الفصل الثالث عشر

إفادة صمويل ويلكينس

بمجرد أن أصبحت بمُفردي، شرعت في تحرياتي، وأَملي يكاد ينقطع في أن أستخلص بعض الوقائع المذهِلة وغير المتوقعة. فتحت الدرج وأخرجت العُودين والبقايا المهشَّمة من النظارة، ووضعت كل هذه الأشياء على الطاولة. لم أجد الإصلاحات التي اعتزم ثورندايك إجراءها في النظارة قد أُجريت بالفعل. واضح أنها لم تكن ضرورية. أرى أن الحطام المهشَّم أمامي — على حالته كما وجدناه — كشف عن المعلومات الضرورية؛ وبما أن ثورندايك أصبح بحوزته صورة للسيد جريفز، فقد بات واضحًا أنه نجح في التعرف عليه، لدرجة أنه تواصل مع أحدٍ يعرف السيد جريفز عن قرب.

كان يُفترض أن تكون الظروف مشجِّعة. ولكنها لم تكن كذلك. فمن الناحية النظرية، كان الممكنُ بالنسبة لثورندايك ممكنًا بالنسبة لي، أو لأي أحد آخر. لكن من الناحية العملية، فذلك الممكن لا يتكشَّف من تِلقاء نفسه. بل ثمة معادلة شخصية. عقل ثورندايك ليس عقلًا عاديًّا. فالوقائع التي أدرك الصلة بينها على الفور بقِيت عند الآخرين وقائع غير مترابطةٍ ولا معنى لها. كلٌّ من قوة الملاحظة والاستدلال السريع عنده شيء لا يُصدَّق، وقد لاحظت هذا مرارًا وتكرارًا، وما قَلَّ اندهاشي منه قط. أراه يفهم كل شيء من مجرد نظرة، وسرعان ما يقدِّر معنى كل ما وقعت عليه عينه.

وهذا الموقف مثال على ما أقول. فقد رأيت كل ما رأى، والأدهى أنني رأيت هؤلاء الناس وشهدت أفعالهم، في حين أنه لم تقع عينه على أي أحد منهم. وقد تفحصت كومة القمامة الصغيرة التي جمعها بعناية فائقة، ولو كان الأمر بيَدي لرميت بها في مكانها خلف شبكة المدفأة من دون أي قدر من التردد. لم ألحظ أي بصيص نور وسط سحابة الغموض هذه، ولم أرَ أي إشارة تدلُّني على الطريق الذي أبحث فيه عن بصيص النور. ولكن تمكن ثورندايك بطريقة لا أفهمها من تجميع الوقائع التي ربما لم ألاحظها، وقد جمعها كلها، لدرجة أنه في غضون أيام قليلة تمكن من تضييق دائرة البحث، لتقتصر على مساحة صغيرة للغاية.

انتقلت من هذه التأمُّلات عائدًا إلى الأشياء التي وضعتها على الطاولة. وبما أنني خبيرٌ في النظارات، لم تكن سِرًّا مُستعصيًا عليَّ. من السهل أن تطرح النظارة دليلًا واضحًا على هُوية شخصٍ ما، وهذا ما أدركه بوضوح كبير. إنها ليست نظارة جاهزة بحيث يمكن شراؤها من المتجر من دون ترتيب مُسبق، بل إنها نظارة صنعها اختصاصي بصريات ماهر من أجل علاج مشكلة محدَّدة في البصر، ومن أجل أن تتناسب مع وجه معين. وهكذا كانت هذه النظارة. فتصميم الإطار غريب، ووجود عدسة أسطوانية — وقد ميَّزتُها بسهولة من الشظايا المتبقية — يدل على أن إحدى العدستين قد صُمِّمت بطريقة وَصَفَها طبيب، وقد شُكِّلت حسب مقاسات معينة، ولا بد أن المسافة بين المركزين قيست بعناية. ومن ثم فإن هذه النظارة لها طابع شخصي. لكن الأمر البديهي أنه يستحيل استجواب كل جهات تصنيع النظارات في أوروبا؛ حيث إن النظارة ليست بالضرورة مصنوعة في إنجلترا. ربما تكون النظارة ذات قيمة في تأكيد شيء ما، ولكنها لا تصلح البتة بأن تكون نقطة انطلاق في التحريات.

تركت النظارة وانتبهت إلى العُودين. فمِن هذين العودين، انطلق ثورندايك. فهل يُعطياني إشارة أولية أنا أيضًا؟ نظرت إليهما وتساءلت: ما المعلومات التي استنبطها ثورندايك منهما؟ الجزء الصغير من الملصَق الورقي الأحمر له إطار بُني داكن أو أسود رقيق مزين بنمط هندسي متشابك، وقد اكتشفت عليه نقطتَين صغيرتَين من الذهب مثل الغُبار الناتج عن الطلاء بقشرةٍ مذهبة. ولكني لم أستنبط شيئًا من ذلك. رأيت أن القطعة الأقصر من العود مُجوَّفة بطريقة احترافية كي تدخل فيها القطعة الأطول. من الواضح أنها شكَّلت غِمدًا أو غطاءً وقائيًّا. لكن ما الذي كانت تحويه وتقيه تلك القطعة؟ ربما كانت لشيء مُدبَّب أو حاد. هل يمكن أن تكون لسكين جيب، مثل سكين صغير؟ لا، فهذه المادة ضعيفة للغاية ولا تصلح لمقبض سكين. ويُستبعَد أن تكون إبرة حفر للسبب نفسه، كذلك لم تكن أداة طبية، على الأقل ليست أداة طبية أعرفها.

تفحصتها مرارًا وتكرارًا وأعملتُ عقلي، ثم خطرَت ببالي فكرةٌ مُدهِشة. هل يمكن أن يكون قلمًا من القصب كُسِر منه سنُّه؟ فأنا أعلم أن بعض الرسَّامين ذوي الميول الزخرفية والمولعين بالخط السميك ما يزالون يستخدمون أقلام القصب. هل يعمل أحد المشتَبَه بهم رسامًا؟ يبدو أن هذه أكثر الإجابات رُجحانًا عن هذا السؤال الصعب، وكلما فكرت فيه أكثر، زاد ذلك الرُّجحان. عادةً ما يوقِّع الرسامون على أعمالهم بطريقة واضحة، وحتى حين يستخدمون الرموز في توقيعهم، يسهُل تتبُّع هُويتها. هل من الوارد أن السيد جريفز على سبيل المثال كان رسَّامًا، وقد توصل ثورندايك إلى هُويته من خلال البحث في أعمال الرسامين المشهورين بالخط السميك؟

هذه المسألة شغلت تفكيري بقية اليوم. شعرت أن تفسيري لا يتناسب مع ما ذكره ثورندايك عن نهجه، ولكني لم أستطع التوصل إلى تفسير آخر. فكرت في السؤال وأنا أتناول غدائي منفردًا، وتفكرت فيه وأنا أدخن الغليون أكثر من مرة بعد الظهيرة، وقد أنعشت عقلي بكوب من الشاي، ثم خرجت أتمشى في حدائق منطقة تيمبل — حيث سُمِح لي بالتمشي فيها من دون الإخلال بوعدي — للتفكير فيه مجددًا.

كانت النتيجة مُحبِطة. ظللت أبني تفكيري على افتراض أن أجزاء العُودَين كانت أجزاءً من جهاز مُعَين، يخصُّ حِرفة معينة؛ في حين أنها قد تكون بقايا شيء مختلف تمامًا، تتعلق بحرفة مختلفة تمامًا، أو لا تتعلق بأي حرفة مطلقًا. وعلى أي حال، فإنهما لا يشيران إلى أي شخص معروف، أو إلى أي شيءٍ آخر غير مسارٍ غامضٍ إلى أبعد حدٍّ في طريق التحقيقات. بعد السير بين الطرق المبهجة قُرابة الساعتين، عدت إلى المسكن، وما كدت أصل حتى أنهى المسئول عن إضاءة المصابيح جولته.

غضبتُ عندما لم يُفضِ تفكيري إلى نتيجة. وحين اقتربت، علمت من النوافذ المضاءة أن ثورندايك قد عاد. ومن ثم اعتزمت الضغط عليه كي أستخلص منه مزيدًا من المعلومات. ولذلك حين دخلت إلى المسكن، وبدلًا من أن أجد زميلي، وجدت رجلًا غريبًا بالكلية لا أرى منه غير ظهره؛ أُحبطتُ وغضبت.

وجدت الغريب جالسًا على الطاولة يقرأ وثيقة كبيرة يُخيَّل إليَّ أنها عقد إيجار. لم يتحرك حين دخلت، ولكن حين اقتربت منه وألقيت عليه تحية المساء، نهض جُزئيًّا وأومأ لي صامتًا. كانت هذه أول مرة أرى فيها وجهه، وقد أذهلني للوَهلة الأولى. فقد ظللت للحظات وأنا أظنه السيد فايس؛ حيث إن الشبه كبير بينهما، ولكن سرعان ما أدركت أن جسد هذا الرجل أصغر بكثير.

جلست في الجانب المقابل له تقريبًا، وكنت أختلس النظر إليه بين الفَينة والأخرى. فالشبه بينه وبين فايس يَسترعي حقًّا الانتباه. ومن أوجه الشبه الشعرُ الأشقر واللحيةُ الشعثاء، والأنف الأحمر الذي به بقع من الحبوب الحمراء المنتشرة حتى الخدين المحيطين به. إنه يستعمل نظارة أيضًا، وكان يَسترِق النظر إليَّ من حين إلى آخر، ويعود من فوره إلى الوثيقة التي بين يديه.

بعد لحظات من الصمت المحيِّر، تجرَّأت وعلقت على الجو اللطيف هذا المساء، ولم يرُدَّ إلا بكلمة «إمممم» على الطريقة الاسكتلندية، وأومأ ببطء. ثم خيَّمَت فترة أخرى من الصمت، وفيها فكرت في احتمالية أن يكون أحد أقرباء السيد فايس، وتساءلت عن الذي يفعله في المنزل. في النهاية سألت: «هل لديك موعد مع الدكتور ثورندايك؟»

أومأ بجدية، وحينما رد بكلمة «إمممم» مرة أخرى، فسَّرتُها على أنه يقول نعم.

رمقتُه بنظرات حادَّة لما لم أجد سلوكه لبِقًا؛ ومن ثم فتح عقد الإيجار بحيث يحجب وجهه عني، وحين نظرت إلى الصفحة الخلفية من الوثيقة ذُهِلت من قوة اهتزازها.

ذلك الشخص يضحك ملءَ فيه! وكنت في حيرة تامة من أمري، ما الذي وجده في سؤالي البسيط كي يبتهج إلى هذه الدرجة؟! ولكن ضحكه لا يمكن إنكاره. فرعشات الوثيقة لم تدَع سبيلًا للشك بأن الرجل يهتز من كثرة الضحك.

الموقف غامض إلى أقصى الحدود. كما أنه مُحيِّر كثيرًا. ولذا أخرجت ملفًّا من جيبي وبدأت أراجع ملاحظاتي. ثم أنزل الوثيقة عن وجهه، واستطعت أن أنظر مرة أخرى إلى وجه الغريب. إنه يشبه فايس إلى حدٍّ كبير. الحاجبان الأشعثان اللذان يرمِيان بظلالهما على العين، بالإضافة إلى النظارة، أعطياه المظهر الجاد الذي يُشبه وجه البومة نفسه الذي رأيته فيمن عرفته في كينينجتون؛ وبالمناسبة، هذا المظهر لا يتَّسق البتة مع السلوك المرِح الذي شهدتُه للتَّو.

حين أنظر إليه من وقت لآخر، تلتقي عيناه بعينيَّ، ولكن سرعان ما يَحيد ببصره عني ويحمَرُّ وجهه قليلًا. من الواضح أنه شخص خجول، وهذا ما قد يفسر قهقهته؛ فقد لاحظت أن الأشخاص الخجولين أو القلِقين عادةً ما يبتسِمون في أوقات غير مناسبة، وحتى يُقهقِهون حين يشعرون بالقلق، أو تتقابل أعينُهم مع عينَي شخصٍ لا يحيد ببصره عنهم. ويبدو أن نظراتي إليه سبَّبت حرجًا له؛ حيث إنني كلما نظرت إليه، كان يرفع الوثيقة فجأةً ويبدأ يضحك ملء شدقيه.

تحمَّلتُ هذا الموقف لمدة دقيقة أو دقيقتين، ولكن عندما لم أُطِق هذا الحرج، نهضت واعتذرت بطريقة فظَّة، وصعدت إلى المختبر لعلَّني أجد بولتون، وأسأله متى سيعود ثورندايك إلى المسكن. وحين دخلت، فوجئت عندما رأيت ثورندايك نفسه ينتهي من إعداد عيِّنة مِجهرية.

سألته: «هل تعلم أن شخصًا ينتظرك بالطابق السفلي؟»

سأل: «هل هو شخص تعرفه؟»

أجبته: «لا. إنه مهرج ذو أنف أحمر ويضع نظارة. ومعه عقد إيجار أو سنَد ملكية أو وثيقة من هذا القبيل، يستخدمها كي يحجبَ وجهه خلفها! لم أُطِق الجلوس معه؛ ولذا صعدت إلى هنا.»

ضحك ثورندايك ملء فيه حين وصفت له الرجل.

سألته غاضبًا نوعًا ما: «علامَ تضحك؟» ومن ثَم زاد ضحكه حتى زاد غضبي حين رأيته يمسح عينيه.

علَّق قائلًا: «يبدو أن صديقنا قد أغضبك.»

«لقد أغضبني حرفيًّا. ولو مكثتُ مدة أطول، لقَرَعتُ رأسَه بالعصا.»

قال ثورندايك: «في هذه الحالة، حسنٌ أنك لم تمكث. ولكن هيا ننزل إلى الطابق السفلي وأُعرِّفك عليه.»

«كلا، شكرًا لك. فقد اكتفيت منه في الوقت الحالي.»

«لكني عندي أسباب خاصة جدًّا وأريد أن أعرفك عليه. ويُخيَّل إليَّ أنه سيفيدك ببعض المعلومات التي تُهمك كثيرًا، ثم إنه لا ينبغي لك أن تتعارك مع رجُل لمجرد أن سلوكه مرِح.»

أجبته: «لا يعنيني مرحه! وأنا لا أصف رجلًا بأنه مرِح لأنه يتصرف مثل أحمق ثرثار.»

لم يرُد ثورندايك على ذلك إلا بابتسامة عريضة ومرحة، ثم نزلنا إلى الطابق السفلي. وحين دخلنا الغرفة، نهض الغريب وأخذ ينتقل بنظره من أحدنا إلى الآخر بطريقة مُحرِجة، ثم انطلقت منه ضحكات لا يمكن إنكارها. رمقتُه بنظرات حادَّة، ولكن ثورندايك لم يتأثَّر البتة بسلوكه غير اللائق، وقال بنبرة جادة:

«اسمح لي أن أعرفك عليه يا جيرفيس، على الرغم من أنني أظن أنك قابلت هذا السيد من قبل.»

قلت بنبرة حادة: «لم أُقابله.»

تدخل الغريب: «أوه، بل تعرفني يا سيدي»، وحينئذٍ فوجئت؛ حيث إن صوته يشبه صوت بولتون إلى حد بعيد.

نظرت إلى المتحدِّث وقد تخلَّلني شك مفاجئ. والآن، بتُّ أرى أن الشعر الأشقر كان شعرًا مُستعارًا، وأن اللحية ذات مظهر مزيف بدرجة مذهلة، وأن هاتَيْن العينَيْن اللتَيْن تطلقان شرارات نظراتهما من خلف النظارة تشبه إلى حدٍّ كبيرٍ عينَي خادمنا. ولكنَّ الوجه ذا النَّمش، والأنف المنتفِخ، والحاجبَين الأشعثَين المتدَلِّيَين ملامح غريبة لم ألمح فيها أي شبهٍ بالملامح الجميلة لمساعدنا ذي المظهر الأرستُقراطي.

سألت: «هل هذه مزحة عملية؟»

أجاب ثورندايك: «لا، بل توضيح. حين تحدَّثنا صباح اليوم بدا لي أنك لم تُدرك إلى أي مدًى يمكن إخفاء هُوية الشخص، حين تتوفَّر درجات الإضاءة الملائمة. ولذا رتَّبت مع بولتون رغم تردده أن نقدم لك إثباتًا عَينيًّا. لكن لم تكن الظروف مواتية للدرجة التي تجعل التوضيح مُقنِعًا. فإضاءة الغرفة عالية كما أن بولتون لم يُحسِن التمثيل؛ ورغم هذه الظروف، فلا شك عندي أنك لو جلست أمامه بضع دقائق وظللت تنظر إليه بانتباه كبير، لما اكتشفت هُويته. ولو أضيئت الغرفة بشمعة فقط، وكان بولتون على مستوى المهمة، بحيث يتلاءم تَخَفِّيه مع نبرة الصوت والأسلوب المناسبين، لبات خداعه لك مثاليًّا.»

قلت: «أرى أنه يضع شعرًا مستعارًا، فهذا واضح كثيرًا.»

«نعم، ولكنك لم تكن في غرفةٍ ذات إضاءة خافتة. وعلى الجانب الآخر، إنْ مشى بولتون في شارع فليت في وضح النهار بهيئته تلك، فسيصير التخفِّي واضحًا كثيرًا لأي شخصٍ يمر به من على مقربة. يكمن سر وضع مساحيق الوجه في التكيُّف الدقيق مع ظروف الإضاءة والمسافة التي يُرى منها واضع المساحيق. وما يُستخدم على خشبة المسرح سيبدو سخيفًا إذا استُخدم في غرفة عادية، وما يصلح في غرفة مضاءة بالمصابيح سيبدو سخيفًا إذا استُخدم بالخارج في ضوء النهار.»

سألت: «وهل ثمة مساحيق فعالة بالخارج في ضوء النهار العادي؟»

أجاب ثورندايك: «أوه، نعم. ولكن يجب وضعه بمقاييس مختلفة عن مقاييس المكياج على المسرح. فالشعر المستعار — ولا سيما شعر اللِّحية والشارب — يجب تثبيته عند حواف الشعر الأصلي، ولصقه على البشرة بمادة شفافة، وتهذيبه بالمقص. ينطبق الأمر نفسه على الحاجبين، ويجب تنفيذ التغييرات في لون البشرة بمهارة أكبر. فأنف بولتون غُيِّر شكله بطبقة صغيرة من معجون لصق الشعر المستعار، وشُكلت البثور على الخدَّين باستخدام جزيئات صغيرة من المادة نفسها، ونُفذ لون البشرة العام بطلاءٍ دهني، وأضيف قدر ضئيل من لون مسحوق لتقليل اللمَعان. تصلح هذه المساحيق للاستخدام بالخارج، ولكن كان يجب استخدامها بمزيد من العناية والمهارة؛ بعبارة أخرى، هذا ما يشير إليه النُّقاد الفنيون باسم «التحفُّظ». قليل من المساحيق يفي بالغرض، وأما الكثير منه فيُفسِد شكل الشخصية. ومن ثَم ستُفاجأ حين ترى مدى قلَّة المعجون المطلوب؛ لتغيير شكل الأنف وملامح الوجه بالكامل.»

في تلك اللحظة، سمعنا طرقة ثقيلة على الباب؛ طرقة قوية واحدة من المطرقة يبدو أن بولتون يعرفها، حيث إنه تلفَّظ قائلًا:

«يا إلهي، يا سيدي! الطارق هو ويلكينس، سائق عربة الأجرة! لقد نسيته تمامًا. ما الذي ينبغي أن نفعله؟»

حدَّق فينا بنظرات رعب مضحكة للحظات، ثم نزع الشعر المستعار واللحية والنظارة، ووضعها في خِزانة. ولكن بات مظهره مضحكًا؛ إذ لم يسع ثورندايك أن يكتم ردة فعله؛ ولذا تحرك ووقف خلفه، فقد عاد الآن إلى مظهره الأصلي ولكن مع اختلاف جوهري.

صاح وأنا أضع منديلي على فمي: «أوه، لا شيء يدعو إلى الضحك يا سيدي. يجب الإسراع وإدخال هذا الطارق وإلا فسيمشي.»

قال ثورندايك: «نعم، وهذا لا يصح. ولكن لا تقلق يا بولتون. يمكنك الدخول إلى المكتب. وأنا سأفتح الباب.»

ولكن يبدو أن الحضور الذهني لبولتون قد غاب عنه تمامًا؛ حيث إنه ظل يحوم مترددًا في أعقاب مديره. وحين فُتح الباب، سأل صوت غليظ أجش:

«هل يعيش هنا رجل اسمه السيد بولتون؟»

قال ثورندايك: «نعم، إنه هنا. تفضَّل. اسمك ويلكينس على ما أظن، أليس كذلك؟»

قال الصوت: «أنا هو يا سيدي»، واستجابةً لدعوة ثورندايك بالدخول، دخل إلى الغرفة سائق عربة الأجرة «ذات الأربع عجلات» بمظهر من العصور القديمة؛ إذ يرتدي رداءً متعدِّد الطبقات ويعلق شارة، وأخذ ينظر حوله وعلى وجهه تعبيرات تمزج بين الحرج والجرأة، وإذا بعينيه تثبُتان على أنف بولتون والفضول يفيض منهما.

علَّق بولتون وفي صوته مسحة عصبية: «ها أنت إذن.»

رد السائق بنبرة عدائية نوعًا ما: «نعم. ها أنا ذا. ما المطلوب مني؟ وأين هو ذلك السيد بولتون؟»

رد مساعدنا المحرَج: «أنا السيد بولتون.»

لم يُنزل السائق عينيه من على أنف بولتون البارز، قال: «لست أنت السيد بولتون الذي أريده.»

رد مساعدنا بنبرة كان فيها الانزعاج واضحًا: «لا يوجد أحد اسمه بولتون غيري هنا. أنا … إمممم … الشخص الذي تحدث إليك في السقيفة.»

قال السائق والشك يُساوِره: «هل هو أنت؟ ما كان ليخطر ببالي، ولكن أنت أدرى. ماذا تريد مني؟»

قال ثورندايك: «نريدك أن تجيب عن سؤال أو سؤالين. والسؤال الأول هو: هل أنت ممتنع عن الخمور؟»

بمجرد أن طرح السؤال، أخرج إناء خمر، ما جعل بال السائق يهدأ قليلًا.

قال: «أنا لست مُتشددًا.»

«إذن، اجلس وصُب لنفسك كأسًا من الخمر. هل تريد صودا أم مياهًا عادية؟»

قال السائق وهو يجلس ويُمسك إناء الخمر عازمًا على الشراب: «سآخذ كل الإضافات. أرجو أن تصب الصودا يا سيدي؛ حيث إنها مستخدمة أكثر.»

وفي أثناء ترتيب هذه التمهيدات، انسل بولتون من الغرفة بهدوء، وحين احتسى زائرنا جرعة كبيرة من الخليط القوي، بدأ الاستجواب.

قال ثورندايك: «أظن أن اسمك ويلكينس، أليس كذلك؟»

«بلى يا سيدي. اسمي صمويل ويلكينس.»

«وما هي مهنتك؟»

«مهنتي شاقَّة ولا أكسب منها الكثير من المال. أنا سائق عربة أُجرة ذات أربع عجلات، ولا أكسب منها مالًا كثيرًا.»

«هل تتذكر يومًا ضبابيًّا منذ شهر تقريبًا؟»

«ومن ذا ينساه يا سيدي! كان يومًا ذا ضباب كثيف! إنه يوم الأربعاء الموافق الرابع عشر من مارس. أتذكر ذلك التاريخ لأن الجمعية التعاونية طلبت مني دفعات متأخِّرة صبيحة ذلك اليوم.»

«هل تخبرنا ما الذي حدث معك ما بين الساعة السادسة إلى السابعة في مساء ذلك اليوم؟»

فرغ السائق من شرابه ووطَّد نفسه لسرد ما حدث، قال: «سأخبركم يا سيدي. قبيل الساعة السادسة، كنت منتظرًا في جانب الوصول لمحطة جريت نورثرن، كينجز كروس، وحينئذٍ رأيت رجلًا وسيدةً يخرجان من المحطة. نظر الرجل في الشارع يَمنة ويَسرة ورآني، ثم مشى نحو العربة وفتح الباب وساعد السيدة على الركوب. ثم قال لي: «هل تعرف مجمع نيو إن؟» وقد قال لي إنه وُلِد ونشأ في وايت هورس ألي، دروري لين.

قلت له: «اركب.»

قال لي: «حسنًا، ادخل من البوابة في شارع ويتش»، وأحسبه ظن أنني سأدخل من شارع هوتون وأنزل الدَّرج، وقال لي «سِرْ حتى قبيل نهاية الشارع، وسترى منزلًا له لوحة نحاسية كبيرة في الزاوية بجانب الباب.» وقال لي: «نريد الذهاب إلى هذا المكان»؛ من ثم ركب العربة وأغلق النوافذ وانطلقنا.»

«استغرق الطريق نصف ساعة بالتمام حتى وصلنا إلى مجمع نيو إن، وقد مشينا بين الضباب واضطُرِرت إلى النزول، وسَحْب الحصان لبعض المسافة على الطريق. وحين مررنا من تحت قوسٍ، رأيت أن الساعة كانَت السادسة والنصف، عندما نظرت في الساعة الموجودة في مسكن البواب. مشينا حتى شارفنا على نهاية المجمع، وهناك وقفت أمام منزل له لوحة نحاسية كبيرة بجانب الباب. رقم المنزل ٣١. وهنا نزل الرجل وأعطاني خمسة شلنات، ثم ساعد السيدة كي تنزل من العربة، ومشيا الهوينى حتى وصلا إلى الباب، وصعدا الدرج ببُطءٍ شديد وكأنهما يقطعان رحلةً شاقة وطويلة. وهذه آخر مرة رأيتهما فيها.»

دوَّن ثورندايك إفادة السائق كاملة مع أسئلته، ثم سأل:

«هلَّا تعطينا أي وَصْف للرجل؟»

قال ويلكينس: «الرجل له مظهر محترم، غير أنه شرب بعض الخمر، وهذا أمر معهود في يوم كهذا. ولكنه لم يفقد توازُنه، ويعلم مقدار الأجرة المناسبة في مساء ضبابي، وقلة من الناس من يُقدِّر هذه الظروف. إنه رجل مُسِن، ربما في الستين من عمره، ويستعمل نظارة، ولكن يبدو أنه لا يرى جيدًا بها. كان مظهره مُضحِكًا؛ حيث إن ظهره مُنحنٍ كأنه ظهر سلحفاة، وحين كان يمشي، يبرز رأسه إلى الأمام كأنه رأس إوزَّة.»

«ماذا رأيت منه كي تقول إنه شرب خمرًا؟»

«رأيته يسير مُترنِّحًا على قدميه. لكنه لم يكن ثَمِلًا. بل قدماه تترنَّحان على الأرض.»

«والسيدة، ما أحوالها؟»

«لم أتبيَّن الكثير منها؛ لأنها كانت ترتدي حجابًا من الصوف. ولكن لا إخالها صغيرة في السن. ربما عمرها في عمر الرجل، لكني لست على يقين من ذلك. كذلك كانت تسير مُترنِّحة هي الأخرى، وفي الحقيقة كانا زوجين غريبَي الأطوار. شاهدتهما يترنحان عبر الرصيف ويصعدان الدرج، ويتكئ أحدهما على الآخر، والرجل ينظر من خلف نظارته وهي تحاول الرؤية من خلف الحجاب، واستحسنت منهما أن استأجرا عربة وسائقًا مُستَفيقًا كي يحضرهما إلى المنزل بأمان.»

«وماذا كانت ترتدي المرأة؟»

«لست مُتيقِّنًا؛ حيث إنني لست خبيرًا في الأزياء. كان رأسها ملفوفًا في الحجاب كأنه بودينج ملفوف في قطعة قماش ويعلوه قبعة صغيرة. كذلك كان لون معطفها بُنيًّا داكنًا ومُطرَّزًا بالخرز من الحواف، وتحته فستان أسود، ولاحظت حين صعِدَت إلى العربة عند المحطة أن أحد جوربيها مجعَّد مثل آلة أكورديون صغيرة. هذا كل ما أعلمه.»

دوَّن ثورندايك آخر إجابة، وحين قرأ الإفادة بالكامل بصوت عالٍ، أعطى القلم للزائر.

قال: «إذا كانت إفادتك كلها صحيحة، فسأطلب منك أن توقِّع اسمك في أسفل الورقة.»

سأل ويلكينس: «هل تريدني أن أُقسِم إقرارًا مني بأن كل هذا صحيح؟»

أجابه ثورندايك: «لا، شكرًا لك. ربما نضطرُّ إلى استدعائك للشهادة في المحكمة، وحينئذٍ سيُطلَب منك القسم، كما أنك ستُكافأ على حضورك. وفي الوقت الحالي، أريد منك أن تُبقي هذا الكلام طَيَّ الكتمان، وألَّا تخبر أحدًا عن قدومك إلى هنا. فنحن سنُجري بعض التحريات ولا نريد أن ينتشر خبر القضية.»

قال ويلكينس وهو يُوقِّع اسمه ببطء في ذيل الإفادة: «أفهم يا سيدي، فأنت لا تريد الآخرين أن يعرفوا خطتك. لا تقلق يا سيدي، يمكنك الاعتماد عليَّ. سأكتم أمرك عن الناس.»

قال ثورندايك: «شكرًا لك يا ويلكينس. والآن، بمَ نُكافئك على عناء القدوم إلينا؟»

«سأترك لك تقدير المكافأة يا سيدي. فأنت تعلم قيمة هذه المعلومات، ولكن لا أحسب أن نِصف جنيه سيكون كثيرًا عليك.»

وضع ثورندايك على الطاولة جنيهين ذهبيَّين، وحين رآهما السائق لمعت عيناه.

قال: «لدينا عنوانك يا ويلكينس. وإذا احتجنا إلى شهادتك في المحكمة، فسنُعلِمك، وإن لم نحتَج إلى شهادتك، فسنعطيك جنيهَين آخرين بعد أُسبوعين، شريطة ألَّا تتسرب هذه المحادثة القصيرة إلى أحد.»

أخذ ويلكينس النقود مبتهجًا. قال: «يمكنُك الوثوق بي يا سيدي، لن أفتح فمي. فأنا أعلم في أي طرف تكون مصلحتي. تُصبحون على خير جميعًا.»

بعد هذه التحية تحرك صوب الباب وخرج.

سأل ثورندايك حين تلاشت أصوات قَرع نعال السائق تمامًا: «ما قولك الآن يا جيرفيس؟»

«لا أعرف ماذا أقول. هذه المرأة عنصر جديد في القضية، ولا أعلم أين أضعها.»

قال ثورندايك: «ليست عنصرًا جديدًا تمامًا. فأنت لم تنسَ حبات الخرز التي وجدناها في غرفة نوم جيفري، أليس كذلك؟»

«بلى، لم أنسَها، ولكن لم يخطر ببالي أنها ستجلِّي لنا معلومات غير أن امرأة وُجدت في غرفة النوم في وقت ما.»

«حسبتُ أنها لن تكشف لنا غير هذه المعلومة. ولكنها الآن تكشف لنا أن امرأة بعينها وُجدت في غرفة النوم في وقت بعينه، وهذه المعلومة أهم بكثير الآن.»

«نعم. وأكاد أجزم أن تلك المرأة وُجدت في الغرفة حين أنهى حياته.»

«بالتأكيد كانت في الغرفة.»

«على أي حال، لقد أصبتَ بشأن ألوان هذه الخرزات وبشأن طريقة استخدامها.»

«أما بشأن استخدامها، فقد كان مجرد تخمين، ولكن تبيَّن أنه صحيح. ومن حُسن طالعنا أن وجدنا هذه الخرزات، فرغم أنها لم تكشف لنا عن معلومات كثيرة، فقد حملتنا إلى مرحلة أخرى في القضية.»

«وكيف ذلك؟»

«أعني أن شهادة السائق لم تخبرنا إلا بأن تلك المرأة قد دخلت إلى المنزل. والخرزات تخبرنا أنها كانت في غرفة النوم، ويبدو أن وجودها — كما قلت أنت — له علاقة بموت جيفري إلى حد ما. بطبيعة الحال هذه العلاقة ليست ضرورية. إنها مجرد اقتراح، ولكنه اقتراح قوي في ظل هذه الملابسات الغريبة.»

قلت: «ورغم ذلك، فإن هذه الحقيقة الجديدة لم تُجلِّ الغموض عن القضية قيد أُنمُلة، بل إنها أضافت عنصرًا جديدًا الأمر الذي زاد في غموضها. فشهادة البواب في التحقيق لم تترك مجالًا للشك في أن جيفري قد فكر في الانتحار، كما أن استعداداته تشير بقوة إلى أنه اختار هذه الليلة بالذات كي ينهي حياته. أليس الأمر كذلك؟»

«بلى. شهادة البواب واضحة وضوح الشمس في هذه النقطة.»

«لا أفهم أين موضع هذه المرأة من القضية. واضح أن وجودها في الشقة له جانب خبيث، لا سيما في غرفة النوم وفي هذا الوقت وفي ظل هذه الملابسات الغريبة والسرية، ولكني لا أفهم ما علاقتها بهذه المأساة. وقد يتضح في النهاية أنه لا علاقة لها بتلك القضية. فأنت تتذكر أن جيفري ذهب إلى مسكن البواب في الساعة الثامنة كي يدفع الأجرة، وتحدث لبعض الوقت مع البواب. وفي هذا الوقت ربما كانت المرأة قد غادرت.»

قال ثورندايك: «هذا صحيح. ولكن على الجانب الآخر، فإن حديث جيفري مع البواب بشأن عربة الأجرة لا ينسجم البتة مع ما سمعناه للتَّو من ويلكينس. وهذا يعني — كما في رواية ويلكينس بوجه عام — أن زيارة السيدة إلى المسكن اكتنفها بعض السِّرِّية.»

سألت: «وهل تعلم مَن تكون المرأة؟»

أجاب: «لا، لا أعلم. وعندي شك قوي أنه يمكنني التعرف على هُويتها، ولكني أنتظر بعض الحقائق الأخرى.»

«هل شكوكك مبنية على اكتشافات جديدة توصلت إليها، أم أنها مُستَقاة من الوقائع التي أعرفها؟»

أجاب: «لا أحسبني أعلم شيئًا غير الذي تعلم، رغم أنني في إحدى المرات حوَّلت شكًّا قويًّا إلى يقين بمزيد من التحقيقات. ولكن أظن أنه حريٌّ بك أن تكون قادرًا على تكوين فكرة عمن قد تكون هذه المرأة.»

«لكن لم يُذكر اسم أي امرأة في القضية.»

«معك حق، ورغم ذلك، أحسب أن الأجدر بك أن تهتدي إلى اسم هذه المرأة.»

«هل يجدُر بي ذلك حقًّا؟ إذن سأبدأ أشك في أنني أصلُح في السلك الطبي القانوني؛ حيث إنني عاجز عن طرح أي اقتراح.»

ابتسم ثورندايك ابتسامة متلطِّفة. قال: «لا تُحبَط يا جيرفيس. وإخال أنك حين بدأتَ العمل في المستشفيات تساءلت إن كان مكانك المناسب هو بين أهل الطب. فقد انتابني هذا الشعور من قبل. فالأعمال المتخصصة تتطلَّب من المرء أن يتحلَّى بمعرفة خاصة، وأن يكتسب الملَكة لاستخدام هذه المعرفة. فأنَّى لطالب في السنة الثانية أن يُعالج حالة بسيطة تُعاني تمدُّدًا في الأوعية الدموية الصدرية؟ إنه يعرف تشريح الصدر، إنه يبدأ في التعرُّف على أصوات ضربات القلب الطبيعية ومواضع الأصمية، ولكنه لا يستطيع ربط هذه المعلومات المتفرقة بعضها ببعض. وعلى الجانب الآخر، فإن الطبيب المتمرِّس يشخص الحالة تشخيصًا كاملًا، وربما يتمكَّن من التشخيص من دون إجراء أي فحص، بل من مجرد سماع كلام المريض أو سعاله. الطبيب عنده كل الوقائع مثل الطالب، ولكنه اكتسب الملَكة التي تمكنه من ربط الشذوذ الوظيفي للعضو بتغيراته التشريحية المصاحبة لذلك الشذوذ. إنها الخبرة. وبناءً على تدريبك السابق، سوف تكتسب هذه الملَكة قريبًا. حاول أن ترصد كل شيء. لا تدع شيئًا يفوت من ملاحظتك. ولا تبرحْ تحاول أن تجد صلة بين الوقائع والأحداث التي تبدو غير مترابطة. هذه نصيحتي لك، وبذلك سنُنَحي قضية بلاكمور جانبًا وننهي يوم عملنا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤