الفصل الثاني عشر

الصورة

لم يكن يسهل عليَّ أن أكتسب طريقة التفكير التي نصحني بها ثورندايك. لكن على الرغم من محاولات إعادة ترتيب الوقائع الخاصة بقضية بلاكمور، كانت هناك واقعة ما انفكَّت تَبرُز على أنها الأهم بين كل الوقائع. وكلما حاولت التفكير في القضية مليًّا، اقتحمت الملابسات المحيطة بكتابة وصية جيفري بلاكمور أفكاري، ولا أستطيع إزاحتها من رأسي. كان المشهد في مسكن البواب في نظري أشبه بمشهد رأس الملك تشارلز، بالنسبة للسيد ديك سيئ الحظ. وفي خِضَمِّ جهودي الحثيثة الرامية إلى فهم ملابسات القضية، يجتاح هذا المشهد أفكاري، محولًا إياها إلى فوضى فكرية من فوره.

في الأيام القليلة التالية، انشغل ثورندايك كثيرًا ببعض القضايا المدنية، وكان يمكث في المحكمة طيلة الجلسة، وحين يعود إلى المنزل، كنت أراه غير راغب في مناقشة أي موضوعات ذات صلة بالعمل. وفي هذا الوقت، عكف بولتون على صور التوقيعات، وانطلاقًا من اكتساب الخبرة، ساعدته وراقبت كيف يعمل.

في القضية الحالية، جرى تكبير التوقيعات، حيث كانت أبعادها الأصلية أقل من بوصة ونصف، وصارت بطول أربع بوصات ونصف، ما جعل كل التفاصيل الدقيقة لخط اليد مميَّزة ومذهلة في دقتها. وفي النهاية، ثُبت كل توقيع على بطاقة تحمل رقمًا والتاريخ على الشيك الذي أُخذ منه التوقيع؛ ومن ثم تسهل المقارنة بين أي توقيعين. تفحَّصت التوقيعات كلها بعناية بالغة وقارنت بينها لعلِّي أجد أي فروق، ولكني لم أرصُد أي فروق غير التي أعرب عنها السيد بريتون في رأيه. كانت هناك فروق بسيطة للغاية، وكانت كل التوقيعات متشابهة إلى حد كبير، وعند النظر إليها، فلا أحد يشك في أن كلها مكتوب باليد نفسها.

لكن بما أن مسألة التوقيعات ليست محل خلاف، فإنها لم تقدم معلومة جديدة. وإني متأكد من أن هناك شيئًا محددًا في عقل ثورندايك، لا بد أنه يريد التحقُّق من شيء آخر غير صحة التوقيعات. ولكن ماذا يمكن أن يكون هذا الشيء؟ لم أجرؤ على طرح هذا السؤال عليه؛ لأنه لا يحب هذه النوعية من الأسئلة؛ ومن ثَم لم أجد بُدًّا من الانتظار ومراقبة ما سيفعله بهذه الصور.

انتهت السلسلة بالكامل في صبيحة اليوم الرابع من مغامرتي إلى ميدان سلون، وأحضر بولتون حزمة البطاقات مرتَّبة حين أحضر صينية الإفطار. أخذ ثورندايك حزمة البطاقات وكأنه لاعب ويست، وحين تفحَّصها سريعًا، لاحظت أن عددها صار ٢٤ بطاقة بعدما كان ٢٣.

شرح ثورندايك: «البطاقة الإضافية هي التوقيع على الوصية الأولى، التي كانت في حوزة مارشمونت. وقد أضفتها إلى المجموعة لأنها تأخذنا إلى تاريخ أقدم. أما التوقيع على الوصية الثانية، فمن المفترض أنه يُشبه التوقيعات على الشيكات المسحوبة في التاريخ نفسه. ولكن هذه ليست مهمة، وإن تبين غير ذلك، فيمكننا أن نطلب فحص الوصية الثانية.»

فرز البطاقات على الطاولة بترتيبٍ حسب التواريخ، وأخذ يطَّلع على السلسلة بعينيه. راقبته عن كَثَب، وحينئذٍ تجرأت وسألته:

«هل تتفق مع السيد بريتون في أنه توجد سمة خاصة تشترك فيها كل التوقيعات؟»

رد: «نعم. ويسعُني القول إن كل التوقيعات وقعها شخص واحد. فالفروق طفيفة للغاية. التوقيعات الأخيرة أقل انسيابية وأكثر اهتزازًا وغموضًا، كما أن حرفي B وk في هذه التوقيعات يختلفان كثيرًا عن التوقيعات الأولى. ولكن ثمة حقيقة أخرى تبرز حين تقارن كل المجموعة بعضها ببعض، وهذه الحقيقة لافتة للنظر وبالغة الأهمية، وإني أتعجب لماذا لم يُشِر إليها السيد بريتون.»

قلت وأنا أنحني كي أتفحص الصور باهتمام متجدد: «حقًّا! ما هذه الحقيقة؟»

«إنها حقيقة بسيطة وواضحة للغاية، ولكنها على قدر بالغ من الأهمية كما قلت. انظر إلى التوقيع رقم واحد، وهو التوقيع على الوصية الأولى، حيث يرجع تأريخه إلى ثلاث سنوات، وقارنه بالتوقيع رقم ثلاثة، المؤرَّخ في الثامن عشر من سبتمبر من العام الماضي.»

قلت بعد مقارنة وتدقيق: «يبدو أن التوقيعين متطابقان.»

قال ثورندايك: «وهذا ما أراه أنا أيضًا. فالتوقيعان لا يظهر فيهما التغيير الذي حدث مؤخرًا. ولكن إذا نظرت إلى التوقيع رقم اثنين المؤرَّخ في السادس من سبتمبر، فسترى أنه يتخذ شكل التوقيعات الأخيرة. وكذلك الحال مع التوقيع رقم أربعة المؤرَّخ في الثالث والعشرين من سبتمبر، ولكن التوقيعَين الخامس والسادس، وكلاهما في الأول من أكتوبر، تجد أنهما بالنمط الأول مثل التوقيع على الوصية. التوقيعات التي بعد ذلك كلها بالنمط الجديد؛ ولكن إذا قارنت التوقيع رقم اثنين المؤرَّخ في السادس عشر من سبتمبر مع التوقيع الرابع والعشرين المؤرَّخ في الرابع عشر من مارس من هذا العام — أي اليوم الذي مات فيه جيفري — سترى أنه لا يوجد فرق بينهما. فكلا التوقيعَين بالنَّمط الأخير، بيد أن التوقيع المتأخر لا يُظهِر تغييرًا كبيرًا عن التوقيع الأول. ألَا تظن أن هذه الحقائق لافتة للنظر وبالغة الأهمية؟»

فكرت بضع دقائق، وحاولت أن أتوصل إلى الأهمية القصوى التي يُوجِّه إليها ثورندايك انتباهي، ولكني لم أتوصل إليها.

قلت: «هل تعني أن الرجوع بين الفينة والأخرى إلى النمط الأول له دلالة مُهمة؟»

«أجل، وثمة شيء آخر. إليك ما نتعلَّمه من هذه السلسلة: حدث تغيُّر في نمط التوقيع، إنه تغير طفيف للغاية؛ إلا أنه يمكن تمييزه. هذا التغيُّر ليس تدريجيًّا أو مُتناميًا وليس مُطَّردًا. بل إنه حدث في وقت محدَّد. في البداية، عاد التوقيع مرة أو مرتين إلى النمط الأول، ولكن، وبعد التوقيع رقم ستة، استمرَّ التوقيع الأخير حتى النهاية، وكما تلاحظ، فهو استمرَّ من دون أي زيادة في درجة التغيُّر ومن دون أي اختلاف. ولا توجد أنماط متوسطة. بعض التوقيعات بالنمط القديم وبعضها بالنمط الجديد، ولكن لا توجد توقيعات بنمط يمزج بينهما. ومن ثم، أكرر: لدينا نمطان من التوقيعات، والنمطان متقاربان، ولكن الفرق بينهما يمكن تمييزه. يمكن التبديل بينهما ولكن لا يمتزج أحدهما بالآخر؛ بحيث يخرج منهما نمط وسيط. يحدث التغيُّر فجأة ولكنه لا يزيد بمرور الوقت، إنه ليس تغيُّرًا مُطَّردًا. ماذا تستنتج من ذلك يا جيرفيس؟»

قلت وأنا أتأمل في البطاقات كي أتأكد من ملاحظات ثورندايك: «هذا لافت للنظر كثيرًا. لا أعرف بالضبط ما الذي أستنتجه. ولو أن الظروف تشير إلى احتمال التزوير، لشككت في صحة بعض التوقيعات. ولكنها لا تشير إلى أي احتمال للتزوير في حالة الوصية الثانية، فضلًا عن رأي السيد بريتون بشأن التوقيعات.»

قال ثورندايك: «لكن لا بد من أن ثمة تفسيرًا للتغيُّر في نمط التوقيعات، وهذا التفسير لا يمكن أن يكون ضعف بصر الكاتب؛ حيث إن هذه الحالة تتفاقم بالتدريج ومستمرة، في حين أن التغيير في التوقيعات مفاجئ ومتقطِّع.»

فكرت في تعليق ثورندايك بضع لحظات، ثم خطرت ببالي فكرة، وإن كانت غير مُبهرة.

قلت: «أحسبني فهمت ما ترمي إليه، هل تقصد أن التغيُّر في الخط لا بد أنه مرتبط بحالة جديدة تؤثر في الكاتب، وتلك الحالة تصيبه بين الفينة والأخرى؟»

أومأ ثورندايك موافقًا وأردفت:

«الحالة الوحيدة المتقطِّعة التي عرفها هو تأثير الأفيون. ومن ثم يمكننا اعتبار التوقيعات الأوضح كانت تُوقَّع من جانبه حين يكون في حالته الطبيعية، أما الأقل وضوحًا فنعتبر أنه وقعها بعد تدخين الأفيون بفترة وجيزة.»

قال ثورندايك: «هذا استنتاج سليم تمامًا. ما الاستنتاج الآخر الذي تؤدي إليه هذه الحالة؟»

«إنها تشير أيضًا إلى أنه لم يكتسب عادة التدخين إلا مؤخرًا؛ حيث إن التغير لم يلاحَظ إلا في الفترة التي عاش فيها بمجمع نيو إن؛ وبما أن التغير في الخط كان متقطعًا في البداية ثم صار متصلًا، بمقدورنا أن نستنتج أن تدخين الأفيون كان شيئًا عرَضيًّا في البداية ثم صار عادة مُتأصِّلة.»

قال ثورندايك: «استنتاج منطقي تمامًا وواضح. أنا لا أقول إنني أتفق معك بالكلية، أو أنك استنفدت المعلومات التي تنطوي عليها هذه التوقيعات. ولكنك بدأت في الاتجاه الصحيح.»

قلت متجهِّمًا: «ربما أكون على الطريق الصحيح، ولكني عالق في مكان واحد ولا أرى فرصة لإحراز أي تقدُّم.»

قال ثورندايك: «ولكن بحوزتك كمٌّ من البيانات. معك كل الوقائع التي بدأت منها وبنيت عليها الفرضية التي أعكف على التحقُّق منها. وقد حُزتَ بعض المعلومات الإضافية، وكما أن المال يدرُّ المال، فإن المعرفة تجلب المعرفة، وقد استثمرت رأس مالي الأصلي كي يدرَّ عليَّ فائدة. فهلَّا نصنِّف الوقائع التي يحوزها كلانا ونرى ما الذي نستنتجه منها؟»

قبلت العرض مُتحمِّسًا، رغم أنني عكفت على دراسة ملاحظاتي مرارًا وتكرارًا.

أخرج ثورندايك ورقة من الدرج، وحين نزع غطاء قلمه الحبر، شرع في كتابة الوقائع المهمة، وجعل يقرأ كل واحدةٍ بصوت مرتفع بمجرد أن يفرغ من كتابتها.

  • (١)

    «الوصية الثانية لم تكن ضرورية؛ حيث إنها لم تتضمن مواد جديدة، ولم تُعرِب عن نوايا جديدة، ولم تنُصَّ على شروط جديدة، كما أن الوصية الأولى كانت واضحة وسليمة تمامًا.

  • (٢)

    نية الموصِي الواضحة أن يترك الجزء الأكبر من تركته لستيفن بلاكمور.

  • (٣)

    الوصية الثانية، في ظل الظروف الحالية، لا تستوفي هذه النية، في حين أن الوصية الأولى تستوفيها.

  • (٤)

    التوقيع على الوصية الثانية يختلف قليلًا عن التوقيع على الوصية الأولى، كما يختلف عن التوقيع العادي للمُوصي حتى ذلك الحين.

    نأتي الآن إلى مجموعة تواريخ غريبة، وأنصحك بأن تدرسها بعناية شديدة.

  • (٥)

    كتبت السيدة ويلسون وصيتها في الأول من سبتمبر من العام الماضي، من دون أن تُعلِم جيفري بلاكمور، ويبدو أنه لم يعلم بوجود تلك الوصية.

  • (٦)

    وصيته الثانية مؤرَّخة في الثاني عشر من نوفمبر من العام الماضي.

  • (٧)

    تُوفِّيت السيدة ويلسون بمرض السرطان في الثاني عشر من مارس هذا العام.

  • (٨)

    كانت المرة الأخيرة التي شوهد فيها جيفري بلاكمور على قيد الحياة، في الرابع عشر من مارس.

  • (٩)

    اكتُشِفت جُثَّته في الخامس عشر من مارس.

  • (١٠)

    التغيُّر في شكل توقيعه بدأ في سبتمبر من العام الماضي تقريبًا، ثم صار دائمًا بعد منتصف أكتوبر.

    ستجد أن مجموعة الوقائع تستحق الدراسة المتأنِّية يا جيرفيس، لا سيما عند النظر إليها فيما يتعلق بالبيانات الإضافية:

  • (١١)

    وجدنا في شقة بلاكمور نقشًا موضوعًا في إطار كبير الحجم، ومُعلقًا بطريقة مقلوبة، ووجدنا معه بقايا يبدو أنها بقايا زجاج ساعة، وصندوق من شمع الستيراين، فضلًا عن أشياء أخرى.»

أعطاني الورقة واطلعت على ما فيها باهتمام بالغ، ووجهت انتباهي بكل ما أوتيت من قوة وإرادة كي أفهم البنود المختلفة. ولكن رغم أنني بذلت قصارى جهدي، فإنني لم أخرج بنتيجة عامَّة من مجموعة الوقائع التي لا يخفى عدم ارتباط بعضها ببعض.

بعدما راقب ثورندايك جهودي غير المُجدية باهتمام بالغ، قال: «حسنًا، ما الذي تستنتجه من ذلك؟»

قلت يائسًا وأنا ألقي الورقة على الطاولة: «لا شيء! بالطبع أرى بعض المصادفات الغريبة. ولكن ما علاقتها بالقضية؟ أفهم أنك تريد الطَّعن في هذه الوصية التي نعلم أن كاتبها وقَّع عليها بكامل إرادته، ومن دون تأثيرٍ من أحد، وفي حضور شاهدَي عدل، وقد حلف كلاهما أن الوصية صحيحة. فهل هذا ما تريده؟»

«بالتأكيد.»

«إنني في حيرة من أمري ولا أعرف كيف تخطِّط لتحقيق ذلك. وبحسب ظني، لن تطعن في تلك الوصية بتقديم مجموعةٍ من المصادفات الغامضة التي تُربِك أي عقلٍ غير عقلك.»

أطلق ثورندايك ضحكة هادئة وخفية، ولكنه لم يسترسل في الحديث عن الموضوع.

قال: «ضع هذه الورقة في ملفك مع الملاحظات الأخرى، وفكِّر فيها على مهلك. ولكن الآن أريد منك مساعدةً صغيرة. هل ذاكرتك قوية في حفظ الوجوه؟»

«أظنها قوية إلى حد ما. لكن لماذا؟»

«لأن معي صورة لرجل أظن أنك قابلته من قبل. انظر في الصورة وأخبرني إن كنت تتذكر الوجه.»

أخرج صورةً بحجم الصور التي تُحفظ في الخِزانة من مغلف وصل مع بريد الصباح، وأعطاني إياها.

أخذت الصورة واقتربت من النافذة كي أتفحصها بدقة أكبر، قلت: «لا شك أني رأيت هذا الوجه في مكان ما، ولكن الآن لا أتذكر أين.»

قال ثورندايك: «حاول أن تتذكر. إن رأيت هذا الوجه من قبل، فحريٌّ بك أن تتمكن من تذكُّر الشخص.»

نظرت إلى الصورة باهتمام، وكلما نظرت إليها أكثر، بدا الوجه مألوفًا أكثر. وفجأة، ومضت هوية الرجل في عقلي وصحت مندهشًا:

«هل يحتمل أن يكون هو ذلك الرجل البائس في كينينجتون، أعني السيد جريفز؟»

رد ثورندايك: «ربما هو، بل إنه هو. لكن هل تُقسم في المحكمة على أنها صورته؟»

«إنني مقتنِع اقتناعًا راسخًا بأن الصورة صورة السيد جريفز. وأقسم على ذلك.»

قال ثورندايك: «لا ينبغي للمرء أن يحلف على شيء ليس على يقين منه. فالتعرف على الهوية دائمًا ما يتأثر برأي الشخص وظنه. وينبغي التشكيك في أقوال أي شخص على استعداد أن يُقسم بلا قيد أو شرط على تحديد هوية شخص ما، بناءً على ذاكرته فقط. ولكن أرى أن شهادتك المدعومة بالقسم ستكون كافية.»

من نافلة القول إن إخراج هذه الصورة أشعل فيَّ الاندهاش والفضول؛ كي أعرف كيف حصل ثورندايك عليها. ولكن حين أعادها إلى مغلفها من دون أن يقدم تفسيرًا من تِلقاء نفسه، شعرت أنه لا ينبغي أن أسأله مباشرةً. ولكني تجرأت وفتحت الحديث في الموضوع بطريقة غير مباشرة.

سألته: «هل وصلتك أي معلومات عن أهل دارمشتات؟»

«هل تعني شركة شنيتسلر؟ نعم. علمت من أحد المعارف في الحكومة أن الدكتور إتش فايس ليس من أهل المدينة، ولا يعلمون عنه شيئًا سوى أنه طلب من الشركة ١٠٠ جرام من هيدروكلوريت المورفين، وقد جرى توريدها إليه.»

«هل جرى توريد الكمية كلها مرة واحدة؟»

«لا. بل في طرود منفصِلة، وكل طرد ٢٥ جرامًا.»

«هل هذا كل ما تعرفه عن فايس؟»

«هذا كل ما أعرفه بالفعل، ولكن ليس كل ما أشك فيه، وشكوكي قائمة على أُسُس قوية. على أي حال، ما ظنك بسائق العربة؟»

«لا أحسبني فكرت فيه كثيرًا. لكن لماذا؟»

«ألم تشُكَّ قط أنه وفايس هما الشخص نفسه؟»

«نعم. ولكن كيف ذلك؟ فلا يوجد بينهما أي شبه. أحدهما كان اسكتلنديًّا والآخر ألمانيًّا. ولكن كيف علمت أنهما شخص واحد؟»

«أنا لا أعلم غير الذي أخبرتني به. لكن حين التفكير في أنك لم ترَهما معًا قط، وأن السائق لم يوجد قط من أجل الرسائل أو المساعدة عندما يكون فايس معك، وأن فايس ما كان يحضر إلا بعد وصولك ببعض الوقت، ويختفي قبل مغادرتك ببعض الوقت، فهذا يوحي لي أنهما ربما يكونان الشخص نفسه.»

«في رأيي أن هذا مستحيل. فلم يكن بينهما أي شبه على الإطلاق. ولكن على افتراض أنهما شخص واحد، هل لهذه المعلومة أي أهمية؟»

«هذه المعلومة تُوفِّر علينا عناء البحث عن السائق. كما أنها ستُشير إلى عدد من الاستنتاجات، وهذا ما ستعرفه إذا فكرت في المسألة مرة أخرى. ولكن بما أن المسألة ليست سوى رأي تخميني في الوقت الحالي، فالأفضل عدم طرح كثير من الاستنتاجات بشأنها.»

علَّقت: «لقد باغتَّني. يبدو أنك عكفت على دراسة قضية كينينجتون، وظني أنك اجتهدت فيها، وقد حسبتُ أن اهتمامك مشغول بالكلية بقضية بلاكمور.»

رد: «لا يصح أن تستحوذ قضية واحدة على كل اهتمام المرء. فعندي ستُّ قضايا أخرى — ومعظمها قضايا بسيطة — أتعامل معها في الوقت الحالي. أم حسبتَ أنني سأضعك في غرفة وأغلق عليك إلى الأبد؟»

«لا لم أحسب ذلك. ولكن ظننت أن قضية كينينجتون ستنتظر دورها. ولم يكن عندي علم أن لديك وقائع كثيرة تمكنك من إحراز أي تقدم.»

«ولكنك تعلم كل الوقائع المهمة عن القضية، ورأيت المزيد من الأدلة التي استمددناها من المنزل الفارغ.»

«هل تقصد تلك الأشياء التي أخذناها من القمامة الموجودة خلف شبكة المدفأة؟»

«نعم. فقد رأيتَ العُودَين الصغيرين العجيبين والنظارة. هذه الأشياء موجودة في الدرج الأعلى في تلك الخزانة الآن، ونصيحتي لك أن تُلقي نظرة أخرى عليها. أرى أنها تنطوي على كثير من المعلومات. فالعودان يطرحان اقتراحًا له قيمة كبيرة إلى أقصى حد، والنظارة مكَّنتني من وضع ذلك الاقتراح قيد الاختبار وصار معلومة حقيقية.»

قلت: «ولكن للأسف، لا أرى شيئًا في هذين العودين. حتى إنني لا أعلم ماهيتهما ولا الشيء الذي كانا جزءًا منه.»

رد: «لعلَّك إن أَولَيتهما الاهتمام الواجب حين تتفحَّصهما، ستعرف أن لهما استخدامًا واضحًا جدًّا. ألقِ نظرة متفحِّصة عليهما وعلى النظارة أيضًا. أعد التفكير في كل ما تعرفه عن هؤلاء الأشخاص الغامضين الذين عاشوا في ذلك المنزل، وسترى أن باستطاعتك أن تصوغ نظرية متَّسقة عن أفعالهم. فكر أيضًا أن لدينا بعض المعلومات التي قد تمكِّننا من تحديد هُوية بعضهم، واستنتج هُوية الباقين. سيكون أمامك يوم هادئ؛ حيث إنني لن أعود إلى المنزل حتى المساء، فأشغِل نفسك بتلك المهمة. وأنا أطمئنك أن لديك المادة التي تمكِّنك من تحديد هُوية — أو بالأحرى تمكِّنك من اختبار هُوية — واحد من هؤلاء الأشخاص على الأقل. ادرس تلك المادة دراسةً منهجية، وأعلمني في المساء ما التَّحريات الإضافية التي يمكن أن تقترحها.»

قلت: «حسنًا، سأُنجز المهمة حسب نصيحتك. سأشغل تفكيري من جديد بقضية السيد فايس ومريضِه، وأُنحي قضية بلاكمور جانبًا.»

«لا داعي إلى ذلك. فأمامك يوم كامل. ساعة واحدة من التفكير بذهن صافٍ في قضية كينينجتون كفيلة بأن تُبين لك الخطوة التالية التي ينبغي أن تتخذها، وبعد ذلك يمكنك أن تُكرس نفسك للتفكير في وصية جيفري بلاكمور.»

بهذه النصيحة الأخيرة، جمع ثورندايك الأوراق الخاصة بعمله لذلك اليوم، ووضعها في حقيبته الصغيرة وغادر، ثم تركني وتأمُّلاتي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤