الفصل الخامس

سيداتي وسادتي

ليس الأدب إنشاء فحسب، ولكن الأدب إنشاء ووصف.

وإذا كان أدباؤنا في هذا الجيل قد أتيح لهم نُجْحٌ عظيم، فإنهم يؤخذون بقصورٍ ليس بدٌّ من تسجيله؛ لعلهم أن يتخلصوا منه، وأن ينشطوا وأن يعنوا بأدبهم كما ينبغي لأبناء مصر أن يعنوا بأدبهم العربي.

هؤلاء الشباب أو هذا الجيل الجديد من كتابنا وأدبائنا قد أتيح لهم نجح عظيم؛ لأنهم أضافوا إلى الأدب التقليدي الذي عرفته اللغة العربية في عصورها المختلفة فنًّا له خطره، وله مكانته في الآداب العالمية منذ العهود البعيدة؛ وهو فن القصص. فليس من شكٍّ في أن فن القصص بالمعنى الذي يفهمه الناس في هذه الأيام، لم يكن معروفًا في الآداب العربية القديمة، وهو لم يكن يعرف في الآداب الأجنبية القديمة إلا قليلًا، وهو مع ذلك من أخطر ما أنتجت الآداب الحديثة في الغرب، في أمريكا وفي أوروبا، وكانت لغتنا بعيدة عنه كل البعد؛ لأن آدابنا كانت تقليدية لا تكاد تختلف عن التراث القديم ولا تضيف إليه شيئًا.

في هذا العصر الحديث، منذ انتهت الحرب العالمية الأولى، استطاع الجيل الجديد أن يضيف القصص إلى فنون الأدب العربي، وأن يوطنه ويؤصله، ويجعله فنًّا عربيًّا خالصًا لا تقليد فيه للأوروبيين ولا محاكاة فيه للأمريكيين، وإنما هو أدب عربي مصري صميم. وليس هذا بالشيء القليل؛ فالقصة — كما قلت — من أهم الفنون الأدبية، وقد أتيح لشبابنا أن يضيفها إلى الإنتاج الأدبي العربي، وأتيح له أن يوطنها في هذه البلاد، وكان لمصر ولشبابها السبق في هذا الميدان. كل هذا ليس فيه شك، ولكن هذا القَصص إذا لم تلاحظ فيه خصائص اللغة العربية وخصائص الأدب، وإذا لم يضف إلى دقة ملاحظة أصحابه، وإلى حسن تأتِّيهم لفنهم، إذا لم يضف إلى هذا ما ينبغي لكل أدبٍ من جمال الصورة وروعة الأسلوب وصحة اللغة؛ سيكون فنًّا من هذه الفنون العامية التي لا يكتب لها البقاء.

ليس بد لشبابنا، ولشبابنا الناشئين بنوع خاص، من أن يلاحظوا هذا كله، ومن أن يعرفوا أن كل كلام يكتب أو يقرأ أو يذاع، إذا لم يتميز بهذه الميزة الرفيعة فليس له خطر.

•••

وأنا أعترف بأني أقسو على هؤلاء الشباب وعلى الأجيال الجديدة، وإنما فيما ألاحظ عليهم من قصورٍ أو تقصير. ولكن هذه القسوة مصدرها الحب لهم، والرفق بهم، والأمل فيهم، ولم يخطئ أبو الطيب حين قال:

فقسا ليزدجروا، ومن يكُ حازمًا
فليقسُ أحيانًا على من يرحم

أما الآن، فإني لا أريد أن أقسوا عليهم، وإنما أعتذر عنهم؛ فهم قد قصَروا وهم قد قصَّروا، ولكنهم ليسوا وحدهم الذين يحتملون تبعة هذا القصور والتقصير، وربما كانت تبعة الدول العربية، والدولة المصرية على تعاقب حكوماتها واختلافها، ربما كانت هذه الدول وكانت الدولة المصرية أثقل تبعة، وأعظم مسئولية — كما يقال — من هؤلاء الشباب؛ فكل ما يمكن أن يؤخذ على هؤلاء الشباب هو أنهم لا يحسنون لغتهم، ولا يعرفونها كما ينبغي أن يعرفوها. وإثم هذا إنما يقع على الذين يعلمونهم وعلى المدارس التي يتعلمون فيها، وعلى الحكومات التي تشرف على هذه المدارس، وتضع لها المناهج والبرامج، وتسيطر على توجيهها، وتسيطر على تخريج هؤلاء الشباب.

ولا بد من أن نعترف بأن أخص ما تمتاز به مدارسنا هو أنها تُبغِّض اللغة العربية إلى التلاميذ في سنيهم الأولى، وتبغضها إليهم في أول الشباب حين يكونون في المدارس الثانوية، وما أرى أنها تحببها إليهم حين يبلغون التعليم العالي في الجامعة أو في غيرها من المعاهد؛ وذلك لأن اللغة العربية وآدابها تدرس في هذه الأيام كما كانت تدرس منذ اثني عشر قرنًا؛ لم يتطور تعليمها، والدنيا من حولها قد تطورت وتغيرت تغيرًا تامًّا؛ فالنحو — كما يعلم الآن — هو نفس النحو الذي كان يعلم منذ اثني عشر قرنًا، والأدب — كما يدرس الآن — هو الذي كان يدرس منذ اثني عشر قرنًا، تضاف إليه الآداب التي أنشئت على اختلاف العصور؛ فتزيده ثقلًا إلى ثقل، وجفوة إلى جفوة، وعسرًا إلى عسر.

•••

وليس الأمر مقصورًا على تعليم اللغة، ولكن الكتابة العربية نفسها لم تتطور منذ عرفها الأولون في القرن الثاني للهجرة؛ أي منذ تم تطورها إلى حيث هي الآن في هذا القرن من القرون الإسلامية؛ فالناس يكتبون إلى الآن كما كانوا يكتبون منذ اثني عشر قرنًا، لم يطوروا كتابتهم ولم ييسروها.

وأغرب من هذا أن البلاد العربية تسلك طريق البلاد الأوروبية والأمريكية؛ فتفرض التعليم على أبناء الشعب وبناته جميعًا، ومعنى هذا أنها تجعل التعليم ديمقراطيًّا بعد أن كان أرستقراطيًّا، وتفرضه على الشعب بعد أن كان مباحًا لقلةٍ قليلة جدًّا من الذين يستطيعون أن يفرغوا للتعليم. وإذا جعل التعليم شعبيًّا فلا بد من تسييره وجعله صالحًا قابلًا لأن يكون شعبيًّا بأوسع معاني هذه الكلمة وأشملها؛ فليس لدى الشعوب من الوقت ما تنفقه في تعلم هذه اللغة العسيرة بكتابتها المختزلة ونحوها المعقد … وإنما نحن نعيش في عصر يحتاج إلى شيءٍ من السرعة، وإلى شيءٍ من العناية بما يُعلَّم الأطفال في مدارسهم، والشباب في مدارسهم وجامعاتهم.

فليس بدٌ من أن تيسر الكتابة العربية؛ بحيث يستطيع الأطفال والشباب وهم يتعلمون أن يقرءوا ليفهموا، لا أن يفهموا قبل أن يقرءوا. وليس بدٌّ من أن ييسَّر النحو؛ بحيث يمكن أن يكون مقبولًا سائغًا ملائمًا للعقل الحديث، كما أن اللغات الأوروبية التي يتعلمها هؤلاء الشباب ميسرة سائغة ملائمة لعقولهم في هذا العصر.

والشيء الذي يألم له كل محب لهذه البلاد العربية، وكل محب للغة العربية وآدابها، وكل حريص على أن تظل هذه اللغة حية قوية؛ هو أن شبابنا يتعلمون اللغات الأجنبية في يسرٍ وسهولة أكثر مما يتعلمون لغتهم في هذا اليسر وهذه السهولة؛ ذلك لأنهم لا يجدون في اللغات الأجنبية هذه المشكلات التي لا يتاح فهمها ولا تصورها في هذا العصر، ولا ينبغي أن تعرض إلا على الذين يتخصصون في درس تاريخ اللغة، ودرس تاريخ آدابها. فأما الذين يتعلمون لمجرد التعليم، ويتعلمون ليعيشوا ولينتجوا في الحياة وليجاروا الحضارة؛ فهؤلاء ينبغي أن يكون تعليمهم سهلًا يسيرًا ملائمًا لتطور العقل الحديث، وملائمًا لما يتعلمونه من اللغات الأجنبية من ناحية، ولما يتعلمونه من ألوان العلم على اختلافها من ناحيةٍ أخرى.

فأما أن يعلَّم ابن القرن العشرين كما كان يعلم ابن القرن الثامن أو التاسع، فهذا هو الذي لا نستطيع أن نفهمه ولا أن نسيغه.

ومعنى هذا كله أن هؤلاء الشباب إذا اضطروا إلى شيءٍ من التقصير أو القصور، فتبعة هذا تقع على مدارسهم، وعلى الذين علموهم، وعلى الحكومات التي تشرف على هذا التعليم؛ لأنها حين جعلت التعليم عامًّا وفرضته على الشعب كله، لم تلاحظ طاقة الشعب وحاجته، وما ينبغي له من التعليم اليسير السهل في هذا العصر الذي يعيش الناس فيه.

هذا يعفي هؤلاء الشباب من بعض تبعاتهم، ولكنه لا يعفيهم من تبعات أخرى؛ فهم مقصرون في قراءة الأدب العربي، وهم مقصرون في قراءة الآداب الأجنبية. وأكبر الظن أنهم قد يتاح لهم في يومٍ من الأيام أن يخرجوا من هذا الكهف، وأن يخرجوا من هذا الخمود ومن حب السهولة واليسر، ويكلفوا أنفسهم من القراءة والدرس والتثقف أكثر مما كلفوها حتى الآن، ويومئذٍ يستطيعون أن ينتجوا أدبًا عربيًّا جديرًا بهذا الجيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤