الفصل الثالث

الغناء القديم والغناء الحديث

لما زها العصر العباسي الأول في زمن الرشيد والمأمون وأطلقت الألسنة والأفكار أخذ المغنون يفكرون في تعديل الألحان واستنباط أسلوب جديد. وأول من تجرأ على ذلك إبراهيم بن المهدي أخو الرشيد — وكان من الطامعين في الخلافة — فلما استتب الأمر لأخيه المأمون انصرف هو إلى الغناء، كما انصرف خالد بن يزيد الأموي إلى الكيمياء لما يئس من الخلافة، وكان إبراهيم من أعلم الناس بالنغم والوتر والإيقاعات وأطيبهم في الغناء وأحسنهم صوتًا، وهو يعد من الطبقة الأولى في عصره. لكنه كان مقصرًا عن أداء الغناء القديم على طريقة الموصلي فكان يحذف نغم الأغاني الكثيرة العمل حذفًا شديدًا أو يخففها على قدر طاقته، وإنما تجرأ على ذلك بما له من المنزلة عند الناس، فكان إذا عوتب قال: «أنا ملك أغني كما أشتهي» وصارت له طريقة يسمونها الغناء الحديث، وسموا طريقة إسحق الطريقة القديمة.

وانقسم المغنون في ذلك إلى قسمين وأصحاب فن الغناء يعدون عمل إبراهيم بن المهدي فسادًا في هذه الصناعة لأنهم يفضلون القديم فأخذوا في الرجوع إليه.

على أن ذلك بعثهم على إعمال الفكرة والتعمق بهذا الفن وانتهى ذلك إلى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر من أهل العصر العباسي الثاني، فكان من كبار العلماء المفكرين ولا سيما في علوم الأوائل والموسيقى والهندسة، فوضع كتابًا في النغم وعِلَل الأغاني سماه (الآداب الرفيعة) نال شهرة واسعة، ونأسف لضياعه مثل ضياع أكثر ما وضعه العرب في الموسيقى والغناء قبل كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (نقلاً عن تاريخ آداب اللغة من الجزء الثاني للعلامة المرحوم: جورجي زيدان).

أما الموشحات فذكر عنها ابن خلدون ما يأتي:

«وأما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم، وتهذبت مناحيه وفنونه، وبلغ التنميق فيه الغاية استحدث المتأخرون منهم فنًا منه سمّوه بالموشح، ينظمونه أسماطًا أسماطًا، وأغصانًا أغصانًا، يكثرون من أعاريضها المختلفة ويسمون المتعدد منها بيتًا واحدًا، ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتاليًا فيما بعد إلى آخر القطعة، وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبيات، ويشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب، وينسبون فيها ويمدحون كما يُفعل في القصائد، ويتجاوزون في ذلك إلى الغاية، واستظرفه الناس جملةً، الخاصة والكافة؛ لسهولة تناوله وقرب طريقه، وكان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدّم بن معاقر الفريري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني، وأخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربه صاحب كتاب العقد، ولم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر، وكسدت موشحاتهما، فكان أول من برع في هذا الشأن عبادة القزَّان شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية» ا.هـ.

ومن هذه الموشحات خرجت الفدود التي جاء بها شاكر أفندي الحلبي إلى مصر في المائة الأولى بعد الألف على ما ذُكر في باب حياة عبده الحمولي فليراجعه من يشاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤