الفصل العشرون

شهادة إبراهيم بك المويلحي الكاتب القدير

في مصباح الشرق بتاريخ ١٧ مايو سنة ١٩٠١

بعنوان «خلقة كاملة»

إذا بحث الباحث في أطوار الناس وأخلاق الخلق تعين عليه أن يجردهم من طيالس المراتب والمناصب ومظاهر الثروة والجاه، ثم يُلفي في نظره ما بينهم من تفاوت الطبقات واختلاف الدرجات التي وضعها الناس لأنفسهم بأنفسهم، ثم ينظروهم على تلك الحالة المجردة إلى ما وضعه الله فيهم من المواهب والمزايا، وأسباب التفاضل بينهم وما هذه الدنيا في نظر الحكيم إلا ملعب، وما الناس في مراتبهم ودرجاتهم إلا كالمشخصين فيه يتزيون بالأزياء المختلفة، هذا مَلَكٌ، وهذا وزير، وهذا قائد، وهذا أمير، فإذا أراد الباحث أن يعرف حقيقة اقتدارهم وقيمتهم في ذاتهم نظر إليهم من وراء الملعب مجردين عن تلك الألبسة الفاخرة في الحالة التي كانوا عليها قبل تشخيص أدوارهم، وهنالك يرى الباحث في طبائع الناس وأخلاقهم أنهم مختلفون بينهم، ومتفاوتون في سلسلة الترقي والكمال تفاوت الصوان من الياقوت في الأحجار، والسيالة من البنفسج في النبات، والفهد من القرد في الحيوان — ومن الناس من تميزهم الطبيعة بكمال الخلقة وترتقي به في كمال التصوير فينشأ فيها من حسن الانتساق ولطف التركيب ما تتجلى في عالم الإحسان والإتقان والتصوير؛ فيصدر عنه من بدائع الأعمال ومحاسن الأفعال ما تطرب له النفوس، وتشجي به القلوب. فإن نشأ في طبقة الشعراء كان كالمعري مثلاً، وإن نشأ في طبقة الحكماء كان كابن سينا، إن نشأ في طبقة الجند كان كطارق بن زياد، وإن نشأ في طبقة المغنين كان كإسحاق أو كهذا الفقيد الذي فقدناه بالأمس. وهب الله المرحوم عبده الحمولي سجية الإحسان ومزية الإتقان، فكان وحيد عصره، وفريد دهره في صناعة مارسها بين الناس أكثر من أربعين عامًا لم يضارعه فيها مضارع، ولم يلحق به لاحق، وانحصر فيه الغناء في مصر طول هذه المدة فصار الكل له مقلدين يأخذون عنه ولا يبلغون شأوه، ولا يتعلقون بغباره، ولا غرو فإنه هو الذي أخرج فن الموسيقى من سقوطه وتأخره إلى ارتفاعه وتقدمه، ولم يقتصر على طريقته التي وجده عليها، بل أخذ فيه بأسباب الاختراع والابتداع والتحسين والتهذيب، وأنشأ له طريقة جديدة بحسن اجتهاده ورقة ذوقه.

وجاء في مصباح الشرق بتاريخ ٢٤ مايو سنة ١٩٠١ ما يأتي:

«من الناس من يهبه الله سجية الإحسان ومزية الإتقان فينصرف إتقانه وإحسانه إلى الفن أو الصناعة التي اختارها لنفسه فيحسنها ويتقنها ويتحول بكليته إليها، ويغفل في نفسه ما عداها من مغارس المحاسن ومنابت الفضائل ومكامن المكارم فيعيش غفلاً منها، وإن كان نابهًا في صناعته فيلقى الناس منه ما يسوء من أخلاقه بقدر ما أحسن من صناعته، يرضيك حسنه من باب، ويسخطك قبحهُ من عدة أبواب، فترى الشاعر يرتقي في عالم شعره فيسبق فيه من يباريه ويعلو قدره على سواه، فإذا عطفت نظرك إلى أخلاقه وجدته أحط الناس فيها درجة، وأدناهم منزلة، وأردأهم سيرة في المخالطة، وأسوأهم معاملة في المعاشرة، وتجد هذا الذي لم يكتف بعلم الحقيقة في الجمال حتى تجاوزه إلى عالم الخيال أبعد الناس عن جميل الفعل وكريم الخصال، وترى المصور الذي يباري محاسن الطبيعة بحسن المحاكاة في جمال النظام ولطف الانسجام يكون فيما عدا ذلك أخرق أحمق شرس الطباع سافل الأخلاق، وترى العالم يصعد بعلم إلى عالم الفضائل والحقائق، ثم ترذل أخلاقه بالغلظة والجفاء وتسوء بالتيه والضلال وتراهم جميعًا قد ارتكنوا في طبقاتهم على فضلهم في صناعاتهم وفنونهم، وأهملوا بقية الفضائل وبعدوا بنفوسهم عن جمال التهذيب وحسن التثقيف، فإن تحمل الناس منهم سوء الأخلاق ظاهرًا للمزية التي انفردوا بها فإنهم لا يتحملونها باطنًا يرضونهم بالوجوه ويبغضونهم في القلوب، أما إذا التفت المتقن لفتة المحسن في صناعته إلى تهذيب بقية أخلاقه وصفاته إلى تحسينها، وصرف إلى ذلك بعض همه بما أوتيه من سجية الإتقان ومزية الإحسان وارتقى إلى فضائل الأخلاق ارتقاءه في فنه أو صناعته، فإنه يرضي الناس ظاهرًا وباطنًا وتبلغ مزاياه من قلوبهم المحل الأعلى فتنطوي على محبته وتجتمع على تفضيله في حياته وبعد مماته».

وقال في موضع آخر

«ولما سافر المرحوم في سنة ١٨٩٦ إلى الأستانة العلية وحظي هناك بالمثول في الحضور الشاهاني مرارًا، وأعجب أمير المؤمنين بمهارته في فنه وحسن تأديته له أسنى عطيته، وبَلَّغَهُ حسن رضائه، وكان الواسطة بينهما للتبليغ في ذلك المجلس سماحة السيد أبي الهدى، ومما تلقاهُ عنهُ من أوامر أمير المؤمنين أن يلقّن ما غنَّاهُ في حضرته من الأصوات لبعض ضباط الموسيقى الشاهانية، فلقن المرحوم منه ما أمكنه، ولم يسع الوقت تمام القيام بالأمر، ووعد أنه سيشتغل عند عودته إلى مصر بربط تلك الأصوات برابطة «النوطة»، ثم يعرضها على الأعتاب ليسهل أخذها على ضباط الموسيقى، وأهمل المرحوم مدة وجوده في الأستانة التردد على سماحة السيد، واجتمع ببعض المتزاحمين معه على الأعتاب الشاهانية، ورغب كل واحد منهم أن يكون له الحظوة بتقديم تلك الأغاني والأصوات عند عودة المرحوم إلى مصر وإرسالها إلى الأستانة، فلما عاد أتمها عشرين صوتًا (دورًا) مربوطة بالنوطة ثم تردد في كيفية إرسالها، وخشي أن يغضب أحدهم باختيار سواه عليه في تقديمها فامتنع عن إرسالها لهم جميًعا، وأرسلها من طريق رسمي، فأسرَّها له السيد في نفسه، ولما ذهب إلى الأستانة وقابل من قابل مزودًا بالآمال لم يشعر هناك — وهو في مجلس أنس لبعض كبار المصريين من أصدقائه في جهة البوغاز — إلا وقد أحاط به رجال الشرطة فسار معهم وصاروا ينقلون هذا الذي لم ينتقل في عمره من مجلس أنس إلا إلى مجلس سرور طول ليلته، من مخفر إلى مخفر ومن سجن إلى سجن، حتى وصلوا به إلى مأمور الضابطة فأمره بالخروج في الحال من دار الخلافة، وعلم المرحوم مما سمعه من بعض الأعوان الحلبيين من ذكر السيد ووجوب السعي في دوام رضائه، أن الأمر مقصود لمجازاته على إهماله أمر سماحته، فلم يلتفت إلى غير المبادرة إلى إجابة الأمر بالرحيل عن الأستانة؛ فأثرت فيه هذه الحالة وعاد إلى مصر مصابًا بداء البول السكري فانهك قواهُ».

وقال أيضًا وكان شهمًا غيورًا شريف السيرة يغار لنفسه ولأعراض الناس لا يبالي في ذلك بهول الموقف وفداحة الخطوب. كان كتومًا للسر مؤاسيًا لعائلته طلق الوجه طليق اللسان يصيب غرضه بحسن بيانه حتى لقد قيل عنه: إنه لو كان سفيرًا لدولة من الدول لما تعقد عليه أمر في السياسة، فكان خفيف الروح متوقد الذهن، مات والناس إجماع على تفضله والقلوب مرتبطة بمحبته.

فاذهب كما ذهبت عوادي مزنةٍ
أثني عليها السهل والأوعار

فما روضة غناء كأنها غادة حسناء قد افتتن في تصويرها الجمال وجعلها للناظرين كالمثال، فالغصن قدها والورد خدها، والرمان نهدها، وعليل النسيم عهدها، والكرم شعرها، والأقاح ثغرها، انتهت فيها غافية حمام فوق نمارق الأغصان والأكمام آخر الليل وقد عسس، وأول الصبح وقد نفس، فلما رفعت طرفها وجدت بجانبها إلفها بعد أن نأى عنها مكانًا، وفارقها زمانًا، فزال عنهما ألم الشوق، والتف الطوق بالطوق، وهتف منشدان فوق خرير الماء قصيدة على روي الراء، أودعاها ما أرادا من معاني العشاق في وصف صلة الوصل بعد الفراق، ومن حولهما بقية الأطيار ترجع إنشادهما ترجيع الأوتار تهزه على كل غصن مائس كأنها القيان تزف العرائس بأطرب من صوتك في الآذان، وألذ من ذكرك بين القلب واللسان، وما أحرى من سكان الأشجار وذوات الأوكار غادرت أفراخها من وكرها في ليلة موصوفة ببردها وحرها تلتمس لهن شيئًا من القوت، وقد عز كالياقوت، فوقعت من الأمطار في شبكة منعتها عن السعي والحركة إلى أن غادرتها العهاد، وأمكن لها الإرشاد، فعثرت لهن على نزر من الحب، ودت لو زيد فيه حبة القلب فراحت إليهن ولا الظافر بتاج الملك، ولا الناجي مع نوح في الفلك، فوجدت السيل قد أتى على الشجرة فاقتلعها، وعلى الأفراح فابتلعها، وبينا هي بين تصعيد وتصويب وحنين ونحيب إذ أنقض عليها صقر أنشب في طوقها أظفاره، وغمس في جوفها منقاره فاجتمعت عليها صنوف الآلام: آلام الأرواح، وآلام الأجسام بأوجع في قلوب رفاقك من يوم فراقك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤