الفصل الثالث والعشرون

تراجم حياة أشهر الموسيقيين والمطربين في مصر

المرحوم أحمد الليثي «العواد»

ولد المرحوم الليثي في الإسكندرية سنة ١٨١٦ ومات سنة ١٩١٣. وكان والده «قانونجيًا» شهيرًا وبعثه إلى أحد الوزانين «القبانية» ليتعلم بدكانه القراءة والكتابة. ولما وجد الأخير أن تلميذه ليس بقارئ ولا بكاتب ومادام عديم الميل إلى العلم لا يضطلع بمزاجه حفظ، أشار عليه بأن يتعلم فنًا من الفنون الجميلة كالموسيقى فاختار لنفسه «العود»، وبدأ والده يعلمه العزف عليه على طريقة القانون بواسطة السمع لا الأصبع كما هو المتبع فيما إذا كان المعلم عوادًا، فأدرك شيئًا من العلم بادئ بدء واستعان أخيرًا بفطرته الطبيعية على الابتكار دون التقليد في تصوير النغمات، ثم حضر إلى مصر ولم يكن فيها تخت للآلات الوترية معروفًا سوى تخت المرحوم: منسي الكبير، والد الأستاذ: قسطندي منسي، والتحق بسراي ساكن الجنان الخديو إسماعيل كمعلم، وانضم إلى «ألمظ» وعبده الحمولي، وكان الوحيد في تصوير نغماتها، وفي التقاسيم المعتاد البدء بها على عوده بدلاً من القانون، بالرغم من وجود قانونين على تخت عبده، ولم يشتهر سواه في تصوير النغمات بالأصابع دون الريشة؛ لأن العادة المتبعة في الأستانة أن تستعمل الريشة للعزف ابتداء من التقسيمة أو خلافها من القطع لغاية التسليم (أي النهاية)، وهذه الطريقة تسمى «بالمزراب» وقد خالفها الليثي في مصر بأن استعمل الأصابع دون الريشة لاستخراج الأصوات، وتسمى طريقته «بالبصم» ولا يخفى على اللبيب ما لطبيعة الأصابع من لين وحنان، وما للريشة من يبوسة. وكان قصير القامة مليح الوجه تتوسم فيه مخايل الكرم، ويعدّ عبقريًا في العزف على العود رحمهُ الله رحمة واسعة.

figure
المرحوم الأستاذ أحمد الليثي «العواد».

المرحوم: محمد عثمان

ولد المرحوم: محمد عثمان بن الشيخ عثمان حسن المدرس بجامع السلطان أبي العلا حوالي سنة ١٨٥٥ في مصر، وأدخله والده في ورشة برادة ليتعلم صنعة يرتزق منها، ولما آنس فيه شديد الميل إلى الغناء وسمعه يقلد المنشدين في الأذكار أخرجهُ منها وضمَّهُ إلى تخت الأستاذ: منسي الكبير، والد الأستاذ: قسطندي منسي الذي تخرج عليه في العزف على العود، والتدرّب على الغناء، وتركه بعد وفاة والده ليشتغل على تخت: علي الرشيدي الكبير، ومكث مع الأخير مدة طويلة تعمّق في خلالها في البحث الفني، وتبسط في التلحين إلى أن كوّن تختًا خاصًا به، ولما فقد صوته من جراء مرض أصابه عهد إلى التلحين؛ فتصحفه المحترفون والهاوون، فإذا هو محكم الوضع متناسق النغمات، وإليكم مجموعة مقطوعاته الغنائية المبينة بالجدول الآتي:

«أما بسحر العين» و«المطر يبكي يا ناس لحالي» و«متِّع حياتك» و«نور العيون شَرف وبان» و«بدع الحبيب كله يطرب» فهي منسوبة للمرحوم: عبده الحمولي كما قرر ذلك الثقة الأستاذ: داود حسني الملحن الكبير، وقال أيضًا إن مقطوعة الحبيب لما هجرني قديمة، وليست لهُ، ولا يفوتني أن أذكر أن محمد عثمان ابتدع طريقة خاصة به تسمى «الهنك» في الغناء، التي يردّد فيها رجال تخته المذهب نفسه أو غير ذلك ليتسنى له التنفس والراحة في أثناء ذلك استعدادًا للإبداع، وقد ذهب مع عبده إلى الأستانة، وقد بكاه الأخير على ما كان بينهما من تباغض وتنافس عندما بلغه نعيه وهو في سوهاج بوابور حسن بك واصف يوم ١٩ ديسمبر سنة ١٩٠٠.

وقد روى لي الأستاذ داود حسني أن محمد عثمان على ما كان معجبًا بنفسه لانتشار تلحينه لا يعنو لمشاجرات العصبجية من أهل الحسينية، وأهل الجمالية في أثناء الحفلات والأعراس لصرامة بأسه وصلب عوده، ولم يقم لأي أمر وزنًا، ولم يعظم أحدًا إلا عبده، فإنه كان يسميه لدى رجال تخته «الأفندي بتاعنا»، ولو كانت له صورة فوتوغرافية لتشرّفت بوضعها في صدر مقالي هذا، ويعدُ أكبر ملحن في عالم الغناء رحمه الله رحمة واسعة.

اسم المقطوعة المقام اسم المقطوعة المقام
مليكي أنا عبدك راست اليوم صفا عجم
يا ناس خايف أقول أحبه راست ما أحب غيرك صبا
أصل الغرام نظرة راست أعشق الخالص لحبك صبا
بستان جمالك راست أدما أحبك صبا
عشنا وشفنا سنين راست آهين وآه من العشق آه صبا
أنا يا بدر لم بانظر مثالك راست الحب أصله منين صبا
دواعي الحب تشغلني راست على الملاح أنت الأمير جهاركاه
بعد الخصام حبي اصطلح راست صبحت من عشقك أبكي جهاركاه
من يوم عرفت الحب بياتي تيهك عليّ اليوم جهاركاه
قده المياس بياتي النوم وعد جهاركاه
عهد الأخوة بياتي القلب سلم من زمان جهاركاه
حبيت جميل بياتي غرامك علمني النوح حجاز كار
يا وصل شرّف بياتي ياما أنت واحشني حجاز كار
قل لي رايت إيه بياتي فؤاد من لحاظك حجاز
قدك أمير الأغصان بياتي لسان الدمع أفصح من بياني عراق
ثلاثين يوم ما شفت النوم بياتي البخت ساعدني وشفتك عراق
إن كان كده والا كده بياتي أنا أعشق في زماني رمل
ياللي معك روح الأمل بياتي كادني الهوى نهوند
حبي دعاني في البستان بياتي كل يوم أشكي نهوند
القلب داب سيكاه فؤادي رقيق يعشق نهوند
في البعد ياما سيكاه

الشيخ يوسف المنيلاوي

وُلد المرحوم يوسف خفاجي المنيلاوي حوالي سنة ١٨٥٠ بمنيل الروضة في القاهرة، وحفظ ما تيسر من القرآن الشريف، وأَلِفَ منذ حداثته الإنشاد الذي اقتبسه عن الشيخ خليل محرم و الشيخ محمد المسلوب، ولما ظهر نبوغه في هذا الفن لما له من صوت حسن رخيم ولين أشار عليه المرحوم عبده بترك الإنشاد لممارسة الغناء؛ فاندمج في سلك المطربين وأخذ عن «عبده» و«محمد عثمان» أدوارهما الملحنة وغناها على تخته الخاص، وانقطع عن الإنشاد إلا في حفلات مولد النبي، وتشييع الكسوة الشريفة، وليالي شهر رمضان في منزل آل البكري، فكان ينشد فيها الأدوار الخاصة بالذكر حتى إذا تمزَّق ستر الليل غنى القصيدة التي مطلعها:

فَتَكاتُ لحظكِ أم سيوف أبيك
وكؤوس خمر أم مراشف فيك

وقد سافر إلى الأستانة سنة ١٣٠٥هـ. وغنى السلطان عبد الحميد لأول مرة القصيدة المشهورة التي مطلعها:

تِهْ دلالاً فأنت أهل لذاك
وتحكّمْ فالحسن قد أعطاكَ
ولك الأمر فأقضِ ما أنت قاضِ
فعليّ الجمالُ قد ولاّكَ

وأُنعم عليه بالنشان المجيدي وقد أعطى صوته سنة ١٩٠٨ لشركة عمر أفندي، وكُتب على اسطواناته لفظتا «سمع الملوك» وعبَّأتْ له شركة «جراموفون» سنة ١٩١٠ عدة اسطوانات مازال الناس يتداولون سماعها بالفونوغراف، ومن طريق الإذاعة اللاسلكية الحكومية، وقد اشترى قطعة أرض بكوبري القبة بنى عليها منزلاً جميلاً بجوار منزل آل السيوف باشا، وقضى نحبه يوم ٦ يونيو سنة ١٩١١.

ومن لطيف النكت أن أُتحف القارئ برواية طريفة نقلاً عن جريدة الاتحاد العثماني البيروتية التي نعت الشيخ يوسف المذكور وذكرت بها ما يأتي بنصه: أن بعضهم سمع في الليلة الماضية صوت الفقيد في الفونوغراف ينشد قول الشاعر «فلا كبدي تُبلى» فقال سبحان الله ميت يتكلم وقد بُليتْ كبده، وهو يقول «فلا كبدي تُبلى» فسبحان مَن أنطق الجماد وأمات المتكلم وعلم الإنسان ما لم يعلم.

figure
في الوسط الشيخ يوسف المنيلاوي وعن يمينه محمد العقاد القانونجي وعن يساره إبراهيم سهلون وخلفهم: (٤) أبو كامل، (٥) علي صالح، (٦) علي عبد الباري.

الشيخ محمد الشنتوري

كان الشيخ: محمد الشنتوري منشدًا عظيما وهو أقدم عهدًا في الإنشاد من الشيخ: يوسف المنيلاوي، ومعاصر للشيخ: خليل محرم، وكان قوي الصوت، حر الخلال ومحبوبًا من جميع الناس، ثم احترف الغناء على التخت، وأخذ عن عبده الحمولي تلاحينه وأدواره الخاصة، وأحسن غناءها حتى أشار الأخيرة على أنصار الفن بأن يسمعوه من بعده واستمر يزاول الإنشاد مع الغناء، وذهب إلى الأستانة مرة وغنى في حضرة السلطان عبد الحميد، فأسنى له العطايا وأنعم عليه بالنياشين.

figure
المرحوم الشيخ محمد الشنتوري.

محمد أفندي سالم

ابن سالم من قراء القرآن وعاش نحو ١٢٠ سنة وكان يسكن في جهة المغربلين. واحترف الغناء لكثرة سماعه إياه من كل من محمد المقدم، وموسى اليهودي في ليالي الأفراح والحفلات، وكان صوته حسنًا لينًا ورنانًا، وكان يأخذ الأغاني عن المقدم وعبده الحمولي ومحمد عثمان، ويسبك أدوارهم سبكا محكما، ويعتبر مغنيًا جيد الأداء حسن الترتيب دون أن يكون فنانًا، وقد ذهب إلى فلسطين في سنة ١٩٠٠ وغنى في يافا وغزة وأخذ بمجامع القلوب هناك، وكان يعزف على العود ويغني منفردًا وكان محمود الشمائل.

أمين البزري

كان من أغنياء البلد، ومن هواة الناي الذي تعلمه عن رجل إسلامبولي (مولوي) اسمه دادا وتفوق على أستاذه، ولما قلب له الدهر ظهر المجنَّ اضطر إلى احتراف العزف في الأعراس والحفلات، وتزوج بإنكليزية توفيت بعد أن خلفت له ولدًا ذكرًا وثلاث بنات، وقد اعترف عبده الحمولي له بالعبقرية في العزف على النار بدار الوجيه موسى بك عصمت نجل المرحوم جعفر باشا، وقد حضر عثمان الموصلي الفنان المشهور إلى مصر خصيصًا ليسمعه وهو في حلوان، ولما سمعه بمنزل عثمان باشا غالب الذي كان يحسن إلى الموسيقيين، ويعد من محبي الغناء العربي بعد أن أبطأ ونوَّط الروح تيهًا ودلالا، دهش من مهارته التي أنسته ما حصل منه من تثاقل وتباطؤ.

figure
الأستاذ أمين البزري الناياتي.

إبراهيم سهلون

تعلم الكمان عن حسن الجاهل الكماني والربابي الذي طار صيته في الآفاق في العصر الذهبي لساكن الجنان الخديوي إسماعيل، وكان والده المدعو سليمان سهلون قانونجيًا معروفًا. واستمر إبراهيم يشتغل على تخت عبده زمنًا طويلاً — (انظر صورته بتخت يوسف المنيلاوي).

محمد العقاد الكبير

ابن مصطفى العقاد الكبير العواد تخرج على والده ونبغ في العزف على القانون نبوغًا لا يجاريه فيه أحد بما أوتي من روح وخفة أصابع، وتزوج بابنة عبده الحمولي بعد وفاته، ولما زفت إليه عروسه بدار باسيلي بك عريان بالفجالة كان طروبًا فرحًا، وصاح وهو على التخت قائلاً على رؤوس الأشهاد أنه تزوج ابنة سيده، ويعتبر أول العبقريين في العزف على القانون، وأن كل من تصدَّى لمجاراته من المحترفين المقلدين ولو اغترف من فضالته باء بالفشل المبين؛ لأن المسألة مسألة روح واستعداد فطري وخلو الأصابع من الملوحة ودقة معرفة للدوزان، وعاش ثمانين سنة، ومما نطقت به شواهد الحال أن حفيده محمد العقاد سيكون له مستقبل باهر في القانون أسوة بجده، ولو لم يمضي عليه في العمل أكثر من ست سنوات — (أنظر صورته بتخت يوسف المنيلاوي).

عبد الحي حلمي

كان صاحب صوت قوي وعالٍ، وكان يغني بروح قد لا توجد في كثير من المغنين، وكان يغني بحسب كيفه والموسيقى دوزان كما قال: موزارت ويعرف في الأوساط الموسيقية بأنه مغنٍ غير فنان، وكان الجمهور يلاحظ منه في أثناء العمل نزقًا وزهقًا يؤديان به غالبًا إلى مغادرة التخت والانصراف قبل نهاية السهرة، وكان يذهب مرارًا عديدة إلى دار المرحوم باسيلي بك عريان ليسمع بالاسطوانات القديمة قصيدة «أراك عصي الدمع» التي ألقاها عبده الحمولي.

figure
المرحوم عبد الحي حلمي المطرب الشهير.

أبو العلا محمد

بدأ حياته بقراءة القرآن ثم تدرج إلى فن الغناء شيئًا فشيئًا ونبغ نبوغًا تامًا في إلقاء القصائد على طريقة المرحوم عبده الحمولي الذي عني بتقليده فيها، وفي سائر أغانيه الساحرة، وقد تخرجت عليه الآنسة أم كلثوم في القصائد مثل: وحقك أنت المنى والطرب. وقد عبئت له عدة اسطوانات في بعض الشركات، ومنها شركة الجراموفون التي عبأت له في سنة ١٩١٢ قصائد كثيرة مثل:

غيري على السلوان قادر. وأفديه إن حفظ الهوى. ومواليا وخلافها. ويا مليح الحلى.

لم يعزف على العود قط وكان غناءه بادئ بدء مقصورًا على أصدقائه في منازلهم وفي بعض الحفلات، ولما اشتهر اسمه بعد تعبئة الشركات لاسطواناته اشتغل بالغناء على التخت، وقفا إثر عبده غريد الشرق سيد المطربين في بعض ألحانه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤