صفاتٌ وأشباهٌ

فُرضة البحر

قطبَ السَّفينِ وقبلة الربان
يا ليت نوركِ نافعٌ وجداني
يزجي منارك بالضياء كأنه
أرقٌ يقلب مقلتيْ ولهانِ
وعلى الخضم مطارحٌ من ومضه
تسري مدلَّهة بغير عنان
كمطارح الأفكار في لُجج على
لجج من الشبهات والأشجان
تخفى وتظهر وهي في ظلمائها
باب النجاة وموئل الحيران

•••

أمسيتِ أحداق السفائن شرَّعٌ
صورٌ إليك من البحار رواني
كالبيت يجمع بعد تشتيت النوى
شمل الأحبة فيه والإخوان
جُودِيُّ كل سفينةٍ لم يبنها
نوحٌ ولم تمخَرْ على الطوفان
فيها التقى بر وبحرٌ واستوى
شرقٌ وغربٌ ليس يستويان
بسطت ذراعيها تودع راحلًا
عنها وتحفل بالنزيل الداني
زمر توافت للفراق فقاصدٌ
وطنًا ومغتربٌ عن الأوطان
متجاوري الأجساد مفترقي الهوى
متبايني اللهجات والألوان
فانظر إلى تلك الوجوه فإنها
شتى ديارٍ جُمِّعت بمكان
في فرضة متقاصر عن متنها
موجٌ أشمُّ أحمُّ ليس بواني
موجٌ يطيف بها وقد ران الكرى
فيها طواف الضيغم الغرثان
ألقت مراسيها السفائن عندها
وتحصنت منها بدار أمان
فكأن ضوء منارها نار القِرى
لو كان يُبْعَثُ ميِّتُ النيران!

الخريف

حي الغمائم في السماء كأنها
طيرٌ سرت في مستهل ربيع
بيضاء ترتع في فضاء شاسع
صافي السراة على السنا مرفوع
طورًا كتمسيح الذيول وتارةً
كالرغو بين مُفرَّقٍ وجميع
ترفو حواشيها الرياح وتنتحي
أوساطها بالفتق والترقيع
والدوح مهدول الأرائك ساهمٌ
كالعاشقين هنيهة التوديع
والماء كالممرور في وسواسه
يشجوك منه ترنُّمُ المفجوع
والشمس ساهية الشعاع كمقلةٍ
وطفاء جلَّلها البكى بدموع
ضحك الطبيعة في الربيع كأنه
ضحك الغريرة في عناق خليع
فإذا تبسَّمَ في الخريف جبينها
أبصرت نظرة ريبةٍ وخشوع
كالغادة الحسناء يغرب حسنها
أثناء شيبٍ في الشباب سريع

أنس الوجود

تماثيلَ مصرٍ أنتِ صورتُها الصغرى
وطلسمها الواقي وآيتها الكبرى
حياتك أجدى من رجالٍ كأنهم
تماثيل لا تحيي الصناعة والذكرى
رعى الله من أسوان دارًا سحيقةً
وخلَّد في أرجائها ذلك القصرا
أقام مقام الطَّودِ فيها وحوله
جبالٌ على الشطين شامخةٌ كبرى
بعيدًا عن الأقران منقطعًا بها
فريدًا عن العمران مستوحشًا قفرا
بأسوان مرصودًا وهل يُعْبَدُ الضحى
بأظهرَ منها للضُّحى كيفما ذَرَّا؟
بلاد أدار الله حول ربوعها
نطاقًا وأجلى عن مطالعها السترا
بنو الشمس أهلوها إذا اشتد قيظها
وجاش على الصحراء فاتقدت جمرا
بقرصٍ كأفواه البراكين قاذفٍ
شآبيب ما أحيا وما قتل القطرا!
لقد نفثت فينا الحياة ضرامها
فأنفسنا من حرها شعلة حرى
درجنا بحيث الدارجون عروشهم
قيامٌ تناجي في سكينتها الدهرا
تلوح على تلك الرمال كأنها
خطى الزمن الوثاب تاركة إثرا

•••

… … … … …
… … … … …
عبرنا إليه النهر ليلًا كأننا
عبرنا من الماضي إلى الضفة الأخرى
قضى نحبه فيه الزمان الذي مضى
فكان له رسمًا وكان له قبرا
وأشهدنا منه شخوصًا كأنها
مساحير ترجو كاهنًا يبطل السحرا
فيخفق ذاك القلب بعد سكونه
ويملأ من أهوائه ذلك الصدرا
ولما رأوها يشبه الخلق صنعها
تغالوا فقالوا الإنس قد مُسِخَتْ صخرا
لقد أكبروا إلا على الله صنعها
فقالوا براها ثم أصمتها قهرا

السماء

يا للسماء البرزة المحجوبة
أعجب ما أبصرت من أعجوبة
تروعنا أنجمها المشبوبة
تهولُنا قبَّتها المضروبة
كأنها الهاوية المقلوبة
كأنها الجمجمة المنخوبة

وقفة في الصحراء

هضابك أم هذي أواذيُّ عيلمِ
وهل فيك من وردٍ لغير التوهمِ؟
تخايلت كالدنيا وأقفرت مثلها
فلا تخدعيني إنني لست بالظمي
أيا ربة الآل الخلوب وإنما
إلى الآل ركب الناس جمعاء فاعلمي
خلوت فلا آثار حي ثوابتٌ
عليك ولا آثار ميْت معظَّمِ
نبا بكِ عن حال العمار وضده
شماسٌ فلم تُبْنَيْ ولم تتهدمي
تشاهبت الأيام فيك فلم يكن
إلى السعد يومٌ أو إلى النحس ينتمي
صحاري من الدهر الفسيح جديبةٌ
كعهدك لم تعبس ولم تتبسم
لفيك وإن طال الزمان غواربٌ
على الناس أخفى من غوارب أنجم
أضاءت عليها النيِّراتُ ولم تزل
هنالك في ليلٍ من الغيب أيْهم
إلى أي ركن فيك يلجأ هاربٌ
وفي أي ظل من ظلالك يحتمي
تسدين أرجاء السماء بحاصبٍ
من النارِ موَّارِ العجاجة مظلم
ثئور كأفواج الدخان تطلَّعت
إلى علو من قاصي قرار جهنم
إذا ما رآها الوحش ولَّى كأنها
من النقع تُجلى عن خميسٍ عرمرم
يلوذ ببطن الأرضِ والأرضُ جمرةٌ
خياشيمه م القيظ يبضضن بالدم
ويذهل حتى يفلتَ الليثُ صيدَه
ولا تفرق الغزلان من ناب ضيغم
وما سكنتها الوحش إلا لأنَّها
أحبُّ إليها من جوار ابن آدم

السينماتوجراف

بربك ماذا في ستائرك الطُّلسِ
أأشباحُ جِنٍّ تلك تظهر للإنسِ؟
إذا لم تكن جنًّا فما لي عهدتُها
تفرُّ فرارَ الجن من طلعة الشمس
ستورٌ ولكن يكشف النور عندها
فنونًا من الأسرار تخفى على النفس
كأني أرى فيها قريحة شاعرٍ
مصورةً للناس في عالم الحس
وكالعين إلا أنها تمسك الرؤى
وترسلها رسمًا تراه على الطرس
ترد تجاليد القبور كواسيًا
وتبعث أشخاص الرفات من الرمس
وتحمدها عين الغريب لأنها
تنوب بها الرؤيا لديه عن الحدس
وكم معجزاتٍ للصناعةِ بيننا
يجيء بها رسل المعارف والدرس
تميط عن الطرف الحجابَ كما رأى
نبيُّ الهدى في مكة صورةَ القدسِ
… … … … …
… … … … …

الشتاء في أسوان

ألقِ الربيع على البشيرْ
كانون آذنَ بالظهورْ
أسوان تزهو حين يذ
بل كلُّ مخضرٍّ نضيرْ
في كل مربأة بها
نورٌ تألَّق فوق نور
بلد تجود له الطبيـ
ـعة بالصغير وبالكبير
لا تستجن شموسه
إلا على غير البصير
نسماته برء العليـ
ـل وماؤه عذبٌ نمير
ما طبُّ جالينوس قيـ
ـس بطبِّه إلا غرور
أبدًا تحوط به ودا
ئعها بسورٍ خلف سور
من كل شاهقة كأن
قلالها عمد الدهور
حصن تهاب ظروفه الآ
فات طرًّا والشرور

•••

بولون أقفرَ غابُها
من كل مختالٍ فخور
سرحت صوادحها وأطـ
ـلق وُرقه الأيك الغضير
يلقطن حبات القلو
ب من الجوانح والصدور
الفاتنات تكاد إحـ
ـداهن من حسن تنير
الناهدات كما ترى الـ
أهرام في الرسم الصغير
العبهريات الشذى
الكوثريات الثغور
الورد في وجناتهن
يضوع في كل الشهور
المرسلات الشعر كالز
رياب مصفرًّا غزير
متمنطقات بالدمقـ
ـس مؤزَّرات بالحرير
من كل قاعٍ جؤذر
تلقاه أو ظبي غرير
مثل الشموس برزن للـ
أكوان من فجر البدور
باراتهن مطالعٌ
لم تدر ما نور البدور
فيهن معترك الغرا
م ومعرض الحسن الطرير
الحور هن خلقن للـ
ـفردوس لا للزمهرير

•••

الماء فاض على الجنا
دِلِ والسواحل والجسور
خلجانه تنساب كالـ
ـحيات ما بين الصخور
متسابقات كالسوا
بق في مجالٍ مستدير
والنيل مصطفق كمن
قد هزه فرط السرور
متدفِّع الأمواج تر
قص وفق توقيع الخرير
وترى الزوارق كالبوا
شق حوَّمًا أو كالنسور
قد حار فيها العنصرا
ن الريح والماء القدير
والشمس شاخصةٌ تكا
دُ تنوء من جهد المسير
فضفاضة الأذيال تخـ
ـطر كالعروس إلى السرير
وكأنها فوق الذرى
فوق الجزائر والبرور
حسناء ترقب قادمًا
في النيل من أعلى القصور
وعلى الروابي والهيا
كل مسحة الشفق الأخير
تبدو كما نصل الخضا
بُ بعارض الشيخ الوقور
ما كان أول مغرب
شهدت على مر العصور

•••

كم آيةٍ في الكون أخـ
ـفى من خفيات الضمير
من لا يرى إلا العيا
ن فما يرى إلا اليسيرْ

ليلة الأربعاء

شفَّ لطفًا عمَّا وراء السماء
نورُ بدرٍ مفضض اللأْلاءِ
رق سجف السماء حتى كأن الـ
ـعين تتلو هناك سر القضاء
وسرى الطرف في الفضاء فما يثـ
ـنيه ثانٍ عن خوض ذاك الفضاء
وربا النور كالعباب فما في الـ
ـكون غير الظلال من ظلماء
تلك أولى لوائح الصيفِ والصيـ
ـفُ بهيجٌ في الليلة القمراء
يمَّنَ الله سعيَهُ من رسولٍ
يطرق الأرض وافدًا من ذُكاء
مولد الأرض فهي تلبس فيه
كلَّ عامٍ مطارف الأضواء
أضرم الجو بالمشاعل كالظا
فر يعدو في إثر جند الشتاء
فنهضنا للَّهو في دار ذي القر
نينِ بين الصحاب والقرناء
بلد ما تحجَّب الجو إلا
ناب عنه الصفاء في الدأماء
كل من ينتحي حماه غريبٌ
عنه حتَّى ما فيه من غرباء
تكشف الشمس ثم ما يضمر اليمُّ
كعين المنوم النجلاء
فعلى اليم للمطيفين سرٌّ
كاشفٌ عن سرائر الأنباء

•••

ليلة الأربعاء بالله عودي
وأعيدي يا ليلة الأربعاء
ليلةٌ أرسل الزمان بها عفـ
ـوًا فجاءت كحكمة البلهاء
قد نسينا الصباح حتى ذكرنا
هُ بنور من بدرها الوضاء
فوصلنا مساءها بصباح
ووصلنا صباحها بمساء
… … … … …
… … … … …
خير ما في الحياة يا قلب ما أنـ
ـساك ذكر الحياة والأحياء
بيد أن النفوس تصبو إلى الذكـ
ـر وإن كان فيه بعضُ العناء

•••

… … … … …
… … … … …
نسج الفجر للنجوم الدَّراري
برقعًا حِيكَ من شعاع الضياءِ
وكأنَّ النسيمَ همومُ اللـ
ـيلِ والليلُ مؤذنٌ بانقضاءِ
همسات العوَّاد حول حبيبٍ
بات لم يبق منه غير الذماء
وترى البحر لو توسده النا
ئم لم ينتبه من الإغفاء
في سكونٍ كأنه نفس الحا
لِمِ أو خفق طائر في الهواء
وكأن الخرير صوتٌ يناجي الغيـ
ـب حتى لهمَّ بالإصغاء
فبعثنا الأرواح سربًا كروح الله
قدْمًا ترف فوق الماء

الورد

أراح الورد عازفة النفوس
وأشرق نجمه بعد الخنوسِ
وغرَّد هاتف الأطيارِ لما
جلا البستان عن خدرِ العروس
وأشرقتِ الرياضُ على الروابي
مكللة المفارق والرءوس
نديم الكأس طف بالروض فانظر
غضون الورد مترعة الكئوس
وفيه ثمالةٌ لم يودعوها
من الأفراح كرم الخندريس
تبسَّم في خمائله النشاوى
فأضحك غرة الزمن العبوس
يُخَيَّلُ ناطقًا لولا حياء
ثناه عن مناجاة الجليس
… … … … …
… … … … …
أطلَّ من الرغام كأن روحًا
تنادي الناس من خلف الرموس
… … … … …
… … … … …
مجامر للطبيعة أرَّجتها
وخصَّتها بقربان الشموس
تلقيها إذا نشرت شذاها
على الأفنان أرواح الأنيس
كما لبى بحوز السحر حور
من الجنَّان خافيةُ الحسيسِ
جنى الفردوس إلا أن فيه
ذكاء النار والجمر القبيسِ
يكادُ يبثُّ حوليه ضياءً
كما بثته نيران الوطيس

•••

… … … … …
… … … … …
لَوَ انَّا قادرون لما هفونا
إلى غير المحاسن والطروس
ولولا الدهر بالإنسان يلهو
ويبلو القلب بالغرض الخسيس
لما ألهاه عن آسٍ ووردٍ
بحبَّاتٍ من البُرِّ الدريس

حديقة البرتقال

أَحْبِبْ به من منظرٍ سَرِيِّ
ومن نباتٍ طيبٍ ذكيِّ
متصل الخضرة فِرْدَوسي
نُزِّهَ عن تصوُّح وعريِّ
جناته تثني على الوسمي
بالبرتقال الواضح الرويِّ
كالسُّرُج المذكاة بالعشي
تستقبل المقبل إذ تحيي
منها بألف كوكب دري
كالشمس في جلبابها الفجري
غصنًا على غصنٍ زمرُّدي
من بارزٍ وضامرٍ خلفي
وساجد في الأرض كالقسي
مكلل بطلعه محني
كأنه جلاجلُ الحلي
يأخذ عين المبصر الذكي
أخذ الحلي مقلة الغوي
على نحور البيض والثدي
أغلى لدى الشاعر والصبي
من كنز قارون وكل شي
فاعجَبْ لهذا الصائغ الغني
صائغ هذا الثمر الجني
من نفسٍ حام ومن طمي
وصابغ الطلع بألف زي
ومخرج الحي بغير الحي

منظر

الروضُ جمُّ العبير
والليل شفُّ الستور
والدرُّ ينشر نورًا
كأنه نصف نور!
كأنما الكون يبدو
من خلف سترٍ وثير
كأنه ظلُّ كونٍ
مغيَّبٍ في الدهور

قدوم الشتاء

تسير الكواكبُ سيرَ الحذِرْ
ويرجف في الجو نور القمرْ
وللشمس مشيةُ مستكرهٍ
يساق إلى منظر لا يسر
ونهرٍ كمرآة مهجورةٍ
على وجهها من جواها أثر
وللروض زهرٌ به طائحٌ
تقلَّبَ في الأرض كالمختضر
ونادى المنادي بركب الطيور
هلمَّ فقد حان وقت السفر
فهذا يحوم على وكره
وهذا يصيح ولمَّا يطر
ألا ما لهذا الضحى كاسفًا
كأن الأصيل عليه انتشر
وما للرياح بأعلى الشجر
تعجُّ كموجٍ خِضَمٍّ زخر
تنام العيون ويعلو لها
نشيجٌ إذا الليل أغضى ظهر
تُحَطِّم أعوادَها العاريا
تِ تحطيمَ ذي جِنَّةٍ منذعِرْ
فيا ويلَ من بات في ليله
يجاوبها بالبكا والسهر

النهر النائم

تمهَّلْ يا نسيمُ ولا تكدِّر
نعاس النهر بالهمس الضعيف
وقرِّي يا طيور على الحوافي
وكفي يا غصونُ عن الحفيف
لعلَّ النهر ينطق وهو غافٍ
بسرٍّ فيه أو حلمٍ لطيف
ويحكي طيف هاتيك الليالي
ليالي الوصل في عهد الخريف

يا قمر

فضِّضِ الماءَ يا قمرْ
وانقشِ النورَ في الحجرْ
وانظم الغصن بالندى
والثُمِ الزهرَ في الشجر
واجعل الكون ضاحكًا
عن سماءٍ من الغُرَر
واملكِ الليلَ مفردًا
ومع الشمس في البُكَرْ

•••

في مجاليك راحةٌ
راحة النوم والسهر
في لياليك بهجةٌ
بهجة الفكر والنظر
ليس كالليل في الظلا
م ولا الصبح في الكدر
أنت كالطيف والدجى
ناعس الطرف يا قمر

•••

ساهد الليل لا تجم
واتل ما شئت من ذكر
قد تناسيت ما مضى
ولنا اليوم ما حضر
من يذق لذة الهوى
يسل لذاته الأخر

النرجيلة

هات نرجيلة يضاحكني منـ
ـها خريرٌ كجدول البستان
ذات أنبوبةٍ كحية حوا
ءَ بفيها تفاحة الحرمان!
إن بين الضلوع نارًا أُوَارِ
يهَا فأخفي زفيرَها في الدخان

القمراء

كلما أشرق في الليل القمر
وسها الناس ولاذوا بالحجر
خلت أرواحًا تداعت للسمر
زُمَرًا تهمسُ من حولِ زمر
إنَّ هذا الحسنَ لا يمضي هدر
حيثما أسفر نورٌ وانتشر
وحلا في خلوة الليل السهر
فهنا لا ريبَ حِسٌّ وبصر
شيمة المسحور يقفو مَنْ سحر

يوم شتاء

يوم بيتٍ لا يوم خوض الدياجي
فانجُ ما بين صفحةٍ وسراج
وجمالٍ من النفوس يُناجَى
في أسارير وجهه ويناجي
مستهلين والطبيعة غضبى
وكلانا من هولها الصعب ناجي
نتحدَّى الرياحَ والليلَ والأهـ
ـوال طرًّا بصفحةٍ من زُجاج
فإذا ما يروع منها ويضني
نتلقاه ههنا بابتهاج
كالذي يشهد الكوارث فنًّا
من فنون التمثيل والإخراج

زهرة القرنفل

تعشَّقتُ من زهر القرنفل لونه
ونشرًا كريح البابلية زاكيا
تَقَسَّمَ نور الشمس أحمر قانيًا
وأصفر وضَّاحًا وأخضر زاهيا
ونازع محزون البنفسج لونه
وحاك له ثوبًا من الجوِّ صافيا
كواعبُ أترابٌ تقاربن صورة
وسيمة حسن واختلفن كواسيا
وأسمع منه حين أقبس ضوءه
وأنشق رياه فأنصت واعيا
تشاغلْ بما يجلو العيون وغمضها
سرائر دنيانا، وإن كنت رائيا
وسيان تحديق العيون وغمضها
إذا كان ما ترتاده العين خافيا
فحسبك منها زينة تبهر النهى
فغير قليل ما ترى النفس باديا

الجسم الخجل

أرى في البحر أجسامًا تُشِعُّ
عليها من حياء الحسن درع
إذا ما الماء جمَّشها تراءى
لها خجلٌ على الأعطاف بدع
وما خجل الخدود وذاك جسمٌ
سَنَى الخجل المورَّدِ فيه طبع؟

ليالي رأس البر

مناظر من سحر الجمال أراها
ولولا سناها قلت: كنت أراها!
تلوحُ كذكرى حالمٍ يستعيدُها
لعمقِ معانيها وبُعدِ مداها
فمن عالمِ النسيانِ فيها مشابهٌ
وفيها من السلوى جميل رضاها
ليالٍ برأسِ البَرِّ تَنْدَى وداعةً
ورقة أشجانٍ وطاب نداها
وداعة ذات الدَّلِّ شاب فؤادها
شوائب من هجرٍ فراض صباها

•••

ليالٍ برأس البر طاب نداها
وشفَّتْ دياجيها ورقَّ سناها
هنا النيل ساجٍ طال في الدهر سيره
وطالت مرامي نبعه فسلاها
هنا البحرُ ثوَّار الدهور على الكرى
ويطغى فلا يحمي النفوس كراها
إذا استرسلت أصداؤه في اطرادها
ترسَّلتِ الأحلامُ ملء مناها
هنا عالم السلوى هنا العالم الذي
تحسُّ الليالي فيه همس خطاها
هنا العالم المشهود ذكرى قديمةٌ
وذكراك دنيا لا تزال تراها
فلولا حياتي في عروقي أُحِسُّها
لقلتُ نعيمُ الغابرين طواها

•••

جمالك رأسَ البرِّ في زي ناسكٍ
إذا ضاحك العين الضحوك شجاها
لياليك رأس البر في صومعاتها
مناسك ضلَّت في الظلام هداها
صحابك رأس البر أطياف نائمٍ
تساوَى لديها صبحها ودجاها
عناها الذي يعني النيام من الرُّؤى
ولم أر جهدًا في الحياة عناها

•••

حياتك رأس البر طفلٌ مجددٌ
سقته ثديُّ الخالدات جناها
فلا تحرمينا رشفة الخلد كلما
فنينا وكم تُفني الجسومَ نُهاها
بحسبيَ من أبناء آدم إن صفا
لنا العيش يومًا أن تكفَّ أذاها

أغاني

في الهوى قلبي
زورقٌ يجري
أين يمضي بي
نهره الخمري
ليتني أدري!

•••

ليته يجري
يا أبا الأنهارْ
مثلما تسري
في حمى الأقدارْ
حولك الأزهار

•••

حولك الصفصاف
مسبل الشعر
ناعس الأطياف
سابح الفكر
في الهوى السحري

•••

يا رياض النيل
علمي قلبي
فرحة التَّهليل
عشت للحب
يا منى الصبِّ

•••

قال لي قلبي
والهوى يرعاه
هو في قربي
ما الذي أخشاه
عندما ألقاه

الشتاء والربيع

كل بادٍ يريد أن يتوارى
في الشتاء المغلَّفِ المسدود
كل خافٍ يريد أن يتجلَّى
في الربيع المزخرف المشهود
هات لي العالم الصريح ودعنا
من حياةٍ خجلى وطبعٍ برود

في القمر

في الليلة القمراء ما أحلى النظر
لكل شيءٍ لاح في ضوء القمر!
حتى الثرى حتى الحصى حتى الحجر

•••

ليست منَ الآجرِّ هاتيك البِنَى
لا بل خيال من ظلامٍ وسنى
كخيلة الأشكال في السحب لنا

•••

أكاد عند رؤيتي طلاءها
أرسل عينيَّ لما وراءها
كما تخوض نظرةٌ فضاءها

•••

قد شفتُ بالصخرة مصباح الدجى
فكيف بالنفس وكيف بالحجى
عاشٍ على مرِّ الليالي مسرجا؟

العيش جميل

صفحة الجو على الزر
قاء كالخد الصقيل
لمعة الشمس كعين
لمعت نحو خليل
رجفة الزهر كجسمٍ
هزه الشوق الدخيل
حيث يمَّمتَ مروجٌ
وعلى البعد نخيل
قل ولا تحفل بشيءٍ
إنما العيش جميل

القمر والظلام

لا أوثر القمراء في حسنها
على الدجى والطرف فيه يحوم
سناكَ يا بدر يريني الثرى
وظلمة الليل تريني النجوم

صداح الأثير

ملأ الآفاق صداح الأثير
لا فضاء اليوم بل صوتٌ ونورْ
لك من كل فضاءٍ شاسع
حيثما يممت داع وبشير
ما صفاء الجو إن فتشته
غير أصداءٍ حواليك تمور
لجبٌ لكنه مستأذنٌ
يطرق السمع بسلطانٍ قدير
أو هي الأرواح إن قلتَ احضري
حضرت أو شئت أعياها الحضور
قيل أمواجٌ فقلنا وبحور
من معانٍ وبيانٍ وشعور
تركب الألباب فيها سفنًا
سُبَّقًا بين طويلٍ وقصير
حملَتْ من كل زادٍ وقرت
كل غادٍ ووعَتْ كلَّ أثير
ولها في كل يومٍ مددٌ
يلتقي الأول فيه والأخير

•••

كان فرعون له مجلسه
وهو ذو الصرح المُعَلَّى والسرير
ولنا في كل دارٍ مجلس
يسع العالم أيان يدور
هو نادٍ لك أو مدرسةٌ
أو مجال السبق أو ملهى السرور
غلب الوهم الذي زيَّنه
في الأساطير خيالٌ مستطير
دعوة المارد إن قيست إلى
دعوة المذياع ظنٌّ وغرور
بورك العلم لعمري إنه
من صفات اللهِ واللهُ قدير
ربما أسمعنا في غده
نغم الأفلاك أو صوت الضمير

أسود يلتحي

أليس كفى هذا السواد فزدته
سواد غرابٍ في لحاك معلق؟
سريت برأسٍ لا حدود لوجهه
فما زال فيه الليل بالليل يلتقي
ألا فانتظر حتى تشيب فقد ترى
سوادك محفوفًا بأبيض مشرق
وأخلق أن يرتادك الشيب حالكًا
على حالكٍ لو كان يجري بمنطق

على شاطئ البحر

نفض النسيم عن النفوس رمادها
فأعاد للسالي قديم هواه
والبحر تطَّرد الخواطر عنده
مثل اطراد اللج حين تراه
لم أبصر الآذي فيه كأنه
خيل الطراد تسوقهن صباه
وكأن متن الماء في شمس الضحى
فيروزجٌ قدح الضياء سناه
وكأن مبيضَّ الجليد طفا به
إن مج بالزبد النقي حشاه
إلا وددت بأن أراه فلا أرى
أفقًا يصدُّ الطرق دون مداه
الروح يطمع أن يتيه بلا مدًى
والعين ترسم في الفضاء خطاه
البحر أقدم والنفوس قديمةٌ
فالنفس تألفه ولا تنساه

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤