رثاءٌ وعزاء

رثاء طفلة

زهرةٌ كان وجهُها
نور قلبي وناظري
حملتها يد الردى
حملَ مَنْ لم يحاذر
فتوارت ولم يزل
عَرْفُها ملءَ خاطري

•••

يا ضياءً تضمنتـ
ـه بطون الدياجر
قد أجنُّوك في الثرى
يا جنين الضمائر
فالزمي الرمسَ حين لا
حلم في عين باصر
فإذا أقبلَ الدُّجَى
وغفا كلُّ ساهر
فاطرقينا مع الكرى
حلمًا غير نافر
وصلي عيشَكِ الذي
كان أحلام سادر
وامرحي في صدورنا
واضحكي في السرائر
ثم عودي إذا الصبا
ح تجلَّى فباكري
إنَّ صعبًا على الصغا
ر احتباس المقابر

عزاءُ الأستاذ وجدي في والده

أمولايَ رزؤك لا يُجهلُ
وصبرك في الرزء لا يخذلُ
ومن كان يعلم كُنْهَ الحيا
ةِ فالصبر من مثله أجملُ
إذا كان كل امرئ راحلًا
فأفضلنا الراحل الأولُ
وأدنى مصاب الفتى للعزا
ء مصابٌ بكل امرئ ينزلُ

عزاء المازني

يا صديقي وما علمتُكَ إلا
راضيًا بالأسى رضاءَ الجليد
إن تكن قد رزئت بنتًا فممَّا
قد تعوَّضتَ من بنات الخلود
لا تبت آسفًا عليها وهبْها
وردةً والربيع عمر الورود
ربما عوفيت وأنت عليمٌ
من حياةٍ تودي بكل وليد

رثاء أخ

… … … … …
… … … … …
يا راحلًا صدع الحمام شبابه
فعلمت كيفَ تَصَدُّعُ الأكباد
إني لأحسبني أراك مجاهدًا
والنيل حولك دائم الإزباد
وأراك ترمقني وقد غلب الرَّدى
وأقام جند الموت بالمرصاد
في ساعةٍ ما كانَ أغفلَ خاطري
عمَّا عراك وَفَتَّ في الأعضاد
أمسيت رسمًا في التراب معطلًا
وغدوت نصب روائحٍ وغوادي
ويحي أترقد تحت أطباق الثَّرى
وأقيم بعدك هانئًا برقاد؟
أتبيت رهن صفائحٍ وجنادلٍ
وأبيت بين وسائدٍ ومهاد؟
لو أنصفتْ أيامنا لبكيتني
لكنَّها تجري بغير مرادي
… … … … ….
… … … … …
يا زهرةً شرقت بما تحيا به
فذوت وأورق شوكُها بفؤادي
إِنَّ الحياة وما حييت لكي ترى
سرَّ الحياة كثيرة الأضداد
فلئن عدوتَ من الحياة نعيمها
فلقد عداك شقاؤها المتمادي

على قبر أخ

أيها القبر فيك غصنٌ رطيب
قصفته المنون قبل أوانه
مثل ما تعبث السموم بزهرٍ
عاطرٍ ناضرٍ على أغصانه
بِنْتَ يا مصطفى وما بِنْتَ عن قلـ
ـبٍ كسيرٍ يذوب في أشجانه
كان أحرى بك الديار من القبـ
ـر وثوب العروس من أكفانه
سوف ألقاك في الثَّرى عن قريب
كُلُّ حي موكلٌ بزمانه

إلى الصديق الراحل

نظمت في رثاء الكاتب الكبير «محمد السباعي» يوم وفاته.

غايةُ الحيِّ ساعة من زمانه
ينتهي عندها مدى جثمانه
طُويت صفحة السباعي فينا
وهو طاوي الطروس في تبيانه
مسمح النفس في الحياة تولَّى
مسمح النفس في الردى قبل آنه
لم يطامن لصرعة الموت رأسًا
من صراع الحياة لهو رهانه
ذاقها صابرًا وساغ مريرًا
من جنى دهره ومن إنسانه
وَتَأَسَّى ومثله من تَأَسَّى
ضاحكًا من كرامه وهجانه
فتنته غواية الأدب الحـ
ـرِّ فأودى بقلبه في افتتانه
وثنى راحتيه عن خفض عيشٍ
كان حينًا أقصى مُنى أقرانه
ما أراه على الحياة حزينًا
بعض حزن الصحاب يوم احتجانه
يا سليم الفؤاد في باطن الرأ
ي سليم الفؤاد في إعلانه
مرض الدهر فامض عنه معافًى
من أكاذيبه ومن أدرانه
أنت خدن الكتاب والموت سفرٌ
صدقه ظاهرٌ على عنوانه

على قبر حافظٍ يوم وفاته

أبكاءٌ وحافظٌ في مكان
تلك إحدى طوارق الحدثان؟
كنتَ أنسًا فكيف أمسيت يا حا
فظُ تدمى لذكرك العينان؟
كنت تتلو الرثاء مَعْنًى فَمَعْنًى
كيف أمسيت بعض تلك المعاني؟!
كنت أعلى الجموع صوتًا فهلا
نطق الآن صوت ذاك البيان؟
وعزيزٌ على بلادك أن تذ
هب يوم انبريت للميدان
يومَ أُطْلِقْتَ من أسارِكَ حرًّا
وأبيتَ الإسارَ للأوطان
يوم أرسلتها على ظالمي الأو
طان طعانةً كَحَدِّ السنان
ألهم الله مصر فيك عزاءً
لا بل العُرْبَ في شفيع «اللسانِ»
كلنا صائرٌ كما صرت يومًا
والذي قد صنعتَ ليس بفانِ

نصيب الحي والميت

يا صديقي لنا البكاءْ
ولك الموت والسلامْ
عندنا النور والعناء
عندك النوم والظلام!
ليس يأسى أخو فناء
بل أخٌ بعده أقام

•••

أتبع الصَّحْبَ في القبورْ
ببكائي وما اهتديتْ
أنا لو دام لي الشعور
بعد موتي لما بكيت
عالمٌ كله غرور
عشت ما عشت أو قضيت
هالكٌ كل ما يكونْ
تستوي النفس والصفاةْ
فلمن تحصد المنون
ولمن تزرع الحياة؟
بدأت حكمة الجنون
وانتهت حكمة الهداة

الأستاذ غانم

(كان الأستاذ غانم محمد صديق صاحب الديوان يزوره يوم عيد الفطر ثم طاف ببعض إخوانه ورجع إلى بيته فما استقر لحظة بين أبنائه وآله حتى أصابته نوبة قلبية قضت عليه رحمه الله وهو في عنفوان أيامه، فلم تمض بين تهنئته ونعيه غيرُ ساعاتٍ.)

أكان وداعًا يوم صافحتُ غانمًا
وهنَّأْتُهُ بالعيدِ والعيدُ يسخر!
فيا ويح للداعين في غفلة المنى
يرجُّون طول العمر والعمر مدبر
ويا ويحَ للأبناء يا خير والدٍ
وقد رُوعوا في وكرهم حين بُشِّروا
أذاكَ صباحُ العيد أم أنا سامعٌ
صياح يتامى في الحمى تتفطر؟
تلاحق في تلك الثغور كلاهما
فيا هول ما نصغي إليه وننظر
وددتُ وقد ضنَّ البشير بصدقه
لَوَ انَّ نذيرًا بالمساكين يعبر
أغانمُ إني في مصابِكَ ذاهلٌ
قليل التعزي سافرُ الحزن مضمر
بذلت دموعي في بكاك رخيصةً
ومثلك من يُبكى ويُرثى ويذكر
أفي كل يومٍ تبصر العين غانمًا
ومن أين والأخلاق في الناس تندر
عرفت «أبا فتح» تولاه ربه
أخًا في وغى الأيام لا يتقهقر
وفيًّا إذا شاع الوفاء وإنه
عليه إذا عز الوفاء لأقدر
كريمًا إذا صال العداة وزمجروا
كريمًا إذا خان الصحاب وقصروا
صبورًا على ضر الغريم وإنه
على الضر من ظلم الصديق لأصبر
ضليعًا بأعباء الأمور إذا ونى
مدبر أمرٍ أو أساء مقدر
أخوك «أمين» فرَّق العام منكما
صفيَّينِ لم يفرقهما ما يكدر
على موعد العام القصير التقيتما
فليتك من يسهو ومن يتأخر
سلام الخصال الصالحات عليكما
وحمد المعالي والثناء المعطر
ولا زال في دار المعارف منكما
صنيعٌ على الأيام يُروى ويشكرُ

رفيقُ الصبا

رفيق الصبا المعسول أبكيك والصبا
وما كان أغلى ما بكيت وأطيبا
وآذن فيك الصبر أن لا يعينني
وآذن فيك الحزن أن يتغلبا
أألقاك عند النيل إن عدت في قنا
وأرعاك عند الجسر إن سرت مغربا؟
ونستنشد الأشعار في كل ليلةٍ
ونطلب في كل الأحاديث مطلبا
ونحسب أن الله لم يخلق امرءًا
على الأرض إلا كي يقول ويخطبا
ونحصي على الدهر البريء ذنوبه
وما كان إلا مازحًا حين أذنبا
أألقاك بل هيهاتَ قد حالتِ المنى
فأقرب منها أن أصافح كوكبا
إذا عدت أستحيي الشبابين في قنا
وجدتُك رسمًا في التراب مغيَّبا
وساءلت عنك الصحب أين مزارُهُ
وأذريت دمعًا عند قبرك صيبا

•••

عجيبٌ لعمري موتُ كلِّ محببٍ
إلينا وقد كان التعجُّبُ أعجبا
حسينٌ عرفتُ الموت فيك غريبة
وما تعرف الدنيا سوى الموت مذهبا
أمَنْ هو في ذكرى فتى العمر ينطوي
كما طوتِ الأسقامُ شيخًا معذَّبا؟
نعم ينطوي الشبان والشيب في الردى
ورُبَّ فتيٍّ في الردى فات أشيبا
وسيان في عقبى الطريقين مَنْ مشى
على عصويه من عياءٍ ومَنْ حبا
عهدتُكَ في شرخ الصبي ناضر الصبا
وفاجأني الناعي فأجفلتُ مُكْذبا
ألا ليته لم يعرف الصدق عمره
ولم يك إلا كاذب الظن مغربا

•••

رفاق حسينٍ أبِّنوه وأطنبوا
فما يخطئ الباكي سجاياه مطنبا
لقد كان ميمون النقيبة صالحًا
وكان أمين السر والجهر طيبا
وكان عفيف القول لا يقرب الأذى
ولا يذكر الإخوان إلا تَحَبُّبا
وكان على كنز القناعة آمنًا
وإن قصَّر المسعى بدنياه أو نبا
إذا استمرأتْ مرعى الخيانةِ أنفسٌ
تحرَّجَ منها مُعْرضًا وتحوَّبا
وكان عزيز النفس في غير جفوةٍ
ولا صلفٍ منه إذا صَدَّ أو صبا
وكان سميرًا يملك السمع كلما
تبسَّط في أسماره وتشعَّبا
أديبًا يصوغ الشعر والنثر فطرةً
ويؤثر في الآداب من كان معربا
أليفًا وفيًّا لا يفارق صاحبًا
ولا منزلًا إلا انثنى فتقرَّبا
أحبَّ قِنًا واستعذب العيش في قِنَا
فلم يُغْرِهِ عيشٌ وإن كان أعذبا
لئن ذكرَ الوافون عهدَ ولائه
لما ذكروا إلا الوفيَّ المهذَّبا

•••

رفاق حسينٍ أسهِبوا فيه واذكروا
رفيقًا له يعتاده الحزن مسهبا
على كثب منه اجتمعتم فليت لي
مكانًا من الجمع القنائي مكثبا
كأني وقد فارقتُهُ قبل يومه
سمعتُ له نعيَيْنِ يَوْمَ تغيَّبا

•••

إذا ما رثى المحزونُ إلفَ شبابه
رثى قلبه شطرًا من القلب مخصبا
وودع من عهديه في العمر قبلةً
أخفَّ على الروَّاد زادًا وأرحبا
إذا جازها أودى بمختار عيشه
ولم يبقَ إلا ما اتَّقَى وتهيَّبا
أليف الصبا لا تشكُ في الموت وحشة
فما زال ركبُ الموتِ أحفل موكبا
تعاقبتِ الأجيالُ تحت لوائه
وإن بعدوا دارًا وعهدًا ومأربا
وما الزمنُ المحضورُ إلا بقيةٌ
من الزمن الماضي تلاقت لتذهبا
عليكَ سلامُ الله حتى يظلَّنا
سلامٌ أظلَّ الناسَ شرقًا ومغربا

نعي حافظ

كلُّ خطبٍ دار في خلدي
غير خطب فتَّ في عضدي
نعيُ من قد كنت أحسبه
بعد يومي باقيًا لغد
حافظٌ ينعى إليَّ لقد
غلطت دنياي في العدد
ساء ذاك النعيُ من بَدَلٍ
كان من لقياه في بلدي

الشهيد معاوية

(… احتفل أدباء السودان بتأبين الأديب السوداني النابغ معاوية محمد نور، وقد لقي نصبًا من سقامه وعوجل رحمه الله في ريعان صباه دون الثلاثين، بعد أن بشر العالم العربي بأمل كبير لم تنجزه المقادير.

وقد أرسل صاحب الديوان هذه القصيدة؛ لتلقى في يوم تأبينه، عَوَّضَ اللهُ الأدبَ فيه خيرَ العوضِ وعزَّى الأدباء أحسنَ العزاء.)

أجل هذه ذكرى الشهيد معاويهْ
فيا لكِ من ذكرى على النفس قاسيَهْ
أجل هذه ذكراه لا يوم عرسه
ولا يوم تكريم ودنياه باقيه
فما أقصر الدنيا التي طوَّل الضنى
أصائله فيها وأشقى لياليه
وما أَضْيَعَ الآمالَ آمالَ من رأَوا
مطالعه في مشرق النور عاليه
ومَنْ أيقنوا أنَّ الهلال الذي بدا
على الأفق أحرى أن يعمَّ نواحيه
بكائي عليه من فؤاد مفجَّعٍ
ومن مقلةٍ ما شوهدت قَطُّ باكيه
بكائي على ذاك الشباب الذي ذوى
وأغصانه تختال في الروض ناميه
بكائي على ما أثمرت وهي غضة
وما وعدتنا وهي في الغيب ماضيه
فضائل منها نخبةٌ أزهرت لنا
لمامًا وأخرى لم تزل فيه خافيه

•••

تبينتُ فيه الخلد يوم رأيته
وما بان لي أن المنية آتيه
وما بان لي أني أطالع سيرة
خواتيمها من بدئها جدُّ دانيه
وأنَّ اسمه الموعود في كل مقولٍ
سيسمعه الناعون من فم ناعيه
أجل هذه ذكراه يا نفس فاذكري
فجيعتنا فيه وما أنت ناسيه
أجل هذه ذكراه يا عين فاذرفي
عليه شآبيب المدامع داميه
إذا قصَّرتْ أيام من نرتجيهمُ
فيا طولَ حزن النفسِ والنفسُ راجيه
ويا طولَ حزن النفس وهي منيبةٌ
إلى اليأس من عجزٍ بها وهي آبيه
فيا يوم ذكراه سنلقاك كلَّما
رجعتَ إلينا والضمائرُ صاغيه
ويا عارفيه لا تضنوا بذكره
ففي الذكر رجعى من يد الموت ناجيه
أعيروه بالتذكار ما ضَنَّ دهره
به عيشة في مقبل العمر راضيه
وزيدوا النفيس النزر من ثمراته
بتكرارها في القلب أولى وثانيه
فإن لم تكنْ في العدِّ كثرًا فباركوا
معانيَها حبًّا ووفُّوا معانيه
عليه سلامٌ لا يزالُ يعيدُهُ
ويبديه شادٍ في الديار وشاديه

يوم إبراهيم

عجبي لأحداث الزما
نِ وكم رأيتُ وكم رويتْ!
أولى الفجائع باتقا
ئي لم يكن مما اتقيت
ما دار في خلدي ولا
فكرت فيه ولا احتميت
لما نعوه حسبته
في الأرض لم يسبقه ميت
يا يومَ إبراهيمَ حسـ
ـبي من لقائك ما التقيتْ
لم أنتظرك ولست أذ
كر في غدٍ كيف انتهيت
لوددتُ أنك يا أخي
في الناس آخر من رأيت
هل في البرية صاحب
أُبْقِي عليه وقد مضيت
ما بعد نعي النفس من
حزنٍ يطاق وقد نعيت

أخي إبراهيم

أميرُ بلاغة وأمين نقد
ورب رسالةٍ وبشير عهد
وذو قلمٍ كغصن الروض يُهدي
جناه أو كحدِّ السهم يُردي
أديبٌ راض أفذاذ المعاني
على ألفاظها ندًّا لند
له لُبٌّ يترجم كلَّ لب
وينقل عنه ما يُخفي ويبدي
مليء القلب من ثقةٍ وحبٍّ
بريء الصدر من حسدٍ وحِقد
أراح الحاسدين فإن تحدَّوْا
له فضلًا أعان على التحدي
إذا اقتتلوا على الجدوى رماهم
بقول أبي علاءٍ «غيرُ مُجْدِ»
وتحسبه استراح إلى سباتٍ
ويسبق غاية اليقظ المُجِدِّ
فسل عنه شعاب «الضاد» تعلمْ
مناهل فيضه في كل ورد
إذا عَنَّ المصابُ به فويلٌ
لفردٍ خصَّهُ بمصاب عد

•••

وقالوا المازنيُّ قَضَى فَضَلَّتْ
مقاصدُ قولهم أو ضَلَّ رشدي
كَأَنَّ حديثَ ما زعموا خيالٌ
بعيدٌ في الحقيقة أيَّ بعد
إذا عينٌ غَفَتْ فاعجَبْ لأخرى
من العينين عالقةٍ بسهد

•••

صحبنا العمر عامًا بعد عامٍ
على الحالين من ضَنْكٍ ورغد
وبين تَعَهُّدٍ منه ومني
وبين تبسطٍ منا وجد
وغيَّرت الحوادثُ كُلَّ عهدٍ
سوى ما بيننا من عهد ودِّ
إذا أخذت مذاهبنا ورَدَّتْ
أَمِنَّا نحن مِنْ أخذٍ وَرَدِّ
ونجمدُ في العشية ملتقانا
إذا ذهب النهار بكل حمد
وأرحبُ ما تلقَّانا اجتماعٌ
على شملين من أدبٍ ونقد
هي الآفاق عاليةٌ ذراها
على ما ضاق من غورٍ ونجد
رأينا كل صادعة فزالت
أيصدعُ ما رأينا شقُّ لحد!

•••

… … … … …
… … … … …
نمينا شعرنا صنوين حينًا
فكيف رثاؤه بالشعر وحدي
وجاوزنا السهولَ معًا فماذا
ستجدي في الوعود جهودُ فرد
إذا ثقلَ الشبابُ ولي زميلٌ
فيا بؤسَ المشيب المستبد
حياةٌ إن تَطُلْ فالويل ويلي
وإن تقصُر فقد أُبْلِغْتُ قصدي
سلامًا أيها الدنيا سلامًا
لأنت أحبُّ لي لو عاش بعدي

عزاء

(توفيت قرينة الأستاذ عبد الرحمن صدقي، فكتب إلى صاحب الديوان هذه الأبيات):

أخي منذ أعوامٍ تلألأ مسكني
وشاع به ضحكُ الرِّضا والتَّيَمُّنِ
لقد كان عرسي يومذاك ومولدي
بكونٍ جديدٍ من هوى وتحنن
أخي تلك أعيادي وأعياد زوجتي
وما حلَّ منها العيد إلا ذكرتني
وأرسلتَ لي في كل عيدٍ مهنئًا
وباركتَ لي في جنتي وغبطتني
مضت هذه الأعيادُ من غير رجعةٍ
وهذي مراثي زوجتي اليوم فارثني

فأرسل إليه صاحبُ الديوان هذه الأبياتَ معزيًا:

أخي ما عَزَائِي أن أهون فاجعًا
أراه وإن لم أبله غير هين
وَلَكِنْ عَزَائِي هَذِهِ الحربُ زلزلَتْ
قلوب بني حواء في كل مأمن
وَلَكِنْ عَزَائِي هَذِهِ الفتنة التي
أطاشت رءوس الخلق من عاش أو فني
وَلَكِنْ عَزَائِي هَذِهِ الأرضُ علَّمت
بنيها هوان العيش علم التيقن
قضاءٌ علينا في الحياة فراقنا
لأحبابنا حيث التقينا بموطن
فجيعتنا فيمن نحب بديلها
فجيعتهم فينا ومن يبق يغبن
فلا ترضَ للأحباب غبنًا يؤدُّهم
وليس الرضا في الحالتين بممكن
ألا هانَ عيشٌ لا يزالُ خيارُهُ
لمن يرتجيه شاكيًا مُتْ أَوِ احْزَنِ

•••

أخي هذه الدنيا وهذا عزاؤها
قصاراه بعد الجهد تسليم مذعن
وما أحسب الإيمان إلا حقيقة
فلا صبر فيها لامرئٍ غير مؤمن

نعيٌ كاذب

لقد كذب النَّاعي وأَنْعِمْ بكذبه
فلا صدق الناعون يومًا ولا همُّوا
فزعت لخطب الموتِ والموتُ واحدٌ
فكيف احتمالي فيكِ موتين يا أُمُّ

صادق بعد حين

سَرَى نبأٌ لا يهابُ الظلاما
ولا يتقي يقظةً أو مناما
يقينٌ وما خلته باليقيـ
ـن ولا اعتصم القلب منه اعتصاما
فراقك يا أم لم أحتسب
له بغتةً أو نذيرًا ترامى
وما روَّضتني له الحادثا
ت وإن رضتُ منها الخطوب الجساما
كأني ادَّكرتكِ لي مولدًا
فلم أدَّكر لكِ يومًا حِماما
حسبتُ الأمومةَ أختَ الدوا
مِ وخادعت ظني عليها دواما
وأفحمني فيك خطب النعـ
ـي وفي غيره ما شكوت الفحاما
تعجَّب قومٌ لشيخٍ بكى
أكان المشيب لدمعي فطاما؟
وأم لما دون عشرٍ تعـ
ـزُّ فراقًا فكيف لسبعين عاما؟
لئن عَظُمَ الموتُ يا أمَّتا
لقد هان يومَ سكنتِ الرَّغاما
وما أرخص النور لما غلا
على مقلةٍ لا تطيقُ السَّواما
خلا الكون منك فماذا أرى
من الكون بعدك إلا ظلاما
فيا هولَها من قفارٍ تركـ
ـتِ ويا شدَّ ما قد عرفت الرجاما
تلاقي ذوي ببطن الثرى
فأنعم بحيث أقاموا مقاما
لأجلك كنتُ أخافُ الخطو
بَ فما الخوفُ بعدَكِ إلا سلاما

آخرُ الخطباء

أسمعتَ جهدكَ يا نعيَّ وهيب
إنَّ السميعَ اليومَ غيرُ مجيب
اليوم يصمت من كرام لِدَاتِهِ
في مصر آخر قاتلٍ موهوب
اليوم غاب بقيةٌ من معشرٍ
أذنت منابرهم بطول مغيب
تلكَ المنابرُ ودَّعت فرسانَها
من كل ذي لسنٍ وذي أسلوب
لا نسمع الفصحى على أعوادها
سحرًا لأسماعٍ لنا وقلوب
كلا ولا يهتزُّ موقعُ شَدْوِهَا
إلا لصوتٍ طارقٍ بنعيبِ
خطبٌ ولكن ما له من خطبةٍ
«قَطَعَتْ جَهِيزَةُ قَوْلَ كُلِّ خَطِيبِ»

داءٌ بغير طبيب

جَلَّ في العارفين خطبُ «حسين»
رجل الفضل والنُّهى والسدادِ
الطبيب اللبيب يرحمه اللـ
ـه لقد كان رحمةً للعباد
ما استبدَّ السقام إلا شَفَاهُ
باجتهادٍ مِنْ طِبِّهِ واقتصاد
كيف يعدو عليه عادي المنايا
وهو يثني من غربِها كُلَّ عادي
لو يُفَدَّى من المنية حي
حقَّ فيه الفِدا على ألف فادي
«كيف أصبحت في محلك بعدي
يا جديرًا مني بحسن افتقاد»
يا وفيًّا ولا وفاء بعهدٍ
في اقترابٍ من أهله وابتعاد
محييَ الودِّ للمغيَّبِ في الدهـ
ـرِ وقد ماتَ فيه حَيُّ الوداد
عالي الرأس لا تصيخ لغاوٍ
راح يكسو غيًّا بثوب رشاد
عازفًا عن مطامع العيش كبرًا
عن صغار الآمال والأحقاد
«همةٌ» مثلما تسميت تعلو
عن منال الأنداد والحساد
كم رجاءٍ زهدْتَ فيه وما كا
نَ زهيدًا في شرعة الزهاد
مؤمنًا بالإله تعلم أَنَّ الطـ
ـبَّ علمٌ ينهى عن الإلحاد
ليت شعري من كنت تحنو عليهم
في الثرى هل حللت منهم بوادي؟
هل تلاقى روحٌ بروحٍ ووافَى
آخرُ العمر أولَ الميلاد
تلكَ رؤياكَ كنتَ تنعمُ فيها
كنعيم العيان للشهاد
كم صحبنا الزمان حلوًا ومرًّا
وخطوبُ الزمان بالمرصادِ
والتقينا على الجوار كأنِّي
آمنٌ عند حصنك المرتاد
تسبق النخبة الأجلاء طبًّا
وأرى منك أسبق العوَّاد
وافترقنا يوم افترقنا على مو
عد لقيا فكان يوم المعاد
تستعيدُ السؤالَ عني ولا تسـ
ـأم نصحي يومًا ولا إرشادي
وأناديك سائلًا بعد نأي
فيجيب النعاة رجع المنادي
يا طبيبي مما يكابد جسمي
وطبيبي مما يعاني فؤادي
إن حزني داءٌ بغير طبيبٍ
ونوى طوحت على غير زاد
أحسن الله يا حسينُ اصطبارًا
فيك لو يهتدي إلى الصبر هادي
هل يقر العيونَ طولُ سهادٍ
إن أَقَرَّ العيونَ طولُ رقاد؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤