الفصل الرابع عشر

ثورندايك يزرع اللغم

أرى أن المعلومات التي قدمها السيد صمويل ويلكينس، بدلًا من أن تُبدد سحابة الغموض التي تخيم على قضية بلاكمور، اكتنفتها بسحابة غموض أخرى. والمسألة التي عهد بها إليَّ ثورندايك كي أحلَّها كانت هي الأصعب من أي مسألة أخرى. فقد عرض عليَّ أن أتوصَّل إلى امرأة مجهولة وأهتدي إلى اسمها. ولكن أنَّى لي ذلك؟ فلم تُذكَر أي امرأة في القضية غير السيدة ويلسون. ظهرت هذه الشخصية الدرامية من العدَم فجأةً وسرعان ما اختفت من دون أن تترُك أي أثر، باستثناء الخرزتَين أو الثلاثِ التي وجدناها في غرفة جيفري.

دورُها في هذه المأساة — إن كان لها دور — لم يكن واضحًا البتة. فالوقائع كانت لا تزال تُشير إلى شُبهة انتحار، مثلما هو الحال قبل ظهورها. تلميحات جيفري المُتكررة بشأن نواياه، والاستعدادات المهمة التي اتخذها كفيلة بأن تطرد أي فكرةٍ تتعلق بوجود شُبهة جنائية. لكن وجود المرأة في المسكن حينذاك، وإحاطة وصولها بالسرِّية والاحتياطات التي اتَّخذتها لئلَّا يتعرَّف عليها أحد؛ تُشير بقوةٍ إلى شيءٍ من التواطؤ في الحدَث المروِّع الذي أعقب وصولها.

لكن ما التواطؤ الذي يُمكن أن يُرتكَب في حالة الانتحار؟ ربما زوَّدته المرأة بالمِحقنة والسُّم، ولكن إنْ كان الأمر كذلك فليس ثمَّة حاجة إلى أن تذهب إلى مسكنه لهذا الغرض. عبَرَت بعقلي أفكارٌ عن الاستدراج والتنويم المغناطيسي، لكن هذه النظريات لم تتسق مع القضية، وفكرة الإيحاء بوجود جريمة عن طريق التنويم المغناطيسي لم تكن مُقنعة بما فيه الكفاية لعقل تمرَّس في الطب. ثم خطرت ببالي فكرة الابتزاز المُرتبط بسرٍّ مُخزٍ؛ ولكن رغم أن هذه النظرية تبدو أكثر منطقية، فإنها غير مُرجَّحة نظرًا لسِنِّ جيفري وشخصيتِه.

كل هذه التأمُّلات لم تُلقِ أيَّ بصيص نور على السؤال المحوري: «مَن كانت هذه المرأة؟»

مرَّ يومان من دون أن يتطرَّق ثورندايك إلى القضية من قريبٍ أو من بعيد. لم يكن في المنزل معظم الوقت، رغم أنني لم يكن لديَّ أي فكرة عن مدى انشغاله. والأغرب هو هجران بولتون للمُختبر والانشغال في أعمال بالخارج. حسبتُ أنه انتهز فرصة انشغالي بمهمةٍ ما، وظننتُ من دون أن أتيقَّن أنه صار وكيلَ تحرياتٍ خاصًّا لدى ثورندايك، كما فعل في قضية صمويل ويلكينس على ما يبدو.

في مساء اليوم الثاني، أتى ثورندايك إلى المنزل ومُحيَّاه يوحي بالبِشر، ولكن أفعاله التي شرع فيها أيقظت فضولي المُترقِّب. فقد وصل إلى خزانة وأخرج منها علبة سجائر من ماركة تريتشينوبولي. سجائر تريتشينوبولي هي مصدر التدليل الوحيد لدى ثورندايك، حيث إنه لا يستمتِع بها إلَّا في حالات نادرة ذات احتفالٍ خاص، وهو ما يعني عمليًّا أنه أحرز بعض التقدُّم، أو توصَّل إلى بعض الحلول الاستثنائية لمسألةٍ ذات صعوبة استثنائية. ولذلك أخذتُ أراقبه باهتمام مُتقد.

علَّق وهو يُخرج سيجارًا ويشتمُّ رائحتَه مُمسكًا إيَّاه برفق: «ما يؤسِفني أن محتويات سجائر تريتشينوبولي فيها قدْر من السُّمِّية. وبالنسبة إلى المُدخن الشرِه، لا توجد سجائر أخرى تُضاهيها.» أعاد السيجار إلى العلبة وأردف: «أرى أن أكافئ نفسي بسيجارٍ بعد العشاء احتفالًا بهذه المناسبة.»

سألته: «أي مناسبة؟»

«مناسبة الانتهاء من قضية بلاكمور. وسأكتب إلى مارشمونت أنصحُه بتقديم إنذارٍ قضائي.»

«هل تعني أنك أخيرًا وجدتَ ثغرة في الوصية؟»

تعجب: «وأيما ثغرة! عزيزي جيرفيس، الوصية الثانية مزورة.»

حدقتُ النظر فيه منذهلًا، حيث إنني لم أجِد كلامه غير هراءٍ بطريقةٍ أو بأُخرى.

قلت: «ولكن ما تقوله مُستحيل يا ثورندايك. فالشاهدان لم يتعرَّفا على توقيعِهما فحسب، وعلى بصمات أصابع الرسام ذات ألوان الرسم فحسب، بل إنهما قرَآ الوصية ويتذكَّران كل بنودها.»

«أجل، وهذا الجزء الجدلي في القضية. تلك مسألة عويصة. وسأمنحك فرصة أخيرة لحلِّها. في صباح الغد، سنُقدم شرحًا وافيًا للقضية؛ ومن ثم أمامك ٢٤ ساعةً أخرى كي تُفكِّر في القضية. ولكن الآن، سأصحبك إلى نادٍ كي نتناول العشاء. أظنُّنا سنكون في أمانٍ هناك من أعيُن السيدة شاليبام.»

جلس وكتب خطابًا كان واضحًا أنه قصير للغاية، وكتب عليه العنوان ولصق طابع البريد، واستعد للخروج.

قال: «هيا بنا ننطلق إلى أماكن تزخر بالاحتفالات وتتراقَص فيها الأضواء. سنزرع اللغم في صندوق البريد في شارع فليت. فأنا أُحب أن أكون في مكتب مارشمونت حين ينفجر.»

قلت: «ومِن أجل ذلك، أتوقَّع أن يُسمَع صدى هذا الانفجار من مكاننا هذا.»

ردَّ ثورندايك: «وأنا أيضًا أتوقَّع ذلك، وهذا يُذكِّرني بأن أبقى بالخارج طيلةَ اليوم غدًا، وإذا اتصل مارشمونت، فلا بدَّ أن تبذل كل ما بوسعك كي تُقنعه بالزيارة بعد العشاء، وأن يُحضر ستيفن بلاكمور معه إن أمكن. فأنا حريصٌ على أن يأتيَ ستيفن إلى هنا، حيث إنه سيُعطينا بعض المعلومات الأخرى، ويؤكِّد لنا بعض الحقائق.»

وعدتُه بأن أمارس كل ما أوتيت من قدرات في إقناع السيد مارشمونت، وهذا الأمر كنتُ سأفعله من تلقاء نفسي؛ لأن الفضول بلغ منِّي مبلغًا عظيمًا، وأريد أن أسمع شرح ثورندايك لتلك النتيجة التي لا يمكن تصوُّرها، والتي توصَّل هو إليها، وسكتنا عن الحديث في الموضوع تمامًا، وفيما تبقَّى من الليل، لم أستطع أن أحثَّ زميلي كي يفتح الحديث في الموضوع من جديد، سواء بطريقةٍ غير مباشرة أو حتى على سبيل التلميح.

تحقَّق ما توقَّعناه بشأن السيد مارشمونت؛ ففي صبيحة اليوم التالي، وفي غضون ساعةٍ من خروج ثورندايك من المسكن، سمعتُ طرقًا قويًّا على الباب، وحين فتحتُ الباب، وجدتُ المحامي رفقة رجل مُسِن. رأيت السيد مارشمونت مُتعكِّر المزاج بعض الشيء، وكان رفيقه في حالة غضبٍ جارف.

حين دعوت مارشمونت للدخول ودخل، قال: «كيف حالك يا دكتور جيرفيس؟ أليس صديقك موجودًا؟»

«نعم، ولن يعود حتى المساء.»

«إمممم، اعذُرني. فنحن نرغب في رؤيته على وجه الخصوص. هذا شريكي، السيد وينوُود.»

أومأ شريكه بقوة وأردف مارشمونت:

«وصلني خطابٌ من الدكتور ثورندايك، ويَسعني أن أقول إن هذا الخطاب غريب، بل إنه في الحقيقة خطاب استثنائي.»

تمتم السيد وينوُود: «إنه خطاب من مجنون!»

«لا، لا يا وينوُود، لا شيء من هذا. اكبح جماح غضبك أرجوك. ولكن في الحقيقة، الخطاب غير مفهوم بالمرة. إنه مرتبطٌ بوصية الراحل جيفري بلاكمور؛ أنت تعرف الوقائع الأساسية في القضية، ولم نتمكن من التوفيق بينها وبين الوقائع المذكورة في هذا الخطاب.»

أخرج السيد وينوود الخطاب من محفظته ووضعه على الطاولة بقوة، صاح: «ذاك هو الخطاب. وإذا كنتَ على دراية بالقضية يا سيدي، فاقرأ هذا الخطاب وقل لنا ماذا ترى.»

أخذتُ الخطاب وقرأته بصوتٍ عالٍ:

«الموضوع: الفقيد جيفري بلاكمور

السيد الفاضل مارشمونت تحية طيبة وبعدُ

لقد درستُ هذه القضية ببالِغ الاهتمام، ولا شك عندي الآن أن الوصية الثانية مزوَّرة. وأرى أنه لا مناصَ من الإجراءات الجنائية، ولكن في الوقت الحالي، تقتضي المحكمة تقديم إنذار قضائي.

وإذا أتيت إلى عنوان مَسكني مساء الغد، يُمكننا التحدُّث بشأن القضية، ويسرُّني كثيرًا أن تُحضر السيد ستيفن بلاكمور؛ حيث إن معرفته الشخصية بالأحداث والأطراف المَعنية ستُساعدنا كثيرًا في إجلاء التفاصيل الغامضة.

وتفضَّل بقبول فائق الاحترام

مقدِّمه لكم

جون إيفيلين ثورندايك

حضرة المحترم مارشمونت.»

صاح السيد وينوود وهو ينظر إليَّ شزرًا: «حسنًا! ما رأيك فيما يراه ذاك المستشار المُتعلم؟»

أجبته: «علمتُ أن ثورندايك كتب خطابًا إليكما بشأن هذه القضية، ولكن الحق أنني لا أعرف ما يدور في عقله. هل شرعتما في تنفيذ مشورته؟»

صاح المُحامي الغضوب: «بالتأكيد لا! هل تظن أننا نُريد أن نجعل من أنفسنا أضحوكة أمام المحاكم؟ فهذا مُستحيل … مُستحيل يبعث على السخرية!»

قلت بنبرةٍ خشنة حيث إنني انزعجتُ من أسلوب السيد وينوود: «تعلَمان أن الأمر لا يمكن أن يكون على هذا النحو، وإلا فَما كتب ثورندايك الخطاب. يبدو أن النتيجة يتعذَّر عليَّ فهمُها كما هو الحال معكما، ولكني أثق في ثورندايك ثقةً كاملة. وإذا قال إن الوصية مزورة، فلا شك عندي أنها مزورة.»

زمجر وينوود: «ولكن كيف يكون هذا بحقِّ الله؟ فأنت تعرف المُلابسات التي كُتبت الوصية في ظلِّها.»

«أجل، وثورندايك أيضًا على درايةٍ بها. وإنه ليس بالرجل الذي يُغفِل حقائق مهمة. ولا فائدة من الجدال معي. كما أنني في حيرةٍ من هذه القضية مثلكما. والأفضل أن تأتيا في المساء وتتحدَّثا بشأنها معه كما أشار عليكما.»

زمجر السيد وينوود: «هذا الموعد غير مُلائم البتة. فنحن سنتناول العشاء في المدينة.»

قال مارشمونت: «معك حق، ولكن ليس أمامنا خيار آخر. وكما قال الدكتور جيرفيس، لا بد أن نعتبر أن ثورندايك لديه أرض صلبة يبني عليها رأيه. فهو لا يرتكب الأخطاء التي قد يقع فيها أي شخص. وبالطبع إذا كان ما يقوله صحيحًا، فسيتغير موقف السيد ستيفن تغيرًا جذريًّا.»

صاح وينوود: «يا له من هراء! أكاد أجزم أن مآل هذا الأمر إلى لا شيء. ورغم ذلك، فإني أتفق في ضرورة سماع تفسيره.»

قال مارشمونت بصوتٍ خفيض تختلجه نبرة اعتذار: «لا عليك البتة يا وينوود، إنه عجوز سريع الغضب ولسانه حاد، ولكنه لا يقصد أي أذًى.» ظل وينوود يتفوَّه بكلامِ تذمُّر طويل؛ ومن ثم لم يُتبيَّن منه هل يتفق مع ما قاله أم لا.

قلت: «إذن، سننتظركما الليلة في حوالَي الساعة الثامنة، ولكن هل ستُحضران السيد ستيفن معكما؟»

أجاب مارشمونت: «نعم، وأظن أننا سنتمكن من إحضاره معنا. فقد أرسلتُ له برقية أطلب فيها حضوره.»

عندئذٍ، غادر المحاميان تاركَين إيَّاي أتأمل في كلام زميلي المذهل، وهذا ما فعلتُه، ولكنه أتى على حساب الأعمال الأخرى إلى حدٍّ كبير. ليس عندي أدنى شك في أن ثورندايك عنده تبرير لما أدلى به، ولكن هذا لا ينفي أن ما يقوله ينطبق عليه وصف السيد ديك سويفلر «كلام لا يُصدَّق».

حين عاد ثورندايك، أبلغتُه بزيارة الصديقَين وأعلمته المشاعر التي عبَّرا عنها، وقد ابتسم ابتسامةً هادئة عندما سمع ما قلته.

قال: «علمتُ أن ذلك الخطاب سيُحضر مارشمونت إلى بابنا قريبًا. أما وينوود، فأنا لم ألتقِ به من قبل، ولكني أعلَم أنه من الأشخاص الذين ينبغي ألَّا تغضب من أسلوبهم في الكلام. وبوجهٍ عام، لا أتفق مع مَن يطلبون ضمنيًّا ألَّا تؤاخذهم في عدم التقيد بقواعد السلوك الطبيعية التي يُتوقَّع من غيرهم اتباعها. ولكن بما أنه يبشِّر بمنحنا ما يطلق عليه الفنانون المُتنوعو المهارات «دورًا إضافيًّا»، فسنستفيد منه ونُعطيه دورًا.»

هنا، ابتسم ثورندايك ابتسامةً ماكرة — وقد عرفتُ معناها في المساء — وسأل: «ماذا تقول في هذه المسألة؟»

أجبته: «لقد استسلمت. وبالنسبة إلى عقلي المُنهَك، تُشبه قضية بلاكمور مسألةً جبرية لا نهاية لها، وضعها عالِم رياضيات مجنون.»

ضحك ثورندايك على هذا التشبيه الذي أعتبِره تشبيهًا في محله.

قال: «الحَقْ بي على العشاء ولنحتسِ زجاجة نبيذ؛ حتى لا تضعف معنوياتنا بسبب عبوس وينوود. أظن أن حانة «بيل» في هولبورن ستُلبِّي احتياجاتنا الحالية أفضل من النادي. ثمَّة شيءٌ مرحٌ ومُبهجٌ في الحانات القديمة، ولكن يجب أن نكون في حالة تأهُّبٍ قصوى بشأن السيدة شاليبام.»

انطلقنا من فورنا، وبعد أسبوعٍ من الحبس، وجدتُني مرة أخرى وسط شوارع لندن، والنوافذ ذات الإضاءة الساطعة من المحلات، والأعداد الغفيرة من الغرباء الودودين الذين تعجُّ بهم الأرصفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤