الفصل الثامن عشر

فذلكة عن الغناء العربي

للأستاذ: محمود فؤاد الجبالي السكرتير بمجلس النواب سابقًا

صديقي: قسطندي أفندي رزق

أتذكر في ليلة السمر الحلو التي دعوتني إليها في منزلك أننا رجعنا بالحديث الشهي إلى ذكريات الماضي الجميل، وأخذنا ننشر من الثناء حللا على بعض رجال الغناء العربي الذين أضافوا إلى شهرتهم في الفن، شهرة تستحق الحمد في المروءة، والكرم، ومؤاساة الفقير بالبذل والعطاء عندما يعوزه النصير، وكان من أوائلهم، بل كان جماع الفضائل، ومصدر المحامد المرحوم: عبده الحمولي ذلك الرجل الذي نهضت بذكره، والإشادة بمحاسنه، وبذلت جهدًا ومآلا عن طواعية لإحياء مآثره بعد أن كاد الزمن يعفي على آثاره خصوصًا في هذا العصر الذي انبرت فيه طائفة من المولعين بما يسمونه التجديد في الغناء، فيعمدون لي مزج الغناء الشرقي بالغناء الغربي، ثم يخرجون للناس نغمات لا تمت إلى الشرق بصلة، ولا إلى الغرب بنسب، وبذلك أضاعوا المقامات التي تعب السلف في تركيزها، وأتبعوا طرقًا فيها الكثير من العثرات. أتذكر ذلك يا صديقي؟ ثم تذكر أنك تمنيت لو أن أحد رجال الفقه الإسلامي ممن بلغوا شأوًا بعيدًا في الثقافة العربية كتب جملة صالحة في الغناء العربي من الوجهة الدينية، وسماع آلات العزف في محافل السرور والفرح. وهل هي مما تحرمه الشريعة السمحة أم تحلله؟

figure
الأستاذ محمود فؤاد الجبالي.

وطلبت إليّ أن أتصل بأحد شيوخ العلم من أصدقائي الذين عبَّد الله لهم سبل الفهم، ووصلوا في معرفة دقائق اللغة إلى لبّها، فاكتسبوا شرفًا بغوصهم على المعاني الدقيقة التي تفيض بها صحائف الكتاب الكريم والسنة، وتعتز بها كتب التاريخ والسير، فأقول لك إنني اتصلت بالكثير منهم فلم يجدوا في وقتهم متسعًا لخوض هذا البحث لما تكتنفهم من ظروف، وما يحيط بهم من ملابسات تستلزم العجلة فيما هم مقبلون عليه.

لهذا السبب رأيت أن أرجع — على قلة بضاعتي — إلى كتب السير تحقيقًا لغرضك، وإتمامًا لبحثك ليخرج كتابك للناس في المرحوم: عبده الحمولي شاملا للكثير الممتع من الحقائق، حاويًا لبعض النوادر التي وقعت للسلف الصالح في الصدر الأول في الغناء، وسماع الآلات، أيام كان الدين غضًا، وكان رجاله يقيمون بقلوبهم بناءه، ويبذلون الأرواح رخيصة لتشييد صرحه، بل كانوا يخافون الله في الشبهة. فإذا وقعت لأحدهم في عمل جعلوا من الكتاب الكريم حكمًا، ومن السنة الصحيحة موئلا، واعتصموا جميعًا بحبل الله في أمره. ولم تصرفهم الحروب والغزوات عن أن يعلوا منار التشريع في الخطير والحقير من الأمور حذرًا من أن يميل بين أيديهم اللواء المعقود، ويبدد عقد الشمل المنضود. وإنك يا صديقي ستقرأ فقرًا مستملحة في الغناء وسماع الآلات، وهي وإن كانت لا تنقع غلة ولا ترد لهفة، لضيق المناسبات التي وقعت فيها، وإمساك النفوس عن التوسع في بيانها إلا أنها من الوجهة الدينية تعد كفيلة لتحقيق الغرض الذي تصبو إليه وسأجتهد في إيجاز القول ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.

إن بعض شيوخ الدين من السلف الصالح قد استدلوا على إباحة الغناء وسماع الآلات بأحاديث شريفة صحيحة عن رسول الله منها ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: دخل عليَّ أبو بكر (رضى الله عنه) وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر (رضى الله عنه): أمزمار الشيطان في بيت رسول الله وذلك يوم عيد فقال له رسول الله يا أبا بكر إن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا.

وروي عنها أيضًا رضي الله عنها أن أبا بكر (رضى الله عنه) دخل عليها وعندها جاريتان في أيام مِنًى تدففان وتضربان، والنبي متغشٍ بثوبه فانتهرهما أبو بكر فكشف النبي عن وجهه وقال دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد، وتلك الأيام أيام منى. وعنها أيضًا رضي الله عنها قالت، كانت جارية من الأنصار في حجري فزففتها، فدخل رسول الله ولم يسمع غناء فقال، يا عائشة ألا تبعثين معها من يغني فإن هذا الحي من الأنصار يحبون الغناء، ومما رواه أبو الزبير بن مسلم المكي عن جابر قال:

زوَّجت عائشة رضي الله عنها ذات قرابة لها رجلاً من الأنصار فجاء رسول الله فقال: «أهديتم الفتاة، قالوا: نعم. قال: أرسلتم معها — قال أبو طلحة راوي الحديث: ذهب عني — فقالت لا. فقال رسول الله «إن الأنصار قوم فيهم غزل فلو بعثتم معها من يقول:

أتيناكم أتيناكم
فحيونا نحييكم
ولولا الحبة السمرا
ء لم نحلل بواديكم

ويروى عن فضالة بن عبيد قال رسول الله : (للهُ أشدُّ أذنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن يجهر به من صاحب القينة إلى قينته).

أما عن سماع الآلات فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله سافر سفرًا فنذرت جارية من قريش لئن رده الله تعالى أن تضرب في بيت عائشة بدف، فلما رجع رسول الله جاءت الجارية، فقالت عائشة لرسول الله : فلانة ابنة فلان نذرت لئن ردك الله تعالى أن تضرب في بيتي بدف، قال فلتضرب.

أما ما ورد في القصب والأوتار والمزامير فلا خلاف في إباحة سماعها، والدليل على ذلك أن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف مع جلالته وفقهه وثقته كان يفتي بحل ذلك، وقد ضرب بالعود، وكان الإمام أحمد بن حنبل لا يحدث حديثًا إلا بعد أن يغني على عود إلى غير ذلك من الأدلة والشواهد العديدة التي يضيق المقام عن سردها. ولا بأس من أن نورد هنا جملة صالحة لابن خلدون في هذا الموضوع وهو الحجة الثبت في الاجتماعيات قال:

«لما جاء الإسلام. واستولى رجاله على ممالك الدنيا، وحازوا سلطان العجم، وغلبوهم عليه، وكانوا من البداوة والغضاضة على الحال التي عرفت لهم، مع غضارة الدين وشدته في ترك أحوال الفراغ، وما ليس بنافع في دين ولا معاش، هجروا ذلك شيئًا ما، ولم يكن الملذوذ عندهم إلا ترجيع القراءة، والترنم بالشعر الذي هو ديدنهم ومذهبهم، فلما جاءهم الترف، وغلب عليهم الرفه بما حصل لهم من غنائم الأمم، صاروا إلى نضارة العيش، ورقة الحاشية، واستجلاء الفراغ، وافترق المغنون من الفرس والروم، فوقعوا إلى الحجاز، وصاروا موالي للعرب، وغنوا جميعًا بالعيدان، والطنابير، والمعازف، والمزامير. وسمع العرب تلحينهم للأصوات، فلحنوا عليهم أشعارهم، وظهر بالمدينة نشيط الفارسي، وطويس، وسائب خائر — مولى عبد الله بن جعفر — فسمعوا شعر العرب ولحنوه، وأجادوا فيه، وطار لهم ذكر، ثم أخذ عنهم معبد وطبقته وابن شريح وأنظاره، وما زالت صناعة الغناء تتدرج إلى أن كملت أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي، وإبراهيم الموصلي، وابنه إسحق، وابنه حماد، وكان من ذلك في دولتهم في بغداد… إلخ». ا.هـ.

وما زال فن الغناء يتنقل من عصر إلى عصر، ومن دولة إلى دولة ويعتريه الضعف والوهن تبعًا لضعف الزمن ووهنه، والشهرة والذيوع إن أخصب ربعه، وأخضل واديه، تسمعه الخلفاء في قصورهم، وتهش له الأمراء في دورهم إلى أن وصل إلى عهد أبي الأشبال المغفور له إسماعيل باشا وهنالك طلع فجره، وبزغ هلاله، وأنارت شمسه، وكمل أنسه بوجود المرحوم: عبده الحمولي الذي ملك ناصية الفن فأخذ يعبد طريقه، ويحسن تنيسقه، ويأخذ من عواطف الشعب المشهور بالرقة مادة لتلحين أدواره، وإنشاد أشعاره، ولم يكفه هذا بل عمد إلى نغمات الترك والفرس فصبّها في قوالب من صنع مصره، وجعلها زينة لعصره فتراها تجمع بين بغداد في حضارتها، ونجد في بداوتها، والفرس في غضارتها، والترك في منعتها وقوتها.

فما لمصر وهي أمة عربية تصبو بغرائزها إلى سماع صوت الحُداة وهم يحدون ونحن في أثر الطعن وهم مجدون، ويخفق قلبها إن هبت من نجد صبا، وتصفّق منها الضلوع إن لمع برق من بغداد أو خبا، وجرى الماء في غياض الشام يسقي هام الربى، يراد بها أن تكون في نغماتها غربية وهي ربيبة الشرق، ورضيعة لبانه ولسان حالها يقول:

وتلفتت عيني فمذ خفيت
عني الطلول تلفت القلبُ

إن أمة هذه خصائصها ومميزاتها لن تنفع فيها إن شاء الله حيلة المجددين في الشعر والغناء، وستسير القافلة وهم في الطريق، وأن مُلكًا على عرشه حضرة صاحب الجلالة الملك أحمد فؤاد الأول ابن ناصر هذا الفن المغفور له إسماعيل باشا خليق بأن يغني بمحاسنه الدهر، ويمرح تحت وارف ظله كل مبتكر، وينشد في واسع رحابه لكل أديب، ويسير إلى الأمام بفضله كل مخترع، فلك الشكر الجزيل يا صديقي على ما بذلت من جهدٍ، وأديت من أمانة، بوضعك الحق في نصابه، وإرجاعك السيف إلى قرابه، واختتم عجالتي هذه ببيتين من قصيدة المرحوم شوقي بك في المرحوم عبده.

يا مغيثًا بصوته في الرزايا
ومعينًا بماله في المكاره
ومُجِلّ الفقير بين ذويه
ومعز اليتيم بين صغاره

وسلام الله عليك من صديقك محمود الجبالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤