الفصل العاشر

عندما يصير الصياد فريسة

اتَّسمت حافلات الركاب في تلك الأيام ببطء السرعة. كان إيقاع سيرها المعتاد مثل هرولةٍ متثاقلة، وتتباطأ هذه السرعة أكثر في الطرق المكتظة بالمارة بسبب الوقوف المتكرر. بأخذ هذه الحقائق في الاعتبار، نظرت خلفي بين الفينة والأخرى ونحن نتجه شَمالًا، على الرغم من أن انتباهي بدأ يتحول تدريجيًّا من احتمالية التعقُّب من بعيد، إلى الأحداث التي جرَتْ في عملية الاستكشاف الأخيرة.

لم يكن من الصعب رؤية انبلاج أسارير ثورندايك بنتائج البحث، ولكن باستثناء الخطاب، الذي لا شك أنه سيوسع دائرة التحريات والمتَّهمين المحتملين، لم أستطع أن أدرك السر في ابتهاج ثورندايك بأيٍّ من الآثار التي عثرنا عليها. فقد عثرنا على نظارة على سبيل المثال. والأرجح أنها النظارة التي كان يرتديها السيد جريفز. ولكن ماذا بعد؟ ولا يُحتمل البتة أن نتمكن من معرفة جهة تصنيع النظارة، وإن عرفناها، فما يزال من غير المحتمل أن تعطينا أي معلومات يمكن أن تفيدنا. فجهات تصنيع النظارات عادةً لا تكون على علاقات وطيدة بعملائها.

وأما الأشياء الأخرى، فلم أتمكن من التوصل إلى أي نتيجة بشأنها. من الواضح أن العودين الصغيرين كان لهما استخدام يعلمه ثورندايك، ويكشفان عن معلومات — عبر الاستدلال — عن فايس أو جريفز أو السيدة شاليبام. ولكني لم أرَ عيدانًا بهذا الشكل قط، ولم أستدل منهما على شيء. ثم تلك الزجاجة التي اهتم ثورندايك لأمرها كثيرًا، فإني لم أرَ فيها أي فائدة. وفي الحقيقة، هي تشير إلى أن أحد أفراد المنزل له علاقة بالمسرح، ولكن لم تحدد من يكون ذاك الشخص. بالتأكيد ليس هو السيد فايس؛ حيث إن مظهره بعيد كل البعد عن مظهر الممثلين. وعلى أي حال، لم أستدلَّ من الزجاجة والملصَق الذي عليها على معلومةٍ مفيدةٍ سوى أنه يمكن استدعاء السيد فوكس واستجوابه، ولكن بداخلي إحساس يؤكد لي أن هذا ليس هو الذي جال في خاطر ثورندايك بشأنهما.

شغلت هذه الأفكار عقلي حتى اتجهت الحافلة — بعدما عبرت جسر لندن وشارع كينج ويليام — إلى شارع مانشن هاوس المكتظ بالحركة المرورية. وهنا، نزلتُ وتحوَّلت إلى حافلة ذاهبة إلى شارع كينزنتون؛ وفيه سرت جهة الغرب والسعادة تغمرني، وأخذت أنظر إلى الشوارع المزدحمة، وأقضي وقتي أتأمَّل في فترة ما بعد الظهيرة التي خططتُ لها، كما أني تفكرت كيف أن ترتيبي الجديد مع ثورندايك سيربطني ببعض الالتزامات الشخصية المثيرة للاهتمام كثيرًا.

تعذَّر معرفة الأحداث التي ربما حدثت في ظل الظروف الأخرى، ولم تكن ثمة فائدة من التكهُّن، والحقيقة أن رحلتي انتهت بحالة من الإحباط. فبعد أن وصلت متلهفًا إلى المنزل القريب إلى قلبي في إندسلي جاردنز، أخبرتني خادمة متعاطفة أن العائلة قد خرجت، وأن السيدة هورنبي قد ذهبت إلى الريف ولن تعود إلى المنزل إلا في الليل، وأن ابنة أختها الآنسة جولييت جيبسون — وهذه أكثر ما يهمني — قد رافَقَتْها.

لا يحق لرجل أتى إلى الغداء من دون موعد أو إعلان عن نيته مسبقًا كي يتأكد من نوايا أصدقائه؛ أن يمتعض إذا قُدِّر له ألَّا يجد أحدًا في المنزل. وبهذه الأفكار الفلسفية، ابتعدت عن المنزل في حالة استياء عميق، وأتساءل عن الذي دفع السيدة هورنبي إلى أن تختار أول يوم إجازة لي كي تذهب في نزهة إلى الريف، والأهم من ذلك، لماذا احتاجت أن تأخذ معها حبيبتي جولييت الجميلة؟ إنه حظ عاثر (لو كانت السيدة الكبيرة وحدها هي الغائبة، لاستطعت أن أتدبر أمري جيدًا)، وبما أنني لن أستطيع العودة إلى تيمبل من فوري، فقد هِمتُ على وجهي في الطرقات.

بدافع الغريزة التي تتجلَّى عندي بعد الساعة الواحدة ظهرًا على وجه الخصوص، وجدت نفسي متجهًا إلى طريق برومبتون، وفي النهاية وجدتني جالسًا على طاولة في مطعم كبير، من الواضح أنه مصمَّم لتلبية احتياجات السيدات اللاتي أتيْنَ من مسافاتٍ بعيدة كي يمارسْنَ الرياضة النسائية؛ ألَا وهي التسوق. وبينما أنتظر إحضار وجبة الغداء، جلست من دون حَراكٍ أقلِّب صفحات الجريدة الصباحية، وأتساءل عن الذي سأفعله في باقي اليوم، ولم يمرَّ وقتٌ طويل حتى وقعَت عيني على إعلانٍ عن حفل مسائي في المسرح الكائن في ميدان سلون. لم أحضر مسرحًا منذ وقت طويل، وبما أن المسرحية من الكوميديا الخفيفة، فقد رأيت أنها تُرضي ذوقي غير النقدي؛ ولذا قررت أن أخصِّص فترة ما بعد الظهيرة لتجديد صلتي بالدراما. ومن ثم بمجرد أن فرغت من وجبة غدائي، قطعت طريق برومبتون واستقللت حافلةً أوصلَتْني عند باب المسرح مباشرةً. وبعد دقيقتَين، وجدت نفسي جالسًا في مقعدٍ ممتازٍ في الصف الثاني داخل صالة العرض، وقد نسيت خيبة أملي الأخيرة وتحذيرات ثورندايك.

أنا لست من هواة المسرح المتحمسين. وبالنسبة إلى العروض الدرامية، فأنا أميل إلى عدم إيلائها وظيفة أكثر من كونها مصدر ترفيه لي. فأنا لا أذهب إلى المسرح بدافع التوجيه أو الارتقاء بالنظرة الأخلاقية. بل أذهب بدافع المكافأة، فإرضائي ليس بالأمر الصعب. إنني أقدِّر المسرحيات البسيطة التي تتفق مع ذوقي غير المعقَّد، ويمكنني أن أستمتع لأقصى حدٍّ بالعرض المسرحي؛ وفي هذا العرض، حين أُسدِل الستار الأخير ونهض الجمهور، أخذت قبعتي من مكانها غير المستقر والتفتُّ كي أخرج، وأنا يجتاحني شعور أنني استمتعت بفترة ما بعد الظهيرة أيما استمتاع.

لما خرجت من المسرح، وسرت وسط حشود الجماهير، وجدتُني أمام باب أحد المقاهي. أرشدتني الغريزة — غريزة الساعة الخامسة هذه المرة — إلى الدخول؛ حيث إننا مخلوقات تُكوِّن عادات، لا سيما عادة احتساء الشاي. وجدت طاولة فارغة في زاوية منخفضة الإضاءة وليست بعيدة عن مكتب الدفع؛ وما كادت تمر دقيقة على جلوسي حتى مرَّت بي سيدة إلى الطاولة الأبعد. ولما مرت من خلفي، لم أرمقها إلا بنظرة واحدة وهي تقترب، ولكن هذه النظرة أرتني أنها ترتدي ملابس سوداء وترتدي حجابًا وقبعة مطرزين، كما أنها تحمل كوب حليب وكعكة، وتعلق في ذراعها مظلة وسلة صغيرة من الواضح أنها تحتوي على بعض أنواع أدوات التطريز. والحق أني لم أُعِرْها اهتمامًا كبيرًا حينذاك؛ حيث إنني انخرطت في أفكاري المتململة بشأن المدة التي سأمكثها حتى تدرك النادلة أني موجود.

بناءً على الوقت في الساعة المعلقة على الحائط، مر ثلاث دقائق وربع حتى أتت شابةٌ شاحبة الوجه إلى طاولتي، ورمقَتْني بنظرةٍ متجهِّمةٍ وكأنها تسأل ماذا أريد في هذه الساعة. طلبت منها بكل تواضعٍ أن تأتيني بإبريق شاي؛ ومن ثم استدارَت على كعبها (وقد تآكل جزءٌ كبير من أحد جوانبه) ومن ثم أبلغت طلبي إلى سيدةٍ خلف منضدة تعلوها بلاطة من الرخام.

يبدو أن السيدة خلف المنضدة متساهلة، وفي أقل من أربع دقائق عادت النادلة متجهِّمة الوجه، ووضعت على الطاولة أمامي إبريقًا من الشاي وإبريقًا من حليب، وفنجانًا وصحنًا، وإبريقًا من الماء الساخن، وقد انسكب على الطاولة قدر ضئيل من الحليب. ثم غادرت مرة أخرى في حالةٍ من الامتعاض.

وما كدت أبدأ في تقليب الشاي في الإبريق، وأصُب الفنجان الأول حتى شعرت بشخص يصطدم بكرسيِّي اصطدامًا خفيفًا، وسمعت صوت صلصلة خفيفة على الأرض. التفتُّ ورأيت السيدة — التي رأيتها وهي تدخل — منحنيةً خلف كرسيِّي مباشرةً. يبدو أنها فرغت من وجبتها المتواضعة، وهمَّت بالخروج، إلا أنها أسقطت سلتها الصغيرة التي رأيتها متدليةً في ذراعها، وسرعان ما أفرغت السلة محتوياتها بالكامل على الأرض.

والآن، لا بد أن كل فردٍ لاحظ مرونة الجمادات حين تسقط على الأرض، وكأنها أصيبت بمسٍّ شيطاني، ولا بد أنهم لاحظوا المكر الواضح وهي تكتشف أصعب الأماكن وصولًا وتتدحرج إليه. وهذا الموقف مثال على ما أقول. فقد احتوت هذه السلة على مواد لأعمال التطريز الشرقي، وما كادت تبلغ الأرض حتى أُفرغت منها محتوياتها، وكأن كل قطعة منها مسَّها شيطان يدفعها بسرعة متهورة إلى زاوية نائية يصعب الوصول إليها، بحيث تبتعد إلى أبعد مسافة ممكنة.

بما أنني الرجل الوحيد — والشخص الوحيد تقريبًا — القريب من الحادث، فقد آل إليَّ واجب الإنقاذ؛ ومن ثَم جثوت على ركبتيَّ ويديَّ ولم آبَه للسروال الذي لا يزال جديدًا، وأخذت أحبو تحت الطاولات والكراسي؛ كي تصل يدي وتمسك ما بُعثر من تلك السلة. استعدت كُرةً من الخيط السميك أو المجدول من زاويةٍ مظلمةٍ وقذرة، بعدما ارتطم رأسي بزاوية إحدى الطاولات، وجمعت كميةً كبيرةً من حبات الخرز الكبيرة التي تُنفَّذ بها هذه الصنعة المُضجِرة، وقد توجهت في كل الاتجاهات، وفي النهاية أتيت حبوًا على يديَّ وقدميَّ ومعي حفنة كبيرة من الأشياء المستعادة، وأمسيتُ على معرفة جيدة بصلابة قائم الطاولة المصنوع من حديد الزهر، حين يرتطم به رأس الإنسان.

كانت صاحبة الأغراض المسترَدَّة في حرج بالغ بسبب الواقعة والانزعاج الذي تعرضت له، وفي الحقيقة أمست في حالة ضيق بالغ من دون داعٍ. ما استطاعت أن تخفي رجفة يدها التي تحمل السلة التي صببت فيها الأغراض المرتجعة، وحين تحرك لسانها بكلمات الشكر والاعتذار بلكنة غريبة نوعًا ما، رمقتها بنظرة علمت منها كم هو شحوب وجهها. رأيت هذا القدر من الشحوب على الرغم من الضوء الخافت في ذلك الجزء من المقهى، والحجاب المطرز الذي يغطي وجهها، وقد رأيت أنها امرأة جميلة لها شعر أسود كثيف وخشِن، وحاجبان أسودان عريضان يكادان يتقابلان فوق أنفها، ويُحدِثان تبايُنًا مع بشرتها الشديدة البياض. ولكن بالطبع لم أحدق النظر فيها. وبعدما أرجعت لها أغراضها وتلقيت منها كلمات الثناء، عُدت إلى مقعدي وتركتها تذهب في سبيلها.

أمسكت مقبض إبريق الشاي مرة أخرى وحينئذٍ اكتشفت شيئًا غريبًا. وجدت مكعَّب سكر في قعر فنجان الشاي. الغالبية لن ترى ما يثير العجب في ذلك. ولربما افترضوا أنهم وضعوه في الفنجان ونسوه، وسيشرعون في صب الشاي. لكن حينذاك لم أكن أضيف السكر إلى الشاي، وهذا يعني أنني لست مَن وضع المكعَّب. ولذا افترضت أنه سقط من النادلة من دون قصد؛ ومن ثم أخرجته ووضعته على الطاولة، وملأت الفنجان وأضفت الحليب، وأخذت رشفةً أوليةً كي أختبر درجة الحرارة.

ما كدت أُنزل الفنجان من على شفتي، حتى تصادف أن نظرتُ في المرآة المواجهة لطاولتي. بالطبع المرآة تعكس الجزء الذي خلفي في المقهى، ويشمل مكتب الخزينة حيث تقف عليه صاحبة السلة كي تدفع حسابها. وبيني وبين المرأة ثريا تضيء بالغاز وتلقي بضوئها خلف ظهري، ولكنها تُلقيه على وجه المرأة، وعلى الرغم من أنها ترتدي حجابًا، فقد رأيت أنها لم تُحول نظرها عني، بل إنها تراقبني باهتمام وعلى وجهها تعبير غريب، إنه تعبير يمزج بين التوقُّع والحذر. ولكن هذا ليس كل شيء. بادلتها تلك النظرة المقصودة — ولكن من دون أن تلحظ هي؛ حيث إن وجهي المنعكس في المرآة في مكان مظلم — وفجأة أدركت أنها لا ترمقني بتلك النظرة الراسخة إلا من عينها اليمنى، وأن عينها الأخرى تنظر باتجاه كتفها الأيسر. باختصار، إنها تعاني حوَلًا تباعُديًّا في عينها اليُسرى.

وضعتُ فنجان الشاي وقد سرت في أوصالي رعشة من المفاجأة، وتسللت قشعريرة القلق والحذر فجأةً إلى جسدي. ذكَّرني التفكير للحظة أنها حين تحدثت إليَّ منذ لحظات قليلة، قد نظرت إليَّ بعينيها ولم أرَ فيهما أدنى علامة على الإصابة بالحوَل. عدت بأفكاري إلى مكعب السكر وإبريق الحليب المكشوف ورشفة الشاي التي ابتلعتها لتوِّي، ولا أكاد أتبين ما أنوي فعله، ولكني وقفت على قدميَّ والتفتُّ بحيث أكون مواجهًا لها. ولكن حين وقفت، انتزعت الباقي وخرجت من المقهى مُسرعة. ومن خلال زجاج الباب، رأيتها تقفز على مدوسة قدم في عربة مارة وتعطي السائق بعض التوجيهات. حينئذٍ رأيت الرجل يضرب الحصان بالسوط، ولما وصلتُ إلى الباب، رأيت العربة تسير بسرعة تجاه شارع سلون.

وقفت مترددًا. فأنا لم أدفع الحساب بعد، ولم أستطِع الركض خارج المقهى لئلا أُحدث جلبة، كما أن قُبَّعتي وعصايَ لا تزالان على الحامل المقابل لمقعدي. يجب أن يُقتفى أثر المرأة، ولكني افتقرت إلى الرغبة في ذلك. وإذا كانت رشفة الشاي التي ابتلعتها غير ضارة، فلا بأس من ذلك وقد تخلصت ممن يتعقَّبني. وعلى حد ما يهمني، فقد طُويت الواقعة. ولذا عدت إلى مقعدي، وأخذت مكعب السكر الذي لا يزال قابعًا على الطاولة، ولففته ووضعته بعناية في جيبي. ولكني فقدت شهيتي إلى الشاي في تلك اللحظة. كما أنني لم أستحسن البقاء في المقهى، كي لا يأتي جاسوس آخر ويعرف كيف أتصرف. وعلى إثر ذلك، طلبت الفاتورة ودفعت حسابي على مكتب الخزينة وغادرت.

كما سيُلاحَظ، أكاد أجزم أن السيدة ذات الرداء الأسود كانت في أثري طيلة هذا الوقت، منذ أن كنت في كينزنتون حتى أتيت إلى هذا المقهى، بل إنها في حقيقة الأمر ليست سوى السيدة شاليبام. الظروف لا تشير إلى غير هذا الاستنتاج. ففي اللحظة التي لاحظت فيها حوَل العين اليسرى، بتُّ متأكدًا من هويتها. وحين وقفت أمام تلك المرأة، أثارت النظرة الخاطفة على وجهها إحساسًا غامضًا يذكرني بشيء سبق أن لاحظته وأنا شبه واعٍ، ونسيته من فوري. ولكن رؤية ذلك الحوَل المميَّز أيقظ في ذاكرتي هذا الشيء وفسَّره. فقد أمسيت متأكدًا من أن هذه السيدة ليست سوى السيدة شاليبام.

على الرغم من ذلك، بدت المسألة برمتها لغزًا محيِّرًا. وأما مظهر المرأة، فلم يكن فيه ما يثير العجب. فالشعر الخشن الأسود يمكن أن يكون شعرها أو شعرًا مستعارًا. كان الحاجبان مرسومين، وأدوات التجميل سهَّلت هذه المهمة كثيرًا، والحجاب المطرَّز سهَّلها أكثر. لكن السؤال الأهم هو ما الذي أتى بها إلى هنا؟ ولماذا تنكَّرت بهذه الطريقة في هذه اللحظة بالذات؟ والأهم من ذلك، كيف توفَّر لها مكعب سكر أشكُّ في أنه مسموم؟

طويت أحداث هذا اليوم، ولكن كلَّما تفكرت فيها، زاد تعقيد فهمها. وعلى حد علمي، لم أرَ أحدًا يتعقَّب الحافلة سواء على قدمه أو في مركبة، وقد ظللت أراقب الأمر بعناية، ليس في البداية فقط، وإنما ظللت أراقبه ردحًا من الزمن. وطيلة هذا الوقت، لا بد أن السيدة شاليبام كانَت في أثري. ولكن كيف؟ إن كانت تعلم أني أنوي ركوب الحافلة، فربما ذهبت واستقلَّتها من محطةٍ قبل محطتي. ولكن المؤكد أنها لم تعلم؛ كما أنها لم تستقلَّ الحافلة قبلي؛ حيث إننا راقبنا الحافلة وهي تقترب من مسافةٍ طويلة. خطر على بالي أنها ربما كانت مختبئة في المنزل واسترقَت السمع حين ذكرت وجهتي لثورندايك. ولكن هذا لا يحل اللغز؛ حيث إنني لم أذكر مكانًا غير كينزنتون. في الحقيقة، ذكرتُ اسم السيدة هورنبي، ولكن على افتراض أن أصدقائي معروفون بالاسم لدى السيدة شاليبام، أو حتى على افتراض أنها بحثت عن الاسم في الدليل، هذا احتمال بعيد ولا يجدر التفكير فيه.

لمَّا لم أصل إلى تفسير مُرضٍ، كان للغوص في الأفكار نفع؛ حيث إن عقلي انشغل عن التفكير في رشفة الشاي المشئومة. كذلك لم يستمر شعوري بالقلق بعد الصدمة الأولى. فالقدر الذي ابتلعته ليس كبيرًا؛ حيث إن الشاي كان أشد حرارة مما أتحمل، ثم إنني تذكرت أنه حين أخرجت مكعب السكر، قلبت الفنجان رأسًا على عقب على الطاولة؛ ومن ثَم لن يبقى شيءٌ جامد فيه. ثم إن مكعب السكر نفسه طمأنني، لأنه لو أضيف إليه سُم لَما كانت لتستخدم سُمًّا ضعيف المفعول، بل ستستخدم سُمًّا أقوى. وبات مكعب السكر في جيبي، فقد حفظته لفحصه فيما بعد في وقت راحتي، وارتسمت ابتسامة كدرة على شفتيَّ حين فكرتُ في أنه ربما لا يحتوي على أي سُم.

حين غادرت المقهى، سرت في شارع سلون وفي نيتي فعل ما توجَّب عليَّ فعله في بداية اليوم. نويت التيقن من أنه لا أحد يمشي في أثري. ولولا ثقتي التي لم تكن في محلها، لربما تيقنت من ذلك بمنتهى السهولة قبل أن أذهب إلى إندسلي جاردنز؛ ولكن الآن، وبعدما استنار عقلي بتجربةٍ صادمة، شرعت في الأمر بحذر منهجي. لا يزال الوقت في وَضح النهار، ولا حاجة إلى إضاءة المصابيح في المقهى إلا بسبب سوء تصميم البناء، وأُفول فترة ما بعد الظهيرة، ولكن حين خرجت إلى مكانٍ مفتوح، كنت أرى لمسافةٍ بعيدةٍ تمكنني من الاطمئنان على سلامتي. وعندما وصلت إلى ناصية شارع سلون، عبرت شارع نايتسبريدج، ووقتما دخلت إلى حديقة هايد بارك، عمدت إلى بحيرة سيربنتين. سرت بطول الضفة الغربية للبحيرة، وسلكت أحد الممرَّات التي تؤدي إلى معلَم قوس الرخام، وسرت بطول ذلك الممر بسرعة تُجبر أي متقفٍّ أن يسرع كي يبقيني تحت ناظرَيه. وفي منتصف الطريق في منطقة عشبية واسعة، توقفت للحظات كي أنظر إلى الناس القليلين الآتين في طريقي. ثم التفت فجأةً جهة اليسار وعمدت مباشرةً إلى بوابة فيكتوريا، ولكن في منتصف الطريق، عرَّجت مرة أخرى على منطقة بها أشجار واختبأت خلف جذع شجرة، ونظرت مرة أخرى في المارِّين بطول الممرات. كان جميعهم على مسافةٍ بعيدة، ولم أرَ أحدًا آتيًا في الطريق الذي أسير فيه.

أمسيتُ أنتقل من خلف شجرة إلى أخرى حذِرًا، وحين عبرت المنطقة المليئة بالأشجار، قطعت جسر سيربنتين بسرعة كبيرة، وأسرعت بطول الضفة الجنوبية الواقعة يسار الحديقة وعلى مقربة من مبنى أبسلي هاوس. ومن هناك، سرت بسرعة كما أنا بطول شارع بيكاديلي مُتخفِّيًا وسط الحشود المارة، بمهارةٍ أَصقَلَتها السنون الطويلة من التجوُّل في شوارع لندن، وعبرت وسط الحشود المتجمعة عند السيرك، وعمدت إلى شارع ويندميل، وبدأت أمشي بمسارٍ متعرِّج بين الساحات والشوارع الضيقة في سوهو. حين عبرت طريقَي سيفن دايلز ودروري لين، مررت عبر الشوارع الخلفية والأزِقَّة العديدة التي ملأت المنطقة الواقعة جنوبَيْ نُزُل لينكولن حينذاك، ثم مررت بشارع نيوكاسل وشارع هوليويل وشارع هاف مون ألي، ومنها إلى شارع ستراند؛ ومن ثَم عبرته على الفور، وفي النهاية دخلت إلى منطقة تيمبل عبر شارع ديفيرو كورت.

حتى ذلك الحين، لم أتخلَّ عن احتياطاتي. فكنتُ أتنقَّل بين الساحات مُسرعًا، وأتمشَّى في المداخل المظلمة والممرَّات غير المتوقَّعة، التي لا يعرفها سوى القلة القاطنين في منطقة تيمبل، ولم أخرج إلى منطقة منفتحة إلا في النهاية، حيث لا مهرب من المرور من شارع كينجس بينش ووك الواسع. وفي منتصف الدَّرَج، وقفت بعض الوقت في الظل أراقب القادمين من النافذة التي على السلم، وحين شعرت أني مطمئن إلى أنني اتخذت كل سبل الحذر الممكنة، فتحت الباب بالمفتاح ودخلت إلى المسكن.

وجدت ثورندايك قد سبقني إليه، وحين دخلت، نهض كي يرحِّبَ بي وقد رأيت في وجهه تعبيرات الارتياح حال رؤيتي.

قال: «تسعدني رؤيتك يا جيرفيس. لقد قلقت عليك كثيرًا.»

سألته: «ولمَ القلق؟»

«لأسباب عديدة. السبب الأول هو أنك الخطر الوحيد الذي يهدد هؤلاء الناس، على حد ما يعلمون. السبب الثاني أننا ارتكبنا خطأً فادحًا. فقد غفلنا عن حقيقة كان يجدر بنا أن نراها من فورنا. ولكن كيف سارت الأمور معك؟»

«أفضل مما توقعت. فتلك المرأة الطيبة كانت في أثري كظلي؛ أو على الأقل أحسبها فعلت ذلك.»

«لا شك عندي في أنها فعلت. فقد أُخذنا على حين غرة يا جيرفيس.»

«وكيف ذلك؟»

«سنأتي على ذكر هذا بعد قليل. ولكن أخبرني عن مغامراتك أولًا.»

أعطيته وصفًا كاملًا لتحرُّكاتي منذ وقت افتراقنا وحتى وصولي إلى المنزل، ولم أُغفِل أي حادثة تمكَّنت من تذكرها، وقلت إنني حاولت جهدي أن يكون طريق عودتي مُلتَوِيًا.

علَّق وعلى شفتيه ابتسامة عريضة: «لقد تملَّصت ببراعة كبيرة. وأظنه قد عجز أي أحد عن تعقُّبك، ولكن ربما أتعبتَ نفسك سُدًى. وربما بات من يتتبَّعك شريدًا. ولكنك أحسنت التصرُّف باتخاذ هذه الاحترازات؛ فربما تتبَّعك فايس.»

«ولكن إخاله في هامبورج، أليس كذلك؟»

«هل تظن ذلك؟ أنت شاب محل ثقةٍ كبيرةٍ بالنسبة إلى طبيبٍ شرعي ناشئ. بالطبع لا يسعُنا التأكُّد من عدم وجوده هناك، ولكنه حين أعطى هذا العنوان في الوقت الحالي، فهذا يشير بقوةٍ إلى افتراض أنه في مكان آخر. وما أرجوه ألَّا يكون قد تمكَّن من تحديد موقعك، ولكن بناءً على ما أخبرتني به عن طريقة عودتك، أظنُّك قد ضلَّلته، حتى وإن خرج في أثرك منذ أن كنتَ في المقهى.»

«أرجو ذلك أنا أيضًا. ولكن كيف تمكَّنَت هذه المرأة من أن تصاحبني كظلي هكذا؟ ما الخطأ الذي ارتكبناه؟»

ضحك ثورندايك ضحكة كدِرة. «لقد ارتكبنا خطأً لا مبرر له يا جيرفيس. فقد انطلقت في رحلتك من طريق كينينجتون بارك على متن حافلة عامة تسير على مهل، ولم يتذكر أحد منا ما الذي يوجد أسفل طريق كينينجتون بارك.»

قلت متعجبًا: «ماذا تعني بأسفله!» وكنت في حيرة تامة في هذه اللحظة. وفجأة، أدركت ما يرمي إليه، تعجبت: «بالطبع. ما أحمقني! هل تقصد خط السكك الحديدية الكهربي؟»

«نعم. هذا يفسر كل شيء. لا بد أن السيدة شاليبام راقبتنا من مكان ما ومشت في عقبنا حتى الطريق من دون أن ندري. فقد رأيت نساءً كثيراتٍ على مقربة منا وكلهن يسِرنَ في اتجاهنا. ولم يكن ثمة ما يميزها عن الأخريات ما لم يكن بينكما سابق معرفة؛ ومن ثَم لا تستطيع التعرف عليها إذا ارتدت حجابًا وبقيَت على مسافةٍ مناسبة. أو على الأقل لا أحسبك تستطيع.»

وافقته: «لا، بالتأكيد لن أستطيع. فلم أرَها إلا في غرفة شِبه مظلمة. ومع ارتداء ملابس الخروج والحجاب، لا أستطيع البتة التعرف عليها من دون نظرة فاحصة عن قرب. أضف إلى ذلك التنكُّر أو مساحيق التجميل.»

«لم تكن مُتنكِّرة حينذاك. ولا أحسبها تأتي متنكرة إلى منزلها خشية أن يوقفها أحد ويسألها عن هُويتها. وأظن أنه يمكننا التسليم بأنه لم يكن هناك تنكُّر فعلي، على الرغم من أنها ربما وضعت قُبَّعة مظلَّلة وحجابًا، وهذا ما حجب عن كِلَينا القدرة على تمييزها من بين الأخريات في الشارع.»

«وما الذي حدث بعد ذلك في رأيك؟»

«أظنها مرت بنا ببساطة — وربما كانت على الجانب الآخر من الطريق — حيث وقفنا ننتظر الحافلة، ثم انعطفت إلى طريق كينينجتون بارك. وربما خمَّنَت أننا ننتظر الحافلة؛ ومن ثَم عبرت الطريق في الاتجاه الذي تسير فيه الحافلة. حينئذٍ، تمر الحافلة بها، ثم تصعد أنت على متن الحافلة بحيث تراك هي بوضوح وتصير أنت تراقب في الاتجاه الخطأ. بعد ذلك، تُسرع هي الخُطى قليلًا وفي غضون دقيقة أو دقيقتين تصل إلى محطة كينينجتون التابعة لسكك حديد جنوب لندن. وفي دقائق معدودة، تستقل هي قطارًا كهربيًّا يسير بسرعة أسفل الشارع الذي تحبو فوقه الحافلة. إخالها نزلت في محطة بورو، أو ربما خاطرت بفرصتها أكثر ونزلت في محطة مونيمنت، ولكنها على أي حال ستنتظر الحافلة التي تستقلها، ثم تشير إليها وتركب. هل أفترض أن الحافلة أقلَّت بعض الركاب في الطريق؟»

«يا إلهي، نعم. فكانت الحافلة تتوقف كل دقيقتين أو ثلاث كي يستقلها راكب أو ينزل آخر منها، ومعظمهم من النساء.»

«جميل، إذن يمكننا اعتبار أنه حين وصلتَ إلى مانشن هاوس، كانت السيدة شاليبام ضمن ركاب الحافلة. وأظنه موقفًا غريبًا للغاية.»

«نعم، اللعنة عليها! ما أحمقنا؛ إذ لا بد أنها ترانا كذلك!»

«لا شك. لكن هذا هو الجزء الوحيد المطَمْئن في القضية. ولا بد أنها اعتبرتنا غِرَّين. ولكن لنكمل. بالطبع سافرَت في الحافلة إلى كينزنتون، ومن المفترض أنك كنت في الحافلة في المرتين؛ ومن ثم تمكنتَ أنت من رؤية كل مَن ركب وتفحصتَ مَن بداخل الحافلة، وحينئذٍ تتبعتكَ إلى إندسلي جاردنز، وربما رأَت المنزل الذي ذهبتَ إليه. وبعد ذلك تعقَّبتكَ حتى المطعم وربما تناولت غداءها فيه.»

قلت: «هذا احتمال وارد. فقد كان في المطعم غرفتان، وأكثر مَن فيهما من النساء.»

«بعد ذلك، ظلَّت في أثرك حتى شارع سلون، وبما أنك ظلَلتَ في الجزء المكشوف من الحافلة، فربما ركبت هي بداخلها. أما بالنسبة للمسرح، فلا بد أنها رأتها فرصة وَهَبها الرب إياها؛ ترتيب أعددتَه أنت من أجل راحتها.»

«لماذا؟»

«فكِّر في المسألة يا عزيزي. فهي لا تحتاج سوى أن تقتفيَ أثرك وتطمئنَّ أنك تجلس في مقعدك، وهذا ما فعلته أنت، ثم تتركك إلى أن تحتاج إليك. حينذاك، تمكَّنَت هي من الذهاب إلى المنزل والإعداد لدورها؛ ومن ثم وضعت خطة عمل — وربما ساعدها السيد فايس — وجهَّزت نفسها بالوسائل والأدوات اللازمة، ثم ذهبت كي تكون في أثرك.»

حاججته: «هذه افتراضات كثيرة. إنك تفترض على سبيل المثال أنها تعيش على مسافة قريبة من ميدان سلون. وإلا استحال عليها أن تُعِد كل هذا.»

«بالضبط. ولهذا أضع هذا الافتراض. ولا تظن أنها معتادة على حمل مكعبات السكر في جيبها دومًا. وإذا لم تكن معتادة على ذلك، فلا بد أنها حصلت عليها من مكان ما. ثم حبات الخرز تشير إلى خطة محكمة الإعداد، وكما قلت لتوي، ربما لم تكن متنكِّرة حين قابلَتنا في كينينجتون لين. وكل هذه الملابسات تشير إلى أنها تعيش في مكان ليس ببعيد عن ميدان سلون.»

قلت: «على أي حال، كانت مخاطرة كبيرة. فلربما غادرتُ المسرح قبل أن تعود.»

وافقني ثورندايك: «كلامك صحيح. ولكن المرأة تحب المخاطَرة. ولو كان من يتتبعك رجلًا، لظل ملازمًا لك بمجرد أن يجدك غافلًا. ولكنها كانت مستعدَّة للمخاطَرة. فقد خاطرت لما استقلَّت السكك الحديدية، وقد نجحت؛ وخاطرت بمكوثك في المسرح، وقد نجحت أيضًا. وقد خمَّنت أنك ستحتسي الشاي بعد خروجك من المسرح، وقد أصاب تخمينها هذه المرة أيضًا. ثم خاطرت مرة أخرى، وما كان لها أن تخاطر، فقد افترضت أنك تحب السكر على الشاي، ولكنها أخطأت هذه المرة.»

علقت: «إننا نتحدث وكأن السكر قد أُعِد مُسبقًا.»

«نعم. تفسيرنا قائم على الافتراض بالكامل، وقد يكون كله خطأً. ولكنه مُتَّسقٌ مع الملابَسات، وإذا وجدنا أي مادة سامَّة في السكر، فسيكون من المنطق أن نفترض صحة تفسيرنا. فالسكر اختبار بالغ الأهمية. وإذا أعطيتني إياه، فسنصعد إلى المختبر ونُجري عليه اختبارًا أو اختبارَين تمهيديَّين.»

أخرجت مكعب السكر من جيبي وأعطيته إياه؛ ومن ثَم أخذه وقرَّبه من مصباح غاز، وفحصه بالعدسة في ضوء المصباح.

قال: «لا أرى أي بلورات غريبة على السطح، ولكن الأفضل أن نحوله إلى محلول ونحلله بطريقة منهجية. إذا كان يحتوي على سم، يمكننا افتراض أنه سيكون من مادةٍ شِبه قَلَوية، ولكني سأختبره بحثًا عن الزَّرنيخ أيضًا. ولكن المؤكد أن رجلًا بعقلية فايس سيستخدم سُمًّا من مادة شبه قلوية؛ لأنها أصغر وقابلة للتحلل بسرعة. وما كان ينبغي أن تحمل هذه القطعة الملفوفة في جيبك. فمن الناحية القانونية، قد يتعارض هذا الإجراء مع قيمتها باعتبارها دليلًا. فالأجسام المشكوك في أنها تحتوي على مادة سامَّة ينبغي عزلها وحفظها من التلامس، مع أي شيءٍ يمكن أن يؤديَ إلى التشكيك في التحليل. ولكن هذا لا يهمنا كثيرًا؛ حيث إننا لا نحتاج التحليل إلا لجمع معلومات لنا نحن، ويمكننا التحقُّق من حالة جيبك. ولكن لا تنسَ هذه القاعدة في المرات القادمة.»

صعدنا إلى المختبَر، حيث شرع ثورندايك من فوره في تحليل مكعب السكر في كَمِّية محسوبة من المياه المقطَّرة، باستخدام حرارةٍ ذات درجة منخفضة.

قال: «قبل أن نضيف أي مادة حمضية أو أي مادة جديدة، سنبدأ بإجراء مبدئي بسيط لاختبار المحلول. فالسكر عامل مُشوش، ولكن بعض المواد القلوية ومعظم السموم المعدنية، باستثناء الزرنيخ، لها مذاق مميَّز للغاية.»

غمس قضيبًا زجاجيًّا في المحلول الدافئ ووضعه بحذر شديد على لسانه.

مسح فمه بمنديله جيدًا، صاح: «أها! غالبًا ما يكون للطرق البسيطة قيمة كبيرة. فقد تبدد الشك لديَّ بشأن ما يوجد في هذا السكر. وإني أنصح أخي المثقَّف أن يتذوق النكهة. ولكن كن حريصًا. فكمية صغيرة منه يمكن أن يترتَّب عليها عواقب وخيمة.»

أخذ قضيبًا جديدًا من على الرف وغمسه في المحلول وأعطاني إياه. وضعته بحذر على طرف لساني، وأدركت على الفور إحساس التنميل الغريب المصحوب بالشعور بالخَدَر.

قال ثورندايك: «ما قولك؟»

أجبته مترددًا: «أكونيت.»

وافقني: «أجل، أكونيت، أو ربما أكونيتين. وأظن أن هذا يعطينا المعلومات التي نريدها. ولا حاجة إلى إجراء تحليل كامل، على الرغم من أنني سأُجري فحصًا نوعيًّا فيما بعد. تحس بقوة المذاق وتدرك ما مدى قوة تركيز المحلول. ومن الواضح أن مكعب السكر هذا يحتوي على جرعة كبيرة من السُّم. ولو تحلل السكر في فنجان الشاي، لاحتوت الكمية التي احتسيتها على جرعة من الأكونيتين كفيلة بأن تُرديك قتيلًا في بضع دقائق، وهذا ما يفسر العجلة التي كانت فيها السيدة شاليبام كي تخرج من المقهى. لقد رأتك تشرب من الفنجان، ولكن لا أحسبها رأتك وأنت تُخرج السكر منه.»

«لا، فما رأيته من فعلها يوحي بأنها لم ترَني. فقد كانت مُرتعِبة. وليست رابطة الجأش مثل صاحبها النَّذْل.»

«يا لك من محظوظ يا جيرفيس. ولولا ذُعرها، لانتظرتك حتى تصب الشاي، وأحسبها عزمت على ذلك، أو ربما أسقطت السكر في إبريق الحليب. وفي الحالتين، ستكون قد تناولت جرعة سامَّة قبل أن تلحظ أي خطأ.»

صِحت: «إنهما يليقان ببعضهما يا ثورندايك. فحياة الإنسان عندهما ليست أغلى من حياة ذبابة أو خنفساء.»

«نعم، هذا صحيح. إنهما محترِفان للقتل بأسوأ أنواع السموم، كما أنهما يتمتعان بالذكاء والحَيطة وسَعة الحيلة. هذان الشخصان يُمثِّلان تهديدًا على المجتمع. وما داما طليقين، فإن حياة الناس في خطر، ومن واجبنا ألَّا ندَعَهما طليقَين لوقتٍ أطول من اللازم. وبذلك ننتقل إلى نقطةٍ أخرى. الأفضل أن تبقى مستترًا لبضعة أيام.»

اعترضت: «أوه، هذا غير معقول. يمكنني الاعتناء بنفسي.»

قال ثورندايك: «لن أخالف كلامك، رغم أنني أستطيع ذلك. ولكن المسألة ذات أهمية بالغة، ولن نتمكَّن من تَوَخِّي أقصى درجات الحيطة. وأنت الوحيد الذي يمكن أن يقدم دليلًا يُدين هذَين الشخصَين. وهما يعرفان ذلك، ولن يدَّخرا جهدًا من أجل الخلاص منك؛ وربما باتا متأكدَين من فشل مخطَّط المقهى. والآن، حياتك غالية عليك وعلى شخص آخر نعرفه، وفوق هذا، فأنت الأداة الوحيدة لتخليص المجتمع من هذَين المجرمَين الخطيرَين. إضافة إلى ذلك، إن رآك أحدٌ بالخارج وربط بينك وهذا المسكن، فسيعلم يقينًا أن قضيَّته قيد التحقيق بالفعل. وإذا لم يكن فايس قد خرج من البلاد بالفعل، فسيخرج منها من فوره، وإذا فعل، فلن تتوانى السيدة شاليبام في اللَّحاق به، وقد لا نتمكن من إلقاء القبض عليهما. ولذا يجب أن تستتر وتتوارى عن العيون، والأجدر بك أن تكتب إلى الآنسة جيبسون، وتطلب منها أن تحذِّر الخدم من أن يعطوا أي معلوماتٍ عنك لأي شخص.»

سألت: «وما المدة التي سأمكثها في هذا الإفراج المشروط؟»

«لا أظن أنك ستمكث مدة طويلة. فنحن عندنا بداية مبشرة. وإذا حالفني الحظ، سأتمكن من جمع كل الأدلة التي أريدها في غضون أسبوع. لكن المسألة تنطوي على قدر من الحظ، ما يمنعني إعطاءك موعدًا محددًا. ومن المحتمل أني سلكت مسارًا خاطِئًا. لكني سأتمكن من إخبارك بمعلومات أدق في غضون يوم أو يومين.»

قلت عابسًا: «وهل سأخلع يدي من كل القضايا بالجملة؟»

أجابني: «لا، ليس بالجملة. يمكنك أن تدرس قضية بلاكمور. سأُسلمك كل المستندات، وأطلب منك كتابة ملخص للأقوال. عندئذٍ سيكون لديك كل الوقائع ويمكنك حل القضية بنفسك. سأطلب منك أيضًا أن تساعد بولتون في بعض العمليات التي تُلقي الضوء على المواضع الغامضة، وستجدها مُسلِّية وتثقيفية.»

اقترحت: «ماذا لو أن السيدة هورنبي اتصلت واقترحت أن تتناول معنا الشاي في الحديقة؟»

أردف ثورندايك بنبرة فيها مسحة من سخرية: «وتأتي بالآنسة جيبسون معها؟ لا يا جيرفيس، يجب ألَّا تأتي. ولا بد أن توضح لها أنت هذا الأمر. والأرجح عندي أن السيدة شاليبام قد علمت بشأن المنزل في إندسلي جاردنز، وربما يكون المكان الوحيد الذي تعرفه عنك؛ ومن ثم فالمؤكد أنها تراقبه هي وفايس إن كانا لا يزالان في إنجلترا. وإذا نجحا في إيجاد صلة بين ذلك المنزل وهذا المسكن، فبضعة تحريات ستُريهما الوضع الدقيق للقضية. ولذا، يجب ألَّا نلفت أنظارهما لنا قَدْر الإمكان. فقد كشفنا الكثير من أمرنا حتى الآن. أعلم أن الأمر صعب عليك، ولكن ما باليد حيلة.»

قلت له بقوة: «أوه، لا تظن أني أشكو. إذا كانت المسألة تتعلَّق بالعمل، فأنا حريص عليها بقدرك. فقد ظننت في البداية أنك لا تأبه إلا إلى سلامتي. أخبِرني متى سأبدأ مهمتي؟»

«صباح الغد. سأعطيك الملاحظات التي دوَّنتُها عن قضية بلاكمور ونُسَخًا من الوصية وأقوال الشهود، وحرِيٌّ بك أن تُعِد منها ملخصًا للأدلة مع إضافة إشارات إلى النتائج التي تقترحها. ثم إن معنا الأشياء التي جمعناها من مجمع نيو إن؛ إذ يجب فحصها ودراستها، وفيما يتعلَّق بهذه القضية، فإن معنا شظايا النظارة، والأفضل أن تُجمَع معًا في شكل أوضح، لعلنا نحتاج إلى تقديمها ضمن الأدلة. هذه المهام ستشغلك لمدة يوم أو يومَين، بالإضافة إلى بعض الأعمال المتعلقة بقضايا أخرى. والآن، لنترك الكلام عن العمل. لم تتناول عشاءك وكذلك أنا، ولكن يمكنني القول إن بولتون قد أعدَّ بعض الطعام. سننزل ونرى.»

نزلنا إلى الطابق السفلي؛ حيث قوبلَت توقُّعات ثورندايك بطاولة منظمة يضع عليها بولتون لمساته الأخيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤