاره — يبدو أنَّها تستغرق بعض الوقت حتى تكون جاهزة. بدأ صبري ينفد وأنا جالسٌ أستمع إلى أنفاس المريض الهادئة، ونقرات إبَر الخياطة التي تستخدمها مدبِّرة شئون المنزل. أردتُ الذهاب إلى المنزل، ليس من أجلي فقط، ولكنَّ حالة المريض تستدعي وتحثُّ على إعطائه الدواء في أقرب وقت ممكن. ولكن مرَّت الدقائق، وكاد الغضب يفيض بي، حتى رنَّ الجرس على البسطة.

قالت السيدة شاليبام: «العربة جاهزة. سأُنير لك السُّلَّم.»

قامَت وأخذَت الشمعة وسارَت أمامي إلى بداية السُّلَّم، حيث وقفَت وأمسَكَت الشمعة من فوق الدرابزين، ريثما أنزل وأعبُر الممرَّ إلى الباب الجانبي المفتوح. جَرَت العربة وتوقَّفت في الطريق المسقوف، على حدِّ ما رأيتُ في هذا الضوء الخافت، الصادر من الشمعة البعيدة، وبالكاد جعلني أميِّز سائقَ العربة الذي يقف على مقربةٍ مني في الظِّل. نظرتُ من حولي لعلِّي أرى السيد فايس، ولكن لمَّا لم أرَه، دخلتُ إلى العربة. وسرعان ما أُغلق الباب وأُقفل بالقفل، ثم سمعت سَحْب المزاليج الثقيلة للبوابات وصرير المفصَّلات العالي. خرجَت العربة ببطءٍ وتوقَّفَت، أُغلقَت البوابات من خلفي، وشعرتُ بترنُّح العربة؛ إذ صعد السائق وجلس ثم بدأنا السير.

أفكاري في رحلة العودة لم تبعَثْ على التفاؤل البتة. وما استطعت أن أنبذ قناعتي بأنني تورطت في بعض الأعمال الباعثة على الشك. بالطبع ربما خالجني هذا الشعور؛ بسبب السرِّية الغريبة التي أحاطت بهذه الحالة، وإنْ أُجريَت الزيارة في ظروف عادية، فلربما لم أجد في أعراض المريض ما يبعث على الشك أو القلق. ربما كان الأمر كذلك، ولكن لم أجد عزاءً في هذا التفكير.

وعلى كلٍّ، ربما أخطأتُ التشخيص. ربما كان مرضه — في الواقع — حالةً من حالات اعتلال الدماغ التي يصحبها ضغطٌ، مثل نزيف دموي بطيء أو خُرَاج أو ورم أو احتقان بسيط. فهذه الحالات تصبح حادة في بعض الأحيان. ولكن الظاهر في هذه الحالة ليس بالضرورة أن يتفق مع الأعراض المصاحِبة لأيٍّ من هذه الحالات. أما بالنسبة إلى مرض النوم، فربما كان اقتراحًا أكثر تفاؤلًا، ولكني لن أتخذ قراري بالاتفاق معه أو نَبْذه حتى تتوفَّر لديَّ معلومات أكثر؛ وعلى النقيض من هذا الرأي، تقف الحقيقة الوجيهة بأنَّ الأعراض تتطابق تمامًا مع نظرية التسمُّم بالمورفين.

لكنْ حتى إن كان الأمر كذلك، فلا توجد أدلةٌ قاطعة على أي عمل إجرامي. ربما كان المريض معتادًا على الأفيون، والأعراض تفاقمت بسبب خيانةٍ متعمدة. فمكْرُ هؤلاء التُّعساء يُضرب به المَثل، ولا يعادله إلا تكتُّمهم وكذبهم. ومن غير المستبعد أبدًا أن يكون هذا الرجل يتظاهر بالسبات العميق ما دام أحدٌ يراقبه، ثم حين يصبح بمفرده لبضع دقائق يقفز من الفِراش ويأتي لنفسه ببعض الأفيون من خزانة أدويةٍ سرية. يتوافق هذا الاحتمال كثيرًا مع اعتراضه على زيارة طبيبٍ ورغبته في السرِّية. وعلى الرغم من ذلك، فإني لا أحسبه تفسيرًا صحيحًا. وعلى الرغم من كل هذه الاحتمالات البديلة الكثيرة، تعاودني الشكوك في السيد فايس وفي المرأة الغريبة القليلة الكلام، ولا تُطرَد من عقلي.

كل الملابسات المحيطة بهذه الحالة تدعو إلى الريبة. التجهيزات المتقَنة التي انطوت عليها حالة العربة التي حملوني فيها، وتغيير مظهر المنزل إلى حين، وغياب الخدَم العاديين رغم وجود سائق العربة، والرغبة الواضحة من السيد فايس ومن تلك المرأة في تجنُّبي التقصِّي عن شخصَيهما، والأهم من هذا كله تعمُّد السيد فايس الكذبَ عليَّ. لا شك عندي البتة في أنه كذب عليَّ. فتصريحه بسُبات المريض شبه المستمر لا يتَّفق البتة مع تصريحه الآخر بشأن رغباته وعناده، ولا يتفق أكثر مع الآثار العميقة والحديثة نسبيًّا على أنف المريض بسبب ارتداء النظَّارة. وبالتأكيد لم يمرَّ على آخِر مرَّة ارتدى فيها ذلك الرجل النظَّارة أكثر من ٢٤ ساعة، ولا أحسبه يرتديها إن دخل في حالةٍ تُشارف على أن تكون غيبوبة.

انقطع حبلُ أفكاري مع توقُّف العربة. فُتح الباب وخرجتُ أنا من سِجني المظلِم والخانق أمام منزلي.

قلتُ للسائق: «سأُحضر لك الدواء خلال دقيقة أو دقيقتَين»، وحين دخلتُ وأقفلتُ خلفي بالمِزلاج، انصرف عقلي سريعًا من التفكير في الوضع الراهن إلى التفكير في الحالة الصحية الحَرِجة للمريض. حزنتُ بالفعل لأنني لم أهزَّه بقوةٍ أكبر حتى أُوقِظه ويستعيد حيويته الواهنة؛ لأنه سيكون مروِّعًا إن تفاقمَت حالته أو فارق الحياة، قبل أن يرجع إليه السائق بالعلاج. دفعَتني هذه الفكرة المزعِجة إلى الإسراع في تحضير الدواء وحمْلِ الزجاجات التي لفَفتُها بسرعة إلى الرجل، حيث وجدتُه واقفًا بجانب رأس الحصان.

قلتُ له: «عُد بأقصى سرعة لديك، وأخبر السيد فايس ألَّا يهدِر الوقت، ويعطي المريض الدواء الموجود في الزجاجة الصغيرة. التعليمات مكتوبةٌ على الملصَق.»

أخذَ السائق العبوات منِّي دون أن يتفوَّه، وصعد إلى مقعده، وضرب الحصان بالسوط، وانطلق مسرعًا باتجاه نيوينتون باتس.

عرفتُ من الساعة الصغيرة في غرفة الكشف أن الساعة شارفَت على الحادية عشرة؛ إنه الوقت المناسب لممارِسٍ عامٍّ مرهَق والنوم يخامر عقله. لكني لم أكن نعسان. وبينما أتناول عشائي المتواضِع، وجدتُني أعيد نَسْج حبل أفكاري، ولمَّا دخَّنتُ آخر غليون مع انطفاء المدفأة في غرفة الكشف؛ ما برحَت السمات الغريبة والمشئومة لهذه الحالة تقفز إلى عقلي. ثم بحثتُ في مكتبة الدكتور ستيلبري المرجعية المتواضِعة عن معلومات بشأن مرض النوم، ولكني لم أجِد غير أنه «مرضٌ نادر وغريب، ولا تتوفر عنه معلومات كثيرة في الوقت الحالي». قرأت عن تسمُّم المورفين وحينذاك تأكَّد الرأي عندي أنَّ تشخيصي صحيح، ولربما كان التشخيص مقنعًا أكثر لو كانت الظروف مختلفة.

لا تقتصر أهميةُ الحالة على الجانب الأكاديمي. فقَدْ صِرتُ في موقفٍ مليء بالصعوبات والمسئوليات ويتحتَّم عليَّ أن أقرِّر خطواتي التالية. ما الذي ينبغي لي فعله؟ هل ينبغي أن ألتزم بالسرِّية المهنية التي تعهَّدتُ بها ضمنيًّا، أم أنقل خبرًا إلى الشرطة؟

وعلى حين غِرة، انتابني شعورٌ فريد بالارتياح، حين تذكَّرت جون ثورندايك، صديقي القديم، زميل الدراسة؛ فقَدْ صار الآن علَمًا من أعلام الطب الشرعي. وسبق أن تعاونتُ معه في إحدى القضايا بصفتي مساعِدَه، وقد أُعجبتُ كثيرًا بتبحُّره في العلوم، وحِدَّة ذكائه، وسعة حيلته مُنقطِعة النظير. لقد اكتسب خبرةً واسعة بحُكم عمله في المحاماة، وسيكون بمقدوره أن ينصحني على الفور بما ينبغي لي فِعْله من المنظور القانوني، وبحُكم عمله في الطبِّ، فإنَّه سيفهم متطلبات الممارسات الطبية. وإني لأرجو أن أزور منطقة تيمبل وأضَع القضية بين يدَيه، وحينئذٍ ستتبدَّد شكوكي وتُذلَّل الصِّعاب أمامي.

فتحتُ قائمة الزيارات الخاصة بي على وجل؛ كي أُطالع ما ينتظرني من عمل الغد. لم يكن يومًا ثقيلًا، حتى وإن استوعب مكالمة أو مكالمتَين في الصباح، ولكني لم أكن على بيِّنة من أمري، هل سأستطيع الخروج من المدينة أم لا، حتى وقعَت عيناي على اسم بيرتون بالقرب من نهاية الصفحة. يعيش السيد بيرتون في أحد المنازل القديمة في الجانب الشرقي من شارع بوفري، وهو يبعُد مسافةً أقلَّ من خمس دقائق من مسكنِ ثورندايك الكائن في شارع كينجس بينش ووك، ولحُسن الحظ إنه مصاب بمرضٍ «مُزمِن»؛ ومن ثَم يمكن تركه حتى نهاية اليوم. فحين أنتهي من السيد بيرتون، يمكنني أن أزور صديقي وربما تسنح الفرصة وألْتقيه في الطريق وهو عائدٌ من المستشفى. وأيضًا، ربما تسنح لي الفرصة وتطول المحادثة معه، وباستئجار سيارةٍ جيدة، ستتسنى لي العودة في الوقت المناسب؛ كي أُنجز عمل المساء.

حينئذٍ شعرتُ بالارتياح. فقد انزاحت الهموم من على صدري، حين خطَرَ ببالي أن أتقاسم المسئوليات مع صديقٍ أثِق في رأيه ثقةً كاملة. لمَّا دونت هذا الموعد في قائمة الزيارات، نهضتُ وقد ارتفعت معنوياتي كثيرًا، وأفرغت غليوني تزامنًا مع إعلان الساعة عن منتصف الليل بنفادِ صبر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤