الفصل التاسع

منزل اللغز

في الساعة التاسعة والنصف من صباح اليوم التالي، كانت العربة تسير بنا في شارع أَلبِرت إمبانكمينت، ونحن تُبهِجنا صلصلة الجرس المعلَّق في الحِصان. عانَقَت معنويات ثورندايك عنان السماء حينذاك، على الرغم من أن الاستمتاع بتدخين غليونه الصباحي عطَّله عن الحديث بانسيابية. ومن باب الاحتياط، وضع دفتري في جيبه قبل أن نبدأ رحلتنا، وأخرجه مرةً أو مرتَين لتصفُّح صفحاته، ولكنه لم يُشِر إلى موضوع رحلتنا البحثية، وتشير التعليقات القليلة التي تفوَّه بها إلى أن فكره مشغولٌ بمسائل أخرى.

حين وصلنا إلى محطة فوكسهول، ترجَّلنا من العربة واتخذنا طريقنا إلى الجسر الذي يمتدُّ على شارع أَبَر كينينجتون لين بالقرب من تقاطُعه مع طريق هارليفورد.

قال ثورندايك: «البداية من هنا. تبلغ المسافة إلى المنزل من هنا نحو ٣٠٠ ياردة — أي نحو ٤٢٠ خطوة — وبعد نحو ٢٠٠ خطوة، من المفترض أن نصل إلى الطريق المفروش بالحصباء. فهل أنت جاهز؟ وإذا حافظنا على وتيرة خطواتنا، فسيكون تقدير متوسط المسافة دقيقًا.»

بدأنا سَيرنا بوتيرة متوسطة السرعة وخُطًى ثابتة، وأخذنا نعُد الخطوات بصوتٍ عالٍ. حين بلغنا الخطوة ١٩٤، لاحظت أن ثورندايك يومئ برأسه إلى الأمام نحو طريق تفصلنا عنه مسافة قصيرة، وبينما نقترب من الطريق، بدأ ينظر إليه مُنتبِهًا، ولم تكن ثمة صعوبةٌ في أن يُنبئنا استواء السطح واللون الفاتح أن الطريق أُعيد فرشه بالحصباء منذ فترة قصيرة.

وحين بلغنا الخطوة ٤٢٠، توقفنا، والتفت إليَّ ثورندايك وعلى وجهه ابتسامة النصر.

قال: «لم يخِب تقديري يا جيرفيس. هذا هو المنزل المنشود إن لم أخطئ التقدير كثيرًا. كما أنه لا توجد إسطبلاتٌ أو طرقٌ خاصة أخرى في الأُفُق.»

أشار إلى مُنعطَف ضيق على مسافةٍ منا تبلغ نحو ١٠ ياردات، ومن الواضح أنه المدخل إلى الإسطبلات أو الفناء، تُغلَق عليه بوابةٌ خشبية ضخمة.

أجبته: «أجل، لا شك أنه المكان المنشود، ولكن، يا إلهي!» أردفت حين اقتربنا أكثر: «المنزل خالٍ من ساكنيه. هل ترى؟»

أشرتُ إلى ورقة إعلان مُلصَقة على البوابة مكتوب عليها — على حد ما رأيت من هذه المسافة — كلمة «للإيجار».

حين وقفنا ننظر في الإعلان، وجدناه ينصُّ على أن المنزل والإسطبلات والوِرَش معروضة للإيجار أو البيع، ومن يُرِد الاستفسار يتواصل مع السادة شركة ريبودي براذرز — الوكيل العقاري والمثمِّن — الكائنة في شارع أَبَر كينينجتون لين، قال ثورندايك: «تغيُّر جديد ومفاجئ في الأحداث، وإن كان مُتوقَّعًا. والسؤال الذي يطرح نفسه حاليًّا هو: هل نطرح بعض الاستفسارات على الوكيل، أم الأفضل أن نحصل على المفاتيح وننظر ما بداخل المنزل؟ وأنا أميل إلى الاثنين على أن نبدأ بالأخير، ولكن هذا مرهون بأن يَعهَد إلينا السادة شركة ريبودي براذرز بالمفاتيح.»

شقَقنا طريقنا صوب العنوان المذكور، وحين دخلنا المكتب وقدَّم ثورندايك طلبًا للحصول على المفاتيح، ظهرت ملامح المفاجأة على العامل؛ حيث إن مظهر ثورندايك لا يُوحي بأنه شخصٌ له علاقة بالإسطبلات والوِرَش. ولكننا لم نجد صعوبةً في الحصول على المفتاح، وحين أخرجه العامل من مجموعة مفاتيح مُعلَّقة في خطَّاف، علَّق قائلًا:

«أتوقع أن تجدا المكان مُتَّسخًا ومُهمَلًا إلى حدٍّ ما. فالمنزل لم يُنظَّف بعدُ؛ إنه على حاله منذ أن أخذ الوسطاء الأثاثَ.»

سأل ثورندايك: «إذن، هل اضطر المستأجر الأخير إلى بيع أثاثه؟»

«أوه، لا. بل اضطر إلى أن يغادر فجأة من أجل بعض أعماله في ألمانيا.»

قال ثورندايك: «أرجو أن يكون قد دفع الأجرة.»

«أوه، نعم. اطمئنَّ من هذه الناحية. ولكن حريٌّ بي أن أذكر أنَّ السيد فايس — ذاك اسمه — كان رجلًا فاحش الثراء. فالظاهر أن معه مالًا كثيرًا، على الرغم من أنه كان دائمًا ما يدفع بالأوراق النقدية. وأنا لا أظنُّه يمتلك حسابًا بنكيًّا هنا. فهو لم يمكث هنا أكثر من ستة أو سبعة أشهر، ويُخيَّل إليَّ أنه لا يعرف أُناسًا كثيرين في إنجلترا؛ حيث إنه أودع مبلغًا نقديًّا عِوَضًا عن الأشخاص المرجعيين حين أتى أول مرة.»

«يُخيَّل إليَّ أنك قلت إن اسمه فايس. فهل يمكن أن يكون هو إتش فايس؟»

«أحسبه كذلك. ولكن اسمح لي أن أتأكد لك.» فتح درجًا وتصفَّح دفترًا يشبه نماذج الإيصالات. «أجل؛ إتش فايس. هل تعرفه يا سيدي؟»

«تعرفت على رجل اسمه السيد إتش فايس منذ بضع سنوات. أذكر أنه من برِيمِن.»

علَّق العامل: «لكن السيد فايس الذي أقصده عاد إلى هامبورج.»

قال ثورندايك: «آه، يبدو أننا نتحدث عن شخصَين مختلفَين. فالسيد فايس الذي أعرفه رجل أبيض البشرة، وله لحية، وأنفه فيه حُمرة، ويستعمل نظارات.»

قال العامل الذي من الواضح أنه قنع بسهولةٍ بالتفاصيل المعطاة: «إنه هو. لقد وصفتَه وصفًا دقيقًا.»

قال ثورندايك: «يا إلهي، ما أصغر هذا العالم! هل دوَّنت عنوانه في مدينة هامبورج؟»

أجاب العامل: «لم أفعل. فأنت ترى أن عقد الإيجار انتهى، وقد حصلنا على الأجرة، على الرغم من أن المنزل لم يُسلَّم بعد. فمُدبِّرة شئون منزل السيد فايس لا يزال معها مفتاح الباب الرئيسي. فهي لن ترحل إلى هامبورج قبل أسبوعٍ آخر أو نحو ذلك، وفي هذه المدة، هي تحتفظ بالمفاتيح وتزور المنزل كل يوم كي ترى إن كان هناك أي خطابات.»

قال ثورندايك: «هكذا إذن. لا أعرف إن كان لديه مدبرة شئون المنزل نفسها.»

رد العامل: «هذه السيدة ألمانية، واسمها صعب النطق. أظنه شاليبانج.»

«بل شاليبام. إنها هي. امرأة بيضاء البشرة وحاجباها دقيقان للغاية، وتُعاني حَوَلًا ملحوظًا في عينها اليُسرى.»

قال العامل: «هذا غريب للغاية يا سيدي. إنه الاسم نفسه، وأتذكر أنها امرأة بيضاء البشرة وحاجباها دقيقان للغاية كما ذكرتَ الآن. ولكن لا يمكن أن تكون هي المرأة نفسها. أنا لم أرَها سوى مراتٍ قليلة، والمرة تستغرق دقيقةً أو نحو ذلك، ولكني على يقين من أنها لا تعاني حَوَلًا في عينها. لذا، تعلم يا سيدي أنه لا يمكن أن تكون هي المرأة نفسها. فإنه يمكن صبغ الشعر، أو استعارته، أو وضع مساحيق التجميل، ولكن الحول لا تُخطئه العين. وكذلك لا يمكن تصنُّع الحوَل.»

ضحك ثورندايك ضحكة هادئة. «وأنا لا أحسب ذلك، إلا لو اخترع أحدٌ ما عينًا زجاجيةً قابلةً للتعديل. هل هذه المفاتيح؟»

«نعم يا سيدي. المفتاح الكبير للبوابة الصغيرة الملحقة بالبوابة الأمامية. والمفتاح الآخر هو مفتاح المزلاج في الباب الجانبي. والسيدة شاليبانج معها مفتاح الباب الرئيسي.»

قال ثورندايك: «شكرًا لك.» أخذنا المفاتيح المعلَّق فيها ميدالية خشبية، وانطلقنا عائدَين صوب منزل اللغز، وتناقشنا في كلام العامل ونحن في الطريق.

علَّق ثورندايك: «شاب ودود للغاية. وقد بدا سعيدًا بالتخلُّص من رتابة العمل المكتبي بالدخول في محادثة قصيرة. وبالتأكيد سعِدتُ بإقحامه في المحادثة.»

قلت: «على أي حال، ليس عنده الكثير.»

نظر إليَّ ثورندايك متفاجئًا. «لا أدري ما الذي تتوقعه يا جيرفيس، وكأنك تنتظر من غرباء أن يُقدِّموا لك مجموعةً كاملةً من الأدلة مصنَّفة بالكامل، وتتضمن كل الاستنتاجات والآثار المترتبة المذكورة. وأنا أرى أن الشاب قد أفادنا بكلامه كثيرًا.»

سألته: «وماذا أفدتَ منه؟»

حاججني: «آه، لا تقُل هذا يا جيرفيس، هل هذا سؤال منطقي في ظل الترتيب الحالي؟ لكني سأذكر لك بضع نقاط. علمنا منه أنه منذ نحو ستة أو سبعة أشهر أتى السيد فايس إلى كينينجتون لين، وأنه غادرها الآن. وهذه معلومة مفيدة. ثم علمنا أن السيدة شاليبام بقيت في إنجلترا، ولولا النتيجة اللازمة المهمة التي تقترحها هذه المعلومة، لقُلنا إنها ليست ذات أهمية كبيرة.»

«وما تلك النتيجة؟»

«لا بد أن أدَعَك تفكر في الوقائع على راحتك، ولكن ستعرف السبب الظاهري وراء عدم سفرها. إنها منشغلةٌ في تصحيح خطأ فادح في خطتهم. فأحدهم أعطى هذا العنوان لمراسلٍ ما من دون أن ينتبه؛ وربما مراسل من خارج البلاد. والآن، بما أن رغبتهم واضحة بأنهم لا يريدون أن يخلِّفوا أثرًا وراءهم، فهم من جانبٍ لا يستطيعون ترك عنوانهم الجديد لدى مكتب البريد كي يعيد توجيه الخطابات عليه، وعلى الجانب الآخر، فإن ترك خطاب في الصندوق قد يكشف عن رابطٍ يُمكِّن من تتبُّع أثرهم. إضافة إلى ذلك، قد يكون الخطاب من الخطابات التي لا يرغبون في أن تقع في أيدٍ خاطئة. وما كانوا ليعطوا هذا العنوان لأحد إلا في ظل ظروف معينة.»

«لا، لا أظنهم يعطون العنوان لأحد إن كانوا استأجروا هذا المنزل، وقد بيَّتوا النية صراحةً على ارتكاب جريمة فيه.»

«بالضبط. وهناك واقعة أخرى ربما فهمتَها من كلام صديقنا الشاب.»

«وما هي؟»

«الحَوَل الذي يمكن التحكم فيه ملَكة لها قيمة كبيرة لشخص لا يريد أن يتعرف عليه أحد.»

«أجل، لقد لاحظتُ ذلك. ويبدو أن الشاب يجزم بأن تلك الصفة قاطعة في تحديد هوية الشخص.»

«وكذلك معظم الناس؛ لا سيما في حالة الحوَل الذي من هذا النوع. يُمكننا جميعًا أن تحولَّ أعينُنا تجاه أنوفنا، ولكن لا يوجد شخص عادي يمكن أن يدير إحدى عينَيه بعيدة عن الأخرى. وانطباعي أن الإصابة بالحوَل إلى الخارج أو عدم الإصابة به — أيًّا ما كانت الحالة — من شأنها أن تُقبَل على أنها من الصفات المطلَقة التي يمكن التعرف بها على هُوية شخص ما. ولكن ها نحن نتعرض لذلك الموقف.»

أدخل المفتاح وفتح البوابة الصغيرة الملحَقة بالبوابة الرئيسية، وحين أصبحت قدمانا على الطريق المغطَّى بالحصى، أقفل البوابة من الداخل.

عندما لاحظت أن البوابة بها مزلاج، سألته: «لماذا أقفلتَ علينا؟»

أجاب: «لأنه إذا سمِعْنا الآن أي شخص يفتح كي يدخل المنزل، فنحن نعرف مَن يكون. فلا أحد غيرنا معه مفتاح سوى شخص واحد.»

أصابتني إجابته بقدر من الحيرة. ومن ثَم وقفت ونظرت إليه.

«هذا موقف غريب يا ثورندايك. إنه لم يخطر على بالي. ما الذي سيأتي بها إلى المنزل ونحن هنا؛ بل ربما تكون بداخل المنزل في هذه اللحظة.»

قال: «أرجو ألَّا تكون هنا. وعلى وجه التحديد، لا نريد أن يأخذ السيد فايس حذره، فعلى حد فهمي، إنه رجل يقِظ على أي حال. وإن أتت، فالأفضل أن نختفي عن أنظارها. وأظن أننا سنفتش المنزل أولًا. فهذا أكثر شيء يهمنا الآن. فإن أتت المرأة ونحن هنا، فقد تمكث كي تُريَنا المنزل وتُبقي عينها علينا. ولذا سنترك الإسطبلات ونفتشها في النهاية.»

قطعنا المدخل إلى الباب الجانبي الذي أدخلتني منه السيدة شاليبام، حين أتيتُ في زياراتي السابقة. أدخل ثورندايك مفتاح المزلاج، وبمجرد أن صرنا بالداخل، أغلق الباب وأسرع كي يدخل الصالة؛ ومن ثم تبعتُه. عمد إلى الباب الأمامي مباشرةً، وبمجرد أن رفع مزلاج القفل، بدأ يتفحص صندوق الخطابات بانتباه بالغ. كان صندوقًا خشبيًّا كبيرًا إلى حدٍّ ما، ومؤمَّنٌ بقفل ذي نوعية جيدة، ومزوَّد بشبكة سلكية يمكن للمرء أن يرى ما بداخل الصندوق من خلالها.

علَّق ثورندايك: «إننا محظوظان يا جيرفيس. لقد أتَت زيارتنا في الوقت المناسب. ها هو خطاب في الصندوق.»

قلت: «ولكن لا يسعنا إخراجه؛ وإن فعلنا، فلا أرى مسوِّغًا لذلك.»

رد: «لا أحسبني مُستعدًّا للموافقة على إخراجه، ولكني أُفضِّل ألَّا أعبث بخطابات شخص آخر، حتى وإن كان يُحتَمَل أن هذا الشخص قاتل. ولربما نحصل على المعلومات التي نريدها من على الظرف.»

أخرج من جيبه كشافًا كهربيًّا صغيرًا مزودًا بعدسة لتكثيف الضوء؛ وحين ضغط على الزِّر، سلَّط ضوء الشعاع على ما بداخل الصندوق من خلال الشبكة. كان الخطاب قابعًا في أرضية الصندوق ووجهه إلى الأعلى؛ ومن ثَم يمكن قراءة العنوان بسهولة.

قرأ ثورندايك بصوت عالٍ: «عناية الدكتور إتش فايس. طابع ألماني، ويبدو أن طابع البريد من مدينة دارمشتات. تلاحظ أن عبارة «عناية الدكتور» مطبوعة وباقي الكلام مكتوب بخط اليد. ماذا تستنتج من ذلك؟»

«لا أعلم البتة. هل تظن أنه طبيب بالفعل؟»

«ربما الأجدر بنا أن نُنهي التفتيش قبل أن يأتينا أحد، ثم نتناقش فيما تنطوي عليه هذه الوقائع فيما بعد. ولعلي أجد اسم المُرسل في الجهة الأخرى من المظروف. وإن لم أجِدْه، فسأفتح القفل عَنوةً وأُخرج الخطاب. هل معك مِسبار؟»

«نعم، فقد اعتدت حمل علبة أدوات صغيرة في جيبي.»

أخرجت علبة الأدوات من جيبي، وأخرجت منها مسبارًا مفصليًّا مصنوعًا من سلك فضي سميك إلى حد ما، ووصلت النصفَين أحدهما بالآخر وأعطيت ثورندايك المسبار كاملًا؛ ومن ثم مرَّر قضيبًا رفيعًا من خلال الشبكة وقلب الخطاب ببراعة.

حين سقط الضوء على الجانب الآخر من المظروف، أطلق صيحة رضًا: «أها! أُنقِذنا من الاضطرار إلى السرقة، أو بالأحرى من اقتراض غير مأذون فيه، «يوهان شنيتسلر، دارمشتات». هذا كل ما نريد بالفعل. وبإمكان الشرطة الألمانية أن تفعل الباقي إن لزم الأمر.»

أعاد لي المسبار ووضع المصباح في جيبه، وأفلت مزلاج القفل كي يغلق الباب، وعاد يتمشى في الصالة المظلمة ذات الرائحة الكريهة.

سأل: «هل ذُكر أمامك اسم يوهان شنيتسلر؟»

قلت إني لا أتذكر، حتى، أني قد سمعت الاسم من قبل.

قال: «ولا أنا، ولكن أرى أنه ربما نُكوِّن تخمينًا صائبًا بشأن مِهنته. فكما ترى، عبارة «عناية الدكتور» كانت مطبوعةً على المظروف، وتُرك باقي العنوان كي يُكتب بخط اليد. والاستنتاج الجلي أنه شخصٌ من عادته أن يُرسِل خطاباتٍ إلى أطباء، وبما أن المظروف والحروف — المطبوعة وليست المنقوشة — لهما نمط تجاري، فيمكننا افتراض أنه يعمل في حِرفة ما. ولكن، ما تكون هذه الحرفة؟»

«ربما كان جهة تصنيع أجهزة طبية أو أدوية، والأخرى هي الأرجح عندي، حيث إن صناعة الأدوية والمواد الكيميائية رائجة في ألمانيا، كما أن السيد فايس يبدو أنه بحاجةٍ إلى الأدوية أكثر من الأجهزة الطبية.»

«نعم، أحسبك على حق، ولكن سنتقصَّى عنه حين نصل إلى المنزل. والأَولى بنا الآن أن نُلقي نظرةً على غرفة النوم؛ هذا إن كنت تتذكَّر أي غرفةٍ هي.»

قلت: «إنها في الطابق الأول، والباب الذي دخلت منه على رأس السلم مباشرةً.»

صعدنا درجات السلم وحين وصلنا البسطة، توقفت.

قلت: «هذا هو الباب»، وكدت أن أُدير المقبض لولا أن ثورندايك أمسك ذراعي.

قال: «لحظة يا جيرفيس. ما الذي تستنتجه من هذا؟»

أشار إلى بُقعةٍ بالقرب من حافة الباب السفلية، وحين أمعنَّا النظر، علمنا أنها أربعة ثقوب براغي ذات حجمٍ كبير نوعًا ما. لقد مُلِئت بمهارةٍ باستخدام المعجون وغُطيَت بالطلاء، وكان اللون قريبًا للغاية من لون الباب المصنفَر والمصقول، لدرجة أنها لا تكاد تُرى.

أجبته: «واضحٌ أن ثمة بُرغِيًّا ثُبت في هذا الموضع، على الرغم من أنه يبدو موضعًا غريبًا لتثبيت براغي.»

قال ثورندايك: «على العكس من ذلك تمامًا. إذا نظرت إلى أعلى، فسترى أنه ثُبت بُرغيٌّ آخر في الجزء العلوي من الباب، وبما أن القفل في المنتصف، فلا بد أن هذه البَراغيَّ كانت فعالةً كثيرًا في إحكام الباب. لكن هناك بعض الجوانب الأخرى التي تلفت الانتباه. أولًا: تلاحظ أن البراغي ثُبتت منذ فترة وجيزة؛ حيث إن الطلاء الذي تحتها هو نفسه اللون المتَّسخ في باقي الباب. ثانيًا: خُلعت البراغي، وبما أنها لا تستحق عناء خلعها، فإن هذا يشير إلى أن الشخص الذي ثبتها فكَّر في أن وجودها قد يلفت النظر؛ ومن ثم فإن ثقوب البراغي ستكون أقلَّ وضوحًا إذا ما مُلئت بالمعجون وغُطيت بالطلاء بمهارة فائقة.»

«ثم إنها في الجانب الخارجي من الباب، وهذا غير معهودٍ في براغي أبواب غرفة النوم، كما أنها ذات حجم كبير. فقد كانت البراغي طويلةً وسميكة.»

«بناءً على موضع ثقوب البراغي، أرى أنها كانت طويلة، ولكن كيف علمتَ أنها كانت سميكة؟»

«من حجم الثقوب المواجهة في عضادة الباب. مُلئت هذه الثقوب بعنايةٍ باستخدام سداداتٍ خشبيةٍ مغطاةٍ بالطلاء، ولكن يمكن اكتشاف قُطرها، وهو قُطر هذه البراغي، ومن المؤكَّد أنه لا يتماشى مع ما يتطلَّبه باب غرفة نوم عادي. سألقي عليه الضوء كي ترى.»

سلَّط ضوء المصباح على الركن المظلم، وحينئذٍ رأيت وميَّزت الثقوب الواسعة للغاية التي ثُبتت فيها البراغي، ولاحظتُ الدقة التي سُدت بها.

قلت: «أذكر أنه كان يوجد باب آخر. هيا نرَ إن كانت قد اتُّخذت وسائل التأمين نفسها.»

عبرنا الغرفة الفارغة، وتردَّدَت فيها أصداء مُوحِشة من خطواتنا على الأرض الخشبية العارية، وفتحنا الباب الآخر. وفي الجزأين العلوي والسفلي، بيَّنت مجموعات ثقوب البراغي أن هذا الباب أيضًا اتُّخذت له وسائل تأمين، وأن البراغي في هذا الباب من النوعية والحجم أنفسهما للبراغي التي استُخدمت في الباب الأول.

ابتعد ثورندايك عن الباب وقد قطب جيبنه قليلًا.

قال: «إن ساوَرَنا أيُّ شكوك بشأن ما جرى داخل هذا المنزل، فإن هذه المثبتات الكبيرة كفيلةٌ بأن تحوِّل هذا الشك إلى يقين.»

اقترحت: «ربما أُحدثَت هذه الثقوب من قَبل أن يستأجر فايس المنزل. فهو لم يستأجره إلا منذ نحو سبعة شهور، ولا يوجد تاريخٌ على ثقوب البراغي.»

«هذا صحيح تمامًا. ولكن بناءً على أن هذه البراغي قد ثُبتت منذ فترةٍ قصيرة، وحين تدمج الوقائع بأنها قد أزيلت، وأنه اتُّخذت إجراءاتٌ حثيثة كي تُطمس آثار وجودها، وأنه كان لا بد من اتخاذ تلك الاحتياطات؛ من أجل ارتكاب جريمة نكاد نكون على يقين من ارتكابها هنا، فأرى أن محاولة إيجاد تفسيرات أخرى ما هي إلا إفراط في الحذر.»

قلت معترضًا: «ولكن إذا كان الرجل جريفز حُبس بالفعل، ألم يكن بوسعه تحطيمُ النافذة وطلبُ المساعدة؟»

«النافذة تطل على الفناء كما ترى، ولكن أتوقَّع أنه اتُّخذت لها هي الأخرى وسائل تأمين.»

فتح المصاريع الثقيلة ذات الطراز القديم ثم أغلقها.

«أجل، ها هي الآثار.» أشار إلى أربع مجموعات من ثقوب البراغي في أركان المصاريع، وأخرج مصباحه مرة أخرى، وتفحَّص الأجزاء الداخلية من التجاويف التي تُطوى المصاريع فيها فحصًا دقيقًا.

قال: «طبيعة التأمين واضحة تمامًا. يمر قضيب حديدي من أعلى النافذة حتى أسفلها وقد ثُبِّت برزَّة وقفل. وإذا نظرت، فسترى أثر القضيب في التجاويف حين تُطوى المصاريع. وحين ثُبتت هذه القضبان وأُحكم عليها القفل ورُبطت البراغي، صارت هذه الغرفة سجنًا مؤمَّنًا لسجينٍ لم تتوفَّر له أي أدوات، وكأنها زنزانة في سجن نيوجيت.»

نظر أحدنا إلى الآخر لفترةٍ من دون أن يتفوه أحد؛ وأتخيل أنه لو رأى السيد إتش فايس وجهَينا، فلربما رأى أن الأفضل له أن يبحث عن ملاذٍ أبعد من هامبورج.

في النهاية، قال ثورندايك بنبرةٍ هادئةٍ متشائمة ولطيفة أيضًا: «إنه تفكير شياطين يا جيرفيس. إنها جريمة دنيئة وشنعاء ارتُكبت بدم بارد، إنها من الجرائم التي لا تُغتفر البتة ولا تخفَّف فيها العقوبة. بالطبع ربما لم تُرتَكب. وربما السيد جريفز على قيد الحياة الآن. وسآخذ على عاتقي أن أسعى كي أتأكد إن كان في بطن الأرض أم على ظهرها. وإن لم يكن على ظهرها، فسأعتبر إلقاء القبض على قاتله واجبًا مقدسًا عليَّ.»

نظرت إلى ثورندايك وفي نفسي شيء من الرهبة. ففي نبرة صوته الهادئة وغير العاطفية، وفي أسلوبه غير الغاضب وتعبيرات وجهه الهادئة الجامدة؛ رأيت شيئًا مؤثرًا وحاسمًا أكثر مما أراه في أعنف التهديدات أو في أقذع الإدانات. لمست في هذه الكلمات الملفوظة بهدوءٍ أنه حكم على المجرم الفارِّ بالموت.

ابتعد عن النافذة وجال ببصره في الغرفة الفارغة. وكأن اكتشاف وسائل تأمين الغرفة هو كل المعلومات التي يمكن أن تُوفرها الغرفة.

قلت: «من المؤسف أننا لم نتمكن من التفتيش قبل أن يرفعوا الأثاث. فلربما توصلنا حينئذٍ إلى أطراف خيوط توصلنا إلى هُويَّة المجرم.»

رد ثورندايك: «نعم، أخشى ألَّا نجد معلومات كثيرة يمكننا جمعها من هنا. وأرى أنهم نظفوا الأرض حتى من المخلفات الصغيرة، ووضعوها تحت شبكة المدفأة كي تحترق. سننظر تحت هذه الشبكة؛ حيث إنني لا أرى مكانًا آخر نفتِّشه هنا غيرها، ثم سنبحث في بقية الغرف.»

مشَّط كومة القمامة الصغيرة بعصاه ونثرها في الموقد. بدت المحاولة غير مبشرة البتة؛ حيث إنها ليست سوى كومة قمامة كأي كومة تُترك في غرفة غير منظمة عند الانتقال من المسكن. لكن ثورندايك بدأ يُمعن النظر فيها بطريقة منهجية؛ حيث إنه بدأ يفحص كل عنصر مهتمًّا، حتى إنه تفحص فواتير التجار المحليين والأكياس الورقية الفارغة قبل أن يضعها جانبًا. تمشيطة أخرى من عصاه بعثر بها كُتَلًا كبيرة من الورق المكوَّم، وأظهر شيئًا التقطه بقدر من اللهفة. إنه جزء من نظارة، ويبدو أن أحدًا كان يستعملها؛ لأن ذراعَيها منحنِيتان ومطويتان، وزجاج العدسة مهشَّم إلى شظايا.

قال: «ينبغي أن تعطينا هذه النظارة بعض التلميحات. وربما نكتشف أنها كانت تخُص فايس أو جريفز؛ حيث إن الواضح أن السيدة شاليبام لا تستعمل نظارة. لنكمل حتى نرى هل سنعثر على باقي النظارة أم لا.»

اعتنينا كلانا ونحن نتحسَّس ما في كومة القمامة بعصوينا؛ حيث نثرناه في الموقد وأزلنا العديد من الورق المكوَّم. أسفر بحثنا عن اكتشاف العدسة الثانية للنظارة، وكان زجاجها محطمًا لكنه لم يكن مهشَّمًا مثل زجاج العدسة الأولى. كذلك التقطت عُودين صغيرين وقد نظر إليهما ثورندايك باهتمام بالغ قبل أن يضعهما على رف الموقد.

قال: «سننظر فيهما بعد قليل. لننتهِ من النظارة أولًا. ترى أن عدسة العين اليسرى أسطوانية ومقعَّرة. وربما نتوصل إلى هذا القدر من المعلومات من بقايا الشظايا، ويمكننا قياس التقعر حين نبلغ المنزل، ولكن ستسهُل المهمة أكثر إذا جمعنا المزيد من الشظايا وجمعناها مع بعضها. عدسة العين اليمنى من الزجاج المسطح، ولا لبس في وضوح هذا. وأرى أن هذه النظارة تخص مريضك يا جيرفيس. وأحسبك قلت إن عينه اليمنى هي المصابة بالقزحية الرعاشة، أليس كذلك؟»

أجبته: «بلى. لا شك في أن هذه نظارته.»

أردف: «هذا الإطار مميز. لو أنه صُنع في بلدنا هذا، لربما نتمكن من معرفة صانعه. ولكن يجب أن نجمع أكبر قدر ممكن من الشظايا.»

بحثنا في كومة القمامة مرة أخرى، وفي نهاية المطاف، نجحنا في العثور على سبع أو ثماني شظايا أخرى من عدسات النظارة المكسورة، وقد وضعها ثورندايك على رف الموقد بجانب العودين الصغيرين.

قلت وأنا آخذ العودين كي أتفحصهما مرة أخرى: «بالمناسبة يا ثورندايك، ما هذان العودان؟ هل يمكن أن تخرج منهما بمعلومات؟»

نظر إليهما مفكرًا بضع لحظات، ثم أجابني:

«لا أظنني سأخبرك ما هما. عليك أن تكتشف هذا بنفسك، والأمر يستحق أن تُنفق فيه وقتك حتى تعرف. إنهما شيئان يحملان قدرًا من المعلومات في ظل هذه الظروف. ولكن اهتم وأنت ترصد سماتهما الخاصة. فكلاهما جزءان من ذراع ناعمة وقوية. فهذا عود رفيع وطويل — نحو ست بوصات — وقطعة أكثر سُمكًا بطول ثلاث بوصات فقط. ويعلق في طرف القطعة الأطول قصاصة ورق حمراء صغيرة، ويبدو أنها جزء من ملصق من نوعٍ ما له إطار مزخرف. أما الطرف الآخر فقد تعرَّض للكسر. ثم وُسِّع التجويف في منتصف القطعة الأقصر والأقوى صناعيًّا؛ بحيث يتناسب مع القطعة الأخرى، ويكون لها غطاء أو غمد. دوِّن هاتَين المعلومتَين وحاول أن تفكر في الاحتمالات التي تنطويان عليها، وما هو الاستخدام الأرجح لشيء من هذا النوع. وحين تقف على جليَّة أمرهما، ستعرف معلومة جديدة عن القضية. والآن، لنستأنف بحثنا. ها هو شيء قد يحمل معلومات كثيرة.» التقط زجاجة صغيرة ذات فوهة كبيرة، ورفعها كي أنظرَ إليها متفحصًا، ثم أردف: «لاحظ الذبابة الملتصقة بالداخل والاسم على الملصق «فوكس، شارع راسل، كوفينت جاردن».»

«لا أعرف السيد فوكس.»

«إذن، سأخبرك أنه تاجر في مواد «التجميل» الخاصة بالمسارح أو ما شابه، وسأتركك تفكر في علاقة هذه الزجاجة في التحقيق الذي نجريه حاليًّا. ويبدو أنه لا يوجد شيء جديد يلفت الانتباه في هذه المغارة باستثناء ذلك البرغي؛ إذ تلاحظ أن حجمه يساوي تقريبًا حجم البراغي التي ثُبتت في الأبواب. ثم إنني لا أرى فائدةً من نزع المعجون من أي ثقب وفحصه، فلن نتوصَّل إلى معلوماتٍ جديدة.»

نهض، وبعد أن أعاد القمامة المهمَلة إلى مكانها خلف الشبكة، جمع الأشياء التي التقطها من فوق رف الموقد، ووضع النظارة وشظايا الزجاج التي جمعها في صندوقٍ من القصدير يبدو أنه لا يبرح جيبه، ولف القطع الكبرى في منديل.

حين أدخل الصندوق والمنديل في جيبه، قال: «هذه المجموعة مخيبة للآمال، ولكن ليس بالقدر الذي خشيته. لكن ربما إذا درسنا هذه الأشياء الصغيرة المهمَلة بقدر من الدقة، ربما تكشف لنا عن شيء ذي قيمة في نهاية الأمر. هيا بنا سندخل الغرفة الأخرى.»

صعدنا إلى البسطة ودخلنا إلى الغرفة الأمامية، وفيها عمدنا إلى المدفأة مباشرةً، بناءً على تجربتنا في الغرفة السابقة. ولكن كومة القمامة في تلك الغرفة لم تحتوِ على شيء يمكن أن يلفت انتباه عين ثورندايك الناقدة. تجولنا في أرجاء الغرفة مُكتئبَيْن، وأخذنا ننظر في الخزانات الفارغة ونتفحص الأرضية والأركان عند جدران الغرفة، ولكننا لم نكتشف شيئًا أو بقايا خلَّفها شاغلوها السابقون. وبينما أتجول، توقفتُ عند النافذة وأخذت أنظر في الشارع، وحينئذٍ نادى ثورندايك بصوتٍ عالٍ:

«ابتعد عن النافذة يا جيرفيس! هل نسِيتَ أن السيدة شاليبام ربما تكون في المنطقة في هذه اللحظة؟»

في الحقيقة، لقد نسيتُ هذه المسألة تمامًا، ولم يخطر ببالي حينئذٍ سوى أن وجودها من أبعد الاحتمالات. ومن ثم أجبته بناءً على ما اختلج بعقلي.

أردف ثورندايك: «أنا لا أتفق معك. فقد سمعنا أنها تأتي إلى هنا من أجل الخطابات. وربما تأتي كل يوم أو حتى أكثر من مرة في اليوم. وتذكَّر أنهم عُرضة لخسارة الكثير، وأنه لا يسعهم الشعور بالأمان كما يريدون. لا بد أن فايس قد أدرك رأيك في الحالة، ولا بد أنه مر بأوقاتٍ أعياه التفكير فيها فيما يمكن أن تفعله. وفي الحقيقة، يمكن أن نعتبر خروجه من المنطقة مدفوعًا بالخوف منك، وأنهم حريصون كل الحرص على أن يحصلوا على ذلك الخطاب كي يقطعوا أي صلةٍ تربطهم بهذا المنزل.»

وافقته: «أظن أن الأمر كذلك، وإذا تصادف ومرَّت السيدة من هذا الطريق ورأتني في النافذة وتعرَّفت عليَّ، فبالتأكيد ستشك في الأمر.»

تعجب ثورندايك: «ستشك أيما شك! بل إنها ستتيقن، وحينئذٍ سيتخذ السيد إتش فايس حذره أكثر من ذي قبل. هيا نُلقِ نظرةً على الغرف الأخرى، فلا شيء هنا.»

صعدنا إلى الطابق التالي، ولم نعثر على آثارٍ تدل على إقامة أحدهم منذ فترة وجيزة إلا في غرفة واحدة. واضح أن العليَّات لم تُستخدم، ولم يوجد في المطبخ وغرف الطابق الأرضي شيءٌ يراه ثورندايك ذا قيمةٍ عنده. عندئذٍ خرجنا من الباب الجانبي وسلكنا الطريق المغطَّى بالحصى إلى الفناء الخلفي. وجدنا الوِرَش مُقفَلةً بأقفالٍ صَدِئةٍ يوحي مظهرها أنها لم تُمسَّ منذ شهور. كانت الإسطبلات فارغة، وقد نُظفت على عجل، وكان مبيت العَرَبة شاغرًا، ولم نعثر على أي آثار تدل على أنه استُخدم في الآونة الأخيرة، باستثناء فرشاة سلكية متهالكة. عدنا أدراجنا عبر الطريق المغطَّى بالحصى، وكدتُ أُغلق الباب الجانبي الذي تركه ثورندايك مواربًا، ولكنه أوقفني.

قال: «سنلقي نظرةً أخرى على الصالة قبل أن نغادر»، ومشى الهوينى أمامي، وشق طريقه إلى الباب الأمامي، وأخرج المصباح من جيبه وسلط شعاعه داخل صندوق الخطابات.

سألته: «هل ثمة خطابات جديدة؟»

كرر متعجبًا: «ثمة خطابات جديدة! انظر بنفسك.»

انحنيت ونظرت من خلال الشبكة في داخل الصندوق المضاء، وحينئذٍ انطلقت صيحة مني.

الصندوق فارغ.

نظر إليَّ ثورندايك وعلى شفتيه ابتسامة كدِرة. قال: «يُخيَّل إليَّ أننا أُخِذنا على حين غرة يا جيرفيس.»

رددت: «هذا غريب. فأنا لم أسمع أي صوت لفتح الباب أو إغلاقه؛ فهل سمعتَ أنت؟»

«لا، لم أسمع أيَّ صوت؛ ولذا أشكُّ في أنها من أخذت الخطاب. والأرجح أنها سمعتنا نتحدث وربما تراقبنا عن كثبٍ الآن. لا أعرف إن كانت رأتكَ عند النافذة. لكن سواء رأتك أم لم ترَكَ، فلا بد أن نتوخى الحذر في خطواتنا. ويجب ألَّا يعود أحدٌ منا إلى منطقة تيمبل مباشرةً، والأفضل أن نفترق حين نُرجِع المفاتيح، وأنا سأراقبك حتى تختفي عن الأنظار وأرى إن كان أحدٌ في عقِبك. ما الذي ستفعله؟»

«إذا لم تكن بحاجة إليَّ، فإنني أنوي الذهاب إلى كينينجتون وأتناول الغداء مع عائلة هورنبي. فقد قلت لهم إني سأُلبِّي الدعوة بمجرد أن أفرغ لمدة ساعة أو نحو ذلك.»

«حسن جدًّا. افعل ذلك؛ ولكن احذر فلربما تكون مراقَبًا. ينبغي أن أذهب إلى جيلفورد بعد ظهر اليوم. وبسبب هذه الظروف، فلا ينبغي لي أن أعود إلى المنزل، بل سأرسل برقية إلى بولتون وأستقل القطار من فوكسهول، وأغيِّر مكاني في محطة صغيرة بحيث يمكنني مراقبة الرصيف. كن حذرًا قدر المستطاع. وتذكر أن ما ينبغي أن تتحاشاه هو أن يتتبعك أحد إلى مكان تكون معروفًا فيه، والأهم من ذلك، ينبغي ألَّا تكشف علاقتك بالرقم ٥أ، شارع كينجس بينش ووك.»

بعد التفكير في تحركاتنا الفورية، خرجنا معًا من البوابة الصغيرة وأغلقناها خلفنا، وحثثنا الخُطى إلى مقر الوكيل العقاري، حيث استلم العامل المفاتيح من دون أن يعلِّق. ولما خرجنا من المكتب، وقفت مُتمَلمِلًا ونظر كلانا في الشارع جهة اليمين واليسار.

قال ثورندايك: «لا يوجد شخص مظهره مريب الآن»، ثم سأل: «ما الطريق الذي ستذهب فيه؟»

أجبته: «يبدو لي أن أفضل خطة أن أستقل سيارة أجرة أو حافلة؛ حتى أخرج من المنطقة بأسرع ما يمكن. وإذا سلكت شارع رافنسدين كي أبلغ طريق كينينجتون بارك، يمكنني أن أستقلَّ حافلةً من هناك كي توصلني إلى مانشن هاوس، حيث يمكنني أن أستقل وسيلة نقل أخرى إلى كينينجتون. وسأجلس في الطابق العلوي بحيث يمكنني أن أرى إن كانت هناك حافلة أو سيارة أجرة آتية في عقبي.»

قال ثورندايك: «نعم، أرى أن خطتك جيدة. سأمشي معك كي أطمئن إلى أن الرحلة ستبدأ كما نرجو.»

أسرعنا ونحن نقطع الممر وشارع رافنسدين إلى طريق كينينجتون بارك. وجدنا حافلة عامة تقترب منا من الجهة الجنوبية بسرعة ثابتة، ووقفنا عند الناصية ننتظرها. مر بنا كثير من الناس في اتجاهات مختلفة، ولكن لم نرَ أحدًا يُعيرنا كبير اهتمام، على الرغم من أننا كنا نحدق فيهم النظر، لا سيما النساء. ثم تباطأت الحافلة. عندئذٍ دخلت الحافلة وقفزت إلى الطابق العلوي للحافلة، حيث جلست وألقيت نظرة على مرمى بصري من خلف الحافلة. لم يركب أحد آخر الحافلة — التي لم تتوقف — ولم أرَ سيارة أجرة أو مركبة أخرى على مرمى بصري. ظللت أراقب ثورندايك وهو واقف كأنه حارس عند الناصية، ولم تقع عيني على أحد يحاول اللحاق بالحافلة. عندئذٍ لوَّح صديقي بيده إليَّ وتوجه صوب فوكسهول، ولما تحققت مرة أخرى من عدم وجود سيارة أجرة تلاحقنا أو راكب يسرع في اللحاق بنا، علمتُ أن الاحتياطات التي اتخذناها لم تكن ضرورية وجلست في مكان أكثر راحة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤