الفصل الأول

لمحة في تاريخ الخديو إسماعيل ونصرته للفنون الجميلة

لما كان همّ المغفور له الخديو إسماعيل نشر العلوم والمعارف، وإحياء الزراعة، وتوسيع نطاق الصنائع الوطنية، وترويج التجارة، وتثقيف المرأة، وتشجيع الفنون الجميلة، وفي مقدمتها الموسيقى العربية، والغناء والتمثيل، نشط للجري في سبيل الأمم المتمدنة، ولم يألُ جُهدًا في تحسين الصلات، وتمكين الألفة بين المصريين، وبين الجاليات المتوطنة في مصر، حتى بلغت في عصره الذهبي ذروة المجد، وأوج الحضارة والمدنية، وأصبحت حَرِيَّة بأن تُعدُّ قطعة من أوربا لا من أفريقيا كما صرَّح بذلك شخصيًّا.

ومن مآثره الجليلة، أنه كان أبا الفلاح يدافع عن كيانه، ويحمي ذماره، وكان شغوفًا بالزراعة إلى أبعد درجة، وكان يحب مصر حبًا صحيحًا متغلغلاً في قرارة نفسه، فاحتفظ بتقاليدها القومية، وطابعها الشرقي الذي اتَّسمت به، وتفانى في رفع منارها في بلاد الغرب، وباهى بشعورها، ونشر لغتها، لغة الجمال والمجاز، وتعظيم الناطقين بها في أنحاء الشرق، بدليل ما عرضه سنة ١٨٦٧ في معرض باريس الذي اشتركت فيه الحكومة رسميًّا، من تماثيل قديمة، ومن مومياء لرعمسيس الثاني، الملقب بسيزوستريس أكبر الملوك الفاتحين، التي اكتشفت سنة ١٨٨١ ولغيره من الفراعنة، ونماذج للحياة المصرية القديمة، كبيت شيخ البلد، وهياكل، ومصانع للتفريخ التي لم يعترها أدنى تغيير، منذ خمسة آلاف سنة ونيّف لغاية الآن؛ بالرغم من أن في خلالها دالت دول، ودُكَّت عروش، وأشكال «وكايل» وبيوت على أقدم طراز، فسيحة الأرجاء، تطل نوافذها من الداخل على ردهات مقامة في وسطها فسقيات مزينة بالفسيفساء، وعلى سطوحها قبابُ جميلة، وبخارجها تُرى مشربيات بارزة بديعة الصنع. وكذلك عرض الحياة المصرية الحديثة بما امتازت به من مصنوعات فائقة الوصف، كالأقمشة المطرزة بالذهب، والأواني الخزفية، والجلود المدبوغة والمنقوشة نقشًا بديعًا. ومن آلات الطرب: العود، والقانون، والكمان، والناي، والربابة التي كان يفضلها على الكمان لأنها مصرية بحت، والمزمار البلدي، والصنوج، والصاجات لزوم الرقص البلدي، والدربكة، والرِقْ، والطار، والنقرية «والسنتير» مما كان مهوى أفئدة المتفرجين والزائرين للمعرض من سائر بلاد الغرب لا سيما اسكندر الثاني، وفرنسيس يوسف إمبراطوري روسيا والنمسا، وفكتور عمانويل الثاني ملك إيطاليا، وغليوم ولي عهد بروسيا، والبرت إدوارد ولي عهد إنكلترا، والسلطان عبد العزيز الذين طأطئوا رؤوسهم المتوّجة إكبارًا وإجلالاً لتمثال ومومياء رعمسيس، وسائر المعروضات جملةً ومفترقًا، وأضحوا يتأملون تأملا مليًّا في سر تحنيطها ودقة مصنوعات المصريين حتى انتهوا إلى استهتار ما أتاه الغربيون من ضروب الابتكار، وصنوف الاكتشاف والاختراع.

على أن مجهوده لم يقف عند هذا الحد فحسب، بل إنه لما قفل راجعًا إلى مصر بعد رحلته إلى أوربا حيث شاهد المباني الناطحة للسحاب، والمنشئات البديعة ومسارح التمثيل والغناء، والمدارس، والمعاهد العلمية، والأندية الأدبية، دبت فيه الغيرة الصادقة على مصلحة مصر، فأخذ على عاتقه أن يقيم فيها اقتداء بالغرب القصور الفخمة، ويشيد دورًا للعلوم، ومعامل للصنائع. فأنشأ في ربيع سنة ١٨٧٣ مدرسة السيوفية للبنات المجانية، داخلية وخارجية، ومدرسة ثانية بالقربية لشدة الحاجة إليها، أمَّتها بنات الأمراء والعظماء، وأكابر الموظفين، وكانت برامجهما تشمل تعليم اللغتين، العربية والفرنسية، والجغرافيا، والرسم، والموسيقى العربية، وأشغال الإبرة، والتطريز، والطبخ، والتدبير المنزلي. وشجَّع الأهلين على وجوب تثقيف عقول البنات بنوع خاص، لتضرب المرأة بسهم وافر من العلم يرفع منزلتها، وتبلغ به المكانة اللائقة بها، بين الأمم المتمدنة، وتكون عضوًا قويًا في المجتمع الإنساني، وكوكبًا منيرًا يستضاء به، في حياتها الزوجية، ومثلاً صالحًا، في تربية ابنها وابنتها، فينشآن عضوين سليمين عقلاً وروحًا وجسمًا، نافعين لنفسيهما ولأمتهما معًا (والعقل السليم في الجسم السليم).

حديقة الأزبكية

ومما لا يختلف فيه اثنان، أن الأزبكية كانت مستنقعًا ينبت فيه النبات المائي الكثيف، وينقف بيض البعوض الناقل للعدوى، فأُزيلت بناءً على أمره السامي تلك المياه الراكدة، بمعرفة (برهان بك): مدير الإدارة بوزارة الأشغال العمومية سنة ١٨٣٧، وغرست الأشجار على اختلاف أنواعها، صفوفًا منظمة، واكتست أرضها بثوب سندسي قشيب، يشرح الصدر، ويقر العين. وأقيمت في وسطها الفسقيات التي تنفجر من فوَّهاتها المياه المتلألئة، ورُبي فيها أجمل أنواع السمك، وأُنيرت مصابيح الغاز في أرجائها، وبُنيت الجبلاية على أبدع طراز، وهي لا تزال ماثلة أمامنا للآن، وصفَّت الأكشاك الحديدية حولها من الداخل، حوت تخوتًا للطرب، غنَّى فيها أشهر المغنيين والمغنيات، فصيَّر مجهوده وابتكاره من المستنقع الآسن رياضا تجري من تحتها الأنهار، وأطيارًا تغرد على أفنان خمائلها، ووجوه حسان تلوح في غدران مناهلها، وتحت ظلال نارجيلها، ويقُدَّر مسطحها بنحو ١٧٠٠٠٠ متر مربع. وكانت أرضها موقوفة لآل البكري، واستبدلت بأطيان بناحية بهتيم، تزيد على مساحتها أضعافا مضاعفة. وقد أصدر أمره الكريم بتشييد مسرح للكوميديا بناحية منها في ٢٣ نوفمبر سنة ١٨٦٧، واحتفل بافتتاحه في مساء ٤ يناير سنة ١٨٦٨ حيث بوشر التمثيل دون أن يمضي على إنشائه أكثر من اثنين وأربعين يومًا.

الأوبرا

أما الأوبرا، فقد بُنيت سنة ١٨٦٩ في مدة لم تزد على خمسة شهور، وبلغت تكاليفها نحو ١٦٠ ألف جنيه، فأحضر إليها من أوربا فرقًا للتمثيل من أعلى الطبقات. وكانت أول الروايات التي مُثلت فيها بوجه التحقيق رواية «ريجولوتو» التي حضرها كلٌّ من الخديو إسماعيل، والدوق والدوقة داوست، وذلك في أول نوفمبر سنة ١٨٦٩، كما جاء بالجريدة الرسمية بتاريخ ١٠ منه.

ولشدة ولعه بالمصرية كلف مارييت بك آنئذٍ بتأليف رواية «عائدة المصرية»، وأناط فردي الموسيقي الطلياني الشهير بتلحين أنغامها الشجية، فقام بتمثيلها أقدر الممثلين والممثلات في مساء ٢٤ ديسمبر سنة ١٨٧٢، وعزفت الأوركسترا الطليانية بنغماتها الشجية، عزفًا أخذ بمجامع القلوب، وسُرَّ منه الخديو إسماعيل سرورًا أدى به إلى منح فردي وجوقته ١٥٠٠٠٠ فرنك ذهب. ثم أنشأ بعد ذلك المسرح الهزلي الفرنسي La Comédie Française.

التمثيل العربي

أما ما كان من أمر التمثيل العربي، فكانت حجر زاوية بنائه، فرقتا التمثيل لسليم نقاش ويوسف خياط. ومن الروايات التي حضر الخديو إسماعيل تمثيلها، أذكر روايات «أبي الحسن المغفل»، و«هارون الرشيد»، و«أنيس الجليس» وبعض روايات أخرى لموليار الشاعر الهزلي الفرنسي مثل روايات: «البخيل»، و«الطبيب رغم أنفه»، و«الشيخ متلوف»، و«النساء العالمات» التي قام بتعريبها عثمان بك جلال، المعروفة بما يأتي: “L’Avare, le médecin malgré lui, Matluf, ef les femmes savantes”

ولما كانت الروايات التمثيلية من أنجع الوسائل، وأفعل العوامل في تهذيب الأخلاق وتنوير الأذهان، وحث النفوس على الفضائل والمحامد، بما تصوره للحاضرين من مناظر للفضيلة والرذيلة، والعدل والظلم، والوفاء والغدر، والصدق والكذب، إلى غير ذلك من الخصال، بارزة تحت ثوب من اللهو والفكاهة والجد، فضلا عما تنطوي عليه من حقائق ثابتة، ووقائع تاريخية، وحوادث وعِبَر لهذا الكون، تتكرَّر على مرور الأيام (ولا جديد تحت الشمس)، عمد المغفور له الخديو إسماعيل إلى تشجيع أبناء وادي النيل على غشيان دورا الأوبرا، ومسارح التمثيل الراقي، والملاهي البريئة، رغبة أن يريهن بعين النقد، ونور البصيرة، العبر في حياة من مضى من الأمم، إتباعًا للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بدلا من سماعهم القصص الخرافية، وحماسة عنترة بن شداد، وحروب الزناتي خليفة، والزير سالم، وسير أبي زيد الهلالي سلامه، وقصص ألف ليلة وليلة، وحضور الألعاب البهلوانية والأراجوز التي اتسع مجالها عند المصريين، وأصبحت مهنة لأرباب الجهالة والدهاء، يتفننون في متنوع أساليبها، جرًّا لمغنم من أهل السذاجة فيهم، وذلك في بدء توليه الأريكة الخديوية. وكان لشدة عطفه على تلاميذ المدارس العليا كالمهندسخانة مثلا أو غيرها، يبعث إليهم تذاكر خصوصية إسوة بأولاده الأمراء لكي يحضروا معهم التمثيل الروائي في الأوبرا.

وبالجملة فإن فن التمثيل كان معدومًا فأوجده في مصر العزيزة، دون أن يتمتع بمزاياه سائر البلدان الشرقية لما أن العرب كانوا بوجه عام يقتصرون على عرض منتجات قرائحهم في سوق عكاظ، وكانوا يعلقون على جدار الكعبة الشريفة الشعر الأكثر طلاوة الذي صيغ من أخلص النضار. فمن أين يا تُرى يمكن أن تستنير عقولهم بالحكم والمواعظ والعبر المستمدة من الوقائع التاريخية، والحوادث الواقعية، التي تمثلها تحت الحس الروايات التمثيلية إذا غابت عنهم معرفة فوائدهم ولم يستعملوها بين ظهرانيهم لأنهم يتخذونها هُزؤًا، ويصفونها بالمهنة السافلة، بدليل أن الأدوار التي يجب أن تقوم بتمثيلها المرأة — خاصة على المسرح في فرقة يوسف خياط — كان يُعهد فيها اضطرارًا إلى غلام لم يتمكن من الإجادة في تمثيلها بطبيعة الحال، حتى أن الشيخ القباني نفسه أول الممثلين وأبرعهم في زمانه، كان رغم تقدمه في السن يقوم بدور المرأة، لما كان عليه فن التمثيل من قبيح السمعة، وتكون المرأة كما قدَّمت معرَّة قومها إذا جرأت على الاشتراك فيه بعكس الغربيين، وعلى رؤوسهم ملوكهم وعظماؤهم وعلماؤهم وحكماؤهم فإنهم أحلوا هذه المهنة في أعلى منزلة وأرفع مقام من الحضارة والمدنية. وقد عُني بتأليفها أكابر شعرائهم، أمثال شكسبير، وموليار، وراسين، وكورنيل، وڤولتير، وڤيكتور هوجو، وبرنارد شو، وغيرهم. فهل في هذه الحالة يتهمون بالزيغ والخبث، والتسكع في بيداء الغرور والغواية؟

الموسيقى

أما الموسيقى، فإن من أطَّلَع على تاريخ مصر الحديثة، وتدبر ما للمصريين في أساليب معيشتهم من شديد الميل إلى المرح والجذل، وحب الغناء العربي بالفطرة، وتفضيله على سواه أيقن أن ديدنهم ومذهبهم توجيه عزائمهم إلى الاتساع والإبداع في أساليب الغناء بشرط ألا تشرد عن قواعدها الأساسية، وألا تصيبها عجمة تسأمها الطباع. وليس ذلك بغريب لديهم لما أن المغفور له محمد علي باشا الكبير نابليون الشرق المصلح العظيم، وبالرغم من أن أصله من قَوَلَه يعد أول المولعين بالموسيقى الشرقية؛ فأسس في مصر مدرسة للأصوات والطبول سنة ١٨٢٤، ومدرسة بناحية الخانقاه في شهر أغسطس سنة ١٨٢٧، ومدرسة للعزف بالنخيلة في أبريل سنة ١٨٢٩، ومدرسة للمحترفين (الآلاتية) سنة ١٨٣٤. وانتقل هذا الميل بالوراثة منه إلى أبنائه وأحفاده، بدليل أن الخديو إسماعيل شغف بها شغفًا شديدًا وأرهف غرار عزمه لتوسيع نطاقها، فأصبح للعلوم والفنون الجميلة نصيرًا، وللموسيقى الشرقية والغناء العربي حاميًا وظهيرًا. فما كاد يظهر عبده الحمولي في عالم الغناء في القاهرة حتى قرَّبه الخديو إسماعيل إليه، لما ألفى فيه من عبقرية ورخامة صوت، وكان له من أكبر المشجعين على التصرف في وضعه واشتقاقه، ليكسوه لباسًا يستوفي به زينته وجماله، فأوفده في الحال على حسابه الخاص إلى الأستانة ليقتبس عن الموسيقى التركية الغنية ما يروق له، وليختار من نغماتها ما يلائم الذوق المصري، ويطابق الروح الشرقية. فأدمج في الموسيقى العربية من النغمات التركية، النَهَوَنْد، والحِجَاز كار، والعَجَم عشيران، وسائر الآهات، مما جعل الفن مدينًا لعبده، وبالتالي لساكن الجنان الخديو إسماعيل الذي هيأ له جميع أسباب النجاح، وأطلق له العنان في مجال الإصلاح حتى ألحقه بمعيته، وخصص الشيخ: عبد الهادي نجا الإبياري لتعليم أبنائه.

في تعضيده للأدب والأدباء والصحافة

وقد عين الشيخ: علي الليثي شاعرًا بالمعية السنية، والدكتور: أحمد حسن الرشيدي طبيبًا له، وقرَّب إليه الشيخ علي أبا النصر المنفلوطي الشاعر الكبير، وعبد الله باشا فكري، وألحق نقولا بك توما بإحدى وظائف الحكومة، وأجزل لإبراهيم المويلحي بك العطاء الذي به استعاض عما جرَّته عليه التجارة من خسارة، وله اليد الطولى في تشجيع الصحافة على الانتشار في أنحاء القطر في الزمن الذي لم يكن به في مصر إلا الجريدة الرسمية تنويرًا لأذهان الأمة، وتوسيعًا لنطاق النهضة الأدبية التي بها تُرفع من كبوة الجهل السائد فيها، وحض رجالها على إدمان البحث والكتابة فيما ينمي ثروة البلاد، والحث على إحياء الصنائع وترغيب الأغنياء من المصريين في إنشاء المعامل طلبًا للاستغناء عن المصنوعات الأجنبية، أسوة بجده المغفور له محمد علي باشا الذي شجع عائلة الزند اللبنانية على تربية دود القز؛ بأن منحها على ساحل بحر مويس بجوار الزقازيق أرضًا واسعة سميت بكفر الزند، وزرعت بأشجار التوت لتغذية دود الحرير؛ حتى نمت تلك الصناعة وازدهرت في عهده.

وقد ظهرت سنة ١٨٧٣ في عالم الصحافة جريدة مصرية شكلا وعثمانية النزعة فعلا باسم «كوكب الشرق» لصاحبها سليم حموي بك آنئذٍ، وكانت تصدر في الإسكندرية، ولما احتجبت عن قرائها لحاجة صاحبها إلى مال؛ عمد إلى طلب إعانة من الخديو إسماعيل، فلما مثل بين يديه، سأله عن المقدار اللازم من المال لاستئناف عمله فأجابه قائلا «إن خمسين جنيها تكفيني يا أفندينا» فامتعض من جوابه وأمر بصرف هذا المبلغ الضئيل له، وكان يود من صميم قلبه أن يعطيه ما يكفيه أعوامًا لا شهرًا ولا يومًا، إذ لم يخلق في العائلة العلوية المحمدية من هو أسخى منه يدًا، ولا أطيب نفسًا. فأخذ المبلغ حموي بك نادمًا ندامة الكسعي، لأنه تحقق بعد فوات الفرصة أنه لو ضاعف مبلغه أضعافًا مضاعفة لما تأخر الخديو عن صرفه؛ لينهض به من كبوة العوز، ويتمكن من استئناف إصدار جريدته التي قضى عليها بعد حين.

أما جريدة «الأهرام» التي أنشأها المرحوم: بشارة باشا تقلا — شيخ الصحافة وكبيرها — بمعاونة أخيه المرحوم سليم بك الشاعر المفلق، والكاتب المتفنن سنة ١٨٧٥ فإنها تعتبر أول جريدة عربية أنشئت في القطر المصري في عهد الخديو إسماعيل بعد كوكب الشرق والجريدة الرسمية. وكانت تصدر بادئ ذي بدء في الإسكندرية حتى سنة ١٨٩٨، وبعد ذلك نقلها صاحبها إلى القاهرة. وكانت المورد العذب الوحيد الذي استمد منه الشعب المصري الأدب وأصدق الأخبار، وأدق المباحث المفيدة للمجتمع ماديًا أو أدبيًا.

قنال السويس

أما قنال السويس، فكان تمامه على عهد الخديو إسماعيل، وفُتح في اليوم السابع عشر من نوفمبر ١٨٦٩ باحتفال باهر دعا إليه إمبراطور النمسا والإمبراطورة أوجينيا زوجة الإمبراطور نابليون الثالث. وأقيمت في وسط ساحة الاحتفال ثلاث منصات خشبية مرتفعة مكسوة بالديباج والحرير، جلس على المتوسطة منها أصحاب التيجان، وأولياء العهد، والأمراء، والعواهل. وعلى المنصة التي على اليمين جلس من علماء الدين الإسلامي الشيخ: مصطفى العروسي، شيخ الجامع الأزهر، والشيخ: محمد المهدي العباسي، مفتي الديار المصرية. ولما تُوفي تعين بدله نجله الشيخ: محمد أمين المهدي، ولم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، على ما رواه لي السيد: أمين المهدي حفيده، ولكن الخديو إسماعيل استصدر فرمانًا شاهانيًا بتعيين قيِّمٍ عليه بصفة استثنائية إلى أن يبلغ رشده؛ لأنه يعطف على البيوت المصرية الطيبة العنصر. وقد اشتهر بغزارة العلم وطول الباع في أصول الشريعة الغراء حتى كانت تعد فتاويه المسماة بالفتاوى المهدية مرجعًا من المراجع الشرعية الراجحة التي يعمل بها على المذهب الحنفي.

أما المنصة الثالثة فجلس عليها الأحْبَار، وفي مقدمتهم القاصد الرسولي، ونصبت «ألمظلات» لجماهير المتفرجين والزائرين على الشاطئين الأسيوي والإفريقي، وعند نهاية الاحتفال قدم العلماء الشكر لله على نعمه الجزيلة، وتلاهم الأحبار فأنشدوا ترتيلة الشكر المعروفة ﺑ Te Deum وتعانق العلماء مع الأحبار رمزًا إلى تعانق الصليب بالهلال، وتجلى روح التعاون والمحبة بأجلى معانيه أمام ملوك الغرب، مما دحض زعم رديارد كبلنج القائل بأن الشرق والغرب ضدان لا يجتمعان، وظهر للعيان أن أبناء النيل تحت حكم الخديو إسماعيل مصريون مهما اختلفت عقائدهم الدينية، وتباينت نحلهم. وأصبحت الصحراء القاحلة مزارع خصبة بفتح القنال الذي جنت منهُ مصر فوائد جمة مادية وأدبية وسياسية تزداد كل يوم بازدياد الصلات، وتوثيق عرى التعاون بين الشرق والغرب. هذا فضل من أفضاله ومأثرة من مآثره فإن لم يكن له سواهما لكفى.
figure
الإمبراطورة أوجينيا على ظهر الهجين.

على أن الملوك زائريه قد استعرضوا أجناسًا من الأمم ونماذج مختلفة تقع تحت حكمه السعيد ابتداء من الإسكندرية إلى خط الاستواء ممن حضروا هذا المهرجان من الوفود من الفلاحين والصعايدة، وقبائل العرب، والسودانيين لابسين على رؤوسهم العقال والطرابيش والعمائم والطواقي واللبد، وهم يلعبون على صهوات خيلهم العربية المطهمة على أصوات مزمار الفناجيني الدمياطي، ويركبون أسنمة الهجن وظهور الحمير للسباق على أصوات الرباب ودقات الطبول البلدية، وقد آثرت الإمبراطورة في الذهاب إلى القصر على ضفة الإسماعيلية، والإياب منه بركوب الجواد والهجين على العرب الأوربية.

ومن دواعي الأسف الشديد أن مصر لم تُقم للخديو إسماعيل اعترافًا بفضله بجانب تمثال فردينان دي لسبس تمثالا له في قنال السويس الذي حفره بأرض مصر برجال مصر. وقد أُميط الستار عن وجه تمثال الثاني باحتفال فخم في اليوم السابع عشر من شهر نوفمبر سنة ١٨٩٩ الذي يماثل اليوم الذي احتفل فيه بفتحه. حقًا إن ذلك قد وقع ذهابًا إلى الحكمة المأثورة القائلة بأن لا نبي يكرم في بلده.

figure
تمثال فردينان دي لسبس.

والأدهى من ذلك أن الخديو إسماعيل لما عمد إلى إلغاء السخرة — التي كانت حجر عثرة في سبيل القيام بأعباء الزراعة — تصدت له الشركة، واضطرته إلى سحب أمره إنجازًا للعمل وطبقًا لما هو منصوص عليه في عقد الاتفاق بينها وبين سلفه المغفور له سعيد باشا سنة ١٨٥٤، وليت المسألة وقفت عند هذا الحد، بل طالبه نابوليون بدفع مبلغ ١٢٥٠٠٠٠ جنيه ترضية له جزاء دفاعه عن الفلاح المسكين وميله إلى تخليصه من السخرة التي وجد ألا مسوغ لبقائها في عصر المدنية، وهي من بقايا الظلم في عهد الفراعنة في إبان بناء الأهرام، ورفع المَسَال الذي امتدت أغصانه حتى عهد المماليك، الذين كانوا يستعبدون الرعية وينهبون أموالهم. على أنه من جهة أخرى استعاض عن هذه الغرامة الفادحة بأن استرجع من شركة القنال أرضًا مصرية في وسط الصحراء تمتد إلى حدود الدلتا يقدر مسطحها ﺑ ٦٠٠٠٠ هكتار أرادت أن تغتصبها لنفسها، وانتهى بضمها إلى أملاك الوطن. وقد قدرها نابوليون آنئذٍ بمبلغ ٣٠٠٠٠٠٠٠ فرنك أي ١٢٠٠٠٠٠ جنيه. ولا يعزب عن بال الباحث المنصف أن لهذا المجهود العظيم قيمته الأدبية غير الملموسة، فضلا عن قيمته المادية الواضحة بما يسجله له التاريخ بالفخر المبين بين ما قام به من عظائم الأعمال.

ومما لا ينكره عليه المغرضون أن العمارات التي شيدها، والقصور الفخمة التي بناها قد انتفعت بها الحكومة على توالي السنين بأن اتخذتها مقرًا لمختلف الوزارات ومركزًا للمصالح الحكومية والمعاهد العلمية والفنون الجميلة.

figure
الإمبراطورة أوجينيا.

وقد نزع إلى تقريب المسافات وتسهيل المواصلات، فبنى ٤٢٦ كوبريًا منها ٢٧٦ في الوجه البحري و١٥٠ في الوجه القبلي، وحفر ١١٢ ترعة أهمها ترعة الإسماعيلية البالغ طولها ٩٨ كيلومترًا وحفرها ١١ مليون متر مكعب، وترعة المحمودية، وترعة البحيرة مما أدى إلى إصلاح نحو ١٣٧٣٠٠٠ فدان من أراضي الصحراء أنتجت ما تقدر غلته ﺑ ١١٠٠٠٠٠٠ جنيه أو ريعًا سنويًا قدره ١٤٠٠٠٠٠ جنيه، ومما يؤيد ذلك ما جاء في كتاب: (بيتر كارابيتس) القاضي عن أدون دي ليون القنصل الأميركي في سنة ١٨٧٥ حيث قال ما يأتي بنصه وحرفه «إن التصليحات والتحسينات والأشغال العمومية التي شرع فيها الخديو إسماعيل، وأنجزت فعلا في مدة الأثني عشرة سنة في مصر كانت مدهشة وعجيبة، ولا مثيل لها في أي قطر من الأقطار، بلغت مساحته أربعة أضعاف مساحة القطر المصري وسكانه أربعة أضعاف سكانه».

تضحية الخديو إسماعيل وتشجيعه للتجار المصريين

لما زاد فيضان النيل سنة ١٨٧٠ وهدَّد ثلاث قرى في القطر بالغرق أمر الخديو إسماعيل بأن تكسر الجسور بين أطيانه الخاصة فغمرتها المياه وسببت له أضرارًا قدّرت بأربعة ملايين فرنك. فآثر نفع الفلاح على نفعه، وضحى بأطيانه في سبيل حماية الفلاح من الأذى الذي كان سيناله من الفيضان.

وتبيانًا لتشجيعه التجار المصريين وإيثارهم على الأجانب في جني الأرباح، ولو كانت من ماله الخاص اجتزئ من تاريخ المرحوم: إلياس الأيوبي بإيراد ما يأتي بحروفه:

«ومن أفضل ما يحسن ذكره بمناسبة أفراح الأنجال أن طه باشا الشمسي — ناظر الخاصة الخديوية في ذلك الحين — وهو حمو حضرة صاحب المعالي أحمد طلعت باشا — رئيس محكمة الاستئناف الأهلية الآن — كلف عدة محال تجارية بتقديم مناقصات لتوريد كل ما يلزم من فرش وبياضات ودنتلات ورياش لجهاز كل من الأميرات العرائس. فلما قُدّمت، وقع اختيار طه باشا على مناقصة محل باسكال الفرنسوي، ويعرفه كل من زار مصر القاهرة حتى سنة ١٨٩٢، لأنها على جودة البضاعة المقدمة نماذج منها كانت على رخص في الأثمان يرغب فيه. ولكنه لما عرض ما وقع اختياره عليه للخديو إسماعيل سأله الخديو «ألم يتقدم في هذه المناقصة محل مصري وطني مطلقًا؟»، فأجابه طه باشا «نعم يا مولاي» فقد تقدم ضمن آخرين محل مدكور، ولكن الأثمان التي عرضها مُبالغ فيها لا توافق، لأنها تزيد خمسة وعشرين في المائة على الأثمان التي يطلبها محل «باسكال»، فقال الخديو إسماعيل «أرني مناقصته والنماذج المرفقة بها»، فقدمها طه باشا، فوجد الخديو إسماعيل أن الأثمان المكتوبة على تلك النماذج تزيد حقيقة خمسة وعشرين في المائة على ما يطلبه محل باسكال، لكنه وجد أن نوع البضاعة واحدة عند الاثنين، فضرب بمناقصة محل باسكال عرض الحائط، وقال لطه باشا «خذ كل ما نحن في حاجة إليه من محل مدكور وادفع له خمسة وعشرين في الماية فوق ما يطلب. فبدا في عينيّ طه باشا استغراب بالرغم من أن فمه نطق بعبارات الامتثال. فقال الخديو إسماعيل له «يا طه باشا إذا كانت المحال التجارية المصرية لا تنتفع ولا تستفيد من أفراح أولادي. فمن أفراح من تريد أن تستفيد وتنتفع؟» فاغتنمها محل مدكور وهي طائرة، وزاد على أثمان كل ما قدمه ما أمكنه زيادته. فكان ذلك من أسباب الثروة التي أحرزها ا.هـ.

أفراح الأنجال

أقيمت ابتداءً من يوم ١٥ يناير سنة ١٨٧٣ الأفراح البهيجة احتفاءً بزواج الأمراء: توفيق وحسين وحسن أبناء الخديو إسماعيل، من ربات الصون والعفاف الأميرات: أمينة هانم بنت إلهامي باشا ابن المغفور له عباس الأول، وعين الحياة هانم بنت الأمير أحمد باشا ابن المغفور له إبراهيم الأول، وخديجة هانم بنت الأمير محمد على الصغير ابن رأس الأسرة المحمدية العلوية المغفور له محمد علي باشا الكبير، وزواج أختهم الأميرة: فاطمة هانم بالأمير طوسن ابن المغفور له محمد سعيد باشا ودامت أربعين يومًا كاملاً، باعتبار عشرة أيام لكل عرس من الأعراس الأربعة، ولا يزال للآن ذكر محاسنها يسير في الآفاق. ولذلك قد زينت العاصمة بأبهى الزين، ورفعت أقواس النصر في أهم الميادين. وأقيمت الأكشاك والمنصات للجوقات الموسيقية ولتخوت المطربين والمطربات. وفي مقدمتها تخت المرحوم: عبده الحمولي الذي إذا أنشد نقل بنغماته الساحرة مَنْ سَمِعَه إلى جنة الخلد. وتخت (ألمظ) التي فتنت العقول برنين صوتها الرخيم، ناهيك بأشهر الراقصات المصريات، وفي مقدمتهن صفية وعائشة الطويلة، اللتين استعبدتا القلب والنظر فيما قاما به من حركات وتموجات ورشاقة وخفة.

ميثاق الخديو إسماعيل

ومما يحسن إيراده تفكهة للقارئ وبيانًا للحقيقية بمناسبة تزويج الأمير: حسن، من الأميرة: خديجة، أن الخديو إسماعيل حينما أدخلها المدرسة المعدة للأميرات، وتبين من فحوى كلامها توقد ذهنها وسرعة إدراكها وعدها بالزواج من أحد أولاده إذا اجتهدت في طلب العلم. فعنَّ له يومًا أن يزور تلك المدرسة ليتفقد حال الطالبات فيها، فلما وصل إلى الأميرة خديجة، سألها قائلا «إلى أين بلغت من تعلم القرآن يا ابنتي؟» فأجابته من فورها وقالت «واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد»، فسُرَّ الخديو وارتاح لجوابها وقال لها: «نعم. نعم» ثم برَّ لها بوعده. فلا غرابة في لطيف إشارتها إلى سابق وعده وما بان له فيها من فرط الذكاء وهي دون البلوغ، لأن البنت أفطن من الولد بطبيعة الحال إلى السنة الثالثة عشرة من العمر؛ حيث يقف ذكاؤها عند هذا الحد لأسباب طبيعية ولا يتعداه خلافًا للولد، فإن ذكاءه يطَّرد نموه ويسير نحو تمام الإدراك على ما أثبته (هربرت سبنسر) في كتاب: «التربية». على أن معنى إسماعيل: مطيع الله، كما ذكره صاحب القاموس. وفي شفاء الغليل قال السبكي «ويستحب لمن رُزق ولدًا في الكِبر أن يسميه إسماعيل اقتداء بالآية. ولأن معناه عطية الله». فإذا توارت شمسه وراء الأفق، فإن أشعتها — كما قال فكتور هوجو — لا تزال ساطعة الأنوار.

وبالجملة، فقد كان عصره عصر رخاء وجذل، وكان ديدنه ومذهبه توثيق عرى المصافاة بين قومه، وبذل النفس والنفيس في سبيل ترفيه نفوسهم وترقية عقولهم لما أنه كان من أحب الناس إلى المسالمة التي بها كان يحقق رغائبه. وكان جديرًا بأن ينطبق عليه المثل القائل Son métier était Roi.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤