الفصل السادس عشر

كلمة الدكتور عبد الرحمن شهبندر

الزعيم السوري الكبير

لا أكاد أعرف من الموسيقى إلا أنها ضربان، ضرب يثير الطرب، وضرب يدعو إلى الاشمئزاز، لذلك لا أرى نظرًا لمعرفتي هذه كبير فائدة من المجادلة في شأن الموسيقى العربية أهي متقدمة أم متأخرة لأنني ما دمت أطرب منها كما يطرب غيري من أبناء العرب الذين يسمعونها فهي موسيقى تؤدي وظيفتها، ألم يقولوا كذلك عن اللغة العربية أنها ضعيفة لا تصلح للتعبير عن النهضة الحاضرة فكذبتهم المجلات العربية والصحف العربية والكتب العربية؟ وهل أدل على حياتها من أنها أصبحت لغة الثقافة في هذا العالم العربي الشاسع الناهض؟

على أنني لا أنكر أبدًا أن الملحنين العرب لم يجاروا النهضة إجماعًا في بلدان العرب، فهم يحتفظون بما خلفه لهم الآباء والجدود المتأخرون من ذكريات آلام وأحزان تدل عليها تلك الأنات والآهات المتكررة، وغير ذلك من الألفاظ والألحان الحافلة بمعاني الانكسار والخضوع وزوال النشوة وعزة النفس، وإذا جاز لمثل هذه الألحان أن تأخذ بمجامع القلوب فيعصر التشاؤم الوضيع فهي تدعو إلى الملل والضجر والسآمة في عصر النهضة الطامحة.

figure
الزعيم السوري الدكتور عبد الرحمن شهبندر.

والموسيقى مثل الشاعر والمصور وسائر الفنانين مدره يعبر عما يخالج صدور الناس من هواجس وانفعالات فعلية أن يماشي العصر الذي يعيش فيه، والتطور الذي يحيط بكل شيء حتى بالتخت الذي يغني عليه. فكما أننا لم يعد يلذنا كثيرًا هذا التذلل والترامي على أقدام الأحبة، وتقبيل نعال الخيل التي تحملهم، كذلك لا تروقنا اليوم العبرات والحسرات من غدر الزمان، وقوارع الحدثان، بل إننا أحوج ما نكون إلى من يفصح عما في قلوبنا من غليان، ويدل على ما في نفوسنا من تحفز، ويترجم عما في عزيمتنا من قوة. لذلك لا أخطئ أبدًا إذا ما قلت إن الموسيقي الذي ستنصت له الآذان وتنفتح له القلوب هو الذي يعبر عن الانقلاب الاجتماعي السياسي الخطير في بلادنا، وعما يحدث في قرارات نفوسنا من التبدل الكبير. وليقل المحافظون والمجددون ما شاءوا أن يقولوا فإن المهم الذي يجب أن يُصرح به على رؤوس الأشهاد ومن غير محاباة هو أن هذه المواليا النمطية المملة، وما تبتدئ به من النداء «يا ليل»، وهذا التكرار الثقيل السقيم الذي يكرره المغني للكلمة التي يتمسك بها، وهذا التسكع والتشاؤم كله سيحول أنظار النشء الحديث عن التخت العربي، ويرغبه عن سماع المغنين العرب ما لم نعتمد في موسيقانا على تلك العناصر التي تعيد إلى القلوب ثقتها، وإلى النفوس نشوتها، وإلى العضلات قوتها ووثبتها.

وقد يكون من المستحسن أن يسمع المرء في حفلة كاملة لحنًا واحدًا محزنًا، وقد يكون من الجائز أن يسمع لحنين اثنين، ولكن أن يقضي الحفلة كلها في نواح وبكاء ورجيع فهذا أليق بنصب المآتم وزيارة المقابر. ويعجبني كثيرًا أن يقول الأستاذ: قسطندي رزق في «عبده الحمولي» إنه كان يضع نصب عينيه الفرح والابتسام فلا يغني من الأدوار إلا ما أثار البهجة والحبور.

إن معاجم لغتنا اليومية قد اتَّسعت وتعدلت وتحولت حتى أصبحت تستوعب ألوفًا من الألفاظ الدالة على المعاني العلمية والفلسفية الحديثة، وهكذا موسيقانا فإنها ستتَّسع وتتعدل وتتحول حتى تستوعب تلك الهواجس التي تجول في أفئدتنا والثورات التي تغلي في نفوسنا، والانقلابات التي تشب في مداركنا، وإننا وقد صممنا على الحياة فلا بد لنا من تكييف أنفسنا وأوضاعنا وعلومنا وفنوننا بحسب حاجاتنا، والحاجة أم الاختراع.

المؤلف — كل واحد منا يعرف من هو الدكتور: شهبندر وماله من قدم سابقة في قضية استقلال سوريا والبلاد العربية وما بذل من مجهود، وتحمل من مشاق واضطهاد في سبيل الوطن الذي تحفزه همته إلى حماية حوزته باتحاد الوجهة، واجتماع الكلمة، وتعليقًا على كلمته البليغة في باب الموسيقى التي لأجلها أملأ فمي بحمده الجزيل أقول إن وزارتنا الماهرية الجليلة قد عنيت ببث روح الشجاعة وعزة النفس والكرامة الشخصية في النشء الحديث تمشيًا مع النهضة القومية في هذا العصر إسوة بالأمم المتمدنة، وقررت عمل مباراة في نظم وتلحين نشيد قومي كنشيد ألمانيا مثلا القائل «ألمانيا فوق الجميع» الغرض منه أن ينشأ المصري حرًا مستقلا ووطنيًا أمينًا ورجلاً صادقًا يضطلع بأعباء مهمات بلاده، وقد أصاب حضرة الدكتور المشار إليه كبد الحقيقة بقوله إن الموسيقب كالشاعر والمصور وسائر الفنانين مدرهٌ يعبر عن عواطف الأمة، وعما تصبو إليه من رغائب وآمال، ويدلنا على ما بنا من نقص وضعف عزيمة، وحسبي من هذه الوجهة أني قد وجدت في أغاني غريد الشرق «عبده الحمولي» غضبة في الله، ولله انتصارًا للحق وأربابه جماعاتٍ ووحدانًا ونبلاً وجذلاً وسعادة وعفة وفروسية ومروءة ووفاء فاستطاع بقلبه وصوته أن يدلنا على مناهج الشفاء من الداء ذهابًا إلى ما جاء بحديث المصطفى القائل «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه» فما بال المطربين المجددين لا ينسجون على منواله ولا يستنون بسنته؟ إن ذلك لأمر غريب فإنهم لم يقتصروا على أن كسوا أغانيهم التجديدية لباسًا من الهجنة لا يرجع إلى ترتيب، ولا يجري على شيء من التناسب الذي هو قاعدة الجمال بل بثوا في النشء روح الذل والإنكار والكآبة كأنهم يبكون بكاء الخنساء على صخر، متصنعين الحب وهم مذاعون يأخذون صديقهم أخذًا عنيفًا حتى ماتت في النشء ملكة البحث والنظر، وكادوا يتفادون من كل ما فيه بأس وعزة، فلينشأ المصري حرًا يرضع البأس وقت رضيع الحليب، ويسمع نشيدًا قوميًا فيشرب حب وطنه ويحمي حوزته؛ لأن الطفل أبو الإنسان وهو يسد المخلوقات «وفي أنفسكم أفلا تبصرون».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤