مقدمة

بقلم  قسطندي رزق

لقد أُشربت محبة المرحوم عبده الحمولي منذ نعومة أظفاري يوم خالط المرحوم والدي بالزقازيق وزارنا في دارنا وغنانا غناءه العربي؛ فأعجبت به أيما إعجاب وارتسمت في ذهني صورة العروبة الفخمة بما مثَّل أمامنا من الحركات والأقوال التي صوَّرت لي إباء العرب وفروسيتهم وعظمتهم، وما أتاه من شجيّ التلحين وحسن الأداء، وتفخيم اللفظ الدال على معناه، والإبانة في مخارج الحروف، فهو حرىُّ بأن يكنى بغريد الشرق الذي لا تفتح العين على مثله، وأخذت منذ ذلك الحين أشعر بتيار موسيقى يتمشى في عروقي إلى أن أضحيت من المولعين بالغناء العربي الذي لا أصبو إلا إليه، وحزت ملكة التمييز بين جيده ورديئه لا سيما إذا سمعت ركزا لخليط مجدد. ولما هبَّ على الموسيقى العربية عاصف التجديد، وحاول أن يقتلع جذورها من تربتها المباركة الخصبة، شمرت لصد ذلك التيار عنها غيرة على عظمتها وسحرها، واتقاء للرمق الباقي منها، إذ هي الآن والعياذ بالله واقفة على مفترق طريقين لا محيد لها عن سلوك واحد منهما، فإما أن تحيا وتستعيد ماضي شبابها إذا تداركها أولو الأمر منا، وإما أن يسجل عليها الموت الذي لا حياة بعده إذا ألقينا حبل المجددين على غاربهم يجهزون على تلحيننا القومي ويرتضخون لَكْنَةً غربية بدلا من ترديد نبرنا العربي، ويشوهون محاسن الموسيقى العربية التي وضع قواعدها أسلافنا الموسيقيون المصريون، ويقضون على تقاليد الشعب المصري الذي يغني بالفطرة، ويحتفظ بصبغته وتقاليده.

على أنه ليس من غرضي في هذه المقدمة الوجيزة أن أعارض في التجديد الذي يُقصد منه زيادة ثروة موسيقانا الشرقية والتدرج بها من حسن إلى أحسن كما هو شأن كل فن ينقصه التنقيح والتحسين — (والكمال لله وحده) — أو أن أصرف المجددين المجتهدين عن التوفر على توسيع نطاقها والنهوض بها إلى أعلى مستوى يليق بعظمتها ومجد الشرق، ويحفظ لنا ما خلفه لنا السلف من الموسيقيين العبقريين من قواعد ثابتة وقوانين مرعية، إذ أني أرحب بكل تجديد مبني على الأصول، ويرجع إلى مستقر معروف، وأسلوب مألوف، لكن المجددين — والأسف يملأ جوانحي — في وادٍ، ونواميس الموسيقى في وادٍ وقد هاموا في أودية الضلال وأضلوا سامعيهم، وليتهم تصرفوا في التجديد على حسب القواعد الصحيحة محترمين المقاييس وراعوا النغم والمقاطع والموازين الموسيقية والتوقيع بما يطابق معنى الأغنية المنظومة، ومَثَل الموازين الموسيقية كمثل الأبحر للشعر ذي الأشطر الصحيحة القياس.

أما الألحان القديمة فيتوفر فيها حسن التوقيع وضبط الإيقاع، ولو كان ملحنونها يقتصرون على نغمة أو أكثر، وهي في كل حال خير من الألحان الحديثة التي لا يتوفر فيها حسن التوقيع وضبط الإيقاع، فضلا عن عدم مراعاة ملحنيها لمعنى الأغنية أو الدور أو الموشح مهما كثرت أنغامها؛ لعدم ضبطهم القواعد الأساسية التي يجب أن تُبنى عليها أغانيهم من جهة، ولعدم تمكنهم من قتل النغمات درسًا من جهة أخرى ليكفلوا الحصول على جمال التلحين.

فإذا استمروا على هذا المنوال قضوا على الموسيقى العربية قضاء مبرمًا، وأضحت لا أثر لها في الوجود. وما حماية الألحان التي تكاد تبتلعها عجمة التجديد إلا الاحتفاظ بروح مصر الخالدة.

هذا هو الداء الدفين لموسيقانا الذي يستعصي شفاؤه إذا أهملناه ولم نعالجه بسرعة، وقد وصفته وصفًا لا يخالج الخبير فيه أدنى ريب، أما الدواء فيلخص فيما يأتي:

  • (١)

    وجوب تأليف لجنة فنية من أعضاء المعهد الملكي للموسيقى العربية، ومن الموسيقيين والشعراء في خارجه ممن يشار إليهم بالبنان، يكون من اختصاصها الإشراف على كل لحن جديد يُلحن، والقيام بفحصه بدقة من الوجهتين التلحينية والنظمية، (مع مراعاة ما إذا كان لفظه ومعناه منزهين عما يُعاب) حتى إذا حاز القبول يُرخص لصاحبه بنشره وإذاعته، ماذا وإلا تُجرى مصادرته بمساعدة الهيئة الحاكمة ضمانًا لتنفيذ شروط اللجنة المشار إليها.

  • (٢)

    يعهد إلى المعهد بألا يرخص لرؤساء التخوت للآلات الوترية بأن يستبدلوا العازفين السابق تشغيلهم على تخوتهم بعازفين جدد لا يفقهون طرق إشغالهم، ولا مزاياهم الخاصة، إذ إن لكل رئيس عادة خاصة، ومزية خاصة، وروحًا خاصًا، بدليل أن تخت الأستاذ: محمد العقاد كان لا يشتغل إلا برئاسة عبده الحمولي، ولم يستطع أي قانونجي في عصره أن يدوزن قانونه بالسرعة التي كان يدوزنه بها محمد العقاد الكبير، ولا أن يصوّر نغماته على آلته، وكان لكل رئيس تخت خاص عازفون خصوصيون لما في الإبدال من ضرر، كما لا يخفى لا سيما في عدم إمكان دوزان الآلات واندماجها ببعضها بعضًا؛ لأن الدوزان والميزان لازمان للموسيقى الصحيحة، وقد قال موزارت «الموسيقى ميزان».

  • (٣)

    أن يعهد إلى المعهد في تكليف أشخاص للتجول في البلاد الريفية للبحث عن ذوي الأصوات الحسنة: من الصبية الريفيين بين جامعي الأقطان، والعمال بالمصانع، والمحالج وغيرها، لاستحضارهم وتعليمهم أصول الغناء على الطراز العربي، مبتدئين بترويض أصواتهم كترويض الأجسام على الرياضة البدنية وتمرينها على المقامات تدريجيًا، واختبارهم أخيرًا فوق المآذن على حد ما كان يروض أوتار صوته المرحوم: عبده الحمولي على مئذنة جامع الحنفي، وإتباعًا لخطط الموسيقيين الغربيين في مثل ذلك. ولا غرابة في انتقاء الصبية من بلاد الريف في الوجهين القبلي والبحري؛ لأن عبده عبقري الشرق رأت عيناه النور في (حامول)، ومحمد عثمان الصعيدي أصلا (من طهطا) وُلد في حي بولاق، حيث كان يتمرن على أعمال البرادة في ورشة. ويقوم المعهد بدفع نفقات هذا النشء ويحتم عليه أن يعلمه الموسيقى العربية بحذافيرها، وعلى حسب قواعدها مع إدخال النظم الحديثة المختارة فيها بشرط أن تلائم الذوق المصري، ولا تمس جوهر موسيقانا أو تشوّه محاسنها.

  • (٤)

    على الصحافة المصرية الحرة التي يناط بها إرشاد الأمة إلى سبيل الهدى ألا تألو جهدًا في لفت نظر الأمة والمجددين على صفحات جرائدها إلى وجوب مراعاة الشروط السابق الإيماء إليها؛ احتفاظًا بجمال موسيقانا وثروتها وقوتها التي هي أشهر من أن يُنبه على وجوب الاحتفاظ بطابعها الشرقي وصبغتها وذوقها السليم المصري البحت؛ لأن الدين إمحاض النصيحة والصراحة حياة الحق، ومثلها كمثل عصير الشجرة فلا تحيا إلا به، وبدونه تيبس أغصانها وموتًا تموت، وكل شعب يقبل الأمور على علاّتها بدون تمحيص، ولا بحث ولا برهان استنادًا على عوامل مؤثرة أو جاه أو ثروة أو دعاية غير صحيحة يكون هدفًا للتغرير والخدعة، وقد وجدت لِزامًا عليّ في إبان النهضة القومية في جو الحرية والديمقراطية أن ألفت النظر إلى مجابهة الحقائق بلا وجل ولا محاباة ولا تقليد أعمى، بل بثقة وصدق وشجاعة وحسن نية في ظل مليك البلاد المعظم جلالة فاروق الأول الديمقراطي الذي ولا شك سيحذو حذو جلالة والده في السهر على الفنون الجميلة وغيرها، ويعمل على النهوض بمصر إلى ذروة المجد والسعادة، ولولا مجهود ساكن الجنان والده لما كان لأي هيئة فنية أو رسمية في مصر من أثر، ولا قامت للموسيقى قائمة. وعسى المحدثين بعد هذا التنبيه أن ينزعوا عن طائش رأيهم في التجديد ويثوبوا إلى الصواب، فإن الرجوع إلى الحق محمدة والمضي في الباطل منقصة. وفقنا الله إلى السبيل السويّ وهو مالك الأمور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤